Insight Image

هل تُقرّب عودة ترامب المحتملة بين الصين وأوروبا؟

18 مارس 2024

هل تُقرّب عودة ترامب المحتملة بين الصين وأوروبا؟

18 مارس 2024

يترقّب العديد من الدول حول العالم في الغرب والشرق، باهتمام وقلق كبيرَين، الانتخابات الأمريكية لهذا العام، حيث تبدو فرصة عودة الرئيس السابق دونالد ترامب كبيرة مع قرب حسمه ترشيحه عن الحزب الجمهوري، بينما يعاني الرئيس الحالي جو بايدن تدنّيًا في شعبيته. وقد أصبح موضوع الانتخابات الأمريكية 2024 واحتمال ولاية ثانية لدونالد ترامب هاجسًا يؤرّق الكثيرين حول العالم؛ ما قد يجعل هذه الانتخابات الأكثر أهمية خلال قرن من الزمان، ليس فقط بالنسبة للولايات المتحدة، بل للعالم أجمع. ومن بين أكثر الدول أو القوى التي تُولي هذا الأمر اهتمامًا بالغًا الأوربيون والصينيون، فلكلٍّ منهما مباعث القلق الخاصة به من عودة ترامب للبيت الأبيض، فالصين تخشى حربًا تجارية، بينما يخشى الأوروبيون تراجع الالتزام الأمريكي بأمن القارة، خاصة في ظل تصريحات ترامب، التي قال فيها إنه لن يدافع عن أعضاء الناتو إذا تعرّضوا لهجوم روسي ما لم “يدفعوا”. فهل القلق من عودة ترامب تُقرّب الصينيين والأوربيين أكثر وتدفعهم لتجاوز خلافاتهم وبناء تفاهمات جديدة؛ خاصة في ظل ظهور مؤشرات، أو حتى تصريحات، تُوحي بهذا السياق؟

تهدف هذه الورقة إلى استكشاف مباعث قلق كلٍّ من الصين والاتحاد الأوروبي من عودة ترامب المحتملة وفرص التقارب بينهما؛ استعدادًا لوضع جديد ربّما يختلف حتى عن فترة ترامب الأولى، ولاسيّما في ظل التحولات الجيوسياسية التي يعانيها العالم، وحالة التنافس الاقتصادي المحموم على مستوى عالمي.

أولًا: لماذا تخشى الصين من عودة ترامب؟

هناك أسباب عدة قد تجعل الصين قلقلة بشأن عودة ترامب إلى السلطة السياسية في الولايات المتحدة. فخلال رئاسة ترامب الأولى، اتّسمت العلاقات التجارية بين بكين وواشنطن بالتوترات، بما في ذلك فرض الرسوم الجمركية والقيود التجارية. فقد بدأ ترامب حربًا تجارية مع الصين، حيث فرض تعريفات جمركية على بضائع صينية بمليارات الدولارات.[1] وتشعر الصين بالقلق إزاء احتمال استئناف أو تصعيد التوترات أو النزاعات التجارية. كما استهدفت إدارة ترامب شركات التكنولوجيا الصينية، وخاصة شركة هواوي، وذلك بسبب مخاوف تتعلق بالأمن القومي.[2] وتخشى الصين استمرار الجهود الرامية إلى تقييد الوصول العالمي لشركات التكنولوجيا التابعة لها. وهذه المرة، وبرغم ثناء ترامب على الرئيس الصيني شي جين بينغ، في الحملة الانتخابية، فقد أثار أيضًا تكهنات بأنه من أجل مكافحة ما يعتبره ممارسات تجارية غير عادلة يمكنه فرض تعرفة جمركية على الواردات الصينية تصل إلى 60%، وإلغاء وضع “العلاقات التجارية الطبيعية الدائمة” الأساسية.[3] ومن شأن التحرك على هذا المستوى أن يخلق اضطرابًا كبيرًا في العلاقات التجارية؛ ما قد يؤدي إلى انخفاض حصة الصين في الواردات الأمريكية من الخمُس تقريبًا إلى نحو 3%.[4]

