يعيش العالم المعاصر على وقع موجات متصاعدة من التطرف المؤدلج الذي لم يَعُد ظاهرة هامشية أو محصورة في مناطق جغرافية بعينها. فمن صعود اليمين المتطرف في الديمقراطيات الغربية، إلى سياسات دول تتبنّى خطابًا إقصائيًّا، مرورًا بالتنظيمات العابرة للحدود التي تستند إلى تفسيرات دينية راديكالية، أصبح العنف القائم على الأيديولوجيا سِمة بنيوية في السياسة العالمية. ومع ذلك، غالبًا ما يتم التعامل مع هذه الظواهر كحالات منفصلة؛ ما يعيق فهم الأنماط المشتركة التي تغذّيها.
وتقترح هذه الورقة إطارًا تحليليًّا مختلفًا يهدف إلى “تفكيك” الأفكار الجوهرية التي يتبنّاها مختلف أشكال التطرف.
وتكمن إشكالية هذه الورقة البحثية في أن التحليلات السائدة للتطرف غالبًا ما تركز على محتوى الأيديولوجيا (الإسلاموية، القومية البيضاء، الصهيونية المتطرفة) بدلًا من بنيتها ومنطقها الداخلي. وهذا التركيز الجزئي يؤدي إلى استراتيجيات مواجهة قاصرة وغير مكتملة، تعالج الأعراض دون الجذور الأساسية لها. وعليه، تطرح الورقة السؤال المركزي التالي: ما هي الأنماط الفكرية والبنى الأيديولوجية المشتركة التي تشكل أساسًا لمختلف أشكال التطرف المعاصر، وكيف تسهم ديناميكيات العلاقات الدولية في تشكيلها وتفاقمها؟
وللإجابة عن هذا السؤال تجادل الورقة بأن ظواهر تبدو متباينة – كسياسات حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، القائمة على التوسع الاستيطاني والأمننة، أو خطابات اليمين المتطرف الأوروبي المناهضة للهجرة، أو أيديولوجيات تنظيمات مثل تنظيم “داعش” – ليست مجرد ردود أفعال سياسية متفرقة، بل هي تعبيرات مختلفة عن بنية فكرية أساسية مشتركة. وتتمثل هذه البنية في ثلاثة أعمدة رئيسية[1].
- بناء عالم مانوي: (Manichaean Worldview) ويعني تقسيم العالم بشكل تبسيطي إلى ثنائية مطلقة بين “نحن” (الأطهار/ الأخيار)، و”هم” (الأشرار/ الخطر)؛ وهو مصطلح يصف نظرة أو رؤية للعالم تقسم كل شيء إلى ثنائية مطلقة ومتصارعة بين الخير والشر. والشخص، أو الجماعة التي تتبنّى هذه النظرة، ترى العالم كساحة معركة كونية بين قوتين متعارضتين: النور والظلام؛ الصواب والخطأ؛ “نحن” الأخيار، و”هُم” الأشرار. وهذا المصطلح مستوحى من المانوية، وهي ديانة قديمة أسَّسها “ماني” في القرن الثالث الميلادي، وكان جوهر عقيدتها هو أن الكون محكوم بصراع أبدي بين مملكة النور (الروح والخير)، ومملكة الظلام (المادة والشر).
- صناعة سردية التهديد الوجودي: (Narrative of Existential Threat) هو مفهوم مهم جدًّا في العلوم السياسية والاجتماعية، ويشير إلى عملية متعمدة تقوم بها جهة ما (دولة، حزب سياسي، حركة متطرفة) لخلق ونشر قصة مقنعة بأن بقاء الجماعة أو الأمة مهدد بخطر داهم قد يؤدي إلى فنائها.
- تقديس الأهداف السياسة: (Sacralization of Political Goals) تحويل الأهداف السياسية (مثل إقامة دولة، أو الحفاظ على نقاء عرقي، أو تطبيق نموذج حكم معين) إلى واجبات مقدّسة وغير قابلة للتفاوض.
ومن خلال تحليل هذه الأفكار الثلاثة كأنماط مشتركة، وباستخدام عدسة العلاقات الدولية لفهم كيفية تفاعلها مع مفاهيم السيادة، والأمن، والصراع على القوة، تسعى هذه الورقة إلى تقديم مساهمة نظرية في دراسات التطرف تتجاوز التقسيمات التقليدية، وتفتح آفاقًا جديدة لمقاربات أكثر تكاملًا وفاعلية.
