Insight Image

مقتل سليماني وأبعاد التحول في استراتيجية الردع الأمريكية تجاه إيران

17 فبراير 2020

مقتل سليماني وأبعاد التحول في استراتيجية الردع الأمريكية تجاه إيران

17 فبراير 2020

جاءت عملية استهداف قاسم سليماني قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري في الثالث من يناير 2020 بواسطة قصف صاروخي بالقرب من مطار بغداد لتؤسس لتحول جديد في استراتيجية واشنطن تجاه إيران ووكلائها في المنطقة، وتستهدف استعادة هيبة الردع الأمريكية ومصداقيتها، خاصة بعد السلوك العدائي الذي مارسته طهران، والميليشيات التابعة لها في أكثر من منطقة على مدار ما يزيد عن عام ونصف، وتحديداً منذ انسحاب إدارة ترامب من الاتفاق النووي في مايو 2018 دون رد مناسب من جانبها على تحركات طهران في المنطقة ما أوجد لدى الأخيرة انطباعاً بأنها في موقف أقوى يتيح لها التمادي في سياساتها التصعيدية وأنشطتها التخريبية دون “رادع” يثنيها.

ورغم أن عملية اغتيال سليماني جاءت رداً على هذا السلوك العدائي الذي تصاعدت وتيرته بصورة لافتة في شهر ديسمبر 2019، وخاصة بعد الهجمات المتتالية التي تعرضت لها المصالح الأمريكية في العراق، نتيجة قيام ميليشيات الحشد الشعبي، التابعة لإيران، باستهداف القاعدة العسكرية العراقية – الأمريكية (K-1)، وهي القاعدة التي تستضيف جنودًا أمريكيين شمالي كركوك، بنحو 30 صاروخًا، ما أسفر عن مقتل متعاقد مدني أمريكي، وإصابة 4 أفراد من الخدمة الأمريكية؛ إلا أن تصريحات العديد من المسؤولين السياسيين والعسكريين الأمريكيين التي أعقبت هذه العملية تشير بوضوح إلى أن واشنطن ستواصل هذا النهج إذا تمادت إيران في سياساتها العدائية وممارسة أنشطتها التخريبية، ما يعني أن ثمة تحولاً في استراتيجية الردع الأمريكية، ستكون المحدد الرئيسي في فهم ديناميكيات الصراع الأمريكي- الإيراني خلال الفترة المقبلة. فما هي أبعاد هذه الاستراتيجية؟ وما هي أدواتها الرئيسية؟ وما هي خيارات إيران في التعامل معها؟

أبعاد استراتيجية الردع الأمريكية الجديدة تجاه إيران

حينما أعلنت واشنطن مسؤوليتها عن عملية اغتيال سليماني، أجمعت التحليلات وقتها أنها تأتي رداً على تجاوز إيران للخطوط الحمراء، وتحديداً تهديد المصالح الأمريكية وتعريض أرواح الأمريكيين للخطر، وأنها بمثابة رسالة صريحة لها، كي تعيد النظر في مواقفها وسياساتها؛ لكن تبين في ما بعد من خلال تصريحات المسؤولين النافذين في إدارة الرئيس ترامب أن هذه العملية تأتي ضمن استراتيجية أمريكية جديدة وأوسع للردع ستشكل ملامح التعامل الأمريكي ليس فقط مع إيران، وإنما أيضاً مع خصوم أمريكا بشكل عام في الفترة المقبلة.

لقد جاءت الإشارة الأولى إلى هذه الاستراتيجية في كلمة وزير الخارجية الأمريكي مَايك بُومْبِيُو في معهد هُوفَر بجامعة سْتَانفُورد في شهر يناير 2020، والتي حملت عنوان “استعادة الردع: المثال الإيراني”، حيث أشار خلالها إلى أن “سليماني قُتل في إطار استراتيجية أوسع لردع التحديات التي يشكلها خصوم واشنطن، والتي تنطبق أيضا على الصين وروسيا”ـ كما لفت بُومْبِيُو في معرض كلمته إلى أن “الرئيس ترامب وفريق الأمن القومي يُعيدون بناء سياسة الردع الحقيقي ضد إيران”[1].

