Insight Image

هل ستَخرُج جماعة الإخوان من معادلات العلاقات الدولية؟

22 نوفمبر 2023

هل ستَخرُج جماعة الإخوان من معادلات العلاقات الدولية؟

22 نوفمبر 2023

مقدمة

يلعب الدين، أو بالأحرى التدين، دورًا مهمًّا في العلاقات الدولية المعاصرة، وهناك قوى مهيمنة في مسرح العلاقات الدولية تستخدم التدين والجماعات التدينية وسيلة جيواستراتيجية ناجعة في كثير من الأحيان لتحقيق مآربها على المستويات كافة. ومن هنا، أصبحت الجماعات التدينية، وعلى رأسها الجماعات الإسلاموية، أحد الفاعلين الرئيسيّين في معادلات العلاقات الدولية المعاصرة. 

من جانب آخر، يشكل الاستقرار بصورة عامة، في بُعدَيه الاجتماعي والسياسي، أحد أهم الأهداف التي تسعى إليها المجتمعات الإنسانية في العالم؛ وذلك لما يشكلّه الاستقرار من انعكاسات إيجابية على مناحي الحياة، في أبعادها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.

ومن المؤكد أن المجتمعات العربية الحديثة والمعاصرة كانت إلى وقت قريب من أكثر المجتمعات في العالم التي تشهد حروبًا وأزمات وانقسامات، خصوصًا تحت تأثير عدم الوفاق الجماعي على شرعية سلطة الحكم، وعلى عقد اجتماعي يحدَّد فيه دور الدين في الفضاءَين الدولي والعام، ومصادر الشرعية والتشريع.

ومن أهم العناصر المسؤولة عن وضع كهذا هو تأثير فترة الاستعمار، وما خلّفه من أدوات ليضمَن به ديمومة هذا الوضع حتى بعد رحيله، وعلى رأس تلك الأدوات جماعة الإخوان التي تلعب دورًا في تفجير المجتمعات مشابهًا لما تفعله كبسولة التفجير (Detonator)، وهي الأداة التي تُستخدم لقدح العبوة الناسفة؛ فهي الكبسولة التي تحتوي على مادة متفجرة سهلة الإشعال توفر طاقة التنشيط الأولية لبدء الانفجار.

 وتحاول هذه الدراسة إعطاء أمثلة على لَعِب جماعة الإخوان الدور الذي تلعبه كبسولة التفجير، ولكن في المجتمعات العربية والمسلمة؛ وذلك منذ نشأت الجماعة عام 1928 وحتى الآن، ولم يكن ذلك، في معظم الأحيان إلا ملخِّصًا لدورها المرسوم في العلاقات الدولية المعاصرة، حيث لم يتمخّض عن وجودها وخطاباتها وتداخلاتها وسلوكياتها على أرض الواقع إلا استنزاف العالم العربي لمصلحة القوى المهيمنة العالمية أو قوى إقليمية، وذلك بعكس ادعاءاتها بأنها تسعى لعكس ذلك.

وبقراءة متعمّقة لتاريخ العلاقات الدولية المعاصرة والعالم العربي المعاصر، نستطيع القول إن المستعمر القديم والقُوى التي كانت مهيمنة لوقت قريب، لم يتوقّفا يومًا عن استخدام ذلك النوع من التدين لتحقيق مصالحهما الجيواستراتيجية، مثل وأد الحركات الوطنية الاستقلالية “الانقلابات” على القادة غير الخاضعين، ومقاومة تمدّد القوى غير الغربية، وتفكيك الدول وإعادة تشكيلها، وإفشال الدولة الوطنية العربية، وإجهاض الحداثة[1].

تستهدف الدراسة الإجابة عن السؤال البحثي الآتي: هل ستخرُج جماعة الإخوان من معادلات العلاقات الدولية؟ ولتحقيق ذلك تركز الدراسة في قِسمها الأول على الاستشهاد بأمثلة لاستخدام الجماعة في تحقيق مصالح القوى غير العربية الجيواستراتيجية المتمثلة في إدامة عدم الاستقرار في العالم العربي؛ لإضعافه والتحكم في مقدراته، ثم استشراف مستقبل جماعة الإخوان من معادلات العلاقات الدولية في السنوات المقبلة.

من جانبه، يركز القسم الثاني من الدراسة على استشراف “مآلات” الدور الذي كانت تلعبه الجماعة في معادلات العلاقات الدولية. 

1. الإخوان والمصالح الجيواستراتيجية غير العربية.. الأدوار في معادلات العلاقات الدولية [2]

1.1 وأد الحركات الوطنية الاستقلالية

كشفت وثائق بريطانية، رُفعت عنها السرّية، أن بريطانيا استخدمت الإخوان المسلمين في حربها السرّية ضد الرئيس المصري جمال عبدالناصر (1918 -1970) والرئيس الإندونيسي أحمد سوكارنو (1901- 1970). ووفق تلك الوثائق، استخدمت بريطانيا الإخوان المسلمين في تأليب المسلمين، في مختلف الدول، على عبدالناصر ونظامه. فقد روجت بريطانيا على سبيل المثال منشورات تحمل اسم الجماعة[3]، تهاجم فيها بقسوةٍ تصل إلى التكفير سلوك الجيش المصري خلال وجوده في اليمن بدايةً من عام 1962، الذي كان ساحة للصراع بين نظام عبدالناصر الجمهوري الجديد من جانب، ونظام الملكية السعودية وبريطانيا الاستعمارية من جانب آخر. كما شنّت بريطانيا حملة نفسية ودعائية ضد “سوكارنو” على مدار عامَي 1965 و1966، وأخذت بحسب الوثائق، شكل “إصدار منشورات باسم الإخوان المسلمين، تهاجم سوكارنو بسبب صور البذخ المخالف للدين في حياته الخاصة”. كما روجت وحدة الحرب الدعائية البريطانية منشورات نهاية عام 1966 تحرّض المسلمين في الصين وخارجها على ماو تسي دونغ. وركزت تلك المنشورات الإخوانية، ضد “دونغ” على “الأماكن التي بها صحافة إيجابية تجاه الصين، مثل سوريا والجزائر”، ثم أضافوا باكستان إلى القائمة[4].  

