أتمت عملية “طوفان الاقصى” التي نفذتها حركة “حماس” في منطقة “غلاف غزة” في 7 أكتوبر 2023، والحرب الإسرائيلية التي تلتها على قطاع غزة، عامها الثاني. وقد امتدت الحرب الإسرائيلية منذ اليوم التالي للعملية إلى جولة طويلة من المواجهة بين حماس وإسرائيل، أدّت إلى تغيير وجه غزة وتكريس سياسة الاحتلال والسيطرة العسكرية في مدنها، بالترافق مع ما شهدته من أعمال القتل والتدمير، والنزوح الجماعي، وتشديد الحصار، وتعميم سياسية التجويع، بالإضافة إلى استهداف البنية السياسية والإدارية والقدرات العسكرية لحركة حماس في القطاع.
هذا التحليل يُخضِع أحداث السابع من أكتوبر لعملية جرد، وتقييم إنجازاتها وإخفاقاتها في ضوء أهدافها المُعلنة، بعد مرور عامين على تنفيذها، كما يطرح تساؤلات عن مُمكنات وقف الحرب الإسرائيلية على غزة في ظلَ تجربة المفاوضات بين حماس وإسرائيل- بوساطة عربية وأمريكية- التي توقفت عند خطة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب لإنهاء الصراع في غزة أخيرًا. وتستشرف هذه الورقة في جانبٍ منها مستقبل غزة ومصير حماس، استنادًا إلى الخطة الأمريكية، وعلى خلفية مواقف الأطراف منها؛ خاصة مع مواقف الإجماع الفلسطيني والعربي والدولي على إنهاء سيطرة حماس السياسية والعسكرية في القطاع ضمن استحقاقات “اليوم التالي” للحرب الإسرائيلية.
أولًا: محدودية إنجازات هجوم 7 أكتوبر
تركزت أهداف حماس من هجوم السابع من أكتوبر ودوافعها إلى تنفيذه في خمس مدخلات رسمية حدّدها رئيس مكتبها السياسي آنذاك، إسماعيل هنية، وقائد “كتائب عز الدين القسام”، محمد الضيف، بقولهما: “إنّ العملية جاءت كردّ فعل على اقتحام المستوطنين لباحات المسجد الأقصى والاعتداءات الإسرائيلية المستمرة في الضفة الغربية، وأن المعركة مع إسرائيل من أجل تحرير فلسطين”[1]؛ وفي البيان الذي صدر عن الحركة وأكدت فيه أن “العملية تستهدف رفع الحصار المفروض على قطاع غزة، وإعادة القضية الفلسطينية إلى الواجهة الدولية”[2]؛ وفي إعلان مسؤول ملف الأسرى في حماس، زاهر جبارين، في 5 سبتمبر 2023 -أي قبل نحو شهر على تنفيذ العملية- أن “المعركة المقبلة مع الاحتلال عنوانها الأسرى”؛ وفي وثيقة حماس بعنوان “هذه روايتنا.. لماذا طوفان الأقصى؟”، التي أكدت فيها أن أحداث 7 أكتوبر “خطوة ضرورية واستجابة طبيعية؛ لمواجهة ما يُحاك من مخطّطات إسرائيلية تستهدف تصفية القضية الفلسطينية”[3]. غير أن القراءة المتأنية تكشف عن مجموعة أخرى من الدوافع والأهداف الخفية وغير المُعلنة لتنفيذ العملية، أهمها تغيير واقع قطاع غزة، والانقلاب على منطق التهدئة الأمنية مع إسرائيل، ومغادرة سياسة الحلول المرحلية القائمة على معادلة التسهيلات الاقتصادية التي عرفها القطاع على امتداد السنوات الأخيرة. ورغم الفوائد التي جنتها حماس من هذه التسهيلات، إلّا أنها لم تكن بمستوى الأزمات الاقتصادية والاجتماعية الكارثية التي عانى منها القطاع بفعل سيطرة حماس لأكثر من 18 عامًا.
وبهذا المعنى، فإن حماس التي امتنعت عن الانضمام للقتال مع حركة “الجهاد الإسلامي” في ثلاث جولات سابقة، وتعرضت لانتقادات مؤيديها وخصومها لتفضيلها الحُكْم على المقاومة، مارست خداعًا استراتيجيًّا لتضليل إسرائيل تجهيزًا للأحداث”[4]، التي تسببت بخسائر غير مسبوقة لإسرائيل وللمدنيين الفلسطينيين في غزة على خلفية الحرب الإسرائيلية التي تلتها.
