Insight Image

الأمـــن الإنساني في ظل حروب الجيلَين الخامس والسادس

26 فبراير 2024

الأمـــن الإنساني في ظل حروب الجيلَين الخامس والسادس

26 فبراير 2024

يُعدّ الأمن الإنساني ضرورة وقيمة أساسية للمجتمع وأفراده على حدٍّ سواء، وبالرغم من أهميته فإنه يتعرّض في الوقت الراهن للعديد من العوامل والمخاطر الناتجة عن التأثيرات الطبيعية (الزلازل، الأوبئة، وغيرها)، والتأثيرات التي يسبّبها الإنسان؛ كالتأثيرات التقنية أو التكنولوجية (وسائل الإعلام الجديد كالفيسبوك، وتويتر وإنستغرام، وغير ذلك)، والتي تَسبّبت في نشر مختلف الثقافات والقيم والأفكار، وتغلغلها في مختلف المجتمعات ليتأثر بها مختلف أفراد تلك المجتمعات؛ إما إيجابًا أو سلبًا، فمنهم من يقبَلها، ومنهم من يرفضها لعدم توافقها وتماشيها مع مجتمعه.

إن الفرد هو جوهر المجتمع ونواته، ومن ثم فلا بدّ أن يكون الفرد هو جوهر ونواة الأمن الإنساني. والأمن الإنساني ليس فقط أمن الأرض، ولكنه أمن الشعوب، وليس محدودًا بالأمن من خلال السلاح، ولكنّه الأمن من خلال التنمية، وهو ليس أمن الأمم فحسب، ولكنّه أمن الأفراد في بيوتهم ووظائفهم، والتحرّر من الخوف عن طريق حماية الأفراد من العنف والنزاع المسلّح، والحروب الأهلية، والإرهاب الداخلي والخارجي الذي تؤجّجه حروب الأجيال المتعاقبة التي أفرزتها تكنولوجيا الاتصال الحديثة، ومنها حروب الجيل الخامس بأبعادها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والأخلاقية، لتعمل على تزييف المعلومات والأفكار والعقول، فعن طريقها يمكن نقل معلومات مضلِّلة إلى أفراد مجتمعٍ ما، بما يسهم في تدمير منظومة القيم التربوية والأخلاقية ذات الصلة بالمجتمع، وذلك من خلال ما تبثُّه من مضامين إعلامية([1])، وكذلك حروب الجيل السادس GW6 التي تُدار بأنظمة ذكية لتغيير الثقافات والعادات، والتقاليد، والتمرد على المجتمع، والأنظمة السياسية، من خلال التلقين الممنهج بالمعلومات الخطأ، فلم تقف الحرب المعلوماتية عند هذا الحدّ؛ بل طورت استراتيجياتها إلى أن ظهر نوع جديد من الأكاذيب يُطلَق عليه سياسة ما بعد الحقيقة “PostTruthPolitics، وهذه الاستراتيجية تخاطب العواطف والمشاعر وليس العقل؛ أي تثير الرأي العام من خلال طرح القضايا من منظور عاطفي؛ لينحاز إليها عدد كبير من الأشخاص ضد الدولة ( [2]).

وتهدف هذه الورقة إلى الإجابة عن التساؤل الآتي: ما آليات تحقيق الأمـــن الإنساني؛ في ظِلّ حروب الجيل الخامس والسادس؟ وسنحاول في هذه الدراسة الإجابة عن ذلك، من خلال التعرّض لمفهوم الأمن الإنساني، وأهميته، وأبعاده، وتزايد الاهتمام به، والتهديدات التي تواجهه في ظِلّ حروب الأجيال المتعاقبة، واستراتيجيات وآليات تحقيق الأمـــن الإنساني.

أولًا– مفهوم الأمن الإنساني

 إن الحديث عن الأمن الإنساني قديم قِدَم الإنسان، ويشير إلى أهمية حماية حياة الإنسان، وأن من يحمي حياة شخص واحد يعني أنه قد حمى حياة الناس جميعًا، فالحديث عن قتل النفس الآمنة وتحريم العنف والقتل يعكس القيم والمبادئ الإنسانية العالية التي تحثّ على الحفاظ على حقوق الإنسان والتعايش السلمي في المجتمع. وفي المقابل، من يُحيي نفسًا فكأنّما أحيا الناس جميعًا؛ إذ يُعدّ الأمن الأولوية الأولى والمصلحة العليا للدولة، فلا يستقيم نظام ولا يقوم اقتصاد من دون ترسيخ وتوطيد دعائم الأمن والاستقرار، ووفقًا لهذه الرؤية تُعدّ عملية صناعة السلام، ونزع السلاح من أهم الركائز لتوفير الأمن الإنساني.

