Insight Image

تفكيك الازدواجية في منطقة الشرق الأوسط

27 أغسطس 2020

تفكيك الازدواجية في منطقة الشرق الأوسط

27 أغسطس 2020

ابتليت بلدان في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وما تزال، بصدمة مزدوجة تمثلَت في جائحة “كوفيد-19″، وانهيار أسعار النفط في وقت أسهمت فيه أيضاً كل من النزاعات الاجتماعية والموازنات المحدودة في إضعاف قدرة أغلب حكومات دول المنطقة على التصدي لهذه الصدمة.

ومع هذا، فإن ثمة جانباً إيجابياً كامناً قد يتمخض عن هذه الأزمة في حال أطلقت هذه الجائحة وأسعار النفط المتدنية موجة من القدرات الإبداعية لتحل بديلاً عن ظاهرة التسابق المحموم وراء الريع الذي طبع المنطقة طوال العشرين سنة الماضية، ووضع على الرف قدرات رأس المال البشري.

على مدى السنوات التي سبقت تفشي وباء كورونا، ثمة ظاهرتان فرضتا نفسيهما على المنطقة موضوع هذه الورقة؛ فقد شهدت توترات ونزاعات اجتماعية خطيرة أشعلت فتيلها شرائح ساخطة من الشباب، فيما كانت الموازنات العامة لغالبية دول المنطقة عرضة للضغوط وتقليص النفقات. وفي الإطار نفسه، كان مستوى النمو الاقتصادي أدنى بكثير مما كان مطلوباً لتوفير مئات الملايين من فرص العمل للشباب من أبناء بلدان المنطقة، والإناث منهم بشكل خاص، الذين أنهوا تعليمهم وتزايدت أعدادهم حتى أغرقت سوق العمل (أنظر الشكل رقم -1)[1].

 

الشكل رقم (1): أعداد الشباب المتعلمين والعاطلين عن العمل في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا (مليون شخص)

أعداد الشباب المتعلمين والعاطلين عن العمل في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا

 
المصادر: Barro وLee، وتقديرات موظفي البنك الدولي.

ملاحظة: المجاميع الكلية لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا هي المتوسط المرجح للبيانات المأخوذة من البلدان الأعضاء حسب عدد السكان. الشباب الذين يدخلون أسواق العمل هم السكان الذين تتراوح أعمارهم بين 15-24. بيانات عامي 2015 و2020 هي توقعات تم اعدادها من قبل Barro وLee بناءً على تقديرات أعداد الطلبة الملتحقين بالمدارس وطبيعة التركيبة السكانية.

 

ومع أن عوامل متعددة – بما فيها السياسات الاقتصادية والاجتماعية القاصرة – قد لعبت دوراً في هذا السياق؛ فإن معدل النمو الهزيل هذا في السنوات الأخيرة يمكن رده بصورة أساسية إلى الهبوط المستمر في أسعار النفط الذي تسبب في تدني عائدات منتجي النفط، وتراجع إيرادات السياحة، والمعونات، والاستثمارات الخارجية المباشرة في المنطقة.

فلم يكن أمام حكومات دول المنطقة إزاء هذا الوضع من خيار سوى ضمان استقرار اقتصاداتها بتقليص معدلات العجز الخارجي (الحساب الجاري) والداخلي (الموازنة الحكومية)، وذلك بإصلاح الأوضاع المالية أولاً عن طريق خفض دعم مواد الوقود وسلع أخرى، وزيادة الضرائب غير المباشرة كتلك التي تفرض على الخدمات والقيمة المضافة، وخفض أعداد الوظائف الحكومية.

ولا ريب في أن إصلاح الأوضاع المالية قد خلّف آثاراً سلبية على الفقراء وأبناء الطبقة الوسطى وأضعف أكثر فأكثر معدل النمو الهزيل أصلاً. (أنظر الشكل رقم 2).

