Insight Image

قراءة في ظاهرة “وسطاء الإرهاب” في أفريقيا

04 يونيو 2023

قراءة في ظاهرة “وسطاء الإرهاب” في أفريقيا

04 يونيو 2023

مقدمة

شهدت السنوات الماضية تصاعُدًا ملحوظًا في ظاهرة وسطاء الإرهاب داخل القارة الأفريقية، وبدأت تطفو على السطح مع توسع التنظيمات الإرهابية المختلفة في اختطاف الأجانب من أجل الحصول على فدية مالية، إذ تلجأ بعض الحكومات والأجهزة الأمنية إلى هؤلاء الوسطاء للتواصل مع التنظيمات الإرهابية بهدف المساعدة في الإفراج عن المختَطفين، لذا أضحى هناك ارتباط وثيق بين تزايُد عمليات اختطاف الرهائن وتصاعُد دور وسطاء الإرهاب داخل القارة الأفريقية، بعدما باتت تعج بالعديد من التنظيمات والمجموعات الإرهابية، التي تختطف الأجانب، بمن في ذلك العاملون في المجال الإنساني[1].

وفي ظل تزايُد دور وسطاء الإرهاب على نحو كبير خلال السنوات الأخيرة، تبرز مجموعة من التساؤلات المهمة، من بينها؛ ما أسباب تزايد عمليات خطف الرهائن في أفريقيا؟ ومَن وسطاء الإرهاب وما هي سماتهم؟ وما الدور الذي يقومون به؟  وما أسباب تصاعد دور وسطاء الإرهاب؟ وما أنواع وسطاء الإرهاب في القارة الأفريقية؟ وما مستقبل ظاهرة وسطاء الإرهاب في أفريقيا؟ وتسعى هذه الورقة البحثية إلى الإجابة عن هذه الأسئلة عبر قراءة تحليلية تتناول هذه الظاهرة من مختلف أبعادها.

وسطاء الإرهاب.. الدور والسمات

هناك علاقة طردية بين عمليات اختطاف الرهائن وظاهرة وسطاء الإرهاب، فكلما تزايدت عمليات الاختطاف من قبل المجموعات الإرهابية، تزايدَ دور وسطاء الإرهاب، إذ تسعى الدول التي ينتمي إليها الرهائن لإطلاق سراحهم، وتقبل في سبيل ذلك في بعض الأحيان بدفع فدية مالية لكن بشكل غير علني، حتى لا تُتهم بدعم الإرهاب وتمويله، والرضوخ لمطالب الإرهابيين وعدم امتلاك الشجاعة لمواجهتهم مواجهة حاسمة. ولذلك تبحث هذه الدول عما يُعد “همزة وصل غير مرئية” بينها وبين المجموعات الإرهابية الخاطفة، وهذه “الهمزة” هي “وسطاء الإرهاب” الذين يكونون في الوقت نفسه قريبين من المؤسسات الأمنية في الدول التي وقعت عمليات الاختطاف على أراضيها، حتى لا تصطدم بتلك المؤسسات، ومن ثم تفشل جهودها التي تبذلها في عمليات الوساطة. ومما يساعد هؤلاء الوسطاء على التحرك أن الأجهزة والمؤسسات الأمنية في تلك الدول تلعب دورًا في توثيق علاقتها بالحكومات التي تسعى أحيانًا إلى التفاوض مع الإرهابيين، في ظل ما تمتلكه من معرفة بالتركيبة العرقية والاجتماعية والتوازنات القبلية في هذه الدول، وقد تحوّل بعض الزعماء المحليين في بعض الأحيان إلى لعب دور وسطاء إرهاب[2].

لذا يشترط في وسطاء الإرهاب أن يكونوا ممن يتمتعون بعلاقات جيدة مع الحكومات والمجموعات الإرهابية على حد سواء، بل ومحل ثقة لدى الطرفين، وهي معادلة صعبة للغاية، وخاصة أن التنظيمات الإرهابية غالبًا لا تثق بالمتعاملين مع الحكومات وأجهزتها الاستخباراتية، ما يتطلب أن يكون وسطاء الإرهاب من الشخصيات التي تتمتع بالثقل الاجتماعي والمالي والقبَلي في المناطق التي يكونون فيها، وتربطهم علاقات جيدة مع قادة التنظيمات الإرهابية، سواء بسبب العلاقات الاجتماعية أو الانتماءات العرقية والقبلية، وأحيانًا بناء على وجود علاقات شخصية قديمة[3].