ووفق بُومْبِيُو، فإن الردع الحقيقي يعني بالأساس أن تفهم إيران ما يلي:

  • أولاً أن الولايات المتحدة قادرة ليس فقط على فرض تكلفة اقتصادية عالية عليها، وإنما استعدادها أيضا لتوجيه ضربة إليها في أي وقت، لأنها تمتلك أقوى جيش في العالم؛
  • ثانياً أن تدرك أن الولايات المتحدة جادة في التحرك للحفاظ على مصالحها، خاصة أن إيران يبدو أنها فهمت بشكل خاطئ – على مدار العامين الماضيين – تردد الولايات المتحدة في استخدام القوة العسكرية ضدها كدليل على الضعف، وهذا ما تحاول إدارة ترامب تصحيحه من خلال العمل على استعادة قوة الردع الأمريكية.

أما الإشارة الثانية إلى هذه الاستراتيجية، فجاءت في تصريح وزير الدفاع الأمريكي، مَارك إسْبر الذي أشار إلى أن بلاده استعادت بقتل قاسم سليماني، مستوى من الردع في مواجهة إيران، قائلاً: “بالضربات التي نفذناها ضد كتائب حزب الله اللبناني أواخر ديسمبر الماضي في العراق ثم بعمليتنا ضد سليماني، قد استعدنا مستوى من الردع معهم”[2]؛ وهذا يُفهم منه أن استراتيجية الردع الجديدة لا تقتصر فقط على إيران، وإنما تمتد أيضاً إلى الأذرع والميليشيات المسلحة المرتبطة بها، والتي توظفها إيران في خدمة أهدافها ومشروعها التوسعي في المنطقة.

واعتبر، في السياق ذاته، المدير السابق لوكالة الاستخبارات الأمريكية، دِيفِيد بيتريوس، في مقابلة مع مجلة “فورين بوليسي” الأمريكية أن قرار استهداف سليماني – الذي اعتبره الرئيس ترامب الإرهابي الأول في العالم – يساعد في إعادة تأسيس “سياسة الردع” الأمريكية، فـ “مقتل سليماني هو بمثابة رسالة للنظام الإيراني بأن واشنطن لن تستمر في التسامح مع الاستفزاز المستمر”.[3]

InsightImage

قراءة هذه التصريحات تشير إلى أن استراتيجية الردع الأمريكية “الجديدة” تُعبر عن مرحلة جديدة في تعامل أمريكا مع الخطر الذي تشكله إيران على مصالحها في المنطقة، وهي استراتيجية تتسم بعدة خصائص:

  • أولها الاستباقية في التحرك للتصدي لأي مخاطر أو تهديدات، وعدم الانتظار لوقوعها، بمعنى أن الولايات المتحدة ستتحرك لمواجهة أي تهديد إيراني محتمل حتى لا يتحول إلى تهديد قائم وواقع بالفعل؛
  • وثانيها أن هذه الاستراتيجية تُرسخ هيبة القوة العسكرية الأمريكية، باعتبارها أهم أدوات تنفيذ أهداف السياسة الخارجية لواشنطن، خاصة إذا ما تم الأخذ في الاعتبار صدور تقييمات استخباراتية أمريكية عديدة تحذر من تراجع قوة الجيش الأمريكي في مواجهة الخصوم، ولهذا أرادت إدارة ترامب إعادة الاعتبار لمكانة الجيش الأمريكي، باعتباره الأقوى عالمياً؛
  • وثالثها أن هذه الاستراتيجية لا تقتصر فقط على إيران وأذرعها في المنطقة، وإنما تتضمن خصوم الولايات المتحدة ومنافسيها أيضاً، ما يعني أنها تعبر عن توجه جديد في استراتيجية الأمن القومي الأمريكي، يربط بين استخدام القوة أو التهديد بها، وبين ضمان الحفاظ على المصالح الأمريكية في المنطقة والعالم.

أدوات استراتيجية الردع الأمريكية تجاه إيران

تعتمد الولايات المتحدة في تنفيذ استراتيجية الردع الجديدة تجاه إيران على حزمة متنوعة من الأدوات، العسكرية والاقتصادية والتكنولوجية، بعضها مستحدث كالاغتيالات، والبعض الآخر يعود إلى سنوات ماضية، لعل أبرزها:

  1. الردع بالاغتيالات إذ تمثل عملية اغتيال قاسم سليماني عودة إلى الاستراتيجية الأمنية الأمريكية التي تمثل فيها الاغتيالات أحد المرتكزات المهمة، وهي العمليات التي بدأت مبكرًا في حقبة الخمسينيات من القرن الماضي، وتوقفت منذ منتصف السبعينيات بعد المعارضة الواسعة لها، لأنها كانت تتم خارج نطاق القانون الدولي لتعود سياسة الاغتيالات مرة ثانية بشكل علني بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر في إطار الحرب ضد الإرهاب، والتي تم بموجبها اغتيال كل من زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن في مايو 2011، ثم أبوبكر البغدادي في أكتوبر 2019 [4].