ومع إخضاع الأهداف المُعلنة لعملية التقييم، في ظلّ التطورات الميدانية اللاحقة، وتكثيف استخدام القوة الإسرائيلية التي لم تكن تتوقّعها الحركة، فإن الشواهد الأربعة الآتية تُظهر محدودية إنجازها:
1. وقف اقتحام المسجد الأقصى والاعتداءات الإسرائيلية في الضفة الغربية
لم توقف أحداث 7 أكتوبر الاقتحامات اليومية للمستوطنين في المسجد الأقصى والمدعومة من الحكومة الإسرائيلية، كما أنها لم تمنع الاعتداءات الإسرائيلية المتصاعدة في الضفة الغربية، والمتوزعة بين أعمال القتل، والتهجير، وهدم الممتلكات العامة والخاصة، وتوسيع الاستيطان وتعزيزه، والتضييق على تنقل الأفراد، ومنع العمال من الالتحاق بأعمالهم داخل إسرائيل والمستوطنات، إلى جانب ارتفاع معدلات حوادث اعتداءات المستوطنين في مختلف مدن وقرى الضفة الغربية.
2. رفع الحصار الإسرائيلي عن قطاع غزة
كانت قضية رفع الحصار من أبرز قضايا حماس بعد عام 2006، وفي الواقع لم تُؤَدِّ أحداث السابع من أكتوبر إلى تخفيف الحصار، بل أدت إلى تشديده بعدما منعت إسرائيل توريد السلع التجارية والمساعدات الإنسانية إلى القطاع، ورفضت تنقل الأفراد والمرضى لتلقي العلاج في الخارج، ومنعت توريد الأدوية والمستهلكات الطبية للقطاع الصحي المتهالك، وقطعت الكهرباء بشكل كامل.
3. إعادة القضية الفلسطينية إلى الواجهة الدولية
لا شك في أن الحرب الإسرائيلية أعادت القضية الفلسطينية إلى مركز الاهتمام العالمي بعد سنوات من التجاهل، وبعدما حوّلت إسرائيل عملية التسوية السياسية إلى متاهةٍ حقيقية؛ لكن هذه التحولات لا تنفي حقيقة أن الخطاب السياسي الدولي في معظمه أدان الأحداث وأعمال المقاومة الفلسطينية عمومًا، وبرّر الحرب بذريعة حماية أمن إسرائيل.
ويمكن الرد على ادعاءات حماس وترويجها لفكرة أن موجة الاعترافات الدولية بدولة فلسطين أخيرًا ما كانت لتتم لولا عملية “طوفان الأقصى” بحقيقتين؛ أولاهما، أن الدول التي اعترفت بالدولة الفلسطينية اندفعت إلى هذا الموقف رَدًّا على سياسة إسرائيل في مواجهة المدنيين الفلسطينيين في غزة، وارتكابها أعمال الإبادة الجماعية التي وثقتها واعترفت بها الهيئات الأممية، وأن هذا الموقف تأسس على قاعدة الاحتجاجات الشعبية العالمية الرافضة للحرب في غزة والمطالبة بوقفها. ثانيتهما، أن الاعترافات الدولية جاءت انعكاسًا للجهود العربية والدولية الرامية إلى إنهاء الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي وتنفيذ مبدأ حل الدولتين، التي اضطلعت بها على نحوٍ خاص المملكة العربية السعودية والجمهورية الفرنسية في المؤتمر الدولي الذي عُقد في شهري يوليو وسبتمبر 2025 بشأن التسوية السياسية لقضية فلسطين وتنفيذ حل الدولتين، ثم في أعمال الدورة الثمانين للجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك في سبتمبر 2025.
وبالإضافة إلى ذلك كله، فإن الاعترافات الدولية بالدولة الفلسطينية التي امتدت منذ نوفمبر 1988 بتأييد 83 دولة فور إعلان منظمة التحرير الفلسطينية قيام دولة فلسطين، ووصلت إلى 139 دولة قبل الأحداث الأخيرة، وكان ضمنها ترقية مكانة فلسطين إلى “دولة مراقب غير عضو” في الأمم المتحدة عام 2012، وصولًا إلى اعتراف 160 دولة من إجمالي 193 هي أعضاء الجمعية العامة للأمم المتحدة، كلها تمثّل رَدًّا صريحًا ومباشرًا على ادعاءات حماس في هذا الشأن.