ولا يؤدي وسطاء الإرهاب هذا الدور مجانًا أو من باب الإنسانية، وإنما يجنون من وراء ذلك العديد من المكاسب السياسية، من أهمها بناء شبكة علاقات قوية وجيدة مع حكومات المنطقة وأجهزتها الأمنية، ما يوفر  لهم الحماية والحصانة الأمنية التي تساعدهم على تعزيز  نفوذهم في مناطقهم، والحصول على تسهيلات حكومية تساعدهم في توسيع أعمالهم التجارية والاقتصادية، هذا إلى جانب توثيق علاقتهم ببعض الأجهزة الأمنية في الحكومات الغربية، ما يجعلهم يحظون بدعمها ، هذا إلى جانب المكاسب المالية الطائلة التي يحصلون عليها من جراء التوسط لدى التنظيمات للإفراج عن الرهائن المختطفين؛ سواء من خلال الحصول على عمولة من الطرفين، أو من خلال تحديد نسبة من قيمة الفدية يحصلون عليها مقابل دورهم في التفاوض.

ولا يكون “وسطاء الإرهاب”، فردًا واحدًا أو اثنين؛ بل شبكة متكاملة ترتبط بعضها ببعض أحيانًا، نظرًا إلى أن العملية الواحدة قد تحتاج إلى أكثر من وسيط؛ بدءًا من الوسيط الحكومي ومرورًا بالوسطاء المحليين وانتهاء بالوسطاء المباشرين مع التنظيمات الإرهابية، وذلك في ظل عدم قدرة الأجهزة الحكومية في مناطق الصراعات وبؤرها على نيل ثقة السكان المحليين في تلك المناطق؛ ولاسيما أن هؤلاء السكان قد لا يعرفون في أحيان كثيرة سوى زعماء القبائل[4].

أسباب تزايد عمليات خطف الرهائن في أفريقيا:

تحتل القارة الأفريقية المرتبة الأولى عالميًّا في عمليات اختطاف الرهائن؛ بسبب مجموعة من العوامل والمحفزات التي تشجع التنظيمات الإرهابية في القارة على التوسع في الاختطاف، يمكن تحديد أبرزها في النقاط الآتية:

  • الرغبة في الحصول على الأموال الطائلة: أصبحت التنظيمات الإرهابية التي تنشط في منطقة الساحل وغرب أفريقيا تَعُدّ اختطاف الأجانب-خاصة مواطني الدول الغنية مثل فرنسا وإيطاليا وألمانيا- من أهم مصادر تمويلها، بالنظر إلى الأموال الطائلة التي تحصل عليها تلك التنظيمات من وراء تلك العمليات، إذ قُدرت الأموال التي حصلت عليها التنظيمات الإرهابية في أفريقيا من عمليات خطف الرهائن في عام 2020 فقط، بما يقارب 100 مليون دولار أمريكي، حصل تنظيما القاعدة وبوكو حرام على نصيب الأسد منها[5]، في حين قدرت وزارة المالية الأمريكية الأموال التي جاءت من أوروبا ودُفعت إلى منظمات إرهابية إسلاموية ما بين عامي 2008 و2013 في شكل فديات مالية بنحو 165 مليون دولار[6]، ما يمثل حافزًا للعديد من المجموعات الإرهابية على الدخول إلى عالم الاختطاف والرهائن لتوفير مصادر تمويل قوية تمكّنها من الإنفاق على نشاطاتها بشكل جيد؛ ولاسيما أن الأموال التي قد يحصل عليها التنظيم الإرهابي في عملية اختطاف واحدة قد تفوق ما يحصل عليه من عمليات التهريب والسرقة والاتجار بالبشر على مدى سنوات طويلة، بالإضافة إلى المخاطر التي تتعرض لها العناصر الإرهابية خلال تنفيذ العمليات السابقة من جراء احتمالية الاشتباك مع قوات الشرطة والجيش خلال العمليات، وقد تؤدي إلى قتل بعض عناصرها والقبض على عدد آخر، وهذا ما شجع المجموعات الإرهابية المختلفة التي تنشط في القارة على التسابق إلى عمليات الاختطاف لتوفير مصادر تمويل كبيرة وسهلة المنال في الوقت نفسه، إذ بلغت عمليات الاختطاف خلال شهر إبريل 2023 فقط، ما يزيد على 32 حالة اختطاف نفذتها العناصر الإرهابية[7].
  • استجابة الحكومات الغربية للفدية: يُعد المواطنون الأجانب من السياح والعاملين في الشركات الدولية الهدفَ المفضل لعمليات الاختطاف، نظرًا إلى استجابة حكوماتهم لمطالب الخاطفين للإفراج عنهم، وخاصة أن تلك التنظيمات تسارع بإعلان عملية الخطف للضغط على تلك الحكومات، عبر بث مقاطع مصورة للرهائن وهم يستغيثون بحكوماتهم لإطلاق سراحهم، على غرار الصحفي الفرنسي أوليفييه ديبوا، الذي ظهر في مقطع فيديو في 5 مايو 2021 يعلن فيه اختطافه من قبل جماعة مسلحة في مالي، مطالبًا سلطات بلاده بالسعي إلى إنقاذه[8]. وقد تحركت فرنسا بالفعل لإنقاذ مواطنها؛ فصرحت وزيرة الشؤون الخارجية الفرنسية كاترين كولونا في مطلع أغسطس 2022، بأنه يجري بذل كل الجهد للإفراج عن ديبوا. وفي حين لم توضح الوزيرة ماهية هذا الجهد أو نوعه، ذكرت مصادر رسمية مطّلعة في مالي أن الحكومة الفرنسية دفعت ملايين اليوروهات في شكل فدية لجماعة نصرة الإسلام والمسلمين المرتبطة بتنظيم “القاعدة” للإفراج عن ديبوا، وعن الناشط الأمريكي جيفري وودكي[9]. وفي دلالة أخرى على إقدام الدول الغربية على دفع الفدية لتحرير مواطنيها المختطفين من قبل الجماعات الإرهابية، ذكر صحفي يعمل في صحيفة “نيويورك تايمز” اختُطف في أفغانستان عام 2008، أنه تجادل مع خاطفيه الذين طالبوا بمبلغ 25 مليون دولار مقابل الإفراج عنه بالإضافة إلى 15 سجينًا آخرين، بأن الحصول على هذا المبلغ بعيد المنال بالنسبة إليهم، فردّوا بأن الفرنسيين دفعوا 38 مليون دولار للإفراج عن عامل إغاثة، وأن إيطاليا دفعت 15 مليون دولار مقابل الإفراج عن سجناء عدة[10].
  • سهولة عمليات الاختطاف: تُعد عمليات اختطاف الرهائن من أبسط العمليات التي يمكن أن تنفذها التنظيمات الإرهابية؛ مقارنة بغيرها من العمليات الإرهابية أو حتى عمليات التهريب عبر الحدود، بالنظر إلى أنها لا تحتاج إلى أعداد كبيرة من المقاتلين أو مجهود كبير في التخطيط والإعداد، إذ لا تحتاج عملية الاختطاف سوى مجموعة صغيرة من المسلحين بأسلحة خفيفة تختطف أحد الأشخاص الذي غالبًا ما يكون أعزل، ثم تقتاده إلى أحد أوكارها- إذ تجري معظم عمليات الاختطاف في الصحاري والمناطق النائية- وتحتجزه لفترة زمنية، حتى تدفع حكومته الفدية المالية المطلوبة ليُفرج عنه.
  • تكوُّن ما يُعرف بـ “اقتصاديات الفدية”: أدى توسع التنظيمات الإرهابية في عمليات الاختطاف وتحولها إلى تجارة رابحة إلى تشكل ما بات يُعرف بـ “اقتصاديات الفدية”، إذ برزت شبكة مصالح تتكون من تنظيمات وعصابات تهريب عبر الحدود، تتعاون فيما بينها في تسهيل نقل الرهائن المختطَفين من منطقة إلى أخرى لمنع رصدهم، وذلك من خلال استغلال الهشاشة الحدودية بين العديد من دول القارة، مقابل الحصول على نسبة من الفدية المالية المطلوبة.