وكانت إدارة ترامب صريحة بشأن قضايا حقوق الإنسان في الصين، وخاصة فيما يتعلق بمعاملة مسلمي الأويغور في شينغيانغ.[5] وقد وقّع ترامب تشريعًا وفرض عقوبات تتعلق بانتهاكات حقوق الإنسان في تلك المقاطعة. وعلى الرغم من أن تلك سياسة دولة، وهناك اتفاق بين الحزبين بشأنها، فإن الصين تخشى أن تؤدي عودة ترامب إلى تجدّد الانتقادات والضغوط عليها، فيما يتعلق بهذه القضية، وربّما قضايا أخرى لا تقلّ أهمية.  فقد اعتبرت الصين نهج ترامب تجاه تايوان وهونغ كونغ تحدّيًا حقيقيًّا، حيث وقّع خلال فترة حكمه تشريعًا؛ ردًّا على تصرفات الصين في هونغ كونغ.[6] وقد تَعني عودة ترامب ظهور موقف أمريكي أكثر حزمًا بشأن القضايا المتعلقة بتايوان وهونغ كونغ؛ الأمر الذي قد يؤدي إلى توتر العلاقات الثنائية.

وصوّرت إدارة ترامب الصين منافسًا استراتيجيًّا، وسَعت إلى مواجهة نفوذها العالمي المتزايد. وانتقدت إدارة ترامب مبادرة الحزام والطريق الصينية.[7] وربّما تشعر الصين بالقلق إزاء التحديات التي تواجه مشاريع البنية التحتية العالمية ونفوذها الاقتصادي. كما زادت إدارة ترامب من وجودها البحري في بحر الصين الجنوبي، وأعربت عن معارضتها لمطالبات الصين الإقليمية هناك. وربّما تتوقع الصين استمرار التحديات التي تواجه طموحاتها الجيوسياسية ونفوذها العالمي في حال عاد ترامب إلى منصبه.

وفوق هذا وذاك، فإن الصين، كما هو حال الدول الأخرى، قلقة من مسألة عدم القدرة على التنبّؤ. فقد كان نهج ترامب في العلاقات الدولية في كثير من الأحيان غير تقليدي، ولا يمكن التنبّؤ به. وقد تؤدي عدم القدرة على التنبّؤ إلى خلق حالة من عدم اليقين بالنسبة للصين فيما يتعلق باتجاه السياسة؛ ما يجعل من الصعب توقع التحولات المحتملة والاستعداد لها في العلاقات الأمريكية-الصينية. هذا فضلًا عن مسألة المشاعر المعادية للصين، فغالبًا ما تضمّنت خطابات ترامب انتقادات للصين؛ الأمر الذي أسهم في إثارة المشاعر المعادية للصين بين الأمريكيين، وربّما تشعر الصين بالقلق إزاء احتمال ظهور تصور عام سلبي يؤثر على العلاقات الثنائية.

ثانيًا: القلق الأوروبي من عودة ترامب

كما هو الحال بالنسبة للصين، فهناك مباعث قلق حقيقية لدى الأوروبيين؛ برغم ما يربط ضفّتَي الأطلسي من تحالفات وعلاقات وطيدة. وتشير ولاية ترامب الأولى إلى أن السمة الرئيسية لسياسته الخارجية هي أنها غير منتظمة ولا يمكن التنبّؤ بها، ومن شأن الولاية الثانية أن تَعِد بالمزيد من الشيء نفسه. وهذا في حدّ ذاته يشكل تحدّيًا خطيرًا لحلفاء أمريكا قبل أعدائها أو منافسيها، وفي مقدمتهم الأوروبيون. فالأوربيون قلقون من أن تثير عودة ترامب مخاوف بشأن العلاقات المتوترة، خاصة إذا تبنّت إدارته، كما هو متوقع، نهجًا أكثر أحادية في الشؤون الدولية. وقد تضمّنت سياسات ترامب التجارية فرض تعرِفات جمركية على السلع الأوروبية؛ ما أدى إلى توترات تجارية بين الجانبين. وكان أحد الأمثلة البارزة في ولاية ترامب الأولى الرسوم الجمركية المفروضة على العديد من منتجات الاتحاد الأوروبي، بما في ذلك الصلب والألمنيوم.[8] وتشعر الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي بالقلق بشأن عودة التدابير الحمائية والصراعات التجارية التي تؤثر على اقتصاداتها. وقد حذّر رئيس الوزراء البلجيكي، ألكسندر دي كرو -الذي يتولى الرئاسة الدورية لمجلس الاتحاد الأوروبي- في خطاب ألقاه أمام أعضاء البرلمان الأوروبي، من أن الكتلة قد تكون محرومة من أحد أكبر حلفائها هذا العام إذا سادت سياسة “أمريكا أولًا” مرة أخرى. لكنه قال إنه لا ينبغي للاتحاد الأوروبي أن يخشى السيناريو الذي تتركه فيه الولايات المتحدة بمفردها.[9]