 

الشكل رقم (2): متوسط معدلات النمو في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا (نسبة مئوية)

متوسط معدلات النمو في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا

المصدر: البنك الدولي ملاحظة: بالنسبة لعام 2016، بلغ معدل النمو في عموم المنطقة (باستثناء إيران) 3.6 في المائة. وكان معدل النمو في إيران لذلك العام قد بلغ 13.4 في المائة كنتيجة لرفع عقوبات الأمم المتحدة في كانون الثاني/يناير عام 2016. المنطقة المظللة تشير إلى التوقعات.
 

وقد جاءت تلكم السياسات الرامية لضمان استقرار الاقتصاد الكلي لدول المنطقة لتعلن القطيعة مع العقد الاجتماعي المتأصل فيها، والذي بموجبه يتلقى المواطنون نفقات الرعاية مقابل كسب أصوات المواطنين وامتصاص الدعوات المطالبة بالمساءلة الحكومية.

ومع أن ضمان استقرار معدلات العجز الخارجي والداخلي بات أمراً لا مفر منه، إلا أن القسم الأعظم من دول المنطقة أحجم عن معالجة قضايا جوهرية كتضخم أعداد الوظائف الحكومية التي وقفت حائلاً دون تعزيز النمو الاقتصادي، وأذكت الشعور المتزايد باللامساواة والإجحاف في نفوس عامة المواطنين.

وقد أفضى هذا التضخم في ظل غياب تشريعات ونظم مستقلة خاضعة للمساءلة إلى تردي الخدمات إلى حد بعيد في قطاعات حيوية كالمياه، والكهرباء، والاتصالات، والأنشطة المالية، والنقل، والكثير منها لم يكن في متناول أيدي أبناء الطبقة الفقيرة أصلاً.

  الاستجابة الفورية

ما انفكت جائحة وباء كُورُونَا تدفع بالاقتصاد العالمي صوب طريق مسدود كمحصلة لعمليات الإغلاق وإجراءات التباعد الجسدي التي فُرضت بغية إبطاء وتيرة تفشي هذه الجائحة (أنظر الشكلين 3 و4)؛ وبالتالي، فقد عصف بالاقتصادات المغلقة مزيج من الصدمات التي طالت العرض والطلب على حد سواء.

كما باتت هذه التطورات تنذر بخطر البطالة الجماعية والإفلاس؛ فما كان من البلدان المتقدمة والأسواق الصاعدة إلا انتهاج سياسات مالية ونقدية تستهدف تمويل أنشطة التصدي للفايروس في الجانب الصحي، والحيلولة دون انهيار معدلات الاستهلاك، وتوفير الحماية للبنية الاقتصادية بوجه عام.

والعمل على حماية المشروعات الصغيرة والمتوسطة الحجم، ناهيك عن تفادي حدوث بطالة جماعية وذلك من خلال أولاً تقديم المعونات لأرباب العمل الذين يبقون العاملين في مؤسساتهم على كشوف المرتبات، وثانياً العمل على توسيع نطاق التأمين ضد البطالة[2].

الشكل رقم (3): حالات الإصابة المؤكدة بفيروس كوفيد-19 في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا

حالات الإصابة المؤكدة بفيروس كوفيد-19 في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا

الشكل رقم (4): أعداد الوفيات (المسجّلة) جراء فيروس كوفيد19 في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا

أعداد الوفيات (المسجّلة) جراء فيروس كوفيد-19 في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا

ومن البديهي ألَّا تتسبب البيئة العالمية الراهنة فقط في تقليص معدلات الطلب على السلع والخدمات القادمة من منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا (بما فيها النفط وسلع أخرى غيره والسياحة)، بل وكذلك في الحد من التحويلات المالية وتسرب تدفقات رؤوس الأموال إلى خارج المنطقة (أنظر الشكل رقم – 5).[3]

وقد عمَّق اكتناز المواد الغذائية والمعدات الطبية على المستوى العالمي مواطن الضعف والهشاشة التي تعاني منها المنطقة أصلاً، أضف إلى هذا أن قدرة دول المنطقة على مكافحة الفيروس والتحكم في حالات الاختلال في العرض والطلب، وعلى العكس من الاقتصادات المتقدمة، مقيدة هي الأخرى بالتوترات والصراعات الاجتماعية ومحدودية الهوامش المالية الوقائية[4].