4. “تبييض السجون” الإسرائيلية
تطوَّرت لغة حماس بعد العملية، من المطالبة بصفقة تبادل محدودة للأسرى، إلى تبني شعار “تبييض السجون” الإسرائيلية من الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين، بعدما احتجزت نحو 250 أسيرًا إسرائيليًّا؛ راهنت على مبادلتهم بأسرى فلسطينيين، بل “تبييض السجون” الإسرائيلية بهم. وفي الواقع أن أعداد الأسرى الفلسطينيين ارتفعت كثيرًا بعد السابع من أكتوبر لتصل إلى أكثر من عشرة آلاف وثماني مئة أسيرً، ناهيك عن آلاف الأسرى من غزة الذين لم يتم توثيق حالات اعتقالهم؛ وفقًا للبيانات الصادرة عن هيئة شؤون الأسرى الفلسطينية، ونادي الأسير الفلسطيني، ومؤسسة الضمير لحقوق الإنسان في 8 يوليو 2025، وذلك بعد تنفيذ القوات الإسرائيلية حملة اعتقالات واسعة في الضفة الغربية والقدس وغزة.
جديرٌ بالذكر أن عدد الأسرى الفلسطينيين قبل أحداث 7 أكتوبر 2023 لم يكن يتجاوز ثمانية آلاف أسير؛ ما يعني أن العملية فشلت في تحقيق شعار “تبييض السجون” الإسرائيلية من الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين، وأكثر ما حقّقته هو إبرام صفقة تبادل محدودة، أفرجت بموجبها إسرائيل عن 1977 أسير فلسطيني فقط في اتفاقي التهدئة في نوفمبر 2023، ويناير 2025، في مقابل اعتقال آلاف الأسرى الجُدد على امتداد شهور الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة.
ثانيًا: تعقيدات البيئة التفاوضية وعثرات الاتفاق بين حماس وإسرائيل
ارتكزت العملية التفاوضية بين حماس وإسرائيل على مبدأ إطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين المحتجزين في القطاع كأحد الأهداف الإسرائيلية، لكنها شهدت تعقيدات وعثرات عدّة نتيجة التباينات في وجهات النظر بين الطرفين؛ من رفع سقف الأهداف الإسرائيلية عبر المضي في سياسة التفاوض تحت النار، إلى مماطلة حماس ورهن استجابتها لشروط التفاوض بالحسابات الحزبية الضيقة المتعلقة أساسًا بضمان استمرار سيطرتها على غزة، والارتهان لتحولات البيئتين الإسرائيلية والدولية طيلة العامين الماضيين. ولقد تسببت هذه السياسات في تعثر جولات المفاوضات بين الطرفين مراتٍ عدة، فكلما اقتربت جهود الوسطاء -لاسيّما الوسيطين المصري والقطري-من إنضاج تفاهم للتهدئة ووقف الحرب الإسرائيلية على غزة، ارتدت إلى سيرتها الأولى.
واستنادًا على هذه القاعدة، لم تتفق حماس وإسرائيل على التهدئة إلّا مرتين؛ ففي 24 نوفمبر 2023، وبعد مضي نحو شهر ونصف على الحرب الإسرائيلية، نجحت الوساطة المصرية والقطرية والأمريكية في التوصل إلى هدنة إنسانية مؤقتة، أُطلق بموجبها سراح 50 من الأسرى الإسرائيليين في مقابل الإفراج عن 150 من النساء والأطفال الفلسطينيين من السجون والمعتقلات الإسرائيلية، وسُمح بإدخال شاحنات المساعدات الإنسانية والإغاثية والطبية والوقود إلى القطاع، فضلًا عن توقف حركة الطيران الإسرائيلي خلال سريان الهدنة[5]، ثم صادقت الحكومة الإسرائيلية على خطط لمدّ توغلاتها في مختلف مدن القطاع، واستأنفت حربها في 30 نوفمبر 2023. وفي مرحلة تالية، دفعت الضغوط الداخلية والخارجية الطرفين إلى قبول اتفاق وقف إطلاق النار في 19 يناير 2025، لكن هذا الاتفاق لم يُكْمِل مراحله الثلاث، وسرعان ما انهار بفعل الضغوط الداخلية التي واجهها نتنياهو باستقالة بن غفير وتهديدات سموتريتش بالانسحاب من الحكومة ما لم تتجدد الحرب على غزة. واستؤنفت الهجمات العسكرية الإسرائيلية في 18 مارس 2025، بالتزامن مع مماطلة نتنياهو وحذره من الانتقال إلى المرحلة الثانية من الاتفاق، خضوعًا للاشتراطات الداخلية وحسابات تمرير الموازنة العامة السنوية، والتأسيس لمرحلةٍ جديدة من التعامل مع غزة على أساس التهرب من استحقاقات التهدئة واستعادة التموضع العسكري في القطاع، والضغط على حماس وإضعاف موقفها التفاوضي[6].