    واللافت في هذا السياق أن الولايات المتحدة كانت تضع سليماني على قدم المساواة مع قادة التنظيمات الإرهابية، كالقاعدة وداعش، بل أن مَايك بُومْبِيُو وزير الخارجية الأمريكي أشار في تصريحات سابقة في أبريل 2019 إلى أن قائد فيلق القدس قاسم سليماني إرهابي وسيُنظر إليه بالطريقة نفسها التي ينظر بها إلى المتطرفين بمن فيهم زعيم داعش أبوبكر البغدادي[5]؛ ما معناه أن عملية اغتياله تأتي ضمن استراتيجية استهداف رؤوس الإرهاب وقياداته التي تتبناها الولايات المتحدة منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر.

    لقد أظهرت المسوغات التي أعلنتها إدارة ترامب لتبرير عملية اغتيال سليماني أنها تسعى إلى إضفاء شرعية سياسية وأخلاقية وإنسانية على عودة سياسة الاغتيالات، خاصة أن سليماني تورط في أعمال إرهابية أدت إلى مقتل وإصابة الآلاف؛ ما يعني أن الولايات المتحدة ستواصل هذه السياسة كوسيلة للردع مستقبلاً في مواجهة إيران والأذرع والميليشيات المسلحة المرتبطة بها في المنطقة؛ وهذا ما يفهم من   التصريحات التي أدلى بها بْرايَان هُوك المبعوث الأمريكي الخاص إلى إيران على هامش مُنتدى دَافُوس في شهر يناير 2020، والتي حذر خلالها بشكل صريح من أن “إسماعيل قاآني خليفة قاسم سليماني الذي قُتل في هجوم أمريكي بطائرة مسيرة سيلقى المصير نفسه إذا سار على نهجه”[6]، وذلك في مَبلغ ردهِ على التصريحات التي أدلى بها قائد فيلق القدس الجديد قاآني بعد تعيينه، والتي قال فيها: “سنواصل السير على طريق سليماني في إخراج القوات الأمريكية من المنطقة”. ويتضح من تصريحات بْرايَان هُوك أن رسالة واشنطن باتت تعتمد على ما يمكن تسميته بسياسة “الردع بالاغتيالات” في التعامل مع القيادات العسكرية الإيرانية، وخاصة قيادات الحرس الثوري التي تتبنى خطاباً عدائياً ضدها.

    ولا شك في أن عودة الردع بالاغتيالات تندرج ضمن سياسة ممارسة الضغوط القصوى ضد إيران؛ فإذا كانت إدارة ترامب نجحت في تشديد العقوبات المفروضة عليها، فإنها كانت بحاجة إلى اتخاذ تدابير أخرى لوضع حد لسلوكها العدائي في المنطقة؛ خاصة أن العقوبات وحدها لن تُظهر القوة الكافية للردع المنشود[7]. وبالفعل فإن الضربة التي استهدفت سليماني كان فيها جميع خصائص الردع الثلاث، شديدة ومحدودة وعقابية، خاصة بالنظر إلى موقعه داخل الحرس الثوري والصورة التي رسمتها عنه إيران في المنطقة على أنه قوي لا يقهر، وما تلا عملية قتله من إحباط للمعنويات داخل إيران[8].

  1. الردع باستعراض القوة من خلال إعادة نشر القوات الأمريكية في المنطقة وإظهار جاهزيتها القتالية العالية، فثمة قناعة لدى واشنطن بأن وجودها العسكري في المنطقة يمكن أن يشكل قوة الردع الأفضل لإيران، وثنيها عن التفكير في شن أي هجمات جديدة. كما أنها الضامن لحماية المصالح الأمريكية في المنطقة، ولهذا حرصت على إرسال قوات إضافية إلى المنطقة في الآونة الأخيرة، حتى تدرك إيران أنها، أي الولايات المتحدة، جاهزة للرد فورا وبمنتهى القوة على أية تجاوزات من جانبها[9].

    بدا الرد باستعراض القوة واضحاً في خطاب الرئيس ترامب عقب عملية اغتيال سليماني، والذي أكد خلاله أن الولايات المتحدة تتفوق استراتيجياً وعسكرياً بصورة واضحة على إيران، وتحذيره إياها من مغبة أي أعمال انتقامية لإيران، بل وتهديده أيضاً بضرب 52 هدفاً فيها إذا هاجمت أي أمريكيين أو أي أصول أمريكية ردا على مقتل سليماني[10].