 وهناك تعريفات عدة للأمن الإنساني، حيث يرى البعض أن الأمن الإنساني يشير إلى “تحرر الإنسان من العوز (الحاجة) بحمايته من الجوع والأمراض والأوبئة والتشرد، والعيش في العشوائيات، والكوارث الطبيعية. ولعل تاريخ البشرية حافل بمثل هذه الانتهاكات والمآسي الإنسانية؛ ومن ثم، فوفقًا لهذه الرؤية تُمثل التنمية البشرية أهم الركائز والدعائم الأساسية لتوفير الأمن الإنساني([3]). في حين يذهب آخرون إلى أن الأمن الإنساني يعني “تحرّر المجتمع من التهديدات والمخاطر الفكرية سياسيًّا، واقتصاديًّا، واجتماعيًّا، وثقافيًّا، وأخلاقيًّا، بما يحقق أمن المجتمع وسلامة أفراده” ([4]). كما يُعرَّف الأمن الإنساني بأنه “حماية البشر من التهديدات والمخاطر الواسعة الانتشار، وذلك عن طريق استخدام مجموعة من الآليات المبنيّة على أفراد المجتمع ذاته، للحفاظ على أوضاع المجتمع؛ السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، كلَبِنات أساسية لأمن المجتمع وأفراده” ([5]). وأخيرًا، تذهب ثلّةٌ من الدارسين إلى تعريف الأمن الإنساني بأنه إزالة التهديدات المحيطة بمجتمع ما، والتي تدور حول المجالات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والبيئية والصحية والغذائية ([6]).

وبالاستناد إلى التعريفات السابقة، يمكن وضع تعريف للأمن الإنساني بأنه حالة شاملة ومتكاملة تعالج مسألة حماية حقوق الإنسان وحرياته الأساسية ضد التهديدات الخارجية أو الداخلية؛ عسكرية أو غير ذلك، والتي تشكل خطرًا على حياة الفرد وأمنه، ومن ثم تمكينه من العيش بمستوى من الكرامة والرفاهية.

وهناك خصائص عدة لمفهوم الأمن الإنساني، منها الآتي:

– أن يكون له مفهوم ذو طابع عالمي شامل، بحيث يشمل دول العالم كافة.

– أنه مفهوم ذو أبعاد متعدّدة ومختلفة؛ إذ يسعى لحماية حياة الأفراد.

– ضرورة أن يكون شعاره الوقاية خير من العلاج، فيحرص على تجنّب وقوع المشكلات، وحلّها قبل تفاقمها، وتجنّب حصول الصراعات والصِّدامات بين الأفراد داخل المجتمع الواحد([7]).

ثانيًا- أهمية الأمن الإنساني

 تَظهر أهمية الأمن الإنساني في كونه يُسهم في الربط بين العديد من الحقوق والحريات العامة للإنسان، منها التحرر من الخوف والفقر؛ مما ينتج عنهما حرية الإنسان، حيث إن الواقع العالمي يشهد تطورات وتحولات سريعة، وباتت هذه المتغيرات تشكّل مصدَر قلق دولي حول أمن الإنسان ومستقبله؛ الأمر الذي دفع دول العالم للتسابق في حماية الإنسان من مخاطر الحروب التي تحيط به، ومن مخاطر التطور التكنولوجي، وما تهدف إليه حروب الأجيال المتعاقبة ومحاولة التمكين؛ ليشعر المواطن في أي دولة من دول العالم بالأمن والأمان، كون مضمون الأمن الإنساني قد تغيّر فلم يعُد يُقاس بمواجهة النزاعات المسلحة العسكرية فقط، بل بمدى تأمين وتوفير الحاجات الأساسية والضرورية لوجود الإنسان وبقائه وحمايته ماديًّا وفكريًّا، ومن ثم تمكينه من العيش بمستوى من الكرامة والرفاهية، وهو ما يتّسق مع تعريف الأمن الإنساني من قِبل منظمة الأمم المتحدة وميثاقها لعام 1945، التي أشارت في ديباجتها الى أهمية إعطاء قدر من الاهتمام لأمن الشعوب، حيث ورد في الديباجة ما نصّه: “نحن شعوب الأمم المتحدة، وقد آلينا على أنفسنا أن نُنقذ الأجيال المقبلة من ويلات الحروب، وأن نؤكد إيماننا بالحقوق الأساسية للإنسان وبكرامة الفرد”([8]).