 

الشكل رقم (5): انهيار أسعار النفط

انهيار أسعار النفط
المصدر: Bloomberg, L. P.

وعلى ما يبدو فإن خطط الإغلاق الرامية إلى كبح انتشار الوباء بات يصعب تطبيقها في وقت تمارس فيه غالبية السكان في القطاع غير النظامي أعمالاً وحرفاً لا تدر عليها إلا ما يؤمن لها الحد الأدنى؛ وبمعنى آخر، فإن وباء كوفيد-19 قد فاقم ظاهرة الازدواجية في مجتمعات منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.

فالعاملون في مؤسسات الاقتصاد النظامي يحظون تقليدياً بالحماية الاجتماعية ويتلقون دخلاً يعرفون مقداره سلفاً، ويجنون إبّان فترات الإغلاق مكاسب أفضل مقارنة بالعاملين في القطاع غير النظامي الذين لا يتاح لهم سوى النزر اليسير من الحماية الاجتماعية، ومتى ما خسروا وظائفهم فهم بطبيعة الحال لا دخل لهم.

ولأنها تزيد من حدة الشعور بانعدام المساواة، فإن إجراءات الإغلاق أصبحت تذكي نار التوترات في منطقة تتسم بتدني شروط الوفاق والوئام فيها على الصعيد الاجتماعي (see Mahler et al. 2020)؛ وبهدف التخفيف من آثار هذه الإجراءات على الاقتصاد، بادرت بلدان المنطقة إلى اعتماد تدابير محددة من بينها:

  • توفير إعانات نقدية
  • وتوسيع أطر برامج متطورة للحماية الاجتماعية تشمل المستفيدين العاملين في القطاع النظامي وغير المستفيدين في القطاع غير النظامي على حد سواء.

وتأتي هذه الإجراءات على رأس قائمة اشتملت أيضاً على إعفاءات ضريبية، وتيسير سبل حصول المشروعات الصغيرة والمتوسطة على الاعتمادات المالية التي تحتاجها، غير أن قدرة دول المنطقة على دعم هذه البرامج تظل محدودة بفعل القيود التي تحد من إمكانية الحكومات المعنية على الإنفاق (السعة المالية) التي باتت عرضة لمزيد من الضغوط بفعل انخفاض أسعار النفط.

ومن هنا، وبسبب محدودية هذه السعة المالية، غدا من الصعب على الكثير من حكومات بلدان المنطقة سداد أثمان المعدات والمواد الطبية – كمعدات الاختبار والفحص، وأجهزة التنفس – وتقنيات اقتفاء أثر مخالطي المرضى المصابين بـ “كوفيد-19”.

وربما سيحد هذا الضعف المالي من قدرة دول المنطقة على الحصول مستقبلاً على الأدوية واللقاحات في حال جرى تطويرها وإنتاجها؛ وما هذه إلا حلقة مفرغة. فالمشكلات الاقتصادية اليوم تضعف بالفعل الإمكانات المتاحة لدول المنطقة لاحتواء الوباء الذي يدفع من جانبه بالأوضاع الاقتصادية من سيئ إلى أسوأ.

ومهما تكن الحال، فإن إجراءات الإغلاق المشددة التي يراد بها تضييق رقعة انتشار الوباء، قد تسهم في استفحال ظاهرتي اللامساواة والفقر[5]. وباستثناء قلة قليلة من الدول التي ما يزال بمقدورها الاقتراض من المؤسسات المالية العالمية، فإن بلدان منطقة تظل مكبلة بضعف القدرات المالية المتوافرة لديها.

وأي سياسات نقدية من قبيل ضخ السيولة النقدية وطباعة الأموال ليست بذات جدوى من حيث الأساس إن كانت، بصرف النظر عن أي سبب آخر، ستفرض ضغوطاً معاكسة على أسعار الصرف الثابتة غالباً أو التي تُدار بشكل صارم، وقد تفضي إلى عواقب وخيمة في بلدان مثقلة بديون كبيرة مقومة بالدولار الأمريكي أو بعملات أجنبية أخرى، على النقيض من الدول ذات الاقتصادات المتقدمة التي يمكنها في أغلب الأحيان الاقتراض بعملتها الوطنية.