2.1 الانقلاب على القادة غير الخاضعين

قام الإخوان بأول انقلاب لهم في اليمن عام 1948، حيث كانت اليمن (المتوكلية الشمالية) من البلاد العربية النادرة المستقلّة، التي لا تخضع لأي استعمار في عام 1948، إلا في جزء منها وهو عدن، والتي كانت محمية بريطانية، كما كانت تطبِّق الشريعة الإسلامية، فلم يجد الإخوان غير دعوى إنقاذ اليمن من براثن الجهل والتخلّف والانغلاق”؛ للقيام بانقلاب ضد الإمام يحيى حميد الدين؛ وهو مؤسس المملكة المتوكلية اليمنية، والذي كان قد أَجبر العثمانيّين على الاعتراف به إمامًا مستقلًّا على شمال اليمن عقِب الحرب العالمية الأولى، بعد حروب متواصلة معهم. هذا الانقلاب الذي سُمّي “ثورة اليمن الدستورية قاده الفضيل (الورتلانى) جزائري، وعُيّن بعد الانقلاب مستشارًا عامًّا للدولة، و(عبدالحكيم عابدين) مصري وصهر حسن البنّا و(جمال جميل) ضابط عراقي عُيّن قائدًا لقوات الأمن و(عبدالله الوزير) الذي نُصِّب أميرًا للمؤمنين وإمامًا دستوريًّا وملكًا، و(إبراهيم يحيى حميد الدين) (ابن الإمام يحيى) وقد عُيّن رئيسًا لمجلس الشورى، وعددٌ من الإخوان الذين دخلوا إلى اليمن تحت ستار مساعدة اليمنيين في مجال التعليم والنقل مثل (مصطفى الشكعة، الذي عُيّن رئيسًا للإذاعة). وشارك بشكل غير مباشر في ترتيب الاتصالات شخصياتٌ عربية أخرى، مثل حبيب جاماتي صحفي لبناني، ومحمد علي الطاهر كاتب وصحفي فلسطيني[5].

أدى هذا الانقلاب إلى هجرة نحو 5800 من يهود اليمن، في عملية أُطلق عليها اسم “البساط السحري” أواخر عام 1949 وبدايات عام 1950 بعد مقتل من كان يعدّونه راعي السِّلم الوطني في اليمن الإمام يحيى؛ لأن الإمام أحمد (ابن الإمام يحيى) كان متيقنًّا بأن تلك الثورة كان يساندها الإنجليز، بل مخطَّطٌ لها في عدن ممّن أطلقوا على أنفسهم اسم الأحرار الدستوريين الذين كانوا يُقيمون في تلك المدينة، ورضخ لمطالب الإنجليز في الاعتراف بترسيم حدود لم يقبلها والده بين اليمن المتوكلية وعدن. وكان والده الإمام يحيى رفض الاعتراف بخط الحدود الذي رسمته اتفاقية بريطانيا وتركيا؛ الحدود التي رسمتها اتفاقية بين قوتين غازيتين على أرض ليست لهما[6]

3.1 مقاومة تمدُّد القوى الكبرى المناوئة

 ولنأخذ هنا التمدّد السوفيتي مثالًا، في أواخر سبعينيات القرن الماضي، إذ اعترفت هيلاري كلينتون علنًا بأن الحكومة الأمريكية ووكالات الاستخبارات أنشأت الجماعات الإسلامية ومولتها، وفي القلب منها القاعدة من أجل محاربة الاتحاد السوفيتي في أفغانستان بدايةً من عام 1979[7].

يشرح ” أندرو جافن مارشال” في دراسته بعنوان “البنية الإرهابية للقاعدة” ما أُطلق عليه “نادي السفاري”، وهو تحالف وكالات الاستخبارات المختلفة التي نَسّقت مع الـ”سي آي إيه”، وتأسس في النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي وكان في القلب منه جماعة الإخوان. هذا التحالف كان يسعى لتوظيف الإسلاميين في مواجهة الاتحاد السوفيتي عدوِّ الغرب، والذي سوّقت له الإسلاموية باعتباره قوة ملحدة معادية للإسلام[8]

يشرح لنا كلٌّ من أليكس إدوارد، وبراين جبسون، في كتابهما “الولايات المتحدة والإخوان المسلمون خاسرون في لعبة التشهير”، الدور الذي لعبته جماعة الإخوان في أفغانستان بعد الغزو السوفيتي لأفغانستان في 1979، شارحَين كيف عملت الـ  “CIA” والمخابرات الباكستانية، جنبًا إلى جنب، مع جماعة الإخوان المسلمين لهزيمة السوفييت. وعندما سأل صحفي من جريدة “نوفل أوبسرفاتور” “زبيجنيو برزيزينسكي” مستشارَ الرئيس كارتر للأمن القومي، عمّا إذا كان قد شعر بالندم على عملية أفغانستان، التي أطلقت العنان للإسلام الأصولي، أجابه: الندم على أي شيء؟ العملية السرية كانت فكرة ممتازة. ما هو الأكثر أهمية في التاريخ العالمي، “طالبان” أم انهيار الإمبراطورية السوفيتية؟ بعض المسلمين المتطرفين، أم تحرير وسط أوروبا ونهاية الحرب الباردة[9]؟

4.1 تفكيك الدول وإعادة تشكيلها

الأمثلة كثيرة؛ فعندما قرّر الغرب ضرورة التخلُّص من يوغوسلافيا، استعان كذلك بالإخوان المسلمين[10]. وفي عام 2005 أشار الأمين العام للأمم المتحدة، آنذاك، كوفي عنان، إلى أن اللوم يقع بالدرجة الأولى على أولئك الذين خطّطوا ونفّذوا المذابح، مثل حصار سراييفو ومذبحة سربرنيتسا، ومن ساعدوهم، ولكنه يقع أيضًا على الدول الكبرى والأمم المتحدة؛ كون الأولى فشلت في اتخاذ إجراءات كافية، والثانية- أي الأمم المتحدة- ارتكبت أخطاء جسيمة قبل وقوع المجزرة وأثنائها؛ ولذلك ستبقى مأساة سربرنيتسا نقطة سوداء في تاريخ الأمم المتحدة إلى الأبد. ويمكننا إضافة الإخوان إلى تلك القائمة، لدورهم الكبير فيما آلت إليه الأمور، خصوصًا علي عزت بيغوفيتش، الذي قال في مذكراته إن حزب الإخوان المسلمين “هو نور هذا الكون”[11].