وعمومًا، فإن الأسباب التي أعاقت فرص التوصل إلى اتفاق تمثلت في القضايا الخلافية على حدوده وإجراءاته ومستقبله. فعلى جانب حماس كان هناك نوعان من القضايا الخلافية، منها قضايا مُعلنة تطالب الحركة من خلالها بتضمين الاتفاق تعهدًا رسميًّا من الرئيس الأمريكي بالوقف الشامل والتام للحرب الإسرائيلية على غزة، وتنفيذ الاتفاق تنفيذًا دقيقًا مع ضمان عدم خرقه من جانب إسرائيل، وقضايا غير معلنة تتعلق بضمانات ذاتية تطالب فيها بعدم المساس بمكتبها السياسي أو التعرض لأعضائه في الخارج، وعدم مصادرة أو احتجاز أموالها أو فرض قيود عليها في الخارج، ووجود ممثلين للحركة في إدارة غزة، وعناصر في الأمن المستقبلي للقطاع تابعين لها أو قريبين منها.
وكانت هذه القضايا المطلبية هي التي أعاقت فرص التوصل للاتفاق منذ مارس الماضي (2025)، وذلك بالنظر إلى طبيعة مقترح ويتكوف “المعدل” نفسه، الذي لا يتضمن قضايا جديدة تُمَيِّزه عن المقترح “الأصلي” الذي عُرض على الحركة مرارًا. أمّا إسرائيل؛ فإنها عارضت أيّ اتفاق لوقف الحرب على غزة دون تحقيق أهدافها في إطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين، والقضاء على حماس وإنهاء حكمها، وضمان عدم عودتها لإدارة شؤون القطاع، وخروج قيادتها من القطاع ونزع سلاحها، وفق الاشتراطات الدائمة والمتكررة لرئيس الوزراء بنيامين نتنياهو وأعضاء حكومته والمستوى العسكري في إسرائيل[7].
في هذا السياق، كانت هناك قضية أخرى من قضايا الخلاف الرئيسية التي أعاقت فرص الاتفاق بين الطرفين، ألا وهي قضية تهجير سكان القطاع تهجيرًا قسريًّا، وكانت من ضمن القضايا التي لم تُسقطها إسرائيل من حساباتها، رغم الرفض العربي والدولي لها، فضلًا عن قضية اقتطاع وتوسعة المناطق الحدودية العازلة شرق وجنوب وشمال قطاع غزة لمصلحة ما تُسمى بمنطقة “غلاف غزة”، وبما يكرس المشاريع الاستيطانية فيها.
لقد ترتب على هذه الخلافات أن تراكمت الأزمات الإنسانية والاقتصادية والاجتماعية في غزة، وكرست احتلال قرابة 75% من مساحة القطاع مع الهجوم العسكري والتوغل البري عبر تنفيذ خُطتي “الجنرالات” و”عربات جدعون” ،وغيرها من الخطط العسكرية الميدانية، على مدار عامين من الحرب التي تعمدت فيها إسرائيل تغيير وجه غزة جغرافيًّا وديموغرافيًّا، وتكريس الاحتلال المادي والسيطرة الميدانية، بإقامة الثكنات والمواقع العسكرية، وتوسيع المنطقة الحدودية العازلة شرق وجنوب وشمال القطاع، وشق الممرات العسكرية من ممر “فيلادلفيا” و”موراغ” جنوب القطاع، وممر “كيسوفيم” وسط القطاع، إلى ممري “مفلسيم” و”نتساريم” شمال القطاع، وهي الممرات المخصّصة لتسهيل عملية السيطرة العسكرية والفصل بين مُدن غزة وقُراها.
ثالثًا: خطة الرئيس الأمريكي وآفاقها المحتملة
أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في 29 سبتمبر 2025، بعد لقائه مع رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو، عن خطته لوقف إطلاق النار في قطاع غزة، والتي أطلق عليها اسم “الخطة الشاملة لإنهاء الصراع في غزة”، ووصفها في المؤتمر الصحفي الذي أعقب لقائه بنتنياهو بأنها “أحد أعظم الأيام في تاريخ الحضارات، حيث أصبحنا قاب قوسين أو أدنى من التوصل إلى حل شامل وتحقيق السلام في الشرق الأوسط وليس في غزة فقط. وأضاف: تناقشنا في مسائل حيوية تتعلق بإيران، والتجارة، وتوسيع اتفاقات أبراهام، وكيفية إنهاء الحرب القائمة في غزة”[8]. وتضمنت الخطة التي اشتملت على 20 بندًا، وعدًا بإنهاء العملية العسكرية الإسرائيلية في القطاع، وتسيير قوافل المساعدات الإنسانية، وإطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين ومبادلتهم ببعض الأسرى الفلسطينيين، والشروع في عملية إعادة الإعمار وتطوير غزة لصالح شعبها، مع الانسحاب الإسرائيلي التدريجي، وضمان ألا تحتل أو تضم إسرائيل القطاع، فضلًا عن الوعد بعدم إجبار أيّ من سكان غزة على مغادرة القطاع. كما ستدفع الخطة إلى إنهاء عمليات القوات الإسرائيلية في غزة، واستبدالها تدريجيًّا بقوات حفظ سلام دولية، وإدارة دولية انتقالية لقطاع غزة، وتدعو الخطة إلى نزع سلاح حماس تحت إشراف مراقبين مستقلين بهدف ضمان عدم قدرتها على تشكيل تهديد لإسرائيل في المستقبل[9].