 ثالثًا- أبعاد الأمن الإنساني

يدور الأمن الإنساني حول مجموعة من الأبعاد والمكونات، والتي يمكن إبرازها فيما يأتي([9]):

1- البُعد السياسي، ويتمثل في الحفاظ على الكيان السياسي للدولة، وضمان الحياة في كنف مجتمع يضمن حقوق الإنسان ويراعيها.

2- البُعد الاقتصادي: ويتمثل في توفير المناخ المناسب للوفاء باحتياجات أفراد المجتمع، وتوفير سبل التقدّم والرفاهية له، وضمان الحد الأدنى من الدخل لكل فرد.

3- البُعد الاجتماعي: ويتمثل في توفير الأمن للمواطنين صحيًّا وتعليميًّا، بالقدر الذي يزيد من تنمية الأفراد.

4- البُعد الفكري: وهو الذي يضمن للإنسان الحياة بعيدًا عن الأفكار والثقافات المغايرة لثقافة مجتمعه، ويرفض الأخلاقيات التي لا تتوافق مع تلك الثقافات والقِيم([10]).

 رابعًا- تزايد الاهتمام بالأمن الإنساني

 شهد العالم خلال السنوات الأخيرة تطورات عدة تعلّق بالأمن الإنساني، ومن أبرزها: تزايد الاهتمام بالأمن الإنساني في السياسات الدولية والإقليمية والمحلية، وزيادة التمويل المخصّص له، وتطور الأساليب والتقنيات المستخدمة في توفير المساعدات الإنسانية وتقديم الخدمات الضرورية للمتضررين، مثل استخدام التكنولوجيا الحديثة في الاتصالات، ونظم المعلومات الجغرافية لتحديد المناطق التي تحتاج إلى الدعم الإنساني، وتزايد التحديات التي يواجهها العاملون في الأمن الإنساني، مثل العنف والتهديدات الأمنية والتحديات اللوجستية والإدارية وحروب المعلومات وكيفية مواجهتها، إضافة إلى الاهتمام بالتحول الرقمي في الأمن الإنساني، واستخدام التقنيات الحديثة مثل الذكاء الاصطناعي، والتعلّم الآلي والروبوتات؛ لتحسين كفاءة التوصيل، والإغاثة.

كما تزايدت الحاجة إلى العمل المشترك وتعاون المجتمع الدولي والمحلي والمنظمات غير الحكومية والمجتمع المدني؛ لتحسين الأمن الإنساني، وتقديم الدعم للمتضررين.

خامسًا- التهديدات التي تواجه الأمن الإنساني في ظِلّ حروب الأجيال المتعاقبة:

 هناك تهديدات كثيرة موجهة للأمن الإنساني، تركز على التهديدات الموجهة لأمن البشر في حياتهم اليومية. وتتعلق هذه التهديدات بمجالات الأمن الاقتصادي، والأمن الغذائي، والأمن الصحي، والأمن البيئي، والأمن الشخصي، والأمن المجتمعي، والأمن السياسي، الأمن السيبراني.

 إن الأمن الإنساني يتعرض للعديد من المخاطر الناتجة عن التأثيرات الطبيعية من الزلازل، والأوبئة والصراعات بين الدول وحروب الأجيال، ومنها حروب الجيل الخامس، فهي حروب تُستخدم فيها الوسائل كافة، المباشرة وغير المباشرة؛ لإجبار العدو على الرضوخ من خلال وسائل متعدّدة؛ أبرزها الوسائل الإعلامية التي تستهدف تقديم تصورات ومعلومات لجمهور الدولة المستهدفة، والغرض منها زعزعة الاستقرار، وتهديد الأمن القومي والإنساني([11]).

 وأضحت الفضاءات الداخلية للمجتمعات منفتحة بجميع تفاعلاتها على العالم الخارجي؛ مما أفضى إلى عدم القدرة على التحكم في سعة التدفقات المعرفية وحجمها، وقوتها التأثيرية على عقول وسلوك المتلقّين، فأصبحت الأحداث الواقعة في أقاصي الأرض تُلقي بظلالها وآثارها على الجانب الآخر في غضون دقائق معدودة.