ولعل السبيل إلى الوقف الجزئي لأثر هذه الحلقة المفرغة على المدى القصير هو ما يمكن للمجتمع الدولي توفيره؛ فهو قد سارع لمؤازرة الجهود التي تبذلها الدول لحماية الأرواح وسبل كسب العيش على حد سواء. ومكنت، في هذا السياق، المساعدات الطارئة بلدان المنطقة في الحصول على الإمدادات الطبية والغذائية، وتمويل برامج التحويلات المالية المخصصة للأسر والمشروعات الصغيرة والمتوسطة.

كما لعب الدائنون الثنائيون، إضافة إلى هذا، دوراً مهماً في الحد من التكاليف التي قد تترتب على هذه البلدان مستقبلاً، وفي التخفيف من خطر ظهور دول فاشلة في حال تأخر أنشطة الاستجابة لجائحة “كوفيد-19”. وعلى سبيل المثال، ولغرض إطلاق التمويلات اللازمة لمكافحة الجائحة وافقت مجموعة العشرين على تخفيف أعباء الديون المترتبة بذمة جميع البلدان ذات الدخل المنخفض لصالح الدائنين الثنائيين الرسميين (see: G20 Communique, 2020; FT, 2020)[6].

وسواء عاجلاً أو آجلاً، فإن إعادة هيكلة الديون وإلغائها سيصبح أمراً مألوفاً في عالم اليوم بالنسبة للدول المثقلة بديون كبيرة للحيلولة دون تضخم الديون المتراكمة وأعبائها، ودون إعاقة الجهود التي تبذلها هذه الدول ليس لدفع عجلة النمو فيها إلى الأمام مجدداً وحسب، بل ولإدخال تحولات هيكلية على اقتصاداتها أيضاً.

ما بعد “كوفيد-19”

وبرغم ما تقدم، ففي الوقت الذي أوقعت الصدمة المزدوجة منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في أزمة حادة، فهي قد ألقت الضوء كذلك على أوجه القصور والخلل الجوهرية الكامنة في اقتصادات بلدان هذه المنطقة، والتي يتعين على السلطات المعنية معالجتها وإصلاحها إذا ما أريد للمنطقة أن تنعم بالازدهار والرخاء.

ومن المرجح أن ثمة محاولات جادة ستُبذل لتقوية دور الدولة في اجتثاث هذا الوباء، وحماية اقتصاداتها من الكساد؛ ومع أن دولة المنطقة تتدخل في هذا المجال بشكل واسع، إلا أن مدى ما سيتمخض عن هذا التدخل في مساعدتها على تجاوز أثار هذا الوباء، سيظل مرهوناً بقدرتها على التركيز مجدداً على أولوياتها والتزاماتها الاقتصادية، والتحلي بقدر أكبر من الشفافية، وتطوير آليات مناسبة للمساءلة.

تبدو جائحة “كوفيد-19″، في الكثير من جوانبها، وكأنها أزمة تتعلق بالجاهزية أو بانعدامها، وفي عدد من النماذج الناجحة التي حَدَّت من تفشي الفايروس ومكافحته – كوريا نموذجًا – وُظِّفَت على وجه السرعة القدرات التكنولوجية قيد الاستخدام، فيما كانت المساعدات الطارئة في طريقها لمن هم بحاجة إليها (see: Foreign Affairs, 2020).

ورغم نجاح هذه النماذج ينبغي إخضاعها للتحليل والاختبار والتكييف؛ فهي قد أثارت مشكلات تتعلق بحماية البيانات وبامتلاك الحق في الخصوصية. أما دول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا فما تزال متخلفة عن الركب العالمي في ما يتعلق باعتماد القدرات التكنولوجية في هذا المجال.