أولًا، ما وراء المحتوى الأيديولوجي
لفهم التطرف كظاهرة عابرة للثقافات والأيديولوجيات، لابدّ من تجاوز التحليل القائم على المحتوى نحو تحليل بنيوي. ويمكن الاستناد هنا إلى أدوات من حقول متعدّدة كالنظرية السياسية، وعلم النفس الاجتماعي، والعلاقات الدولية؛ الأمر الذي سيتم تفسيره فيما يلي:
أ) يقدّم مفهوم “اللاهوت السياسي (Political Theology) لكارل شميت مدخلًا مهمًّا، حيث يرى شميت أن المفاهيم السياسية الحديثة هي في جوهرها مفاهيم لاهوتية معلمنة. ويمكننا توسيع هذه الفكرة لنرى كيف أن الأيديولوجيات المتطرفة، حتى العلمانية منها، تقوم “بتقديس” مفاهيم دنيوية. فالأمة، أو العرق، أو الدولة، تتحول من كيانات سياسية تاريخية إلى كيانات مقدسة، وتصبح السياسة ساحة للخلاص أو الهلاك، لا للتسويات والمصالح. وهذا “التقديس” يبرر استخدام وسائل استثنائية وعنيفة لتحقيق أهداف سياسية، لأنها لم تَعُد مجرد أهداف، بل واجبات مطلقة[2].
ب) توفر نظرية الهوية الاجتماعية Social Identity Theor، التي طورها هنري تاجفل وجون تيرنر، إطارًا لفهم ديناميكية “نحن مقابل هم”. وتقترح النظرية أن جزءًا مهمًّا من هوية الفرد ينبع من انتمائه إلى جماعات. ولتعزيز تقدير الذات، يميل الأفراد إلى تفضيل جماعتهم (in-group) والحط من قدر الجماعات الأخرى. (out-groups) وتستغل الأيديولوجيات المتطرفة هذه النزعة النفسية وتدفعها إلى أقصاها، حيث لا يتم فقط تفضيل جماعة الذات، بل يتم “شيطنة” الآخر وتجريده من إنسانيته؛ ما يسهل تبرير العنف ضدّه[3].
ج) تسهم مدرسة كوبنهاجن ونظرية الأمننة (Securitization Theory) في حقل العلاقات الدولية في تفسير آلية صناعة التهديد. والأمننة هي العملية التي من خلالها يقوم فاعل سياسي (دولة، حزب، حركة) بتصوير قضية ما على أنها “تهديد وجودي” يتطلب إجراءات استثنائية خارج القواعد السياسية المعتادة[4]. وتنجح الحركات المتطرفة بشكل خاص في “أمننة” قضايا كالهجرة، أو الوجود الفلسطيني، أو النفوذ الغربي، وتحويلها من ملفات سياسية يمكن إدارتها إلى أخطار وجودية تستدعي حلولًا جذرية وعنيفة.
إن دمج هذه الأطر النظرية يسمح لنا بتفكيك التطرف ليس باعتباره مجموعة من المعتقدات الشاذة، بل كمنظومة منطقية (وإن كانت مشوهة) تقوم على تحديد عدو مطلق، وخلق شعور بالخطر الوجودي، وتقديم مشروع سياسي مقدّس كحل وحيد.
ثانيًا، الأنماط المشتركة للتطرف: تحليل مقارن
سنقوم في هذا الجزء بتطبيق الإطار النظري السابق على ثلاث حالات دراسية متباينة، وهي: سياسات حكومة نتنياهو اليمينية في إسرائيل، وصعود اليمين المتطرف في أوروبا، وتنظيم “داعش” كنموذج للتطرف الإسلامي:
أ) بناء العالم المانوي: “نحن” الأمة المختارة، و”هُم” العدو الوجودي
تتفوق الأيديولوجيات المتطرفة في بناء واقع اجتماعي وسياسي قائم على ثنائية الخير والشر. وهذه ليست مجرد استراتيجية خطابية، بل هي أساس لتشكيل الهوية، وتبرير السياسات.