وعند الحديث عن التهديدات التي تواجه الأمن الإنساني نجد أن مصطلح “حروب الأجيال” يعتمد على توصيف التطور الحاصل في الحروب، وللتمييز بين أدوات هذه الحروب وإداراتها من جيل إلى آخر. ويمكن التمييز بين حروب الأجيال المتعاقبة كما يأتي:

 تَميّز الجيل الأول من الحروب بالحشد الكبير للقوات والمواجهات المباشرة بين الجيوش في أرض معركة محدّدة، واستخدام البنادق والمدافع البدائية. أمّا الجيل الثاني، فقد تميّز بالاعتماد الكبير على القوة النارية أكثر من الاعتماد على حشد أعداد كبيرة من الجنود، واستخدام أسلحة أكثر تطورًا ممثّلة في المدرعات الثقيلة والبنادق الآلية وغيرها، وذلك نتيجة للثورة الصناعية وما أتاحته من تطور في مجال الأسلحة. وظهر الجيل الثالث من الحروب في الحرب العالمية الثانية (1939-1945) وتميز بالتطور الكبير للمدرعات والاعتماد الأكبر على القوات الجوية وسرعة الحركة والمفاجأة، والعمل خلف خطوط العدو، فضلًا عن الاعتماد بشكل أكبر على الخنادق؛ ولذا يُطلق عليها اسم الحروب الوقائية، أو الاستباقية، أو الخاطفة. وبرغم التباين بين هذه الأجيال الثلاثة من الحروب، فإنّها تتفق في سمة مشتركة؛ وهي أنّها كانت بشكل أساسي حروبًا بين الجيوش النظامية([12]).

 أمّا الجيل الرابع من الحروب، فيقوم على ضرب العدو من الداخل، من خلال إثارة القلاقل، والتمرد، والتشجيع على الحروب الأهلية والطائفية والعرقية، بحيث يتحوّل المجتمع إلى أداة لتدمير نفسه، أو يغدو عدوًا لنفسه، بوعي أو بدون وعي، عبر دفع قواه إلى التصادم والتقاتل، أو العمل ضد أمن المجتمع واستقراره بذرائع ومبرّرات غير حقيقية. ولعلّ المنطقة العربية تعيش هذا النوع من الحروب منذ عام 2011 في سياق ما عُرف بالربيع العربي.

 وإضافة إلى هذه الأجيال الأربعة، نجد حروب الجيل الخامس التي تعتمد على خلق تناقضات بين السلطة والمجتمع في دولة ما، وذلك باستغلال الوسائل كافة، حيث “احتلال العقول لا الأرض”، وبعد احتلال العقول يتكفّل المحتل بالباقي، فهو يستخدم العـنـف غـيـر المـسلـّح، مـسـتـغلًّا جـمـاعـات عـقـائـديـة مـسـلـّحـة، وعـصـابـات الـتـهـريـب المنظمة، والتنظيمات الصغيرة المدرّبة، من أجل صنع حروب داخلية تتنوع ما بين اقتصادية وسياسية واجتماعية، بهدف استنزاف الدولة المستهدَفة، ووضعها في مواجهة صراعات داخلية، بالتوازي مع التهديدات الخارجية العنيفة ([13]).

 ويعتمد صانعو حروب الجيل الخامس على استخدام التقنيات الحديثة، التي تشمل القوة المسلحة، كالصواريخ المضادة للدروع، والعمليات الانتحارية، ونصب الكمائن، والأعمال الإرهابية، والقوة غير المسلحة، التي يكون فيها العدو فاعلًا من دون أن يَظهر بشكل مباشر. كما تشمل هذه التقنيات الإرهاب الإلكتروني، والحرب السيبرانية، وإثارة الشعوب، وتحريكها وفق الأهداف السياسية لدول أخرى. ويرى بعض الخبراء أنّ من بين التقنيات أيضًا استحداث حالة فوضى في مواقع الصراع بين أطراف محلية، تُتيح للدول الكبرى التدخل وتوجيهها لمصلحتها. ووفق بعضهم، فإن ما يُسمى “الربيع العربي” هو أحد هذه التطبيقات. كما يرى الخبراء أنّ إغراق المناطق المستهدفة بالمخدّرات هو أحد الأسلحة الفاعلة لحروب الجيل الخامس([14]).