وإنشاء باكستان مثال معبّر جدًّا كذلك، فقد اقتطع الإنجليز مناطق في شرق الهند وغربها، لإنشاء دولة مسلمة سُمّيت باكستان، عام 1947. وفي العام ذاته، وبدعم الإنجليز أيضًا، اعتمدت الأمم المتحدة خطة تقسيم فلسطين بين العرب واليهود، وأُعلن رسميًّا قيام دولة إسرائيل في عام 1948. وفي كلتا الحالتين أنجزت بريطانيا المهمتين قبل أيام قليلة من استقلال الهند، وقبل إلغاء الحماية عن فلسطين.

كانت إنجلترا تهدف من ذلك إلى أن تُقسّم وتفرّق، حتى تسود ولو عن بُعد. وأثبتت الأيام أن باكستان المسلمة هي دولة وظيفية تُستخدم كخنجر في الخاصرة الهندية، كما إسرائيل اليهودية التي تُستخدم كخنجر في الخاصرة العربية الإسلامية، ودخلت المنطقتان في دائرة جهنمية من الصراعات والحروب، ضاع في رحاها أجيال، وأُهدرت طاقات، وضاعت هدرًا عقود من الزمن.

نستطيع القول إن الإمبراطورية التي غربت عنها الشمس كانت قد هندست نشأة باكستان، وكان من أهم عناصر تحقيق ذلك بنجاح هو استخدامها للإسلاموية الباكستانية، التي كان لها علاقات ممتدة بالإخوانية المصرية. فقد زار محمد علي جناح مصرَ خلال عودته من بريطانيا، وأعرب في تصريح له عن حركة إنشاء باكستان وأثنى البنّا عليه، وقدم نسخة له من المصحف. وفي بيت عبدالرحمن عزام، الأمين العام للجامعة العربية، التقى جناح بالبنّا وأمين الحسيني مفتي عام فلسطين وآخرين، وبعد الاجتماع عقد جناح مؤتمرًا صحفيًّا صرّح فيه بأن الشعب المسلم في الهند لا يشعر بأي غربة بين الأمة الإسلامية بسبب وجود جماعة الإخوان المسلمين فيها، وأن أعضاء الإخوان هم بمنزلة السفراء لحركة إنشاء باكستان الإسلامية. وكان جناح يعرف أن الحركات القومية العربية تؤيد فكرة “غاندي” للقومية الهندية الوطنية والعلمانية.

 وفي ظل تلك الظروف، فإن تأييد الإخوان لحركة إنشاء باكستان كان يُعدّ دعمًا ثمينًا لمسلمي شبه القارة الهندية. وفي عام 1947 قرّر حزب المؤتمر القومي الهندي عقد المؤتمر الآسيوي الدولي لمناقشة الأوضاع المحلية لتحديد مسار مستقبل المنطقة بعد خروج الإنجليز، فأرسل جناح رسالة إلى البنّا عن طريق مصطفى مؤمن في 13 إبريل 1947، فردّ عليه البنّا برسالة جاء فيها: سيدي العزيز الزعيم محمد علي جناح، رئيس الرابطة الإسلامية بالهند، وردت رسالتكم الكريمة مع الأخ الأستاذ مصطفى مؤمن، ونحن لم نكن نجهل المقاصد التي يرمي إليها المؤتمر الآسيوي، ولكن مع هذا رأينا أن نبعث مندوبنا إليه لأسباب من أهمها أن يكون ذلك ذريعة للسفر إلى الهند للاتصال بالحركة الإسلامية ولقائكم شخصيًّا هناك، وبطريق المشافهة لا المكاتبة فقط[12].

كما كان للإخوان دور أيضًا في الغزو الأمريكي للعراق، حيث لفتت وثائق عسكرية للولايات المتحدة النظر إلى أن أردوغان، رئيس حزب العدالة، آنذاك، اجتمع مع الإدارة الأمريكية لتسوية الغنائم المشتركة من العدوان. وعلى الرغم من أن الموقف العلني للإخوان عند غزو العراق كان الإدانة، فإن حزبهم، على الجهة الأخرى، شارك في مجلس الحكم تحت إدارة بول بريمر، الحاكم الأمريكي للعراق، وفي حكومات الاحتلال المتعاقبة[13].

5.1 محاولة إفشال الدولة الوطنية العربية[14]

من يحلّل كثرة الحديث والتنظير عن نهاية الدولة الوطنية العربية أو فشلها، أو دولة ما بعد الاستقلال العربية، خصوصًا في الأدبيات الإسلاموية والأدبيات الغربية المتعاطفة معها، يستطيع أن يفهم كيف تربّى الإخوان على أن الدولة الوطنية عدو لهم، وكيف اتخذوها عدوًا، وكيف أراد بعض الباحثين المتعاطفين مع الإخوانية عزلنا عن حركة التاريخ؛ بادّعائهم فشل أو حتمية فشل الدولة الوطنية العربية عمومًا، وذلك بادعاء تناقضها البنيوي بين الرغبة في التخلُّص من الاستعمار السياسي من جانب، والوقوع في نموذجه التحديثي الثقافي “الدولة الوطنية” من جانب آخر. فكتب على سبيل المثال، الفرنسي “برتراند بادي” كتابه “الدولة والمجتمع في الغرب وفي دار الإسلام”، الصادر عام 1996، والذي روج له الإسلامويون؛ لأنه ينظر إلى الدولة في العالم العربي بأنها “دولة مستوردة”، معتبرًا أنها شكل مؤسسي مجرد وغريب عن الواقع المجتمعي والثقافي للعرب وللمسلمين؛ لذلك فمصيرها الحتمي هو التحلّل والانهيار. فهي دولة متخيَّلة تم فرضها قسرًا من أعلى على المجتمع والمواطنين، وهذا مَكمن فشلها المحتوم.

من الباحثين، مثل “برتراند بادي” من أراد بتنظيره ذلك أن يستكمل العزلة الحضارية التي فرضها العثمانيون على العرب، ولكن بشكل آخر، بسجنهم معرفيًّا في لحظة زمنية معينة من تطورهم لتأبيدهم فيها، واعتبار تلك اللحظة الزمنية هوية تقارَن باللحظة الآنية للثقافة الغربية كأنهم قد ولدوا فيها [15].