1. المواقف العربية والدولية تجاه خطة ترامب
رحبت مجموعة الدول العربية والإقليمية (المملكة العربية السعودية، الإمارات العربية المتحدة، مصر، قطر، الأردن، تركيا، باكستان، إندونيسيا) التي اجتمعت مع الرئيس ترامب على هامش اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك في 24 سبتمبر 2025، في بيان مشترك لوزراء الخارجية، بالخطة الأمريكية المعلنة. وشدّد الوزراء على “أهمية الشراكة مع الولايات المتحدة في ترسيخ السلام في المنطقة”، وأكدوا استعدادهم للتعاون الإيجابي مع واشنطن لإنجاح الاتفاق[10]. وأعقب ذلك ترحيب السلطة الفلسطينية بالخطة، وركّزت على مجموعة بنود أساسية تتضمن إقامة الدولة الفلسطينية، كما رحبت دول الاتحاد الأوروبي، وبريطانيا، وفرنسا، وإيطاليا، وألمانيا، وتركيا[11]، بالخطة الأمريكية.
2. الموقف الإسرائيلي من خطة ترامب:
أثارت خطة ترامب ردود فعل متباينة في إسرائيل، فبينما أيدّ قادة اليمين النتائج الأمنية لهذه الخطة، حافظ البعض على نبرة حذرة، تتراوح بين رفض إقامة دولة فلسطينية، ومطالبة بضمانات تنفيذية واضحة تحمي حرية عمل الجيش الإسرائيلي في القطاع.
فمن جانبه، رحّب الرئيس الإسرائيلي بالخطة، واعتبرها “تُبشر بأمل حقيقي في إطلاق سراح المحتجزين الإسرائيليين، وضمان أمن إسرائيل، وتغيير الواقع في غزة والشرق الأوسط نحو عهدٍ جديد من الشراكة الإقليمية والدولية”. فيما أعلن زعيم المعارضة يائير لابيد، تأييده للخطة، واعتبر، في بيان، أنها “الأساس الصحيح للتوصل إلى اتفاق بشأن المحتجزين وإنهاء الحرب”، وأشاد وزير الدفاع الإسرائيلي الأسبق بيني جانتس بإعلان ترامب، مشددًا على ضرورة تنفيذ الخطة و”إعادة المحتجزين والحفاظ على حرية إسرائيل العملياتية”. أمّا وزير المالية بتسلئيل سموتريتش، فقد وصف الخطة بأنها “خطأ تاريخي”، معتبرًا أنها “تدير ظهورنا لكل دروس 7 أكتوبر.. وفي تقديري، ستنتهي أيضًا بالبكاء.. وسيضطر أبناؤنا للقتال في غزة مرة أخرى”، وعدّ سموتريتش قبول نتنياهو لخطة إنهاء الحرب في غزة “مأساة هروب القيادة من رسالتها[12]“.
3. رد حماس على خطة ترامب
رحبت حماس بخطة ترامب، وقبلت بعض بنودها، مثل إنهاء الحرب، والانسحاب الإسرائيلي، والإفراج عن الأسرى الإسرائيليين المحتجزين في القطاع، ومبادلتهم بأسرى فلسطينيين، وتدفق المساعدات الإنسانية، والشروع بعملية إعمار قطاع غزة، مع استعدادها للدخول “فورًا” في مفاوضات عبر الوسطاء لمناقشة المزيد من التفاصيل. لكن الحركة أرجأت موافقتها على بعض نقاط الخطة، وأحالتها إلى الاجماع الوطني الفلسطيني للتقرير بشأنها، ومنها مسألة التدخل الأجنبي في الحكم المؤقت لغزة، مع موافقتها غير المشروطة على تسليم إدارة القطاع لهيئة فلسطينية من المستقلين “التكنوقراط”، ومسألة نزع السلاح ومنح العفو لأعضاء الحركة الذين يلقون السلاح.