  1. الردع بالعقوبات ويشكل واحدا من أهم الأدوات التي تعتمد عليها الولايات المتحدة في ردع إيران، وثنيها عن المضي قدماً في أنشطتها المزعزعة لأمن المنطقة واستقرارها؛ وعلى الرغم من أن تأثير العقوبات كأحد أدوات الردع لا تُنتج أثرها سريعاً، إلا أنها تحقق المزيد من الضغوط على النظام الإيراني على المدى البعيد، خاصة أن تداعيات هذه العقوبات تتجاوز إنهاك الاقتصاد الإيراني، إلى زيادة حالة الغضب الشعبي، لتمثل بذلك أحد العوامل الدافعة إلى اندلاع المظاهرات الغاضبة والإضرابات حد العوامل الدافعة نطقةلمتحدة بدوليةالسابقة، فضلاً عن أنها تؤدي إلى هروب الاستثمارات الأجنبية وفرار الشركات الكبرى العاملة في إيران خوفاً من تعرضها لهذه العقوبات.

    وتعد إدارة الرئيس ترامب من أكثر الإدارات الأمريكية اعتماداً على العقوبات في ردع إيران، حيث فرضت حزمة شاملة من العقوبات طالت مؤسسات وشخصيات وشركات إيرانية طيلة العامين الماضيين، كان آخرها في شهر يناير 2020، حينما فُرضت عقوبات جديدة على ثمانية مسؤولين إيرانيين كبار، بينهم قائد الباسيج، اتهمتهم بالعمل على زعزعة استقرار المنطقة، ردا على هجومها على القوات الأمريكية في العراق، وتعهدت بتشديد العقوبات على الاقتصاد الإيراني إذا واصلت طهران الأعمال “الإرهابية” أو سعت لامتلاك قنبلة نووية[11].

  1. الردع السيبراني وتندرج هذه الآلية ضمن أهم الأدوات التي تعتمدها الولايات المتحدة لردع إيران، والتي يمكن من خلالها تعطيل قدراتها العسكرية، وإصابتها بالشلل التام. وبالفعل فقد تم توجيه “ضربات سيبرانية” أدت إلى تعطيل أنظمة الحاسوب الإيرانية المستخدمة في إطلاق الصواريخ، بهدف شل قدرات إيران والحد من تهديداتها[12] الأمر الذي دفع بإيران في التاسع من شهر فبراير 2020 على لسان ووزير الاتصالات محمد جواد آذري جهرمي إلى اتهام الولايات المتحدة بالوقوف وراء الهجوم السيبراني الذي استهدف شبكة الإنترنت الداخلية وأدى إلى قطع الخدمة لبعض الوقت[13].

    يُشير تصاعد الهجمات السيبرانية التي تستهدف منشآت حيوية في إيران في الأشهر القليلة الماضية بوضوح إلى أن الولايات المتحدة باتت تعتمد بدرجة كبيرة على هذه الأداة في إدارة الصراع مع إيران، وذلك من خلال العمل على شل أنظمتها الخاصة بالحرب السيبرانية المسؤولة عن إدارة القدرات العسكرية التقليدية وغير التقليدية (الصاروخية)، فضلاً عن احتمال قيامها باستهداف أجهزة الحواسب المسؤولة عن عمل أجهزة الطرد المركزي التي تستخدمها طهران في تخصيب اليورانيوم، خاصة بعد قيامها بخرق الاتفاق النووي في الآونة الأخيرة.

استراتيجية الردع الأمريكية – هل تؤدي إلى تراجع النفوذ الإيراني في المنطقة؟

لا شك أن استراتيجية الردع الأمريكية الجديدة التي بدأت تتبلور في أعقاب اغتيال قاسم سليماني سيكون لها تأثيرها المحتمل على نفوذ إيران في المنطقة، خاصة إذا ما تم الأخذ في الاعتبار المعطيات التالية:

  1. طبيعة الدور الذي كان يمثله قاسم سليماني بالنسبة لمشروع إيران التوسعي في المنطقة، فهو المسؤول عن وحدة العمليات الخارجية في الحرس الثوري الإيراني، من خلال توجيه أنشطة الميليشيات التي كانت تأتمر بأمره خلال منطقة شاسعة من العراق إلى سوريا ومن لبنان إلى اليمن؛ كما قاد سليماني عملية تسليح الميليشيات الشيعية في العراق وتدريبها، والتي كانت مسؤولة عن مقتل حوالي 600 جندي أمريكي خلال الفترة من 2003 إلى 2011؛ وكان المسؤول عن تسليح القوات الموالية للرئيس السوري “بشار الأسد” ودعمها من خلال نشر حوالي 50 ألفًا من مقاتلي الميليشيات الشيعية في سوريا؛ وكان أيضًا الرجل المهم في رسم علاقة طهران بحزب الله اللبناني، حيث ساعد في تزويد الحزب بالصواريخ لتهديد إسرائيل، وقاد استراتيجية إيران لتسليح الحوثيين في اليمن[14]؛ ولهذا فإن عملية اغتياله شكلت محاولة أمريكية لردع العدوان الإيراني في المستقبل. كما تصنف أيضاً باعتبارها عملًا دفاعيًّا وقائيًّا في مواجهة أي هجوم وشيك[15]. في الوقت ذاته، فإن التهديدات التي جاءت في تصريحات بْرَايان هُوك المبعوث الأمريكي الخاص بإيران، باغتيال خليفة سليماني إذا ما واصل سياساته العدائية نفسها في المنطقة تندرج ضمن الهجوم الاستباقي الذي يستهدف ثني إيران عن التفكير في استهداف المصالح الأمريكية في المنطقة.
  1. الهدف الرئيسي لهذه الاستراتيجية هو التصدي لأنشطة إيران المزعزعة لأمن المنطقة واستقرارها، خاصة أنها وصلت إلى درجة تحدت معها المجتمع الدولي بأكمله، وواصلت سلوكها العدواني دون أن تُظهر أي خوف من انتقام دولي أو عواقب عسكرية[16]؛ ولهذا فإن عملية اغتيال سليماني جاءت لتبعث بإنذار حقيقي وحاسم لها من مغبة الاستمرار في هذه السياسات، فضلاً عن محاولة ضرب التوازن الداخلي وإثارة الخلافات بين أجنحة النظام، خاصة إذا ما تم الأخذ في الاعتبار أن التيار المحافظ كان يراهن دوماً على عدم قيام الولايات المتحدة بأي ضربة عسكرية ضد إيران، أو الرد بطريقة محسوبة يمكن التنبؤ بها، ولهذا فإن عملية اغتيال سليماني، الذي يعتبر أهم أعمدة النظام، شكلت مفاجأة استراتيجية أثارت، وماتزال، حالة من الانشقاقات داخل بنية النظام قد تؤدي إلى اهتزاز شرعيته على المدى البعيد[17].
  1. عملية اغتيال سليماني جاءت في وقت بالغ الدقة، خاصة في ظل تنامي الانتقادات لسياسة ترامب تجاه إيران، واتهامه بالعجز حيالها، في هذا السياق، نشر معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، في الحادي عشر من ديسمبر الماضي (2019) تقريراً مهماً تحت عنوان “ردع الهجوم الإيراني المقبل”، تمحورت فكرته الرئيسية حول “أن التحدي الرئيسي الذي يعترض قوة الردع الأمريكية يَكمُن في المصداقية وليس في القدرة”. وأوصى التقرير الولايات المتحدة بضرورة أن تؤكد بشكل أكبر التزامها برُدُودٍ عسكرية محتملة ضد إيران في كافة المجالات ذات الصلة – البحر والجو والأرض والفضاء الإلكترون – وجعلها تدرك أن الضرر الذي ستعانيه في أي تبادلات مستقبلية سيكون أسوأ بكثير من الضرر الذي تُلحقه[18]؛ المعنى نفسه عبرت عليه مجلة” فورين بوليسي” في تقرير أشارت فيه إلى أنه لردع إيران، يجب على صانعي السياسة الأمريكيين إقناع طهران بأن أمريكا لا تخشى الحرب وهذا يتطلب إرسال رسالة واضحة إلى طهران مفادها أن أمريكا سوف تلجأ إلى القوة إذا استمرت في مهاجمة البنية التحتية للنفط في منطقة الخليج[19].