التجارة ليست القضية الوحيدة التي يشعر الاتحاد الأوروبي بالقلق بشأنها. فهناك الحرب في أوكرانيا. فالولايات المتحدة أكبر مانح لأوكرانيا منذ بداية الحرب في فبراير 2022. وقد نُقل عن ترامب قوله إنه لن يدفع “فلسًا” للحرب؛[10] بينما جدّد تهديداته بشأن عدم التزام بلاده بالدفاع عن الناتو. ومن المنظور الأوروبي، وبعيدًا عن تدابير الحماية، فإن أوكرانيا، وبالطبع منظمة حلف شمال الأطلسي، هي الشغل الشاغل الرئيسي. فتراجُع الدعم لأوكرانيا، وربّما البحث من جانب واحد عن اتفاق مع بوتين، يشكل احتمالًا قائمًا يثير مخاوف الأوروبيين بالفعل. وقد أكد ترامب ضرورة أن يُحقق أعضاء الناتو أهداف الإنفاق الدفاعي، وهدّد في ولايته الأولى بالانسحاب من الحلف ما لم يقُم الأعضاء بزيادة إنفاقهم وتحمُّل الأعباء بشكل كبير. وقد تجددت هذه المخاوف بعد أن قال ترامب إنه لن يدافع عن حلفاء الناتو الذين فشلوا في إنفاق ما يكفي على الدفاع، وهو تهديد خطير للكثيرين في أوروبا مع استمرار الغزو الروسي في أوكرانيا. وتشعر دول الاتحاد الأوروبي بقلق كبير إزاء الضغوط المحتملة لزيادة النفقات العسكرية؛ ما يؤثر على الميزانيات والأولويات الوطنية، خاصة في ظل التحديات الاقتصادية التي تواجهها، ولاسيّما التضخم.

ومن هنا، فلا شك أن التحدي الأكبر الذي يواجه أوروبا سوف يأتي من التغيير الجذري في موقف الولايات المتحدة فيما يتصل بأوكرانيا، وهو التغيير الذي من شأنه أن يقدِّم لبوتين الفرصة لتحقيق نصر كبير. ومثل هذا التطور سيؤدي حتمًا إلى صدمة في الاتحاد الأوروبي، وهي الصدمة التي قد تصبح خطرًا وجوديًّا.

إن تجدُّد الحرب التجارية ووقف الدعم عن أوكرانيا وعدم دعم الناتو، ليست سوى بعض القضايا التي تواجه الاتحاد الأوروبي إذا عاد الرئيس السابق دونالد ترامب إلى البيت الأبيض. فهناك قضايا أخرى مهمة كانت محل خلاف أيضًا.  فقد سحب ترامب الولايات المتحدة من اتفاق باريس بشأن تغيّر المناخ قبل أن يُعيدها مجدَّدًا الرئيس الأمريكي الحالي جو بايدن.[11] ولا شك أن الاتحاد الأوروبي، الملتزم بقضايا البيئة والاستدامة، متخوف من احتمال عدم تعاون الولايات المتحدة في جهود المناخ العالمي في حال عودة ترامب.