ومن أكثر الخطابات الرسمية العربية تعبيرًا عن خطورة الإسلاموية على الدولة الوطنية العربية واستخدام بعض الأطراف الدولية لها ضالتها لإذكاء النزعات الطائفية لتحقيق أجنداتها ومصالحها في المنطقة، ما صرح بها الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي في افتتاحية حوار المنامة عام 2015، حيث قال موجّهًا حديثه للقادة الحضور:

“لعلّ دولكم الشقيقة والصديقة ومؤسساتكم الموقرة تشارك مصر شواغلها إزاء ما يصيب مفهوم “الدولة الوطنية” من ضرر بالغ جراء ما يُقتَرَف في منطقتنا بحق هذا المفهوم الذي تم تطويره على مدى قرون مضَت؛ تحقيقًا لنظام سياسي واقتصادي واجتماعي وفقًا للدستور والقانون، بما ينظّم العلاقة بين الشعوب والحكومات، ويُقرّ الحقوق للمواطنين، ويرتب عليهم الالتزامات، ويضع الدول أمام مسؤولياتها إزاء مواطنيها وجوارها الإقليمي، وكذا على الصعيد الدولي”.

لقد أضحت الميليشيات والجماعات الخارجة عن القانون والحاملة للسلاح في سباق مع ما هو مستقرّ من مبادئ احتكار الدولة لأدوات فرض القانون، بل أصبحت فكرة سيادة القانون في بعض دولنا تنكسر أمام نزعات طائفية ودينية ومحلية وغيرها. فنجد أن كل مجموعة من المواطنين أو عشيرة تشترك في اللون أو العرق أو المذهب تُعرّف نفسها بحسب هويتها الأضيق وتخشى الآخر، بدلًا من التعايش معه في سياق منطق الوطن الجامع الحافظ لمصلحة مواطنيه أيًّا كانت انتماءاتهم الدينية أو المذهبية أو العرقية.

ووجَدت بعض الأطراف ضالتها في الجماعات الإرهابية، وقامت بإذكاء تلك النزعات الطائفية البغيضة لتحقيق أجنداتها ومصالحها في المنطقة التي تؤثر سلبًا على مفهوم الدولة من حولها، واعتمدت تلك الأطراف على عوامل طائفية وشرائح مجتمعية تمكنت من استقطابها لتمرير أجندات خاصة هدفها توسيع نفوذها على حساب مفهوم الدولة في المنطقة العربية.[16]

6.1 إجهاض الحداثة

يؤكد فلاسفة كبار بحجم فتحي المسكيني، أن الإسلاموية من الأسباب الرئيسية في إجهاض الحداثة العربية، مثلما حدث فيما أُطلق عليها ثورات الربيع العربي التي حوّلتها الإسلاموية إلى “برامج هووية لتعطيل المواطنة المدنية النشطة، وتعويضها بنزعات أخوية وجماعوية يُمِنّون على الناس إسلامهم، وكأنّهم اخترعوه من عند أنفسهم، وذلك بواسطة انتخابات على الهوية تضع مستقبل الدولة المدنية، كما هي كذلك، في خطر محدق. ومتى صارت الدولة في خطر فإنّ مستقبل العقل في ثقافةٍ ما صار أبعد ما يكون عن خبر سارّ”[17].

لذا، كان تحول ما سمّي الربيع العربي إلى صراع هوية حتميًّا تُعطَّل فيه الدولة والمواطنة وتُفعَّل فيه النزعات الطائفية والعرقية التي ما كان لها إلا أن تؤدي إلى تشريد الملايين ومقتل مئات الآلاف وتدمير دول، وعودة أخرى عشرات السنين إلى الوراء على المستويين الاقتصادي والاجتماعي، كما حدث بالفعل. قراءة معمقة لتاريخ الإخوانية لا يمكن لها إلا أن تؤكد أن الإسلاموية خُلقت لتُجهِض أي حداثة عربية.

لنأخذ مصر مثالًا لتوضيح ذلك[18]. فدولة محمد علي توازت مع الفكر المصري ولم تتقاطع كثيرًا معه برغم أنها هي من أتاحت له فرصة الوجود ووفرت له الرعاية، فالطهطاوي كان مبشّرًا أكثر منه معبرًّا عن الدولة والمجتمع كما قيل. ومثل عصر الخديوي إسماعيل، تلاقى هذا الفكر مع الدولة بهدف التأثير في المجتمع، فكان علي مبارك المفكر المنفّذ المعبّر عن الدولة، والمؤثر في المجتمع بالفكر، وفي العصرين (محمد  علي، والخديوي إسماعيل)  تم إبعاد الدين عن المجال العام السياسي إلى حدّ كبير منذ تحجيم محمد علي دور رجال الدين في السياسة، خصوصًا في المجال الدولي، ولكن شهد أواخر عهد إسماعيل وبداية عهد توفيق رجوع رجال الدين للتأثير، متمثلًا في ظهور جمال الدين “الأفغاني” ومحمد عبده وتأثيرهما على المجتمع، خصوصًا في صفوته وعلى فئة من الجيش، إذ تمخّض ذلك عن الثورة العرابية، التي عُرفت باندماج الفكر بالثورة عن طريق علماء الدين وبمسوغات اجتماعية وسياسية[19].

بعد اختفاء الأفغاني والنتائج الكارثية للثورة العرابية، ومن أهمها احتلال الإنجليز لمصر، عاد محمد عبده ليقصر جهود رجال الدين على إصلاح التعليم وتثبيت صورة الإسلام المدني العقلاني، وضرورة إبعاد رجل الدين عن السياسة وعن إقحام الدين فيها. آتت تلك الفترة أُكلها في ثورة 1919، وهي اللحظة التي تَطابق فيها الفكر مع الثورة المدنية ضد المحتل، ثم الفكر مع المجتمع والدولة إلى حدّ كبير في الفترة الوفدية[20].