ولهذا جاءت عملية اغتيال سليماني كمحاولة لتحسين صورة إدارة ترامب، باعتبارها الأكثر حسماً في التعامل مع إيران، خلافاً للإدارات السابقة التي أحجمت عن خطوة اغتيال قاسم سليماني، تحسباً للتداعيات التي قد تترتب على ذلك. وبالفعل فإن هذه العملية شكلت فرصة سياسية لترامب، حيث تشير العديد من نتائج استطلاعات الرأي إلى أن شعبيته في أوساط الجمهوريين قد تزايدت بصورة لافتة[20]؛ بينما أظهر خصومه الديمقراطيون على أنهم يتخذون موقفاً مرنًا إزاء الإرهاب الذي كان يدعمه سليماني، متجاهلين دوره في مقتل مئات الأمريكيين وتهديد المصالح الأمريكية[21].

إجمالاً، سيكون لغياب سليماني تأثيره على مشروع إيران الإقليمي في المنطقة خلال الفترة المقبلة، ليس فقط لأنه كان القائد الفعلي الذي يدير صراعاتها الممتدة في المنطقة، ويمسك بكافة خيوطها، وإنما أيضاً، وربما الأهم، لأن رسالة الردع الأمريكية هذه المرة بدت أكثر حسماً، بعد أن أثبتت فعاليتها في تحجيم سلوك إيران.

خيارات إيران في مواجهة استراتيجية الردع الأمريكية

رغم الرد الرمزي الذي قامت به إيران للانتقام لمقتل سليماني، حينما أطلقت عدة صواريخ على قاعدتين أمريكيتين في العراق لم تسفر عن خسائر مادية أو بشرية ملموسة، إلا أنها – ومن واقع خبرة السنوات الماضية في التعامل مع الولايات المتحدة – قد تلجأ إلى الخيارات التالية لتعزيز قدرتها للردع المضاد:

  1. الحصول على السلاح النووي باعتباره يشكل نوعاً من “الردع المضاد”، والذي من شأنه معادلة فائض القوة الأمريكية، خاصة أن عملية اغتيال سليماني أظهرت بوضوح هشاشة القوة الإيرانية، وأن ما كانت تدعيه من قدرتها على الرد واستهداف الوجود الأمريكي وتهديد المصالح الأمريكية لم يكن سوى شعارات فضفاضة موجهة فقط للداخل الإيراني؛ ولذا فإن حصول إيران على السلاح النووي قد يكون أحد الخيارات المهمة التي تمكن إيران من استعادة قدرتها على الردع في الفترة المقبلة، خاصة وأنها لا تملك الأموال الكافية لتطوير ترسانتها العسكرية التي عفا عليها الزمن، في ظل العقوبات الأمريكية المشددة، وهذا ربما ما دفعها إلى التنصل من كل القيود التي قبلت بها وفقا للاتفاق النووي الذي أبرمته مع القوى الدولية عام 2015 [22]. كما أنها بدأت منذ مايو 2019 في انتهاك الاتفاق النووي بشكل تدريجي من خلال اتخاذ خطوات محدودة كل 60 يومًا. وبالفعل أعلنت إيران في السادس من يناير 2020 عن المرحلة الخامسة لخفض التزاماتها الدولية التي نص عليها الاتفاق النووي[23].
  1. اللجوء إلى الميليشيات والأذرع المسلحة التابعة لها الذي قد يكون الخيار الأمثل والأكثر ترجيحاً من جانب إيران خلال الفترة المقبلة، إذ أن إيران دائماً ما تخشى المواجهات المباشرة، وتفضل بدلاً عنها اللجوء إلى الأذرع الموالية لها، لإدارة صراعاتها في المنطقة بالنيابة عنها، ومن المتوقع أن تعزز عملية اغتيال سليماني من هذا التوجه، خاصة أن هذه العملية والرد الرمزي عليها أظهرتا بوضوح مدى ضعف القوة العسكرية التقليدية لإيران في مواجهة القوة الأمريكية، ومن ثم قد يكون الخيار الأفضل لها في المرحلة المقبلة هو الاعتماد على الميليشيات والأذرع الموالية لها في تهديد المصالح الأمريكية واستهدافها في مسارح متعددة في الشرق الأوسط[24]، سواء في العراق من خلال تحريض الميليشيات التابعة لها على الضغط على الحكومة العراقية لإنهاء الوجود العسكري الأمريكي هناك، وفسخ الاتفاقية الأمنية الخاصة بذلك، أو في لبنان من خلال تحريض حزب الله على مهاجمة أهداف أمريكية في المنطكقة، خاالمنكقةقة بوجه عامع إسرائيل، خاصة  أن عملاء الحزب موزعون في مناطق مختلفة في الشرق الأوسط، ويمكنهم بالفعل أن يشكلوا تهديداً حقيقياً لمصالح الولايات المتحدة[25] .
  1. تهديد حركة الملاحة وحركة الشحن في الممرات والمضايق المائية قد يكون أحد الخيارات المحتملة التي يمكن أن تلجأ إليها إيران، لإثبات أنها ماتزال تمتلك بعض أوراق الردع والمساومة التي تضمن لها الحفاظ على مصالحها من ناحية، واحتواء الضغوط المفروضة عليها من ناحية ثانية. ولهذا فإن هناك مخاوف من أن تقوم في الفترة المقبلة، سواء بشكل مباشر، دون أن تعلن عن ذلك حتى لا تتعرض لعقوبات من المجتمع الدولي، أو عبر الميليشيات التابعة لها، باستهداف ناقلات النفط أو سفن الشحن التجاري في مياه الخليج العربي أو في مضيقي هرمز وباب المندب أو قد تقوم بتدريبات عسكرية بهدف تعطيل عمليات الملاحة والشحن مؤقتًا، وذلك بهدف ارتفاع أسعار النفط في الأسواق العالمية[26]، وتوظيف ذلك سياسياً في إقناع القوى الكبرى، وخاصة الاتحاد الأوروبي وروسيا والصين، للتدخل لتخفيف الضغوط والعقوبات المفروضة عليها.