وفيما يتعلق بالأمن في الشرق الأوسط، فقد أدى انسحاب ترامب من الاتفاق النووي الإيراني إلى خلق حالة من عدم اليقين في المنطقة، برغم ارتياح الكثيرين من دولها لهذه الخطوة بسبب القلق الحقيقي من طموحات إيران النووية. ولكن الاتحاد الأوروبي، الذي يدعو إلى الحلول الدبلوماسية، يشعر بالقلق إزاء التوترات المتزايدة والتحديات المحتملة في المنطقة.

ويخشى الأوربيون أيضًا من تفاقم مشكلة الشعوبية، وتزايد قوة اليمين المتطرف في أوروبا، في حالة عودة ترامب. فقد كان لتولّيه المرة الأولى دور كبير في تصاعد المدّ اليميني المتطرف والشعبوية في الغرب.

وبشأن المؤسسات الدولية، فإن تشكيك ترامب تجاه المؤسسات الدولية مصدَر قلق للاتحاد الأوروبي، الذي غالبًا ما يدعو إلى التعددية، برغم أن العديد من دُوَله لا تلتزم بما تُقرّه أو يصدُر عن هذه المؤسسات، بما فيها تلك المتعلقة بحماية الأمن الدولي. ومن الممكن أن تنشأ خلافات بشأن الحوكمة والتعاون العالميين، كما شهدت إدارة ترامب تحولات في التحالفات الأمريكية. ويشعر الاتحاد الأوروبي بالقلق إزاء استقرار التحالفات الدولية، والتأثير المحتمل على الديناميكيات الجيوسياسية العالمية.

ثالثًا: فرص التقارب بين الصين والاتحاد الأوروبي

لا شك أن العلاقات بين الاتحاد الأوروبي والصين تحكمها مصالح واسعة، وهناك عوامل كثيرة ومحددات متعددة تؤثر فيها، ومن ثم فإن مسألة تغيير الرئيس في الولايات المتحدة ليس العامل الوحيد الذي يمكن أن يحدّد مساراتها. ومع ذلك، فإن مباعث القلق المتعددة، التي تم ذكرها سابقًا لدى الطرفين من عودة الرئيس السابق دونالد ترامب للبيت الأبيض، يمكن أن تمثّل دافعًا لكليهما لكي يبحث في فرص لتخفيف حدة التوتر وتعزيز التعاون بينهما في بعض المجالات، ولاسيّما الاقتصاد والتجارة، وربّما في قضايا عالمية مثل المناخ والطاقة والاستدامة. وهناك اعتبارات عدة لا بد أن تؤخذ بعين الاعتبار في هذا السياق، منها:

  1. 1. المصالح التجارية والاقتصادية: يُعدّ كل من الاتحاد الأوروبي والصين أكبر شريك تجاري للآخر. وتشكل الصين حصة كبيرة من واردات الاتحاد الأوروبي (20% في عام 2023) وصادراته (9% في عام 2023). ولكن هذه العلاقات تواجه تحديات تنتابها التوترات. وتثير شركات الاتحاد الأوروبي مخاوف بشأن تقييد الوصول إلى الأسواق والمنافسة غير العادلة في الصين، والذي نتج عنه استمرار العجز التجاري لصالح الصين، حيث سجل مستويات قياسية في 2022 عند 400 مليار يورو، كما يتهم الاتحاد الأوروبي الصين بانتهاك حقوق الملكية الفكرية، فضلًا عن مسألة الخلافات حول حقوق الإنسان والأمن والمسائل الإقليمية، التي تغذّي توتر العلاقات الاقتصادية.