- في حالة حكومة نتنياهو: يتم تعزيز هوية يهودية حصرية للدولة، كما يتجلى في “قانون الدولة القومية للشعب اليهودي” لعام 2018. وهذا القانون لا يعرّف الدولة على أساس مواطنيها، بل على أساس إثني-ديني حصري؛ ما يخلق تصنيفًا واضحًا بين “نحن” (اليهود) و”هُم” (المواطنون العرب وغيرهم). ويتم تصوير الفلسطينيين في الخطاب الرسمي ليس كشعب له حقوق سياسية، بل كتهديد ديموغرافي وأمني موحد، وهو ما يبرر سياسات الفصل والتوسع. إن تصريحات وزراء في حكومته، مثل بتسلئيل سموتريتش، وزير المالية، الذي يعارض بشدة قيام دولة فلسطينية، وينكر وجود الشعب الفلسطيني، تجسّد هذه التصريحات المانوية في أوضح صورها[5].
- اليمين المتطرف في أوروبا: يبني اليمين المتطرف في أوروبا عالمه المانوي حول ثنائية “الأمة الأصيلة” مقابل “الغزاة الأجانب” (المهاجرون والمسلمون بشكل خاص). وتُصوَّر الهوية الوطنية على أنها ثابتة، ونقية، ومسيحية، في مواجهة “أسلمة” و”غزو” ثقافي يهدّد بالاستبدال العظيم Great Replacement)، وهي نظرية مؤامرة شائعة في هذه الأوساط. وهذه النظرية هي حجر الزاوية في فكر اليمين المتطرف اليوم. وتزعم هذه النظرية أن هناك مخططًا تقوده “نخب عالمية” لاستبدال السكان الأوروبيين البيض المسيحيين عمدًا بالمهاجرين غير الأوروبيين، خصوصًا المسلمين، الذين يتميزون بمعدلات مواليد أعلى. وهذا لا يمثّل تهديدًا ثقافيًّا فحسب، بل هو تهديد ديموغرافي وبيولوجي لوجود الأمة الأصيلة. وهذا الخطاب يجرّد المهاجرين من فردانيتهم ويحوّلهم إلى كتلة واحدة متجانسة ومعادية؛ ما يشرعن سياسات الإقصاء والعنف[6].
- تنظيم “داعش: يقدِّم تنظيم “داعش” رؤية مانوية أكثر وضوحًا وكونية. فالعالم مقسوم إلى “دار الإسلام”، التي يمثّلها هو حصرًا، و”دار الكفر”، التي تضم كلَّ مَن عداه، بمن في ذلك المسلمون الذين لا يتبعون منهجه (الشيعة، الحكومات الوطنية.. إلخ). وهذا التقسيم، المستمد من قراءة انتقائية ومتطرفة للتراث، يبرّر “الجهاد” ضدّ العالم بأَسره، لأنه لا توجد منطقة وسطى بين الإيمان المطلق والكفر المطلق ([7].
وفي كلّ هذه الحالات، يتم تجريد “الآخر” من إنسانيته، وتحويل الخلاف السياسي إلى صراع كوني بين الخير والشر؛ ما يغلق الباب أمام أي إمكانية للحوار أو التسوية.
ب) سردية التهديد الوجودي والضحية المظلومة
لا يمكن للتطرف أن يزدهر دون خلق شعور عميق بالذعر والخطر الوجودي. فالمفارقة هنا أن هذه الحركات، حتى عندما تكون في موقع قوة (مثل حكومة بنيامين نتنياهو)، تتبنّى خطاب الضحية.
- حكومة نتنياهو وإسرائيل: على الرغم من كونها القوة العسكرية المهيمنة في المنطقة، فإن الخطاب السياسي الإسرائيلي الرسمي يركز بشكل مكثف على فكرة “التهديد الوجودي”. ويتم استحضار المحرقة (الهولوكوست) بشكل دائم لتصوير إسرائيل على أنها في حالة حصار دائم، وأن أي مقاومة فلسطينية أو أي طموح نووي إيراني هو مقدّمة لإبادة جديدة. وهذه “الأمننة” للتاريخ والسياسة تجعل أي إجراءات أمنية، مهما كانت قمعية، تبدو كدفاع مشروع عن النفس[8].