وبعد وفاة محمد عبده، انقسم المشهد الفكري إلى اتجاهين، فأعاد رشيد رضا، ومن بعده حسن البنّا، الفكر الديني المنغلق والمتشدّد، والذي تتحكم فيه السياسة، إلى المشهد السياسي استكمالًا لما بدأه الأفغاني، وأكمل أحمد لطفي السيد وعلي عبدالرازق وطه حسين الطريق الذي بدأه الطهطاوي ومحمد عبده في نهاية حياته، ليعطُوا له أبعادًا أكثر حداثية ومدنية. ثم استمر الاتجاهان في التجادل الفكري والتنافس على التأثير في المجتمع وفي الدولة حتى عام 1938، العام الذي كشفت فيه جماعة الإخوان المدعومة لوجستيًّا وماليًّا عن مشروعها الشمولي الحركي الشعبوي التمردي العابر للدولة الوطنية باسم الإسلام. من هنا بدأ التمزق واستنزاف مكتسبات الدولة المصرية من الإصلاح ومن الحداثة، والتنوير وتراكم المعرفة والخبرات.. إلخ. فقد دخلت حركة الإخوان في عداء مع كلّ من كان في سدة حكم مصر، وجيّشت شريحة وازنة من المجتمع ضد مفهوم الدولة الوطنية كعدو لمفهومَي الأمة والخلافة والشريعة بمفهومها المؤدلج الطائفي.[21]

بناء على المثال المصري، يمكننا القول إن الإسلاموية هي السبب الرئيسي في إجهاض الحداثة العربية، وإن لحظة ما سُمّى الربيع العربي مثّلت اللحظة الكاشفة للكامن تحت الرماد الهوياتي، فبدلًا من أن نتجادل حول كيفية الإدارة الرشيدة للدولة الوطنية المواطنية وكيفية البناء والتنمية من خلالها، تركزت النقاشات حول أسئلة من قَبيل من نحن، وكيف وبماذا يجب علينا أن نحكم.. إلخ[22]؟

وسمعنا إجابات عن تلك الأسئلة تتمحور حول أفكار عابرة لحدود الدولة الوطنية، وظهرت فجأة موجة من المؤلفين والمترجمين الشبّان ليترجموا الأعمال المناهضة لمفهوم الدولة الوطنية إلى اللغة العربية، وأسيل الكثير من الحبر بكتبٍ إما تضع الدولة مقابل المجتمع أو مقابل الدين أو الثقافة. وفي هذا الإطار أيضًا يجب فهم المآلات الكارثية التي كانت محتومة لما سُمّي الربيع العربي بوصول من لا يؤمن بالدولة الوطنية إلى سدة حكمها بمساعدة القوى الفاعلة في الغرب، فقد أسهمت الولايات المتحدة في تفجير الأوضاع، كما فعلت سابقًا مع محمد مصدق في إيران؛ لتمهد الأرض لوصول الإسلامويين، كما حدث بعد ذلك عام 1979؛ يؤكد ذلك كلّه رسائل هيلاري كلينتون وحتى مذكرات أوباما، وحتى أردوغان الذي قال يومًا: إن الحالمين بحدوث ربيع تركي واهمون، تركيا ليست الشرق الأوسط، وهي أكبر من أن يقدِر أحد على ابتلاعها[23].

بعد أن حاولنا توضيح الدور الذي تلعبه الإسلاموية الإخوانية في تحقيق المصالح الجيواستراتيجية للقوى غير العربية المتمثل في وأد الحركات الوطنية الاستقلالية، والانقلابات على القادة غير الخاضعين، ومقاومة تمدّد القوى الكبرى المناوئة للغرب، وتفكيك الدول وإعادة تشكيلها، وإفشال الدولة الوطنية العربية، وإجهاض الحداثة، سنحاول في الجزء الآتي من الدراسة استشراف مآلات ذلك الدور في مستقبل العلاقات الدولية في السنوات المقبلة. 

2. هل ستخرج جماعة الإخوان من معادلات العلاقات الدولية؟

تنحصر مآلات دور الإخوان، من وجهة نظرنا، في ثلاثة سيناريوهات؛ الأول، نهاية الاستخدام الغربي للإسلاموية، والثاني، إعادة التدوير الغربي لاستخدام الإسلاموية، والأخير، دخول قوى أخرى إلى لعبة استخدام الإسلاموية بدلًا من الغرب أو معهم.

1.2 سيناريو نهاية الاستخدام الغربي للإسلاموية

في كتاب بعنوان

  “ L’islam politique à l’ère du post-printemps arabe, Sommes-nous entrés dans l’ère du nécro-islamisme“[24] 

 بمعنى “الإسلام السياسي في زمن ما بعد الربيع العربي.. هل حان موت الإسلاموية؟” شرح مؤلِّفا الكتاب كيف فقدت الإسلاموية بعد الربيع العربي حواضنها في نطاق الدولة الوطنية والمنطقة العربية والعالم، والتي كانت تدعم الإخوان والإسلاميين بشكل كبير قبل عام 2011، حيث تلخّصت ردة فعل الإخوان، على سبيل المثال، على ذلك الفقد في صورتين: الأولى، العودة التامة إلى خطابهم المؤسس بما يتضمّنه من تكفير الآخر والتنظير والتبشير بالخلافة والشريعة والشرعية الدينية للحكم السياسي واحتكار التحدث باسم الدين، وغير ذلك. وهذا ما أسمّيه rétro-islamisme  والذي يجسد مرحلة تورّط الإخوان بشكل غير مسبوق في التطرف والعنف “حالة مصر”. أما الأخرى فتمثلت في التخلي بشكل كلّي عن كل المبادئ المؤسسة للإسلاموية، وهو ما يعدّ تفريغًا للإسلاموية عن كل ما كان يميزها عن التيارات الأخرى العلمانية أو الإنسانوية.. إلخ، وهذا ما سميّته néo-islamisme[25].

وكلتا الطريقين ستؤدي إلى موت الإسلاموية nécro-islamisme لأنها في صورتها المبدئية، أي نمط تديّنها المؤسس، لم تعُد مقبولة وفقدت سحرها بشكل كامل، وفي حالة التخلّي عن كل مبادئها المؤسسة تكون قد اندثرت، أي أنها نفَت نفسها بنفسها. فالمصير المحتوم هو موت الإسلاموية؛ أي الفكر السياسي لحركات الإسلام السياسي المتطرفة، ففي مرحلة بعد ما سُمّي الربيع العربي، فقدت الإسلاموية الحاضنةَ المجتمعية التي كانت تتمتع بها، إذ تغيرت الذهنية العربية الإسلامية غير الإسلاموية، وبذلك يصعب أن تظل تلعب الدور ذاته الذي كانت تلعبه قبل ما سمّي الربيع العربي [26].

ولا يعني زوال حركات الإسلاموية الاختفاء الفوري أو الاندثار التام لها ولفكرها، ولكن يعني أن التأثير الذي كان لديها قبل الربيع العربي لن يعود أبدًا كما كان. هو نوع من الموت الإكلينيكي يجعل حركات الإسلاموية لا تغادر نطاق الهامش. ولا يعني زوال حركات الإسلاموية الاختفاء الفوري أو الاندثار التام لها ولفكرها، ولكن يعني أن التأثير الذي كان لديها قبل الربيع العربي لن يعود كما كان. وبالتالي يصبح الاستخدام الغربي غير ذي جدوى لأنها أصبحت ورقة محروقة وعبئًا جيواستراتيجيًّا عليه بعد أن كانت أداته المفضلة والناجعة لتحقيق أهدافها الجيواستراتيجية كما رأينا حتى مرحلة ما سمّي الربيع العربي[27].