ومع ذلك، فان الطرفين حريصان على المحافظة على هذه العلاقات وتعزيزها. ويمكن أن تكون الضبابية التي تسود أمريكا، فيما يتعلق بمن سيأتي إلى البيت الأبيض 2024، دافعًا في هذا الاتجاه. ويتشارك كلٌّ من الصين والاتحاد الأوروبي المخاوف بشأن احتمال تجدّد التوترات التجارية والتدابير الحمائية في ظل إدارة ترامب. ويمكن أن تشكل المصلحة المشتركة في العلاقات الاقتصادية المستقرة أرضية مشتركة لتعزيز التعاون ومعالجة التحديات المتعلقة بالتجارة. فالصين مثلًا، وبحكم أنها قد تحتاج للتقارب مع أوروبا أكثر من حاجة الأخيرة لها، يمكن أن تعالج مخاوف الاتحاد الأوروبي من خلال تفكيك الحواجز التجارية، وضمان تكافؤ الفرص أمام الشركات الأجنبية العاملة داخل حدودها. كما يمكنها تعزيز إنفاذ حقوق الملكية الفكرية؛ ما قد يخلق بيئة أكثر أمانًا للابتكار ونقل التكنولوجيا بين الجانبين.

  1. 2. تغيّر المناخ والحوكمة العالمية: تعطي كلٌّ من الصين والاتحاد الأوروبي أولوية للقضايا العالمية، مثل تغير المناخ ودعم المؤسسات المتعددة الأطراف. وقد تُثير قرارات إدارة ترامب السابقة بشأن اتفاقية باريس، والشكوك تجاه بعض المؤسسات الدولية، مخاوف مشتركة. ويمكن أن يكون التعاون في مبادرات تغيّر المناخ قضية مشتركة. ويحمل التعاون البيئي بين الصين والاتحاد الأوروبي إمكانيات كبيرة في مكافحة التحديات البيئية العالمية. وقد يسعى الطرفان لتعزيز التعاون للتغلب على العقبات القائمة؛ من خلال الحوار المستمر وتبادل المعرفة والجهود المشتركة المتعلقة بمستقبل أكثر استدامة.
  2. 3. الدبلوماسية والتعددية: لدى كل من الصين والاتحاد الأوروبي تحفظات بشأن النهج الذي اتبعته إدارة ترامب في التعامل مع الدبلوماسية، والذي اتّسم في بعض الأحيان بعدم القدرة على التنبّؤ والأحادية. ويمكن للقيم المشتركة لصالح الدبلوماسية، والتعددية، والحوكمة العالمية التعاونية، أن تكون بمنزلة أساس لتعزيز المشاركة الدبلوماسية. ويفضّل كلٌّ من الاتحاد الأوروبي والصين نظامًا عالميًّا متعدد الأقطاب يضم مراكز قوى متعددة، بما في ذلك الولايات المتحدة، ومن ثم ربّما يتعاونان أكثر في هذا الاتجاه، ولاسيّما في المنظمات الدولية المختلفة؛ سواء الأمم المتحدة، أو المنظمات المتخصصة، ومن ثم فقد يجد الطرفان في دعم النظام الدولي القائم على القواعد قضيةً مشتركة للتقارب.
  3. 4. الاستقرار والأمن الإقليميّان: قد يكون لكلٍّ من الصين والاتحاد الأوروبي مصلحة في الاستقرار الإقليمي وحلّ النزاعات، خاصة في المناطق التي يمكن أن تؤثر فيها السياسات الأمريكية على الديناميكيات الجيوسياسية. ويمكن للجهود التعاونية بشأن الحلول الدبلوماسية للصراعات الإقليمية وتعزيز الاستقرار أن توفر فرصًا للمشاركة المتبادلة. وقد يعمل كلا البلدين على تعزيز الحوار الاستراتيجي القائم حاليًّا بينهما كمنصة لتسهيل المناقشات حول القضايا الأمنية، بما في ذلك التهديدات غير التقليدية. وفي هذا السياق فإن أكثر ما يُقلق أوروبا الحربُ الدائرة في أوكرانيا. وقد دعت أوروبا الصينَ مرارًا إلى المساعدة في إنهائها، وذلك من خلال الضغط على موسكو، وهو أمر لا ينسجم مع رؤية الصين للصراع، حيث ترى بكين أن الغرب مسؤول عن تفاقم الأزمة منذ 2024.