وبهذا؛ فإن الحركة تعاملت مع نصوص الخطة الأمريكية على أساس قابليتها للأخذ والرد والتفاوض، خاصة في القضايا المسكوت عنها في بيانها، وأهمها مسألة “نزع السلاح”. ويسود الاعتقاد بأن حماس -وقد تجنبت الرد على شروط “نزع السلاح”- تتوقع أن هذا الشرط يمكن تخفيفه أو تجاوزه ما دامت قد التزمت بإطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين قبل الخوض فيه خلال مراحل تفاوضية تالية، غير أن ردّ نتنياهو على هذا الاعتقاد كان قاطعًا بقوله: إنه “سيتم نزع سلاح حماس بالاتفاق أو الحرب، وفي المرحلة الثانية سنفكك سلاح حماس، وقطاع غزة سيصبح خاليًا من السلاح”[13].
ورغم قبولها الجزئي ببعض بنود الخطة، فإن دولًا عربية وأجنبية ومنظمات دولية رحبت بإعلان حماس أنها مستعدة لإطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين بموجب خطة الرئيس الأمريكي الهادفة إلى إنهاء الحرب في غزة، وأعربت مصر وقطر وفرنسا وبريطانيا والأمم المتحدة عن تقديرها لإعلان الحركة، داعين جميع الأطراف إلى اغتنام الفرصة لإنهاء الحرب المأساوية في غزة[14].
4. الآفاق المحتملة للحرب على غزة:
بدا اهتمام الوسطاء واضحًا في التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار على طريق إنهاء حرب غزة وفق الخطة الأمريكية، وتمثل هذا الاهتمام في مباشرتهم -في 5 أكتوبر 2025- باستضافة جولة من المفاوضات غير المباشرة بين حماس وإسرائيل، في القاهرة، لمناقشة ترتيبات تبادل الأسرى، وذلك بمشاركة وفود أمنية من الطرفين، وبحضور مراقبين دوليين، في مسعى لإحياء المسار الإنساني والسياسي المتعثر منذ اندلاع الحرب الإسرائيلية على القطاع. كما أظهر الرئيس الأمريكي اهتمامًا واضحًا ومتابعة لحظية لهذا الملف، بحيث طلب من إسرائيل التوقف عن قصف قطاع غزة، ونشر على منصته للتواصل الاجتماعي “تروث سوشيال” خريطة لخط الانسحاب الأَوَّلِيّ لقوات الجيش الإسرائيلي من القطاع في إطار المرحلة الأولى لتنفيذ عملية تبادل الأسرى والمحتجزين.
في ضوء هذه الجهود وتطورات المشهد الميداني على خلفية الخطة الأمريكية ومواقف الأطراف منها، يمكن استشراف مستقبل غزة ومصير حماس وفق السيناريوهيْن الآتييْن:
الأول: المضي في تنفيذ خطة ترامب ووقف حرب غزة
يرتبط تحقُّق هذا السيناريو بمدى قدرة ترامب على الضغط على طرفيْ الاتفاق -خصوصًا إسرائيل- من أجل ضمان تَقَيُّدها ببنود الخطة الأمريكية، والتزامها بعدم خرق الاتفاق حتى نهايته، وبما يحقق وقف حرب غزة، في مقابل التجاوز أو التخفيف من بعض الشروط الضاغطة على الجانب الفلسطيني، التي يمكن لها إعاقة مسار المفاوضات بين الطرفين، مع ما تسببه من انتكاسة مسار التسوية السياسية والإنسانية. وهذا التصور سيحقق للرئيس الأمريكي مكاسب، ويمنحه رصيدًا سياسيًّا كبيرًا بوصفه صانعًا للسلام.
وهذا التصور يعتمد في جانب منه على قدرة الوسطاء والقوى السياسية الفلسطينية في الضغط على حماس وإلزامها بالموافقة على شروط الخطة الأمريكية كاملة، ودون تحفظات تتعلق بقضية “نزع السلاح” و”نفي قادتها” و”مغادرة المشهد السياسي في غزة”، وذلك بالنظر إلى التحفظات التي تبديها الحركة تجاه هذه القضية على نحوٍ خاص. وعليه؛ فإن الجهود ينبغي أن تتركز على إنتاج مداخل مقنعة للحركة، ومنها تسليم سلاحها للسلطة الفلسطينية أو للدول العربية، ضمن الحلول الواقعية لتسوية هذا الملف العالق، فضلًا عن إلزامها بإنهاء سيطرتها السياسية والعسكرية على القطاع بتشكيل هيئة فلسطينية تمثيلية ومتفق عليها لإدارة شؤون القطاع، مع إلزام الحركة أيضًا -من جانب الوسطاء- بتسليم الأسرى الإسرائيليين دفعة واحدة كأحد اشتراطات الخطة الأمريكية والموقف الإسرائيلي المتصلب تجاهها، خاصة في ظل الاقتناع بأن حماس لم يَعُدْ لديها ما يمكن المراهنة عليه بعد تسليم الأسرى الإسرائيليين دفعة واحدة، ما يدفعها إلى التسويف والمماطلة في هذه القضية.