ولنا أن نضيف هنا أن بلدان المنطقة تخاطر بمواجهة عواقب خطيرة إن لم تعمل حكوماتها على الارتقاء بأنشطتها إلى مستوى أعلى من الشفافية والسماح بتدفق قدر أكبر من المعلومات والبيانات ذات الصلة. كما أن تعزيز مبدأ الشفافية وتوفير المزيد من المعلومات لا بد وأن يقوي ثقة المواطنين في السلطات المعنية في هذا البلد أو ذاك، أو يرغم هذه الأخيرة على التصرف على نحو أفضل (see: Arezki et al. 2020).

ومن خلال ضمان ذهاب التحويلات والإعانات النقدية إلى الفئات المستهدفة، وليس لأزلام النظام الحاكم، فإن توسيع نطاق الشفافية والكشف عن البيانات والمعلومات المطلوبة لن يسهما فقط في توطيد ركائز شرعية الحكومة، بل وفي تسريع وتيرة الانتعاش الاقتصادي والحد من ارتفاع معدلات الفقر.

وبسبب محدودية موارد المنطقة وثرواتها، فسيكون لزاماً عليها الاتكال على نماذج مبتكرة وتطوير وسائل منخفضة الكلفة ويمكن توسيع نطاقها بغية احتواء أو وقف تفشي الوباء. ومن المثير للاهتمام أن أوساط المال والأعمال وقطاعات المجتمع المدني وجاليات المغتربين باتت جميعاً تقترح حلولاً ذات صلة بميادين ومجالات مختلفة، مثل جمع الأموال، وإنتاج أقنعة الوجه ومعدات طبية أخرى، وإطلاق حملات التواصل الإعلامية. بيد أن المشكلات الصحية قد لا يمكن حسمها دون العمل في الوقت ذاته على معالجة العلل ومواطن القصور الأساسية التي تعاني منها اقتصادات منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ومجتمعاتها ولعل أبرزها:

  • العوائق التي تحول دون تطوير منظومات الإنتاج والمتمثلة في السياسات التي تروج لأسعار صرف مبالغ فيها وفي غياب المنافسة النزيهة[7]؛
  • والشباب الذين تلقوا تعليماً عالياً، وبخاصة الإناث منهم، يواجهون هم أيضاً عدداً من المعوقات من بينها بؤس بيئة العمل وتخلفها، وانعدام منافذ الوصول إلى التكنولوجيا الرقمية.

ومن الأهمية بمكان أيضاً أن تُقابل الابتكارات الواعدة التي ترى النور اليوم بالتشجيع والدعم، وأن تعمل الحكومات على توفير فضاء مناسب لقطاع خاص حقيقي كمحرك جديد مستدام لعجلة النمو بدلاً من مواصلة الإنفاق على المشروعات المضمونة التي تعود على أنصارها بمكاسب كبيرة.

وينبغي على المنطقة أيضاً أن تتخذ من الخطوات ما يكفل لها ابتعادها عن ظاهرة الازدواجية المهلكة المتمثلة في مجتمع انقسم على نفسه إلى قطاعين أحدهما “نظامي” وآخر “غير نظامي” (أنظر الشكل رقم 6). ولقد تركت جائحة “كوفيد-19” القطاع غير النظامي مطلق اليدين وجعلت منه مصدراً جاهزاً لإشعال فتيل القلاقل والاضطرابات أكثر مما كان سيفعل قبل ظهور “كوفيد-19”.

وعلى صعيد آخر، فإن انهيار أسعار النفط، الذي لم يكشف حتى الآن عن إي مؤشر يوحي بتراجعه، بل صار يقترن باحتمالات عدة تنبئ بتفاقمه، سيضع من حيث الجوهر نهاية لما بات يعرف بـاقتصاد الريع. وبمعنى أوضح، فإن وقوع أحداث خارج سيطرة السلطات الحكومية سيطلق شرارة تحولات مهمة في مجتمعات منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. وإداك، سيتحتم على حكومات دول المنطقة أن تحدد ما إذا كانت هذه التحولات ستكون موجهة أم بغيضة ومؤلمة.