ومع ذلك، فإن فرص التعاون حتى المقايضة تبقى قائمة. فالأوروبيون يمكن أن يكونوا منفتحين أكثر، ليس فقط فيما يتعلق بالإشكاليات التجارية والاقتصادية، وإنما القضايا أو الخلافات الأمنية والسياسة أيضًا. وهنا تُعدّ قضية تايوان محورية. وبما أن أوروبا تتبنّى سياسة الصين الواحدة، فيمكنها أن تُبدي تفهّمًا أكثر لموقف الصين ومساعيها لتعزيز النفوذ العسكري في مضيق تايوان، وحتى في منطقة بحر الصين الجنوبي. في المقابل، فإن الصين يمكن أن تتخذ موقفًا أكثر وضوحًا بشأن رفضها استمرار الحرب وضم روسيا الأراضي الأوكرانية، بينما يمكن أن تبذل جهودًا أكبر مع موسكو لوقف إطلاق النار. ومن ثم فإن مستقبل العلاقات الأوروبية مع الصين مرهون بشكل كبير بموقف بكين من الحرب في أوكرانيا.[12]

رابعًا: التحديات

لا شك أن تحقيق التقارب بين الأوروبيين والصين ليس أمرًا سهلًا، وهو كما سبقت الإشارة إليه يرتبط بعوامل عدة، وتحكمه قواعد مختلفة. ومع ذلك، فإن هناك تحديات لمثل هذا التقارب، ومن ثم تعتمد احتمالية ظهور مخاوف مشتركة بشأن عودة دونالد ترامب لتعزيز التقارب بين الصين والاتحاد الأوروبي على عوامل مختلفة، بما في ذلك الاستراتيجيات الدبلوماسية، والأولويات المشتركة، وتطور الديناميكيات العالمية. وبالرغم من وجود مجالات قد تتفق فيها الصين والاتحاد الأوروبي في مخاوفهما بشأن عودة ترامب، فإن ذلك لا يضمن التقارب التلقائي. فديناميكيات العلاقات الدولية المتعدّدة الأوجه تفرض على الطرفين مراعاة العديد من العوامل. فعلى سبيل المثال، فإن للصين والاتحاد الأوروبي مصالح متباينة في مجالات معينة، وقد تكون مواءمة هذه المصالح أمرًا غير ممكن، فضلًا عن أن المشهد الجيوسياسي متقلّب عالميًّا، حيث يمكن للتطورات الجديدة أن تؤثر في إمكانية التقارب بين الصين والاتحاد الأوروبي. وفيما يأتي أبرز التحديات التي يمكن أن تحدّ من فرص التقارب بين الأوروبيين والصين:

  1. 1. التنافر الاستراتيجي: في حين يعطي الاتحاد الأوروبي الأولوية لدعم النظام الدولي القائم على القواعد وتعزيز حقوق الإنسان، تركز الصين على السيادة الوطنية والمصالح الاقتصادية. وهذا الصِدام في القيم الأساسية يجعل تشكيل جبهة موحدة ضد الولايات المتحدة أمرًا بالغ الصعوبة.

كما يميل الاتحاد الأوروبي نحو اتباع نهج متعدد الأطراف في التعامل مع القضايا الأمنية، والتوافق بشكل وثيق مع حلف شمال الأطلسي. ومع ذلك، تعطي الصين الأولوية للتطوير العسكري المستقلّ، وتنظر إلى حلف شمال الأطلسي بعين الرِيبة.

  1. 2. الاختلاف الاقتصادي: يُعدّ كلٌّ من الاتحاد الأوروبي والصين لاعبين اقتصاديين رئيسيين، وغالبًا ما يتنافسان في الأسواق العالمية. وقد يُنظر إلى التعاون ضد الولايات المتحدة على أنه يضرّ بمصالحهما الاقتصادية. كما يشعر الاتحاد الأوروبي بالقلق من الممارسات الاقتصادية “العدوانية” للصين، مثل التكتيكات التجارية غير العادلة، وسرقة الملكية الفكرية. وهذا يخلق احتكاكًا في المبادرات الاقتصادية المشتركة المحتملة ضد الولايات المتحدة.
  2. 3. الروابط التاريخية: يشترك الاتحاد الأوروبي مع الولايات المتحدة في تحالف سياسي وأمني طويل الأمد. ولا شك أن التحول الصريح إلى جانب الصين سيكون بمنزلة تحوّل كبير في السياسة الخارجية الأوروبية الذي سيضرّ بالعلاقات عبر الأطلسي، ويعلَم الأوروبيون أن الأمريكيين لن يقفوا مكتوفي الأيدي؛ حيث تربطهم مصالح متشابكة في كل المجالات، ولا يُعقل أن يضحّي بها الأوروبيون لصالح علاقاتهم مع الصين.