 هناك مؤشرات على التخلي البطيء للغرب عن الإسلاموية، حيث أدرجت وزارة الخزانة الأمريكية، نهاية عهد ترامب، فرع تنظيم داعش الإرهابي في سيناء بمصر، وحركة “حسم” المرتبطة بتنظيم الإخوان، على قائمة الإرهاب العالمي، وشمل تصنيف الولايات المتحدة أيضًا شخصيتَين مرتبطتين بتنظيم “حسم”، وهما علاء السماحي، الذي يُعتقد بأنه مؤسس حركة “حسم” وهو مصري الجنسية، ويوجد في تركيا حاليًّا، وقيادي آخر في الحركة يدعى يحيى موسى ويسكن في تركيا أيضًا. ولم تشهد فترة حكم “بايدن” حتى الآن تغيّرًا كبيرًا في التعامل مع جماعة الإخوان، بعكس ما كان متوقّعًا[28].

كما أن تقرير “جنكيز- فار” الذي أعدّته لجنة التحقيق في أنشطة جماعة الإخوان المسلمين في المملكة المتحدة بقيادة السير جون جنكيز، السفير البريطاني السابق لدى الرياض، وتشارلز فار رئيس جهاز مكافحة الإرهاب، عدّ الإخوان جماعة سرّية عابرة للحدود لها صِلات مشبوهة داخل العالم الإسلامي وخارجه، وأن بعض قطاعات الإخوان لديها صلة غامضة بالعنف، وأن الكثيرين اعتمدوا على فكر الإخوان وتنظيمهم كمعبر للتطرف العنيف[29].

2.2 سيناريو إعادة التدوير الغربي لاستخدام الإسلاموية

كثيرة هي الخطوات المهمة التي بُذلت في العالم العربي في طريق ترسيخ قيم الإسلام غير الإسلاموي، التي سحبت البساط بشكل كبير من تحت أقدام الإسلاموية الإخوانية؛ وبالتالي أبطلت إلى حدّ كبير تأثير استخدام الغرب لها لتحقيق أهدافه الجيواستراتيجية، ومن أهم تلك الخطوات:

1. وثيقة مكة المكرمة، التي أقرّ فيها 1200 شخصية إسلامية من 139 دولة يمثّلون 27 مكونًا إسلاميًّا من مختلف المذاهب والطوائف؛ دستورًا تاريخيًّا لإرساء قيم التعايش بين أتباع الأديان والثقافات والأعراق والمذاهب في البلدان الإسلامية من جهة، وتحقيق السلم والوئام بين مكونات المجتمع الإنساني كافة من جهة أخرى.

2. وثائق الأزهر؛ وثيقة التجديد في الفكر والعلوم الإسلامية، وثيقة الأخوّة الإنسانية، إعلان الأزهر العالمي للسلام، إعلان الأزهر للمواطنة والعيش المشترك، وثيقة الأزهر لنبذ العنف، وثيقة الأزهر للحريات التي على اختلاف موضوعاتها وسياقاتها تمثّل نقدًا لكل أسس الإسلاموية، وانحيازًا لقيم الحوار والتعايش.

3. مجلس حكماء المسلمين، الذي يهدف إلى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة وإطفاء الحرائق التي تجتاح جسدها وتهدّد القيم الإنسانية ومبادئ الإسلام السمحة، وتُشيع شرور الطائفية والعنف التي تعصف بالعالم الإسلامي منذ عقود[30].

وفي هذا الإطار أدرك الغرب أن الاستخدام التقليدي للإخوانية أصبح غير ذي جدوى لأنها أصبحت ورقة محروقة وعبئًا جيواستراتيجيًّا عليه بعد أن كانت أداته المفضلة والناجعة لتحقيق أهدافها الجيواستراتيجية؛ وذلك بتفجير المجتمعات وتهديد الحكومات العربية كما رأينا حتى مرحلة ما سُمّى الربيع العربي، فيقرر (الغرب) إعادة تدوير استخدام الإسلاموية لينحصر في دور التشويش وتزييف الحقائق واختلاق الوقائع والتلاعب بالحقائق وإنكار الواقع، وذلك لتصعيب الوصول إلى حقائق الأشياء كما تفعل  بعض القنوات  التلفزيونية  والصحف والمواقع  في عواصم عدة  في المنطقة وخارجها.

3.2 سيناريو دخول قوى جديدة إلى لعبة استخدام الإسلاموية بدلًا من الغرب أو معه[31]

استضافت قناة “روسيا اليوم” مَن قدّمته مفكرًا وفيلسوفًا روسيًّا، وزعيم الحركة الأوراسية الدولية ألكسندر دوغين، وذلك عندما حلّ ضيفًا على برنامج “أبعاد روسية”، في 31 ديسمبر 2019، ليجيب عن أسئلة حول سياسة روسيا الخارجية خلال السنوات العشر الأخيرة، ونمو القطب الأوراسي، وتأثيره على العالمي واستراتيجيته نحو منطقة الشرق الأوسط.

في هذا اللقاء، أشار “دوغين”، المنظِّر والباحث المثير للجدل، والذي يعتبره بعض المحلّلين أحد الملهمين الرئيسيين لروسيا الجديدة، إلى أنه بالتعاون الوثيق مع الإسلام السياسي، “ستكون روسيا من الآن فصاعدًا رافعةً لقطب إسلاميّ مستقلّ وجيش لتحرير العالم العربي من ظلم الولايات المتحدة ومن الخضوع للهيمنة الغربية. ويري “دوغين” “أن هذا التحالف سيوحّد العالم الإسلامي في النهاية، وسوف تذهب روسيا والإسلام بنسخته الإسلامية إلى اليمن وليبيا ومصر، وسوف ترحِّب بهما شعوب هذه البلدان بالزهور”[32].

كما يمكن أن تؤشر زيارة وفد “حماس” برئاسة عضو المكتب السياسي موسى أبو مرزوق، إلى العاصمة الروسية موسكو في سياق الحرب الأخيرة في غزة، إلى قدرة موسكو على لعب دور مستقبلي في استخدام الإسلاموية، فخلافًا للولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، لم تُدرِج موسكو حركة “حماس” على “لائحة الإرهاب”، بل حافظت على قنوات اتصال ثابتة معها[33].