هل تُغير استراتيجية الردع الأمريكية سُلوك إيران العدائي؟

رغم أنه قد يكون من السابق لأوانه تقييم الأثر المتوقع لاستراتيجية الردع الأمريكية على سلوك إيران خلال الفترة المقبلة، إلا أن المعطيات المتوافرة خلال الفترة التي أعقبت عملية اغتيال سليماني تشير بالفعل إلى أنها بدأت تراجع نفسها، والمؤشرات على ذلك عديدة:

  • أولاً: رد إيران الرمزي والمحدود على هذه العملية، والتي جاءت خلافاً لتوقعات الشعب الإيراني، حيث جاء هذا الرد محسوباً، وربما جاء فقط لحفظ ماء الوجه، بدليل عدم احتواء الصواريخ التي أطلقتها على القاعدتين الأمريكيتين في العراق على رؤوس متفجرة، فضلا عن إبلاغها المسؤولين العراقيين قبيل الضربة الصاروخية، وليس مستبعدا أنهم قد قاموا أيضا بإعلام الولايات المتحدة بها[27].
  • ثانياً: تغيير إيران لغة خطابها السياسي والعسكري، والذي بات يميل – ولو مرحلياً – إلى التهدئة وعدم التصعيد، وبدا هذا واضحاً في تأكيدها، في أعقاب الضربات الصاروخية المحدودة، على أنها لا تسعى إلى تصعيد التوترات مع الولايات المتحدة.
  • ثالثاً: إدراك إيران أنها ستكون الخاسرة في أي مواجهة عسكرية مباشرة مع الولايات المتحدة، خاصة في هذا التوقيت الذي انطلق فيه سباق الانتخابات الرئاسية التي ستقام في نوفمبر 2020، ومن ثم تريد أن تكون هذه الفترة بمثابة “هدنة لالتقاط الأنفاس”، وعدم التورط في مغامرة غير محسوبة قد تكون تكلفتها كبيرة بكل المقاييس. ويعزز من هذا أيضاً أن الولايات المتحدة نفسها لا تسعى إلى إثارة التصعيد مجدداً مع إيران، بعدما حددت لها – من خلال عملية اغتيال سليماني- الخطوط الحمراء التي لا ينبغي عليها تجاوزها. ولهذا فإن الفترة المقبلة ربما تشهد تهدئة محسوبة بين الطرفين، وإن تخللتها من حين لآخر التهديدات الخطابية بينهما لأغراض داخلية[28].

[1]  – للمزيد من التفاصيل عن مضمون هذا الخطاب يمكن الرجوع إلى:

The Restoration of Deterrence: The Iranian Example, https://bit.ly/2v7zCxr

[2] -MARK ASPER: WASHINGTON HAS REGAINED A LEVEL OF DETERRENCE FROM IRAN, 09  Jan 2020, https://bit.ly/2GZLpQX

[3] – LARA SELIGMAN, Petraeus Says Trump May Have Helped ‘Reestablish Deterrence’ by Killing Suleimani, foreignpolicy, JANUARY 3, 2020, 1:37 PM, https://bit.ly/2UvygXR

[4]  –  للمزيد من التفاصيل حول هذه الاستراتيجية، يمكن الرجوع إلى: سعيد عكاشة، الردع بالاغتيال في الخبرة الأمريكية، المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، 19 يناير 2020، من خلال الرابط التالي: https://bit.ly/2OvMhRO