- اليمين المتطرف في أوروبا: يروّج اليمين المتطرف في أوروبا لفكرة أن الهوية الأوروبية البيضاء والمسيحية على وشك الانقراض؛ بسبب انخفاض معدلات المواليد لدى السكان الأصليين وارتفاعها لدى المهاجرين. وهذا “الانتحار الديموغرافي” المزعوم، مقترنًا بالخوف من الشريعة الإسلامية وتآكل القيم التقليدية، يخلق حالة من الذعر الأخلاقي والوجودي، ويصبح العنف ضدّ المهاجرين أو المساجد في هذا المنطق “دفاعًا” عن الحضارة[9].
- تنظيم “داعش: يستثمر تنظيم “داعش” بشكل كبير في سردية “مظلومية الأمة الإسلامية”. ويصور التنظيم تاريخًا من الهزائم والإذلال على يدِ “الصليبيين” و”الصفويين” والأنظمة “المرتدة”. ويجادل التنظيم بأن المسلمين السنّة يتعرّضون لحرب إبادة عالمية، وأن الخلافة التي أعلنها هي الملاذ الوحيد والرد الضروري على هذا التهديد الوجودي. وفيديوهات التنظيم الدعائية غالبًا ما تبدأ بمشاهد لمعاناة المسلمين حول العالم؛ لتبرير العنف الانتقامي الذي يمارسه[10].
ج) تقديس الأهداف السياسية: من السياسة إلى الخلاص
عندما يتم تحويل الأهداف السياسية إلى غايات مقدّسة، فإنها تخرج من عالم الممكن والتفاوض إلى عالم المطلق والواجب.
- الصهيونية الدينية في حكومة نتنياهو: بالنسبة لشركاء نتنياهو من اليمين الديني المتطرف، فإن السيطرة على الضفة الغربية (“يهودا والسامرة”) ليست مجرد هدف استراتيجي أو أمني، بل هي تحقيق لوعد إلهي. والاستيطان ليس قرارًا سياسيًّا، بل هو واجب ديني لتأكيد سيطرة الشعب المختار على “أرض الميعاد”. وهذا التقديس للأرض يجعل أي تنازل عنها خيانة للأمر الإلهي؛ وبالتالي يصبح السلام القائم على حلّ الدولتين أمرًا مستحيلًا من المنظور الأيديولوجي[11].
- اليمين المتطرف الأوروبي: اليمين المتطرف الأوروبي لا يكتفي بتبنّي سياسات قومية متشدّدة، بل يُضفي على مفهوم “الأمة” أو “العرق” طابعًا شبه ديني، حيث يُنظر إلى الهوية القومية باعتبارها جوهرًا مقدّسًا يجب حمايته من “التلوث الثقافي” أو “الغزو الديموغرافي”. وفي هذا السياق، تصبح الدولة أداة لتحقيق مصير بيولوجي-ثقافي، يُفترض أنه متجذّر في التاريخ والأسطورة. ويُنظر إلى الهجرة، خاصة من خارج أوروبا، على أنها تهديد وجودي، لا لمجرد أسباب اقتصادية أو أمنية، بل لأنها تمثّل اختراقًا لهذا النقاء المفترض. ولذلك، تُصوَّر سياسات التنوع والاندماج على أنها خيانة للروح القومية، وتُستخدم لغة “الطوارئ” و”الأزمة” لتبرير إجراءات صارمة مثل احتجاز المهاجرين، إعادة ترحيلهم، أو حتى الانسحاب من الاتفاقيات الأوروبية المتعلقة بحقوق اللجوء. وهذا الخطاب يُعزز منطق “الأمننة”، حيث تتحول الهجرة من قضية اجتماعية إلى تهديد أمني، وتُوظف الدولة لحماية “الهوية” بدلًا من حماية الحقوق[12].
تنظيم “داعش”: يُقدّم تنظيم “داعش” مشروع الخلافة الإسلامية ليس بوصفه خيارًا سياسيًّا أو نموذجًا إداريًّا، بل باعتباره فريضة دينية مغيّبة يجب إحياؤها لتحقيق إرادة إلهية. وفي أدبيات التنظيم، تُصوّر الخلافة كمرحلة حتمية في التاريخ الإسلامي، تمهد لـ”الملحمة الكبرى” في آخر الزمان، حيث يتحقق النصر الإلهي على “قوى الكفر”. وهذا التصور يُضفي على المشروع السياسي طابعًا خلاصيًّا، يجعل من الانتماء للتنظيم والتضحية في سبيله طريقًا للفوز في الدنيا والآخرة.