 وتأتى حروب الجيل السادس GW6، لتدار عن بعد عبر استخدام الأسلحة الذكية لتأليب المجتمع عبر التجنيد الكامل لشبكات الإنترنت، ولهدم أركان الدولة وإفشالها، وتتنوع الوسائل الذكية لتشمل استخدام الطيور، والحيوانات كأدوات للتجسس، وإلحاق الأضرار عن بعد([15]). وضرب اقتصاد الشعوب، وإنشاء كوارث طبيعية من زلازل وأمطار وسيول، وهي التي تسمى “تكنولوجيا الكيمتيرل”؛ للتحكم في الطقس، وزرع السحاب بالفيروسات المسبّبة للأمراض، لتستهدف الجيوش والمدنيين، وتفتك بهم عن بعد([16]).

 وما حروب الجيل السادس إلا شكل من أشكال التطور الإنساني الكبير، وهي الأخطر على العالم من الحروب النووية وأسلحة الدمار الشامل، وهي لا تتطلّب ميزانية ضخمة لتطوير الأسلحة وتحسينها، كما لا تسبقها أي مؤشّرات؛ مما يصعّب كشفها والتنبؤ بها، وستعتمد في القضاء على الأنظمة السياسية على شعوب البلاد ذاتها؛ من خلال إشعال ثورات داخلية بالتضليل الإعلامي، والأخبار الزائفة([17]).

 إن هذه الحروب تركز على تهديد الأمن الإنساني، من خلال الحرب الاقتصادية، والسـيبرانيــة والمـعـلـومـاتيــة، والـحــرب الهجينة، وحروب أسلحة الدمار الشامل، وتشويه أهداف الدولة أو المجتمع؛ لإعطاء رؤية متلاعب بها مزيَّفة لأفراد المجتمع، أو لجمهور الدولة المستهدفة.

 ولم تكن المنطقة العربية بمنأى عن كل أجيال الحروب المتلاحقة، بل ومع مرور الزمن، يزداد للأمام تركيز هذه الحروب على المنطقة أكثر من ذي قبل، ويبدو أن المنطقة العربية في مجملها تعيش حالة الجيل السادس، بل وتتغلف أرضها بكل أجيال الحروب الماضية، فهي حروب تهدف إلى استقطاب الشباب، وتخريب فكره وعقله، وهدم الأسرة، وهدم التعليم، وتشويه القدوة وإسقاطها.

فالأمن الإنساني في دول العالم، وفي الدول العربية، أصبح يتعرّض للعديد من المخاطر؛ منها الإرهاب، والحروب المتطورة كحروب الجيلَين الخامس والسادس، والتأثيرات السلبية لاستخدامات الذكاء الاصطناعي، والحرب الاقتصادية، إضافة إلى الكوارث الناتجة عن التأثيرات الطبيعية من الزلازل، والأوبئة، والتأثيرات التي يسبّبها الإنسان كالتأثيرات التقنية السلبية لمواقع التواصل الاجتماعي، والتي تسبّبت في نشر مختلف الثقافات والقيم والأفكار، وتغلغلت في المجتمعات؛ ولذا لابد من وجود حلول وآليات لتحقيق الأمن الإنساني.

سادسًا- استراتيجيات وآليات تحقيق الأمـــن الإنساني:

 هناك آليات موضوعية عدة لتفعيل تحقيق الأمن الإنساني، وذلك من خلال(17):

– استراتيجية الحماية والتمكين:

يتطلب من الدولة استخدام مؤسساتها كافة لمواجهة انعدام الأمن بطريقة شاملة ووقائية لا تقتصر على ردود الأفعال تجاه التهديدات؛ بل تعمل بشكل وقائي، وتكشف ثغرات البنية الأساسية للدولة. ويقصد باستراتيجية التمكين مساعدة الأفراد على اكتساب القدرة على التصرف والتخطيط، سواء لصالحهم أو لصالح بقية أفراد المجتمع، وجعلهم يمتلكون القدرة على المطالبة باحترام حقوقهم وحرياتهم والتصدي للكثير من المخاطر التي تواجه المجتمع على المشاركة الجادة من مؤسسات الدولة المختلفة للنهوض بكل ما من شأنه تعزيز هذه القدرات.