[5]– Iran’s Qassem Soleimani will be viewed same as ISIS leader, says Pompeo, April 17, 2019, https://bit.ly/2UwyIVK

[6]–  Successor to slain Iran general faces same fate if he kills Americans: U.S. envoy, reuters, JANUARY 23, 2020, https://reut.rs/2OytQMg

[7]–  Abraham D. Sofaer, To deter Iran’s aggressive and dangerous actions, US must show strength, Fox News, 19 September 2019, https://fxn.ws/2Ss9qWn

[8]  –   قتل سليماني.. ردع أميركي هز إيران وحقق ثلاثة أهداف، موقع الحرة، 15 يناير، 2020، من خلال الرابط التالي: https://arbne.ws/38h0WYA

[9]  –  مايكل آيزنشتات، ردع الهجوم الإيراني المقبل، معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، 11 كانون الأول/ديسمبر 2019، من خلال الرابط التالي: https://bit.ly/3bkpiTi

[10]  –   ترامب يهدد بضرب 52 موقعا إيرانيا إذا حاولت إيران استهداف أمريكيين، موقع دويتش فيله(ألمانيا)، 5 يناير 2020.

[11]  – عقوبات أمريكية جديدة على إيران بعد هجومها الصاروخي في العراق، موقع دويتش فيله(ألمانيا)، 10 يناير 2020.

[12] –  US ‘launched cyber-attack on Iran weapons systems’, bbc, 23 June 2019, https://bbc.in/38gDr2c

[13] – إيران تكشف عن مصدر الهجوم السيبراني الذي وصفته بالأكبر في تاريخها، موقع روسيا اليوم، 9 فبراير 2020، من خلال الرابط التالي: https://bit.ly/37iZ5BB

[14] – Ilan Goldenberg, Will Iran’s Response to the Soleimani Strike Lead to War?, Foreign Affairs, January 3, 2020. https://fam.ag/379UZvb

[15]  – Michael Young, The United States Has Killed Qassem Suleimani, the Head of the Quds Force, Carnegie Middle East Center, January 03, 2020. https://bit.ly/31wdwkc

[16]  –   قتل سليماني.. ردع أميركي هز إيران وحقق ثلاثة أهداف، مصدر سابق.

[17]–   Eli Lake ,Trump’s Latest Plan for Iran: Regime Disruption, Bloomberg, January 14, 2020, https://bloom.bg/39hJsM7

[18]  –  مايكل آيزنشتات،  مصدر سابق.

[19]–   JOHN HANNAH, U.S. Deterrence in the Middle East Is Collapsing, foreignpolicy, OCTOBER 30, 2019, https://bit.ly/3775NKw

[20]  -أنتوني زورتشر، مقتل قاسم سليماني: هل يسهم مقتل القائد العسكري الإيراني في إعادة انتخاب ترامب؟ موقع “بي بي سي”، 8 يناير 2020، من خلال الرابط التالي: https://bbc.in/2SwsWRB

[21]  –     Robert Costa and Philip Rucker ,Both Trump and Democrats see political benefits to U.S. killing of Iranian general, the washingtonpost, Jan. 7, 2020 at 4:39 a.m., https://wapo.st/2tKDMes

[22]–  مقتل سليماني وأزمة الردع.. هل تسرع إيران بامتلاك النووي؟، سكاي نيوز عربية، 22 يناير 2020، من خلال الرابط التالي: https://bit.ly/2SoIhUj

[23] – Ilan Goldenberg, Will Iran’s Response to the Soleimani Strike Lead to War?, Foreign Affairs, January 3, 2020. https://fam.ag/379UZvb

[24]  – Daniel L. Byman, Killing Iran’s Qassem Suleimani changes the game in the Middle East, Brookings Institution, January 3, 2020. https://brook.gs/39gceg1

[25]  – Ilan Goldenberg, Ibid

[26]  – Jon B. Alterman, The Killing of Quds Force Commander Qasim Suleimani, Center for Strategic and International Studies, January 3, 2020. https://bit.ly/2UzjcZk

[27]–  مقتل سليماني وأزمة الردع.. مصدر سابق.

[28]– جوناثان ماركوس، مقتل سليماني: هل هناك رد أكثر من الضربة الصاروخية الإيرانية؟، موقع بي بي سي، 8 يناير 2020، من خلال الرابط التالي: https://bbc.in/2vbpPX8

المواضيع ذات الصلة