الخاتمة

حاولت تلك الدراسة توضيح الدور الذي تلعبه الإسلاموية الإخوانية في تحقيق المصالح الجيواستراتيجية للقوى الغربية الكبرى، والمتمثل في وأد الحركات الوطنية الاستقلالية، والانقلابات على القادة غير الخاضعين، ومقاومة تمدّد القوى الكبرى المناوئة للغرب، وتفكيك وإعادة تشكيل الدول، وإفشال الدولة الوطنية العربية، وإجهاض الحداثة. كما حاولت الدراسة استشراف مآلات ذلك الدور في المستقبل من خلال ثلاثة سيناريوهات؛ سيناريو نهاية الاستخدام الغربي للإسلاموية، وسيناريو إعادة التدوير الغربي لاستخدام الإسلاموية، وسيناريو دخول قوى أخرى لعبة استخدام الإسلاموية بدلًا الغرب أو معه.

ويمكننا مقارنة الصراعات الطائفية والمذهبية والحروب السياسية والفكرية التي تعيشها الكثير من الدول والمجتمعات العربية في العشرية الثانية من هذا القرن، كنتيجة لهذا الاستخدام الجيوسياسي  للإخواني من قِبل  قوى  دولية  وإقليمية  فيما سمّي الربيع العربي، بالظروف والصراعات والأحداث الأليمة والحروب الدينية، والتي تُعرف أيضًا باسم حروب الإصلاح (والإصلاح المضاد)، التي عاشتها القارة الأوروبية في القرنَين السادس عشر والسابع عشر وبداية القرن الثامن عشر، قبل أن تصل إلى الاستقرار الأمني والسياسي والديمقراطية والدولة الحديثة. وعلى غرار الربيع العربي، لم يكن الدين هو السبب الوحيد لاندلاع تلك الحروب، فقد لعبت بلا شك عوامل أخرى مثل الطموحات الإقليمية، وصراعات القوى العظمى، دورًا في تلك الحروب. وأجبر ما سمّي الربيع العربي عالمنا العربي على أن يمرّ بتلك التجربة الأليمة والدموية التي مرّت بها أوروبا.

بعد تلك الحروب الدينية دخلت أوروبا في التنوير بتبنّي مجموعة من الأفكار، التي مثّلت ثورة رمزية أو بارادايمية، وركّزت على سيادة العقل والتجريب والمنهج العلمي بوصفه مصدرًا أساسيًّا للمعرفة، وعلى المُثل العليا كالحرية والرقي والتسامح والإخاء والحكومة الدستورية وفصل الكنيسة عن الدولة والحريات الفردية والتسامح الديني.. إلخ. وكان في القلب من ذلك كله معاهدة وستفاليا عام 1648، التي أرست أسس الدولة القومية ومفاهيم السيادة الوطنية، وعدم التدخل في شؤون الدول الداخلية وجعل الولاء لرابطة المواطنة مقدَّمًا على الولاء لنمط التدين، وللطائفة والمذهب والعرق.

وللاستفادة من تلك التجربة الأوروبية، ولإبطال استخدام أي قوة دولية الإسلامويةَ الإخوانية في تحقيق مآربها الجيوسياسية، ينبغي على العالم العربي الانخراط الكامل في ثورة رمزية، بتعريف عالم الاجتماع الفرنسي بيير بورديو، أي ثورة تزعج الهياكل المعرفية التي كانت قائمة قبل الربيع العربي، وبالتالي تزعج وتتحدى الهياكل الاجتماعية، وتفرض بنًى معرفية جديدة بتعميمها لتستقرّ وتترسخ في الذوات المكونة للمجتمع. ويمكن لنا أن نسمّي تلك المرحلة أيضًا، التي يجب على العالم العربي الانخراط فيها، ثورة بارادايمية أو نقلة بارادايمية paradigm shift ، بمفهوم الفيلسوف الأمريكي، توماس كون؛ أي ثورة ضد التصورات والمفاهيم والممارسات المعطوبة التي سادت في فترة ما سمّي الربيع وما قبله، وفي القلب منها علاقة الدين بالسياسة ودور المثقف ودور الدولة والمجتمع ونظريات التغيير.. إلخ، والتي كانت تمثل بيئة مثالية لاستخدام بعض القوى والأجهزة الدولية والإقليمية للإسلاموية الإخوانية ككبسولة تفجير (Detonator) للمجتمعات وعنصر ضاغط ومهدّد للحكومات العربية[34].

ولكي ننعتق تمامًا من استخدام الإسلاموية الإخوانية من قِبل القوى الدولية والإقليمية لتحقيق مصالحها على حساب المجتمعات العربية، يجب أن نخطو خطوات سريعة في طريق ترسيخ تعليم الفكر النقدي؛ القادر الوحيد على مقاومة كل أشكال الاستلاب والاغتراب والاعتقاد بلا انتقاد، والقادر الوحيد على تنمية التحيز إلى قيم التسامح والتفاهم والسلم والعيش المشترك. [35]

من جانب آخر، يبدو أن الحوار على مستوى النخبة بين الغربيين والعرب من أهم خطوات مقاومة استخدام بعض الحكومات والأجهزة الدولية والإقليمية للإسلاموية الإخوانية في تحقيق الأهداف الجيوسياسية لها على حساب استقرار العرب، وحقهم في الحياة والنماء والتطور.

 



[1] لمزيد من التفصيل والأمثلة والأدوار الأخرى يمكن الاطلاع على كتاب وثائق المؤامرة ومخططات التقسيم لمؤلفه مختار شعيب، الصادر عن الشقري للنشر عام 2018. 

[2] تناولت في مقالات سابقة بعض تلك الأدوار متفرقة، لذا سأعتمد على بعض العبارات الواردة في تلك المقالات دون تغيير كبير فهي لي ككاتب أصيل لتلك المقالات مع الإشارة إليها كما يجب بالطبع.

[3] تدّعي البي بي سي العربية أن هذا الاستخدام كان دون علم الإخوان، دون أن تقدم دلائل مقنعة على ذلك، متجاهلة أن الإخوان لم يكذّبوا ذلك في حينها ولا حتى الآن بعد نشر تلك الوثائق. الغرض في وجهة نظري هو عدم فضح علاقة الإخوان بالمخابرات البريطانية.