وهناك أيضًا تحديات أخرى. فالاتحاد الأوروبي ليس موحدًا في كيفية التعامل مع الصين، وتوجد انقسامات داخلية بهذا الخصوص، حيث تدعو بعض الدول الأعضاء إلى موقف أكثر صرامة، بينما تعطي دول أخرى الأولوية للعلاقات الاقتصادية. هذا فضلًا عن مسألة النفوذ الأوروبي المحدود. فالقدرات العسكرية للاتحاد الأوروبي تتضاءل أمام الولايات المتحدة؛ الأمر الذي يقلّل من نفوذها المتصوَّر في شراكة استراتيجية محتملة مع الصين.

الخاتمة

تُمثّل العودة المحتملة للرئيس السابق دونالد ترامب إلى البيت الأبيض تحديات ومخاوف كبيرة لكلٍّ من الصين والاتحاد الأوروبي. فطوال فترة ولايته الأولى، أظهرت إدارة ترامب سلوكًا غريبًا وغير متوقع؛ ما تسبّب في توتر في العلاقات الدولية، خاصة في التجارة والأمن والدبلوماسية. ومع تزايد الترقب للانتخابات الأمريكية المقبلة، تشعر كلٌّ من الصين وأوروبا بالقلق إزاء العواقب المترتبة على إعادة انتخاب ترامب المحتملة.

وتخشى الصين، التي شهدت حروبًا تجارية ونزاعات تكنولوجية خلال رئاسة ترامب، تجدُّد المواجهات الاقتصادية التي قد تُزعزع استقرار اقتصادها ومكانتها العالمية. إضافة إلى ذلك، فإن المخاوف بشأن قضايا حقوق الإنسان، والحزم الجيوسياسي، وعدم القدرة على التنبّؤ بالعلاقات بين الولايات المتحدة والصين، تَلوح في الأفق بشكل كبير؛ ما يدفع الصين إلى النظر في استراتيجيات محتملة للتخفيف من الآثار السلبية لرئاسة ترامب.

وعلى نحو مماثل، تواجه أوروبا مجموعة من التحديات الناجمة عن نهج ترامب الأحادي في التعامل مع الشؤون الدولية. وكانت الصراعات التجارية، والالتزام المتردّد تجاه حلف شمال الأطلسي، وقرارات السياسة الخارجية التي لا يمكن التنبّؤ بها، سببًا في توتر العلاقات عبر الأطلسي، وإثارة الشكوك حول مستقبل الأمن والتعاون الأوروبي. علاوة على ذلك، يشعر الاتحاد الأوروبي بالقلق من تجاهل ترامب المؤسسات والاتفاقيات المتعدّدة الأطراف، فضلًا عن احتمال عودة الشعبوية، والتطرف اليميني.

وفي خضمّ هذه المخاوف المشتركة، هناك فرص للتقارب بين الصين والاتحاد الأوروبي. ويدرك كلا الجانبين أهمية العلاقات الاقتصادية المستقرة والتعاون في القضايا العالمية مثل تغير المناخ والتعددية. ومن الممكن أن يمهّد التواصل الدبلوماسي المعزز والحوار الاستراتيجي الطريقَ أمام مبادرات مشتركة تهدف إلى معالجة التحديات المشتركة، وتعزيز الاستقرار الإقليمي.