أسباب تصاعد دور وسطاء الإرهاب:

هناك عدد من العوامل التي أسهمت في تصاعُد ظاهرة وسطاء الإرهاب، بعدما تحولت مع مرور الوقت إلى تجارة رابحة يتسابق إليها وجهاء القبائل ورموز العرقيات ورجال الأعمال في القارة الأفريقية، لما تدره عليهم من أموال ونفوذ وشبكة علاقات سياسية واجتماعية واسعة، ويمكن تحديد أبرز تلك العوامل في النقاط الآتية:

  • حرص الحكومات على تجنُّب دفع الفدية بشكل علني: يُمثّل دفع فدية مالية للتنظيمات الإرهابية انتهاكًا لقرار مجلس الأمن الدولي رقم 1904 بتاريخ 17 ديسمبر 2009، الذي يُجرّم دفع فدية مالية للإرهابيين[11]، ما يدفع الدول التي تسعى للإفراج عن مواطنيها المختطَفين إلى البحث عن بوابات خلفية وسرية لدفع الفدية، بعيدًا عن أعين المجتمع الدولي ووسائل الإعلام ، وهنا تجد ضالتها المنشودة في وسطاء الإرهاب الذين يلعبون دور الوسيط الخفيّ والمقرِّب لوجهات النظر بين الدول والجماعات الإرهابية في أثناء عملية التفاوض للإفراج عن المختطفين، التي تكون شاقة ومعقدة أحيانًا؛ بالنظر إلى أن التنظيمات الإرهابية الخاطفة تبالغ في بداية الأمر في مبلغ الفدية المطلوب دفعه، على غرار تنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي الذي طلب فدية قدرها 90 مليون يورو عام 2011 للإفراج عن 7 أجانب اختطفهم من منطقة الساحل بينهم 5 فرنسيين[12]. وتسعى الدول إلى تخفيض المبالغ المطلوبة إلى أقصى حد ممكن، وهو ما يستلزم مجهودًا كبيرًا من وسطاء الإرهاب لإنجاح الصفقة وإيصال الأموال للإرهابيين حتى يُطلَق سراح المختطفين ومن دون الإفصاح عن حجم الفدية [13]. وذلك حتى تتجنب الدول التي دفعت الفدية الاتهامات التي يمكن أن توجه إليها بدعم الإرهاب[14].
  • صعوبة التفاوض مباشرة مع الخاطفين: غالبًا ما تُفضل التنظيمات الإرهابية التفاوض مع الحكومات التي ينتمي إليها الرهائن بصورة غير مباشرة، وذلك لاعتبارات أمنية في المقام الأول، تتعلق بسلامة عناصرها وقادتها من الاستهداف، حيث يمكن أن تكون المفاوضات المباشرة بداية لرصد استخباراتي لعناصرها المفاوضين وتتبُّع مساراتهم[15]، ما يؤدي إلى كشف أوكارهم، وبالتالي تعرُّض معسكرات التنظيم لضربات جوية،  لذا يفضّل الإرهابيون التفاوض عبر وسطاء موثوق بهم بالنسبة إليهم، وفي مناطق خاضعة لنفوذهم، وطبقًا لإجراءاتهم  الأمنية الصارمة؛ مثل عدم وجود هواتف أو أجهزة إلكترونية لدى الوسطاء خلال التفاوض، وكذلك الانتقال بسيارات تابعة للتنظيم، مع الحرص على عدم السماح للوسطاء بمعرفة أي معلومات عن  المعسكرات أو القدرات التسليحية، أو حتى طبيعة الحركة