 

الشكل رقم (6): العمالة الحرة (المستقلة) في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا

العمالة الحرة (المستقلة) في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا

المصدر: منظمة العمل الدولية (ILO). ملاحظة: يشير بارز Bars إلى العمالة الحرة (المستقلة) كنسبة مئوية من إجمالي حجم العمالة في عام 2018، وفقاً لتقديرات منظمة العمل الدولية.

 ومن أجل التحول إلى مجتمعات تزخر بمظاهر المساواة والإنصاف وتقل فيها أسباب النزاع والخلاف، يتوجب على بلدان المنطقة تطوير نظام عام وشامل للحماية الاجتماعية وتبسيط مقوماته ليحل بديلاً عن الأنظمة المجزأة التي تنعم الأقلية بمنافعها بينما يُحرم منها السواد الأعظم من الناس.

كما يتعين عليها أيضاً توفير دخل أساسي للجميع من شأنه أن يسهم في تعزيز القدرات الإبداعية إذ هو سيجعل خوض المجازفات أمراً أكثر أماناً، إضافة لتأسيس منظومات ومشاريع صحية عامة. ولغرض تمويل هذه الأنظمة والمشاريع، يصبح لزاماً على المجتمعات المعنية إيجاد مصادر دخل جديدة، بما في ذلك الإيرادات التي يمكن أن تأتي من إصلاح النظم الضريبية.

وينبغي أيضاً تطوير القدرات الإنتاجية من خلال الترويج للمنافسة النزيهة واعتماد وسائل التكنولوجيا الرقمية، لا سيما في مجالي التمويل والاتصالات بعيدة المدى. ومحاولات التطوير هذه يمكن أن تكتسب أهمية خاصة بالنسبة للقطاع غير النظامي الذي سيجد لنفسه منفذاً يوصله إلى الخدمات والأسواق التي كان الوصول إليها قبلاً مقصوراً على طبقة القلة صاحبة الحظوة والامتيازات وعلى المؤسسات المملوكة للدولة.

إن أي تحولات موجهة محتملة لا بد وأن تقترن بإصلاح مقومات الدور الذي تؤديه الدولة؛ فالإدارات العامة والمؤسسات التابعة للدولة في معظم بلدان المنطقة تضم شريحة واسعة جداً من الموظفين والعاملين الحكوميين، بعضها يمثل جزءاً من موجبات العقد الاجتماعي الذي طال به الأمد، والبعض الآخر يدخل في إطار برامج “الملاذ الأخير” لتوفير فرص العمل.

ويجب لفك هذا العقد الاجتماعي القديم غير المنصف أن يقترن بإصلاحات تطال أنظمة الخدمة العامة التي يتعين عليها الإبقاء على الموظفين من ذوي الخبرة والموهبة وإلغاء نظم الحماية المجحفة، والعمل في الوقت عينه على إقامة برامج للحماية الاجتماعية والرعاية الصحية ينعم الجميع بفوائدها.

ومثل هذه الخطوات والتدابير الضرورية سيمكن تمويلها ليس فقط من خلال الإصلاحات الضريبية والمالية الأخرى، بل وكذلك عن طريق الأموال التي يمكن توفيرها من تقليص النشاطات التجارية الحكومية الزائدة عن الحاجة والتي تكبد الدولة خسائر فادحة ومن رفع معدلات الإيرادات الضريبية التي ستتحقق عندما يمارس قطاع المال والأعمال نشاطاته بأساليب تتميز بقدر أكبر من الشفافية.

إن بناء إدارات عامة على درجة أعلى من الكفاءة والفاعلية لتولي جلَّ اهتمامها لتنفيذ مسؤوليات الدولة ومهامها الأساسية (كتوفير الخدمات الصحية والاجتماعية وضمان المنافسة الشريفة، مثلاً) سيضع حداً لظاهرة التسابق سعياً لكسب الريع التي ما تزال تحول دون تحقيق النمو الاقتصادي في المنطقة ورفع معدلاته، وسيعزز قدرات الملايين من أبنائها، رجالاً ونساءً، الذين يحدوهم الأمل في اعتلاء موجة الإبداع والابتكار وصولاً إلى شاطئ الازدهار والرخاء.