أما عن الآليات التي يمكن من خلالها الحماية والوقاية من أخطار حروب الجيلَين الخامس والسادس وتحقيق الأمن الإنساني، فيمكن إبرازها على النحو الآتي:

– دور المنظمات الدولية:

يجب أن يكون للمنظمات الإنسانية والدولية دور في توفير الحماية لهم، وتقديم المساعدات الإنسانية بشكل فاعل، والوصول إلى المناطق المتضررة، ولن يتحقق الأمن الإنساني لهم في العالم العربي إلا عن طريق التعاون بين الدول والمنظمات الدولية والمجتمع المدني، وتوفير الحماية والمساعدات الإنسانية بشكل فاعل، وتعزيز فرص العمل وتوفير الخدمات الأساسية لهم، وضرورة تحمّل المجتمع الدولي مسؤولياته تجاه اللاجئين، وتوفير الحلول السياسية والاقتصادية المناسبة لتحسين أوضاعهم، وتوفير حماية كافية لهم ([18]).

– فهم المخاطر كافة المتعلقة بحروب الأجيال:

 تحتاج الدول كافة؛ مجتمعات وأفرادًا، إلى دراسة شبكة المخاطر المحيطة بها محليًّا وعالميًّا، وكذلك السعي للبحث والتقصي حول الأهداف الخفية للتحولات كافة التي قد تطرأ على المجتمع من تغيّرات فكرية ومعلوماتية ناشئة عن التطور التكنولوجي، وظهور وسائل إعلامية رقمية جديدة بخلاف الوسائل التقليدية، على أن يتم دراسة المخاطر وتحديدها وتحديد آثارها ومستويات تأثيراتها، مع توجيه الأجهزة المعنية بالدولة ومؤسساتها بصفة عامة، والتعليمية ومنها الجامعات بصفة خاصة؛ لتحسين الوعي لدى أفرادها بشأن فهم تلك المخاطر والعمل على التصدي لها من خلال توجيه البوصلة الإعلامية لتوضيح مدى التأثير المباشر وغير المباشر للأفكار والشائعات والتنبيهات الإعلامية التي تصدُر من الإعلام المضاد لتفكيك الدولة وزعزعة استقرارها، وتحصين المجتمع ضد المؤامرات الفكرية والمعلوماتية. وتُعّدُ برامج توعية الأفراد ومنع اختراق المجتمع ثقافيًّا من أهم أساليب مواجهة هذا الجيل من الحروب، إضافة إلى تفكيك التحالفات المعادية التي تنشأ ضد الدولة ومنع تمويلها ودعمها ماديًّا وبشريًّا، ويتم ذلك بوسائل متعدّدة عسكرية وغير عسكرية، بهدف تجنّب الانفجار من الداخل نتيجة وجود ثغرات في النسيج المجتمعي.

– حماية الأمن الفكري للشباب:

يمثّل التهديد في الأمن الفكري والمعلوماتي والتضليل الإعلامي، عن طريق أدوات الإعلام الجديد، مخالفةً لما استقر عليه المجتمع من ثوابت وأفكار تمثل هويته الثقافية؛ لذا يحتاج الأمن الفكري إلى أدوات تحميه وتعزّزه، ومن أهم أدوات تعزيز الأمن الفكري وضمان استقراره التفكير الناقد الذي من خلاله يمتلك الشخص القدرة على تقييم المعلومات وفحص الآراء حتى يعيش الأفراد في أوطانهم آمنين على مكونات أصالتهم وثقافتهم النوعية، ومنظومتهم الفكرية ([19]).

– تكثيف دور المؤسسات الحكومية والخاصة:

لكي يتسنّى استشراف الصورة المستقبلية للأمن الإنساني، يتعيّن تحديد نواحي القوة والضعف والفرص والمخاطر في المنطقة، وتكثيف دور المؤسسات الحكومية والخاصة في غرس روح الانتماء والإخلاص في المواطن لتجنّبه المؤثرات الخارجية، والتي تؤثر سلبًا على المواطن والمصالح الوطنية والدولة، فالمجتمع الذي يتوافر فيه الأمن والأمان ينعكس ذلك على سلوكياته ومنجزاته ودرجة تقدّمه ورُقيّه، حيث إن ذلك يبعث الطمأنينة في النفوس، ويشكّل حافزًا للعمل والإبداع والاستقرار والحفاظ على الهوية الوطنية.