 عامر سلطان، وثائق سرية: بريطانيا استغلت اسم الإخوان المسلمين في حربها السرية على ناصر وسوكارنو وماو تسي دونغ، بي بي سي، 6 أكتوبر 2019،

https://www.bbc.com/arabic/49944531

[4] عامر سلطان، وثائق سرية: بريطانيا استغلت اسم الإخوان المسلمين في حربها السرية على ناصر وسوكارنو وماو تسي دونغ، بي بي سي، 6 أكتوبر 2019،

https://www.bbc.com/arabic/49944531

[5] Wael Saleh, La prise de décision politique chez les Frères musulmans convictions idéologiques ou considérations opportunistes ?, (Frankfurt: Dictus Publishing: politics and democracy, 2013), 168 pp. https://www.dictus-publishing.eu/catalog/details/store/ru/book/978-3-8473-8618-6/la-prise-de-d%C3%A9cision-politique-chez-les-fr%C3%A8res-musulmans?search=wael%20saleh

[6] المرجع السابق. 

[7] L’aveu de Hillary Clinton – Nous avons créé nos ennemis ( Al Qaeda etc..),

https://www.youtube.com/watch?v=4nF81eYsokA

[8] انقلاب السحر على الساحر: العنف المسلح من أفغانستان إلى بلاد العرب، تقرير، المركز العربي للبحوث والدراسات، 14 يوليه 2014،

http://www.acrseg.org/10026

[9] سامح محمد إسماعيل، الولايات المتحدة والإخوان المسلمون، خاسرون في لعبة التشهير، كتبه: أليكس إدوارد وبراين جبسون ترجمة: ياسمين عزيز، مؤمنون بلا حدود، 19 ديسمبر2020،

https://vu.fr/gHDsx

[10]انقلاب السحر على الساحر: العنف المسلح من أفغانستان إلى بلاد العرب، تقرير، المركز العربي للبحوث والدراسات، 14 يوليه 2014،

http://www.acrseg.org/10026

[11] خالد الغنّامي، دور الإخوان المسلمين في مأساة البوسنة، الإمارات 24، 10 سبتمبر 2017،

https://24.ae/article/378187/

[12] عبد الرشيد الترابي، حركة إنشاء دولة باكستان الإسلامية والإمام الشهيد حسن البنّا رحمه الله تعالى. من خلال رسائل الإمام الشهيد إلى القائد محمد علي جناح رحمه الله تعالى مؤسس باكستان،

https://vu.fr/axBTl

[13] الإخوان المسلمون في العراق.. شركاء الاحتلال وأدعياء المقاومة، بوابة الحركات الإسلامية، 21 فبراير 2019،

https://www.islamist-movements.com/2793

[14]وائل صالح، لم تفشل الدولة الوطنية.. بل فشلت الإسلاموية، العين الإخبارية، 2020/10/21،

https://al-ain.com/article/the-national-state-islamism-failed

[15] وائل صالح، لم تفشل الدولة الوطنية.. بل فشلت الإسلاموية، العين الإخبارية،2020 / 10 / 21

https://al-ain.com/article/the-national-state-islamism-failed

[16] نصَّ كلمة السيسي خلال الجلسة الافتتاحية لـ”منتدى المنامة للحوار” بالبحرين، الأهرام،30 – 10 – 2015،

http://gate.ahram.org.eg/News/789182.aspx

 

[17] فتحي المسكيني، الحداثة المغدورة.. فلاسفة الوقت الضائع، كوة، 10 أكتوبر 2020،

https://www.madaratthakafia.com/2023/05/mad-details30052023-01.html

[18] تفصيل المثال المصري، مأخوذة بالكامل من مقالة وائل صالح، “لم تفشل الدولة الوطنية.. بل فشلت الإسلاموية”، العين الإخبارية، 2020 / 10 / 21،

https://al-ain.com/article/the-national-state-islamism-failed

ويمكن الاطلاع أيضًا على الكتاب الحادي عشر من موسوعة الإخوان المسلمين، تريندز للبحوث والاستشارات، مفهوم الدولة الوطنية عند جماعة الإخوان، 2023، ص.  69.

[19] المرجع السابق. 

[20] المرجع السابق. 

[21] المرجع السابق. 

[22] المرجع السابق. 

[23] 23 أردوغان: من يحلم بربيع تركي، واهم وبلادنا ليست الشرق الأوسط، روسيا اليوم،03.05.2019 ،

[24] Wael Saleh et Patrice Brodeur, L’islam politique à l’ère du post-printemps arabe, Sommes-nous entrés dans l’ère du nécro-islamisme, Éditions Harmattan, 2017.

[25] المرجع السابق. 

[26] المرجع السابق. 

[27] المرجع السابق. 

[28] بايدن والإخوان.. تغيير مرتقب في السياسة الأميركية، 

[29] روبير الفارس، الدكتور وائل صالح في حوار خاص سقوط أردوغان وتميم يقضي على حركات الإسلام السياسي، بوابة الحركات الإسلامية، 17 يونيو 2020، 

https://www.islamist-movements.com/53863

[30] وائل صالح، الإسلام الإنسانوي.. موت الإسلاموية، العين الإخبارية، 2020 / 10 / 12،

https://al-ain.com/article/humanistic-islam-death-islamism

[31] لمزيد من التفصيل انظر دراسة وائل صالح “تحالف الإسلاموية والأوراسية الجديدة.. الخطر الأعظم”، مركز المسبار، الكتاب الثامن والستون بعد المئة، ديسمبر 2020،

[32] حول مفهوم الأوراسية، انظر المحاضرة التي ألقاها ألكسندر دوغين، بعنوان: “الاوراسية كفلسفة سياسية”، 

http://www.evrazia.tv/content/aleksandr-dugin-evraziystvo-kakpoliticheskaya-filos

كذلك محاضرته بعنوان: “الفلسفة الأوراسية في طريقها نحو الظهور”:

http://eurasiainform.md/evrazijstvo-neuklonno-dvizhetsya-k-svoemuzenitu-aleksa

[33]الشرق، لماذا استقبلت روسيا وفد “حماس” في خضم حرب غزة؟، الشرق، 29 أكتوبر 2023، 

https://vu.fr/MRPOT

[34]  وائل صالح، الإسلام الإنسانوي… موت الإسلاموية، العين الإخبارية، 2020 / 10 / 12،

https://al-ain.com/article/humanistic-islam-death-islamism

[35] المرجع السابق.  

المواضيع ذات الصلة