ويرفض التنظيم كل أشكال الحكم الحديثة، ويَعتبر القوانين الوضعية، والحدود الوطنية التي رسمتها اتفاقية سايكس-بيكو، والمؤسسات الدولية مثل الأمم المتحدة، تجسيدًا للطاغوت الذي يجب محاربته وهدمه. وفي هذا السياق، تتحول السياسة إلى عقيدة دينية، ويُعاد تعريف مفاهيم مثل “الدولة”، و”الشرعية”، و”العدالة”، وفق منطق عقدي صارم يستند إلى تأويلات متشدّدة للنصوص الدينية.
وهذا التوظيف العقدي للسياسة يُفسّر سلوك التنظيم العنيف تجاه المخالفين، سواء كانوا حكومات، أو جماعات إسلامية أخرى، أو حتى أفرادًا من عامة المسلمين، إذ يُنظر إليهم كـ”مرتدين” أو “موالين للطاغوت”؛ ما يبرر استباحة دمائهم وأموالهم. ويُعدّ هذا النموذج من الدمج بين العقيدة والسياسة إحدى أبرز سمات الفكر الجهادي المعاصر، الذي يتجاوز حدود الفقه التقليدي ليؤسس لرؤية شمولية للعالم قائمة على الصراع الأبدي بين الحق والباطل[13].
ثالثًا: الأفكار المتطرفة وتفاعلها مع بنية النظام الدولي:
لا تنشأ الأفكار المتطرفة في فراغ، بل تتغذّى على الاختلالات البنيوية في النظام الدولي، وتستثمر في التناقضات الهيكلية التي تخلق بيئة خصبة لخطابات الإقصاء والتطرف. وفيما يلي أبرز المحاور التي تفسّر هذا التفاعل:
أ) مبدأ السيادة والدولة القومية
يُعدّ مبدأ السيادة إحدى الركائز الأساسية للنظام الدولي، لكنه يُستخدم أحيانًا كأداة لتكريس الاستبداد الداخلي. فالحكومات ذات التوجهات القومية أو الدينية المتطرفة، مثل حكومة نتنياهو، تستغل السيادة لتمرير قوانين تمييزية ضد الفلسطينيين، مثل قانون “الدولة القومية اليهودية”، وتبرّر ذلك بأنه شأن داخلي لا يحق للمجتمع الدولي التدخل فيه[14].
وفي أوروبا، تستغل الحركات اليمينية المتطرفة خطاب السيادة لرفض الاتفاقيات الدولية المتعلقة بالهجرة وحقوق الإنسان، وتُصوّر الاتحاد الأوروبي كمصدر تهديد للهوية الوطنية؛ ما يُبرّر سياسات الانغلاق والطرد الجماعي[15].
أما تنظيم داعش فهو يُنكر مبدأ السيادة من أساسه، ويعتبره “طاغوتًا” يجب هدمه، ويسعى إلى إقامة “الخلافة” كبديل عقدي يتجاوز الدولة القومية، ويُعيد تعريف الشرعية السياسية والدينية[16].
ب) حالة الفوضى والصراع على القوة
كما وصف كينيث والتز (1979)، فإن غياب سلطة عليا في النظام الدولي يُنتج حالة من الفوضى تُجبر الدول على الاعتماد على ذاتها؛ ما يُفضي إلى معضلة أمنية دائمة. وفي الشرق الأوسط، يُغذّي سباق التسلح بين إيران وإسرائيل سرديات التهديد الوجودي، ويُستخدم لتبرير سياسات متطرفة من كلا الطرفين[17]. وهذا السياق يُعزز منطق “الأمننة”، حيث تتحول قضايا الهوية والدين إلى تهديدات أمنية، وتُستخدم لتبرير العنف أو القمع، كما تفعل حكومة نتنياهو في تبرير العمليات العسكرية في الضفة الغربية، أو كما تفعل الحركات اليمينية في أوروبا تجاه المهاجرين.