– المتابعة والرقابة الجيدة لوسائل التواصل الاجتماعي:

خاصة أن تلك الوسائل تؤثر في الرأي العام، على الصعيدَين المحلي والدولي؛ مما يتسبّب في الأذى للدولة، وكذلك في انتشار الأفكار الهدامة.

– المواجهة الدولية لمهدّدات الأمن الإنساني:

وعلى الصعيد الدولي، نُوصي بأن تُصدِر الجمعية العامة لمنظمة الأمم المتحدة توصيات للدول، ذات العضوية الدائمة بمجلس الأمن، بأن تمتنع عن استخدام حق (الفيتو) فيما يتعلق بالمشاريع والقرارات ذات الطابع الإنساني لأنه يؤدي إلى نتائج سلبية تجاه حقوق الإنسان، مع التزام الدول ذات العضوية الدائمة بمجلس الأمن بإحالة مرتكبي الجرائم المتعلقة بأمن الإنسان الى المحكمة الجنائية الدولية، أو إنشاء محاكم جنائية دولية مستقلة تنظر في الجرائم التي تُرتكب من قِبل الدول والشركات ضد الطبيعة والسلامة البيئية والمناخ، هذا على الصعيد الدولي، أما على الصعيد الوطني فنقترح أن تكون هناك عقوبات شديدة عن الجرائم التي تَمسّ أمن الإنسان الغذائي والصحي والبيئي، وأن تقوم منظمة الأمم المتحدة بإعادة النظر في آلياتها، خصوصًا فيما يتعلق بتعديل نظام التصويت في مجلس الأمن، بتوسيع عضويته، والسماح لبعض الدول النامية بالمشاركة في عملية صنع القرار تفاديًّا لجموده المتكرر تجاه الأزمات الإنسانية المتوالية.

الخاتمة:

من خلال ما سبق، يتضح لنا أن الأمن الإنساني يواجه العديد من التهديدات والصراعات في ظل حروب الأجيال، ومنها حروب الجيلَين الخامس والسادس، ومنها على سبيل المثال الشائعات والتضليل الإعلامي، والأزمات الاقتصادية، وحرب المياه، والكوارث والزلازل، كما حدث في المغرب، وليبيا، والحروب البيولوجية، واستهداف بنية المجتمع الثقافية والاقتصادية، والتأثيرات النفسية والمعنوية، بما تثيره وتبثّه مواقع التواصل الاجتماعي من خلال إضعاف ثقة الشعوب بحكامها، وإحداث الفوضى بالتزامن مع حروب المناخ؛ مما يستوجب العمل على تحصين المجتمع من المخاطر عن طريق كسب ولائه، وزيادة ثقته بالدولة ليكون سندًا لأجهزتها، ومساعدًا لنقل المعلومات الأمنية، ورصدها ونقلها إذا كانت تستهدف كيان الدولة. وتتطلّب هذه الثقة المتبادلة تطبيق الدولة لسياسات الحكم الرشيد الذي يركز على سعة مشاركة المواطنين في العملية السياسية، كما يجب تأمين مؤسسات الدولة من الهجمات السيبرانية، وهذا يتطلب إنشاء مؤسسات ذات مواصفات وقدرات خاصة للحدّ من التهديد المحتمل عبر الدفاع عن الشبكات الإلكترونية، كما أن التحديث المستمر التكنولوجي في قوة الدولة العسكرية أصبح أساسًا مهمًّا لمواكبة تهديدات الأمن الإنساني، في وقت ستكون فيه الجيوش الحديثة أشبه بأفلام الخيال العلمي من حيث الابتكار والتجهيزات، فالعالم لا يزال أمام موجات أخرى من الفيروسات غير الطبيعية، سواء كانت ناتجة عن التغيرات المناخية، أو عن الحروب البيولوجية الحاصلة أو المتوقعة.

وأمام موجة جديدة من التهديدات الأمنية والكوارث والأزمات، إضافة إلى التضليل الإعلامي وحرب الشائعات، فإن تحقيق الأمن الإنساني، سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا وأخلاقيًّا، يتم من خلال معالجة المعلومات والأفكار المشوَّهة، التي تُبَثُّ عبر وسائل الإعلام الجديد بمختلف أشكالها، للتأثير على أفراد المجتمع بصفة عامة، وعلى الشباب بصفة خاصة. وهذا ما يحقق الأمن الإنساني للمجتمعات. فهل تتّحد الدولُ من أجل توفير الأمن الإنساني ومواجهة التّحدِّيات والأزمات والتهديدات العالمية في ظِلّ حروب الجيلَين الخامس والسادس؟



([1]) علياء عبدالفتاح رمضان، التربية الإعلامية في بيئة الإعلام الجديد، (القاهرة: عالم الكتب، 2019)، ص11.

