يمثل قرار الحكومة الفرنسية مؤخرًا إجراء تحقيق حول جماعة الإخوان المسلمين نقطة تحول مهمة في تعاملها مع التأثيرات الخارجية، في وقت تتزايد فيه المخاوف من التهديد المحتمل للجماعة على القيم الأساسية للجمهورية الفرنسية المتمثلة في العلمانية والتماسك الاجتماعي.
استجابة لمخاوف قائمة منذ أمد طويل
يأتي هذا التحقيق عقب سلسلة من الإجراءات الحازمة التي اتخذتها السلطات الفرنسية، من بينها اتخاذ وزير الداخلية قرارًا بطرد دعاة الكراهية، وإعلان وزير التعليم حظرَ ارتداء العباءة في المدارس. وبينما يمثّل موضوع التأثيرات الخارجية هاجسًا للأوساط السياسية عشية الانتخابات الأوروبية والأمريكية، تشير هذه الإجراءات إلى وجود وعي متزايد بضرورة مواجهة الأيديولوجيات الخارجية التي تتعارض مع مبادئ الجمهورية.
لم يأتِ قرار إجراء التحقيق استجابة للأحداث الأخيرة فحسب، بل يمثل تتويجًا لجهود بذلتها على مدى سنوات مختلف الجهات الفاعلة؛ خاصة في مجلس الشيوخ الفرنسي، الذي دعا باستمرار إلى مزيد من اليقظة تجاه من يُنظر إليهم على أنهم “أعداء الجمهورية”. وتكليف المحافظ كورتاد والسفير غوييت، وهو خبير في هذا المجال، يشير إلى حرص الحكومة على إجراء تحقيق شامل ودقيق.
التهديد المتزايد للتطرف
يركز التحقيق على تزايد النشاطات المعادية للسامية والضعف الملحوظ لمبادئ الجمهورية في المجتمع الفرنسي. ويُنظر إلى الحرب في غزة على أنها أدت إلى تفاقم هذا الاتجاه.
أحد المخاوف الرئيسية هو الجرأة المتزايدة للشباب في تحديهم للعلمانية؛ إذ تمثل هذه التصرفات استراتيجية متعمدة تهدف إلى تقويض أسس الجمهورية. هذه الأيديولوجية الجامدة تتسلل وتنتشر تدريجيًّا وتدمر القيم المجتمعية ببطء، وهي تتبع استراتيجية تقوم على إضعاف الجمهورية عن طريق مهاجمة أسسها، وعلى رأسها نظام التعليم والعلمانية. وهي تنتشر كما تنتشر الكثير من الجسيمات الدقيقة من دون أن نراها أو نشعر بها، ولكنها تُهضم بشكل أسرع ومن دون علمنا تقريبًا.
تحذيرات مستمرة
هناك حاجة إلى معالجة التهديد الذي تمثّله جماعة الإخوان المسلمين منذ أمد طويل. فما هي حالة التهديد؟ هناك منذ فترة طويلة تحذيرات متواصلة للحكومات المتعاقبة حول مخاطر التساهل والسذاجة في مواجهة هذه الأيديولوجية. وتمثل القوائم الانتخابية، والانتخابات، والنقاش حول شهادات العذرية بعض الأمثلة على كيفية تغلغل هذه الأيديولوجية في المجتمع الفرنسي. والانتشار المستمر لهذه الأيديولوجية يمثّل تهديدًا للمجتمعات في فرنسا وغيرها من الدول الديمقراطية.
يُعد القانون الذي صدر مؤخرًا لتأكيد حظر شهادات العذرية خطوة إيجابية، لأنه يدل على قدرة الجمهورية على مقاومة بعض الضغوط، ولكنه يشير أيضًا إلى خطورة الوضع الذي استدعى إصدار هذا القانون. وفرنسا تحتاج أيضًا إلى قانون لحماية الأطباء الذين يتعرضون للتهديد في حالة عدم موافقتهم على إصدار هذه الشهادات المهينة لكرامة المرأة.
مكافحة تأثير الإخوان المسلمين
تمثل جماعة الإخوان المسلمين خطرًا حقيقيًّا، واحتواء تأثيرها هو أحد الأهداف الأساسية للتحقيق الذي يشمل الكشف عن شبكاتها المالية وتفكيكها، وضمان التعاون مع الشركاء الأوروبيين من أجل اتباع نهج موحد، والمراقبة الدقيقة لنشاطات جمع التبرعات.