والتنقل على الأرض، وهو ما يحاول الوسطاء بخبرتهم التزامه، مع إظهار الحياد إلى أقصى درجة ممكنة، نظرًا إلى أن الخطأ قد يكلّفهم حياتهم، إذ إن التنظيمات لن تتردد لحظة واحدة في قتلهم إذا شكّت في أنهم يحاولون جمع المعلومات عنها، وخاصة أن قادة التنظيمات يدركون أنهم مستهدفون  من قِبل الدول التي اختطفوا مواطنيها، حتى بعد إتمام عمليات التفاوض، وذلك من باب الردع والانتقام[16].
  • رغبة الحكومات في الإفراج عن مواطنيها بسرعة: يُعد المواطنون الأجانب من السياح والعاملين في الشركات الدولية، الهدف المفضل لعمليات الاختطاف من قِبل المجموعات الإرهابية المنتشرة في الساحل وغرب أفريقيا، وذلك بالنظر إلى سرعة استجابة حكوماتهم لمطالب الخاطفين بدفع فدية مالية لسرعة الإفراج عنهم، وذلك  لتجنب الضغوط التي يفرضها الرأي العام عليها كلما تأخرت عملية الإفراج، وكذلك لتجنُّب اتهامات المعارضة لها بالفشل في حماية مواطني الدولة في الخارج، وخاصة أن التنظيمات تسارع بإعلان عملية الخطف للضغط على الحكومات، من خلال بث مقاطع مصورة للرهائن وهم يستغيثون بحكوماتهم لإطلاق سراحهم، على غرار الفيديو الذي بثه تنظيم القاعدة في نوفمبر 2014، للرهينة الفرنسي سيرج لازاريفيتش الذي اختُطف من أحد الفنادق في مالي، وهو يناشد الحكومة الفرنسية الإفراج عنه، وهو ما سبب إحراجًا كبيرًا للحكومة الفرنسية أمام الرأي العام الداخلي وقوى المعارضة، دفعها إلى دفع الفدية المالية المطلوبة.
  • صعوبة تحرير الرهائن بالقوة: من العوامل المهمة التي تدفع الحكومات إلى اللجوء إلى وسطاء الإرهاب للإفراج عن مواطنيها المختطفين لدى التنظيمات الإرهابية، هو عدم رغبتها في اللجوء إلى القوة العسكرية لتحريرهم، لاحتمالية تعرُّض الرهائن للخطر خلال المواجهات المحتملة بين القوات العسكرية والخاطفين، هذا إلى جانب الخسائر البشرية التي قد تقع في صفوف القوات خلال عملية الإنقاذ، على غرار العملية التي قامت بها القوات الخاصة الفرنسية في مايو 2019 لتحرير أربع رهائن هما فرنسيان وأمريكية وكورية جنوبية اختُطفوا في شمال بوركينا فاسو، وقُتل في هذه العملية جنديان فرنسيان، بينما تمكنت القوات الفرنسية من القضاء على أربعة خاطفين[17]. يضاف إلى ذلك احتمالية مقتل الرهائن خلال عملية تحريرهم بالقوة، إذ شهد العالم الكثير من العمليات الفاشلة لتحرير الرهائن، من أبزرها العملية العسكرية الأمريكية الفاشلة لتحرير الرهينة الأمريكي، لوك سومرز، في اليمن، في عام 2014 وأسفرت عن مقتله مع رهينة آخر، خلال محاولة قيام القوات الخاصة الأمريكية تحريرهما[18].