ج) التدخلات الخارجية والدول الفاشلة
تُعدّ الدول الفاشلة بيئة مثالية لنمو الفكر المتطرف، حيث يؤدي غياب المؤسّسات إلى فراغ سلطوي تستغلّه الجماعات المتطرفة. وفي العراق وسوريا، استفاد تنظيم داعش من انهيار الدولة بعد التدخلات الخارجية، ليملأ الفراغ ويُقدّم نفسه بديلًا شرعيًّا. وبالمثل، فإن التدخلات الغربية في الشرق الأوسط تُستخدم في الخطاب المتطرف لتغذية سردية “العدوان الخارجي”؛ ما يُبرر العنف، ويُعزز منطق “الجهاد الدفاعي”[18].
د) العولمة وردود الفعل الهوياتية
تُنتج العولمة حالة من التهجين الثقافي وتفكيك الهويات التقليدية؛ ما يدفع بعض المجتمعات إلى ردود فعل هوياتية متطرفة، فالعولمة تُضعِف الروابط الثقافية التقليدية، وتُعزز النزعات الفردية؛ ما يُفسح المجال لخطابات الهوية المغلقة[19].
وفي أوروبا، تُستخدم هذه الردود لتبرير سياسات قومية متطرفة، مثل رفض استقبال اللاجئين أو فرض قيود على الرموز الدينية. وفي إسرائيل، يُعاد تعريف الهوية اليهودية في مواجهة “التهديد الديموغرافي”؛ ما يُبرر سياسات الفصل والتمييز. أما داعش، فيُقدّم نفسه كحركة مقاومة للعولمة الغربية، ويُعيد إنتاج هوية إسلامية “نقية” في مواجهة ما يصفه بـ”الفساد العالمي”.
خاتمة: نحو مقاربة تفكيكية لمواجهة التطرف
يكشف التحليل المقارن للأفكار الجوهرية التي يقوم عليها التطرف عن وجود أنماط مشتركة مقلقة تتجاوز الانقسامات الأيديولوجية والجغرافية. فسواء كان التطرف دينيًّا أو قوميًّا أو عرقيًّا، فإنه يعتمد على الآليات المنطقية ذاتها: خلق ثنائية “نحن/ هم”، وتصنيع شعور بالتهديد الوجودي، وتقديس الأهداف السياسية لجعلها غير قابلة للمساومة.
إن فهم هذه الأنماط المشتركة له تداعيات مهمة على كيفية مواجهة التطرف؛ فبدلًا من تصميم استراتيجيات منفصلة لكل حركة متطرفة، يجب تطوير مقاربات تستهدف هذه البنى الفكرية الأساسية.
- أولًا، على المستوى الفكري: يجب العمل على تفكيك الخطابات المانوية من خلال تعزيز التفكير النقدي، وتشجيع الروايات التاريخية متعددة الأصوات، وفضح آلية “الأمننة” التي تستخدمها الحركات المتطرفة.
- ثانيًا، على المستوى السياسي: يجب أن تركز السياسات الدولية على معالجة الظروف التي تسمح لهذه الأفكار بالازدهار، مثل الدول الفاشلة، والتدخلات الخارجية، والمظالم السياسية والاقتصادية. ويتطلب هذا التركيزَ على الدبلوماسية، وبناء السلام، والتنمية المستدامة بدلًا من الحلول العسكرية قصيرة النظر.
- ثالثًا، على المستوى القانوني: يجب محاسبة جميع الفاعلين الذين يمارسون العنف المؤدلج، سواء كانوا دولًا أو تنظيمات غير دولية، وفقًا للقانون الدولي، لكسر حلقة الإفلات من العقاب التي تغذي التطرف.
الخلاصة، إن المعركة ضدّ التطرف ليست معركة ضدّ أيديولوجية معينة، بل هي معركة ضد نمط من التفكير يحول التنوع الإنساني إلى تهديد، والسياسة إلى حرب، والآخر إلى عدو يجب إبادته. إن تفكيك هذا النمط الفكري هو الخطوة الأولى نحو بناء عالم أكثر أمنًا وتسامحًا.
[1] كارين أرمسترونغ، معركة من أجل الإله: الأصولية في اليهودية والمسيحية والإسلام، ترجمة فاطمة نصر ومحمد عناني (القاهرة: سطور الجديدة، 2018).