ويجب أن تشمل المهمة أيضًا كبح شبكات التمويل المتمثلة في الرابطات والمؤسسات، وضمان تناغم الضوابط الأوروبية عن طريق تدقيق عمليات جمع الأموال؛ وتجدر الإشارة إلى مؤسسة مثيرة للجدل تُعرف بارتباطها بالإخوان المسلمين. وتُنفَّذ عملية “جمع الضرائب” الخاصة بها في جميع أنحاء باريس من خلال الإعلانات عن التبرعات، وهذا يسلط الضوء على إمكانية إساءة استخدام التبرعات والحاجة إلى تشديد الضوابط. ومن المسلَّم به أن هذه الأموال استُخدمت لأغراض الدعاية في أفريقيا، وأن الأموال التي تُجمع في فرنسا تُستخدم لقتال جيوشنا ميدانيًّا ونشر المشاعر المعادية لفرنسا.
وتُعدّ وسائل التواصل الاجتماعي والمنافذ الإعلامية من قبيل “اليورو فتوى” أدوات رئيسية لنشر الفكر المتطرف أيضًا. ويتولى هذا التطبيق غرس معاداة السامية والتوجهات الانفصالية مع الإفلات من العقاب. ولئن سمحت دعوى رفعها محامون بريطانيون ببعض التقييد على نشاط هذا التطبيق، فإنه يظل واحدًا من أكثر التطبيقات تنزيلًا. وهناك نقص في الإجراءات الفاعلة ضد مثل تلك المنصات على الرغم من المحاولات السابقة لكبح تأثيرها. وأخيرًا، ترمي جهود التوعية إلى تسليط الضوء على أن شبكات الإخوان المسلمين تمثّل تهديدًا لفرنسا وأوروبا، ولا بد من إعطاء الأولوية لمكافحة التوجهات الانفصالية وأعداء الجمهورية.
إعطاء الأولوية للأمن والوحدة الوطنية
يهدف التحقيق في نهاية المطاف إلى إعطاء الأولوية لمكافحة التوجهات الانفصالية وحماية الجمهورية. ومن الأهمية بمكان التمييز بين هذا المجهود وأي محاولة لاستهداف الإسلام نفسه. والحكومة ملتزمة بدعم حرية العبادة لجميع الأديان. ويقتصر التركيز على مئات معدودة ممن جرى تحديدهم بوصفهم يمثّلون تهديدًا للأمن القومي ورفاه جميع الفرنسيين، بمن فيهم المجتمع المسلم. وتكرس وزارة الداخلية في فرنسا، أي البلد الذي يستضيف أكبر جماعة من المسلمين في أوروبا، مبالغَ ضخمة لحفظ أمن المساجد.
الخلاصة: خطوة حاسمة باتجاه مستقبل أكثر أمنًا
يمثل قرار فرنسا فتح تحقيق بشأن جماعة الإخوان المسلمين منعطفًا حاسمًا في موقفها تجاه التصدي لهذا التهديد المحتمل. وتؤكد هذه الخطوة التزام الحكومة بصون المبادئ الأساسية للجمهورية والمتمثلة في العلمانية والتماسك الاجتماعي في مواجهة المخاوف المتصاعدة. ولا يُعد ذلك ردًّا على الأحداث الأخيرة فحسب، وإنما أيضًا تتويجًا لسنوات من الدعوة إلى توخي المزيد من اليقظة في مواجهة التهديدات المتصورة للوحدة الوطنية. ومن خلال مواجهة هذه القضايا على نحو مباشر، تهدف الحكومة إلى صون القيم الأساسية للجمهورية وضمان مستقبل أكثر أمنًا ووحدةً لمواطنيها.
ويهدف التحقيق إلى معالجة الخطر المتصاعد للتطرف عن طريق تحديد الشبكات المالية وتفكيكها، والتعاون مع الشركاء الأوروبيين، ورصد أنشطة جمع الأموال. وعلاوة على ذلك، تؤكد الجهود المبذولة لمكافحة الفكر المتطرف الذي ينتشر عبر وسائل التواصل الاجتماعي وغيرها من المنصات الحاجة إلى اعتماد نهج موحد، والأهم من ذلك أن هذا المسعى يعطي الأولوية للأمن والوحدة الوطنية، ويدعم في الوقت نفسه حرية العبادة لجميع الأديان، مع التأكيد أن التركيز هو على حماية المواطنين، بمن فيهم المجتمع المسلم، ممن يمثلون تهديدًا للأمن الوطني. ومع اجتياز فرنسا هذه المرحلة المعقدة، فإنها تؤكد مجددًا التزامها بحماية الجمهورية وقيمها ضد التحديات الداخلية والخارجية.