الثاني: العودة إلى مسار التصعيد العسكري واستمرار الحرب
يقوم هذا السيناريو على افتراض الإخفاق في مسار الخطة الأمريكية، بما يعني استمرار الحرب الإسرائيلية على غزة بسبب عدم استجابة حماس لشروط الخطة الأمريكية كاملة، أو خرق إسرائيل للخطة بعد تسلمها الأسرى الإسرائيليين في المرحلة الأولى، وإصرارها على استخدام القوة لتنفيذ الاتفاق المتعلق بنزع سلاح الحركة ومغادرتها المشهد السياسي، خاصة مع الاتهامات الإسرائيلية الرسمية المتصاعدة قبل الخطة الأمريكية وبعدها. هذه المواقف، وما يتبعها من استئناف الهجمات العسكرية الإسرائيلية، ستؤدي في جانب منها إلى اتهام حماس بتعميق أزمات قطاع غزة، وإضاعة فرصة تاريخية للسلام ووقف حرب غزة. كما ستؤدي -من جانبٍ آخر- إلى تعميق عزلة إسرائيل غير الملتزمة بشروط الخطة الأمريكية.
وبغض النظر عن تحقُّق أحد هذين السيناريوهين؛ فإن مصير حماس سوف يتحدد بناءً على شروط الخطة الأمريكية وموقف الإجماع الدولي والعربي والفلسطيني والإسرائيلي، الذي ينطلق من ضرورة مغادرة الحركة المشهد السياسي وإنهاء سيطرتها على قطاع غزة. جديرٌ بالذكر أن هذه الاشتراطات لا تتعلق فحسب بالمواقف الرسمية، وإنما تتعداها إلى موقف الإجماع الشعبي الفلسطيني في غزة خصوصًا، الذي يتأسس على قاعدة إلزام حماس بإنهاء سيطرتها على القطاع بعد عامين من تعميق أزمات السكان بالمعاناة الإنسانية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، بفعل مغامرات الحركة غير محسوبة النتائج في يوم السابع من أكتوبر 2023، وما بعده.
[1]حول تصريحات إسماعيل هنية ومحمد الضيف بشأن عملية “طوفان الأقصى”، وكالة قدس برس للأنباء، 7 أكتوبر 2024، على الرابط: https://qudspress.com/159914/
[2]“بيان صحفي صادر عن حركة (حماس)”، 7 أكتوبر 2024، على الرابط: https://almoqawma.com/2024/10/07/4076/
[3]وثيقة “هذه روايتنا.. لماذا طوفان الأقصى؟”، موقع حركة المقاومة الإسلامية “حماس”، 14 مارس 2024، على الرابط: https://almoqawma.com/tag/%D9%87%D8%B0%D9%87-%D8%B1%D9%88%D8%A7%D9%8A%D8%AA%D9%86%D8%A7-%D9%84%D9%85%D8%A7%D8%B0%D8%A7-%D8%B7%D9%88%D9%81%D8%A7%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%82%D8%B5%D9%89/
[4] عزام شعث، دوافع “حماس” وأهدافها من عملية “طوفان الأقصى”، في: هجمات حماس وحرب إسرائيل على غزة: وجهات نظر فلسطينية، مركز مالكوم كير- كارنيغي للشرق الأوسط، 24 أكتوبر 2023، على الرابط: https://carnegieendowment.org/sada/2023/10/hamas-october-attacks-and-the-israeli-war-on-gaza-reflections-from-palestinians?lang=ar
[5]“غزة المدمرة تبحث عن طريق الحياة في هدنة قصيرة”، الشرق، 24 نوفمبر 2023، على الرابط: https://asharq.com/politics/73136/%D8%BA%D8%B2%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AF%D9%85%D8%B1%D8%A9-%D8%AA%D8%A8%D8%AD%D8%AB-%D8%B9%D9%86-%D8%B7%D8%B1%D9%8A%D9%82-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D9%8A%D8%A7%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D9%87%D8%AF%D9%86%D8%A9-%D9%82%D8%B5%D9%8A%D8%B1%D8%A9/
[6] مهاب عادل حسن، الحسابات الإسرائيلية تجاه استئناف العمليات العسكرية في غزة، القاهرة: مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، 20 مارس 2025، على الرابط: https://acpss.ahram.org.eg/News/21383.aspx