 
المراجع  
  • Arezki, Rabah; Ait Ali Slimane, Meriem; Barone, Andrea; Decker, Klaus; Detter, Dag; Fan, Rachel Yuting; Nguyen, Ha; Miralles Murciego, Graciela; Senbet, Lemma. 2019.
  • “Reaching New Heights: Promoting Fair Competition in the Middle East and North Africa.” Middle East and North Africa Economic Update (October), Washington, DC: World Bank.
  • Arezki, Rabah, Daniel Lederman, Amani Abou Harb, Nelly Youssef Elmallakh, William Louis, Yuting Fan, Asif Mohammed Islam, Ha Nguyen, and Marwane Zouaidi. 2020. Middle East and North Africa Economic Update, April 2020: How Transparency Can Help the Middle East and North Africa. World Bank Washington, DC.
  • Baldwin, R and B Weder Mauro (2020a), Economics in the Time of Covid-19, a VoxEU.org eBook, CEPR Press.
  • Baldwin, Richard and Beatrice Weder di Mauro. (2020b). Mitigating the Covid Economic Crisis: Act Fast and Do Whatever It Takes.
  • Barro, Robert and Jong-Wha Lee, 2013, “A New Data Set of Educational Attainment in the World, 1950-2010.” Journal of Development Economics, vol 104, pp.184-198.
  • Bolton, P, L Buchheit, P-O Gourinchas, M Gulati, C-T Hsieh, U Panizza and B Weder di Mauro (2020), “Born Out of Necessity: A Debt Standstill for Covid-19”, CEPR Policy Insight no 103.
  • Focus Economics. 2020. Focus Economics Consensus Forecast: Middle East & North Africa – May 2020.
  • Gali, J (2020), “Helicopter money: the time is now”, VoxEU.org, 17 March.
  • Gatti Roberta, Diego Angel-Urdinola, Joana Silva, and András Bodor (2014). Striving for better jobs: The challenge of informality in the Middle East and North Africa.
  • G20 (2020), Communiqué G20 Finance Ministers and Central Bank Governors Meeting, 15 April 2020.
  • International Energy Agency (IEA) (2020). Oil Market Report – May 2020.
  • International Monetary Fund (2020). Policy Responses to Covid-19, retrieved May 17, 2020.
  • International Monetary Fund. 2020, World Economic Outlook (WEO).
  • JP Morgan (2020). MENA Emerging Markets Research, May 14, 2020 edition.
  • Lakner, Christoph; Mahler, Daniel Gerszon; Negre, Mario; Prydz, Espen Beer. 2019. How Much Does Reducing Inequality Matter for Global Poverty? (English). Policy Research working paper; no. WPS 8869; Paper is funded by the Strategic Research Program (SRP). Washington, D.C.: World Bank Group.
  • Mahler, Daniel, Christoph Laknerr, Andres Castaneda Aguilar and Haoyu Wu (2020) “The impact of Covid-19 (Coronavirus) on global poverty: Why Sub-Saharan Africa might be the region hardest hit.”
  • “G20 agrees debt relief for low income country,” April 15, 2020, Financial Times.
  • “How Civic Technology Can Help Stop a Pandemic,” Foreign Affairs 2020
  • World Bank (2014). Unlocking the Employment Potential in the Middle East and North Africa.
  • World Bank Group. 2020, World Development Indicators (WDI).
  [1]   See Gatti et al (2014) and World Bank (2014) [2]  للاطلاع على أنشطة التصدي لجائحة كوفيد-19، أنظر: IMF (2020) and JP Morgan (2020). وحيثما تتراجع معدلات التضخم، يصبح بالإمكان تمويل عمليات ضخ السيولة والتحويلات النقدية عن طريق ما بات يعرف بـ “أموال المروحيات”، ويقصد بها الأموال التي تقوم البنوك المركزية بطباعتها (Gali 2020). [3]  See Focus Economics (2020) & International Energy Agency (2020). [4]  See Baldwin et al. (2020a, 2020b). [5]  See Lakner et al. (2019) on inequality in MENA. [6]  See Bolton and others (2020). [7]  See Arezki et al. (2019)

المواضيع ذات الصلة