([2]) أشرف السعيد أحمد، الذباب الإلكتروني وحروب الجيل السادس (القاهرة: المجموعة العربية للتدريب والنشر، 2022)، ص 66.

([3] (United Nations Development Programme (UNDP), (2014). Human Development Report, Chapter 2, New Dimensions of Human Security, (New York, Oxford University Press) P.23.

([4]) رضا عبدالواجد أمين، “شبكات التواصل الاجتماعي وعلاقتها بالحفاظ على أمن المجتمع: دراسة ميدانية على النخبة الإعلامية بمملكة البحرين”، المجلة العربية للدراسات الأمنية، جامعة نايف العربية للعلوم الأمنية، مجلد 35، عدد 2، (2019)، ص 198.

 ([5]) Gilder, A. (2021). Human security and the stabilization mandate of Minusca, International Peacekeeping, Vol.28, n.2, PP.200-231.

([6]) Kivisi, F. S. (2019). Japan-Kenya Relationship, The Human Security Concept and Kenya’s Big Four Agenda, American Journal of Public Policy and Administration, Vol.4, n.1, PP. 1- 17.

([7]) صابر أبو بكر محمد. الأمن الإنساني وآفاقه في مصر، ( القاهرة: دار المنار للنشر والتوزيع، 2023)، ص 67.

([8]) ديباجة ميثاق الأمم المتحدة لعام 1945.

([9]) نضال شاكر جودة الهاشمي، سهيلة عبد الزهرة الحجيمي، “بناء نموذج قياسي للأمن الإنساني في العراق باستخدام أسلوب تحليل المسار”، مجلة الكوت للعلوم الاقتصادية والإدارية، العراق، مجلد 1، جزء 2، عدد خاص، (2012)، ص 180- 231.

([10]) حسن عبدالله الدعجة، “مهدّدات الأمن الإنساني، المجلة الجزائرية للأمن الإنساني”، الجزائر، عدد 4، يوليو، (2017)، ص127-154.

([11]) شادي عبدالوهاب منصور، حروب الجيل الخامس، (القاهرة: مركز دراسات المستقبل، العربي للنشر والتوزيع، 2019)، ص17.

([12]) محمد حمد سويلم، “حروب الجيل الخامس، التحولات الرئيسة في المواجهات العنيفة غير التقليدية في العالم”، أبوظبي، مركز المستقبل للدراسات والأبحاث المتقدمة، (2017)، ص 132.

([13]) مصطفى محمد أحمد، حروب الأجيال والصراع الدولي، (القاهرة: دار المنار للنشر والتوزيع، 2023)، ص 65.

([14]) المرجع السابق، ص 66.

([15]) أشرف السعيد أحمد، الذباب الإلكتروني وحروب الجيل السادس، (القاهرة: المجموعة العربية للتدريب والنشر، 2022)، ص 76.

([16]) يونس مؤيد يونس مصطفى، ” كائز حروب الجيل السادس وأثرها في استراتيجيات القوى الفاعلة في النظام الدولي”، مجلة تكريت للعلوم السياسية، جامعة تكريت – كلية العلوم السياسية، عدد 30، ديسمبر، (2022)، ص 38.

([17]) خولة محي الدين يوسف، وأمل يازجي، “الأمن الإنساني وأبعاده في القانون الدولي العام”، مجلة جامعة دمشق للعلوم الاقتصادية والإدارية، سوريا، مجلد 28، عدد 2، (2012)، ص 523-550.

([18]) مصطفى محمد يحيى عبده .”التفكير الناقد وأثره في تعزيز الأمن الفكري: دراسة نظرية وميدانية”، مجلة الفنون والأدب وعلوم الإنسانيات والاجتماع، كلية الإمارات للعلوم التربوية، عدد 92، يونيو (2023)، ص 2.

([19]) أشرف عبدالقادر قنديل، ” آليات تحقيق الأمن المعلوماتي في دولة الإمارات العربية المتحدة، الفكر الشرطي القيادة العامة لشرطة الشارقة”، مركز بحوث الشرطة، مجلد 32، عدد 126، يوليو (2023)، ص 217.

المواضيع ذات الصلة