[7]القضايا الخلافية بين حماس وإسرائيل حول اتفاق التهدئة في غزة، أبو ظبي: المركز الدولي للدراسات الاستراتيجية، 7 يوليو 2025، على الرابط: https://icss.ae/articles/view/%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%B6%D8%A7%D9%8A%D8%A7-%D8%A7%D9%84%D8%AE%D9%84%D8%A7%D9%81%D9%8A%D8%A9-%D8%A8%D9%8A%D9%86-%D8%AD%D9%85%D8%A7%D8%B3-%D9%88%D8%A5%D8%B3%D8%B1%D8%A7%D8%A6%D9%8A%D9%84-%D8%AD%D9%88%D9%84-%D8%A7%D8%AA%D9%81%D8%A7%D9%82-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%87%D8%AF%D8%A6%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D8%BA%D8%B2%D8%A9
[8]“خطة ترامب لإنهاء الحرب في غزة.. المحتوى والمضامين”، تقدير موقف، رام الله: مركز الأبحاث الفلسطيني، على الرابط: https://www.prc.ps/خطة-ترامب-لإنهاء-الحرب-على-غزة-المحتوى-والمضامين/
[9]“النص الكامل لخطة ترامب حول غزة”، أمد للإعلام، 30 سبتمبر 2025، على الرابط: https://www.amad.com.ps/ar/post/562864/%D9%88%D8%AB%D9%8A%D9%82%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%86%D8%B5-%D8%A7%D9%84%D9%83%D8%A7%D9%85%D9%84-%D9%84%D8%AE%D8%B7%D8%A9-%D8%AA%D8%B1%D8%A7%D9%85%D8%A8-%D8%AD%D9%88%D9%84-%D8%AD%D8%B1%D8%A8-%D8%BA%D8%B2%D8%A9
[10] “بيان مشترك لوزراء خارجية 8 دول عربية وإسلامية حول خطة ترامب بشأن غزة”، إرم نيوز، على الرابط: https://www.eremnews.com/news/arab-world/eh9uols
[11]“ترحيب عربي وغربي بخطة ترامب”، فرانس 24، 30 سبتمبر 2025، على الرابط: https://www.france24.com/ar/%D8%A7%D9%84%D8%B4%D8%B1%D9%82-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%88%D8%B3%D8%B7/20250930-%D8%AE%D8%B7%D8%A9-%D8%AA%D8%B1%D8%A7%D9%85%D8%A8-%D9%84%D9%88%D9%82%D9%81-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%B1%D8%A8-%D9%81%D9%8A-%D8%BA%D8%B2%D8%A9-%D8%AA%D9%84%D9%82%D9%89-%D8%AA%D8%B1%D8%AD%D9%8A%D8%A8%D8%A7-%D8%B9%D8%B1%D8%A8%D9%8A%D8%A7-%D9%88%D8%BA%D8%B1%D8%A8%D9%8A%D8%A7-%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85-%D8%AF%D9%88%D9%84%D9%8A
[12]“كيف استقبلت إسرائيل خطة ترامب لإنهاء حرب غزة؟”، الشرق، 30 سبتمبر 2025، على الرابط: https://asharq.com/politics/154586/حرب-غزة-خطة-ترامب-ردزد-الفعل-إسرائيل-المعارضة
[13]“نتنياهو: “سيتم نزع سلاح حماس بالاتفاق أو بالحرب..”، RT Arabic، 4 أكتوبر 2025، على الرابط: https://arabic.rt.com/world/1717666-نتنياهو-لم-أتنازل-ولو-للحظة-عن-إعادة-المختطفين-فيديو/
“[14]ترحيب عربي ودولي بموافقة “حماس” على خطة ترامب الخاصة بغزة”، سكاي نيوز عربية، 4 أكتوبر 2025، على الرابط: https://www.skynewsarabia.com/world/1824851-%D8%AA%D8%B1%D8%AD%D9%8A%D8%A8-%D8%B9%D8%B1%D8%A8%D9%8A-%D9%88%D8%AF%D9%88%D9%84%D9%8A-%D8%A8%D9%85%D9%88%D8%A7%D9%81%D9%82%D8%A9-%D8%AD%D9%85%D8%A7%D8%B3-%D8%AE%D8%B7%D8%A9-%D8%AA%D8%B1%D8%A7%D9%85%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D8%AE%D8%A7%D8%B5%D8%A9-%D8%A8%D8%BA%D8%B2%D8%A9