[2] Carl Schmitt, Political Theology: Four Chapters on the Concept of Sovereignty, trans. George Schwab (Chicago: University of Chicago Press, 2005).
[3] Henri Tajfel and John C. Turner, “An Integrative Theory of Intergroup Conflict,” in The Social Psychology of Intergroup Relations, ed. William G. Austin and Stephen Worchel (Monterey, CA: Brooks/Cole Publishing Company, 1979).
[4] Barry Buzan, Ole Wæver, and Jaap de Wilde, Security: A New Framework for Analysis (Boulder, CO: Lynne Rienner Publishers, 1998).
[5] عزمي بشارة، “قانون القومية: كم مرة سوف يعلنون قيام اسرائيل،” المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات (تحليل سياسات)، 2 أغسطس 2018، متاح على الرابط التالي: https://www.dohainstitute.org/ar/Lists/ACRPS-PDFDocumentLibrary/Israel-Nation-State-Law-Repeatedly-Declaring-State.pdf
[6] Cas Mudde, The Far Right Today (Cambridge: Polity Press, 2019).
[7] Wood, Graeme. “What ISIS Really Wants.” The Atlantic, March 2015. https://www.theatlantic.com/magazine/archive/2015/03/what-isis-really-wants/384980/
[8] معهد دراسات الأمن القومي. سيناريوهات التهديد الوجودي لدولة إسرائيل. تل أبيب: مركز دراسات الأمن القومي، 2020. https://www.kitabat.info/print.php?id=204314
[9] بنافي، ريناس. “صعود اليمين المتطرف: الأسباب والتداعيات – دراسة تحليلية”. المركز الديمقراطي العربي، 12 مايو 2017. https://democraticac.de/?p=46400
[10] شلبي، أشرف إسماعيل إبراهيم. “دلالات ومضامين التطرف في خطاب تنظيم الدولة الإسلامية ‘داعش’: تحليل مضمون لمجلة دابق”. مجلة قضايا التطرف والجماعات المسلحة، العدد السادس، نوفمبر 2021. المركز الديمقراطي العربي. https://democraticac.de/?p=78174
[11] مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة. “هل تفرض ‘الصهيونية الدينية’ أولوياتها على حكومة ‘نتنياهو’؟” مركز المستقبل، 7 ديسمبر 2022. https://futureuae.com/ar-
[12] يوسف كريم، “دور اليمين المتطرف في أمننة الهجرة بأوروبا”، المركز الديمقراطي العربي، مايو 2021، https://democraticac.de/?p=74550.
[13] سليم الحساني، عقيدة تنظيم داعش: دراسة في المرجعيات الفكرية، نور للنشر، 2022. https://www.noor-book.com/en/ebook-عقيدة-تنظيم-داعش-دراسة-في-المرجعيات-الفكرية-pdf
[14] مر كز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة. “هل تفرض ‘الصهيونية الدينية’ أولوياتها على حكومة ‘نتنياهو’؟” مركز المستقبل، 7 ديسمبر 2022. https://futureuae.com/ar-
[15] وليد عتلم، “مبدأ السيادة ‘المطاطة'”، مجلة السياسة الدولية، 28 نوفمبر 2022، متاح على الرابط التالي: https://www.siyassa.org.eg/News/18444.aspx
[16] سليم الحساني، عقيدة تنظيم داعش: دراسة في المرجعيات الفكرية، نور للنشر، 2022. https://www.noor-book.com/en/ebook-عقيدة-تنظيم-داعش-دراسة-في-المرجعيات-الفكرية-pdf
[17] آية محمود سالم روق، سباق التسلح وتأثيره على التوازنات الإقليمية في منطقة الشرق الأوسط، المركز الديمقراطي العربي، 2024، https://democraticac.de/?p=99703
[18] سليم الحساني، عقيدة تنظيم داعش: دراسة في المرجعيات الفكرية، مرجع سبق ذكره.
[19] الأكاديمية بوست، “ما هو تأثير العولمة على الهوية والثقافة الإنسانية؟”، 2022، متاح على الرابط التالي: https://shorturl.at/uqltb
 
					 
					 
					 
		 
							 
													
										 
													
										 
													
										