ومع ذلك، فإن تحقيق تقارب حقيقي بين الصين وأوروبا محفوف بالتحديات. فالمصالح الاستراتيجية المتباينة والاختلافات الاقتصادية والعلاقات التاريخية الأوروبية مع الولايات المتحدة، تشكّل عقبات أمام اتباع نهج موحد. علاوة على ذلك، تسلّط الانقسامات داخل الاتحاد الأوروبي، والقيود المفروضة على نفوذه، الضوء على التعقيدات التي تحيط بتشكيل شراكة متماسكة مع الصين.

 وفي حين أن شبح عودة ترامب إلى السلطة ربّما يكون سببًا في تحفيز المناقشات والاعتبارات الرامية إلى توثيق التعاون بين الصين وأوروبا، فإن الطريق إلى التقارب يظل غير مؤكد. ويتعيّن على الجانبين أن يُبحرا في مشهد جيوسياسي معقد يتّسم بالأولويات المتنافسة، والقيم المتباينة، والتحالفات المتغيرة. وحتى لو كان بوسعهم التغلب على هذه التحديات، وصياغة فهم جديد في مواجهة حالة عدم اليقين، فسوف يعتمد ذلك على قدرتهم على إيجاد أرضية مشتركة، والتعامل في ضوء الديناميكيات المتطورة للعلاقات الدولية.

[1]  Simone McCarthy, China is worried about the return of Trump, but it also sees opportunities if he wins, CNN, March 10, 2024: https://tinyurl.com/fftka2e8

[2]  فرانس24، ترامب يمنع شركات الاتصال الأمريكية من التزود بمعدات “أجنبية” وهواوي تعتبر القرار انتهاكًا لحقوقها

16 مايو 2019: https://rb.gy/6461f1

[3]  الشرق برس، يشير ترامب إلى أنه سيفكر في فرض تعرفة جمركية تصل إلى 60% على جميع الواردات الصينية إذا أُعيد انتخابه، 4 فبراير 2024: https://tinyurl.com/2a5thnt7

[4] THE IMPACT OF CHINA PNTR REPEAL AND INCREASED TARIFFS ON THE US ECONOMY AND AMERICAN JOBS, Oxford Economics, November 2023: https://www.uschina.org/sites/default/files/the_economic_impact_of_china_pntr_repeal.pdf

[5] ترامب يوقّع تشريعًا لفرض عقوبات على الصين بسبب “قمعها مسلمي الأويغور”، فرانس24، 18 يونيو 2020:  https://tinyurl.com/yxmv52yf

[6] رويترز، الصين تتوعد أمريكا بردٍّ انتقامي.. ومحتجون في هونغ كونغ يردّون بمسيرة “شكر”، 28 نوفمبر 2019:

https://tinyurl.com/ytxrxj3h

[7]  سويز انفو، واشنطن وبكين تتصادمان في الأمم المتحدة بشأن “طرق الحرير الجديدة”، 16 مارس 2029: https://tinyurl.com/2ud4ep9k

[8]  بي بي سي عربي، جمارك ترامب على واردات الصلب “انتهكت قواعد التجارة الدولية”، 10 ديسمبر 2022: https://tinyurl.com/bdf9dfrv

[9] Aïda Sanchez Alonso & Eloise Hardy, Euronews, Should the EU fear a Trump return to the White House? 17 January 2024: https://www.euronews.com/my-europe/2024/01/17/should-the-eu-fear-a-trump-return-to-the-white-house#:~:text=Trump’s%20return%20to%20the%20White,returns%20to%20the%20White%20House.

[10]  Hungary’s Orban claims Trump said he won’t ‘give a penny’ to Ukraine, Aljazeera, 11 March 2024:

https://www.aljazeera.com/news/2024/3/11/hungarys-orban-claims-trump-said-he-wont-give-a-penny-to-ukraine

[11]  الولايات المتحدة تعود رسميًّا إلى اتفاقية باريس للمناخ، الجزيرة، 19 فبراير 2021: https://tinyurl.com/4f6n794k

[12]  مستقبل العلاقات الأوروبية مع الصين رهين بموقف بكين من “حرب بوتين” في أوكرانيا، فرنس 24، 30 مارس 2023: https://tinyurl.com/2tjp46vr

المواضيع ذات الصلة