أنواع وسطاء الإرهاب في القارة الأفريقية:

يتنوع وسطاء الإرهاب الذين يلعبون دور همزة الوصل بين الدول التي تسعى لتحرير رعاياها المختطفين من قبضة التنظيمات الإرهابية وبين قادة تلك التنظيمات، ويمكن تناول أنواع هؤلاء الوسطاء على النحو الآتي:

  • الإرهابيون السابقون: يوجد في منطقة الساحل الأفريقي على وجه الخصوص بعض الإرهابيين السابقين، بعضهم كان ينتمي إلى تنظيم القاعدة، ثم تحولوا مع مرور الوقت إلى رجال أعمال، لكنهم حافظوا على علاقاتهم بالتنظيم، وفي الوقت نفسه نسجوا علاقات جيدة مع الأجهزة  والمؤسسات الأمنية في دول المنطقة، التي سعت لجعلهم همزة وصل بينها وبين التنظيمات الإرهابية، ما جعل لديهم المقومات الرئيسية للعب دور وسطاء الإرهاب، على غرار الموريتاني مصطفى ولد الإمام الشافعي، – العضو السابق في تنظيم القاعدة قبل أن يغادر العمل التنظيمي في 2011- الذي يلقب برجل أسرار أفريقيا، لعمله مستشارًا مع زعماء أفارقة عدة، وهو رجل أعمال وصديق لبعض الرؤساء والمعارضين على السواء. وكانت بداية عمله وسيطًا للإرهاب في عام 2010 عندما تدخَّل لدى تنظيم القاعدة للإفراج عن عدد من المختطَفين الإسبان، ولا يزال يمارس هذا الدور، إذ توسط بين الحكومة الفرنسية وجماعة نصرة الإسلام والمسلمين للإفراج عن الرهائن الفرنسيين في أكتوبر 2020، التي حصلت من خلالها الجماعة على 25 مليون يورو، بالإضافة إلى الإفراج عن 200 من عناصرها وقياداتها المعتقلين، مقابل الإفراج عن زعيم المعارضة المالية سوميلا سيس، والرهينة الفرنسية صوفي بيترونين، وإيطاليين اثنين، وهو ما جعله محل ثقة لدى الحكومة الفرنسية وتنظيم القاعدة على حد سواء[19]. ومن الجدير بالذكر في هذا الإطار، أنه في ديسمبر 2011، أصدر النائب العام في نواكشوط مذكرة اعتقال دولية ضد الشافعي و3 موريتانيين آخرين أعضاء بارزين في تنظيم القاعدة الإرهابي بمنطقة غرب أفريقيا، في اتهامات بتمويل الإرهاب ودعم الجماعات الإرهابية”، وفقًا لما نقلته مجلة “جون أفريك” الفرنسية[20].
  • بعض الزعامات العرقية والقبَلية: لا يقتصر وسطاء الإرهاب على العناصر السابقة في التنظيمات الإرهابية، ولكنه يتعداها إلى بعض العرقيات ورموزها المنتشرة في المنطقة، التي كانت على علاقة سابقة بالمجموعات الإرهابية، بالنظر إلى التداخل الكبير الذي حدث خلال السنوات الماضية بينهما، ومن أبرزها التداخل بين تنظيم القاعدة والطوارق،  ما جعل قطاعات من الأخيرة تدعم التنظيم، وهو ما أفرز قيادات ورموزًا قبَلية تتمتع بعلاقات مع التنظيمات الإرهابية، على غرار أحمد أغ بيبي،  الذي قاتل لفترة إلى جانب إياد أغ غالي زعيم جماعة «نصرة الإسلام والمسلمين» الذي لعب دورًا موازيًا لدور “الشافعي” في الإفراج عن الرهائن الفرنسيين في مالي أكتوبر 2020، وقد أقرّ في حوار صحفي بأن الحكومة المالية كانت قد كلفته في فترات سابقة بمهمة التفاوض مع الإرهابيين[21].

وقد أسهم بروز ظاهرة ما يسمى ظاهرة الإرهاب القبَلي في أداء بعض زعماء القبائل دور وسطاء الإرهاب، على غرار قيادات قبَلية من الطوارق بسبب علاقتهم بجماعة أنصار الدين، التي يتكون كل عناصرها تقريبًا من الطوارق، وكذلك الحال بالنسبة إلى بعض القيادات القبلية من عرقية الفولاني، التي ينتمي إليها مقاتلو حركة تحرير ماسينا، حيث تستخدم تلك القيادات نفوذها القبلي داخل التنظيمات في لعب دور وسطاء الإرهاب[22].

  • بعض أجهزة الاستخبارات: تلعب بعض أجهزة الاستخبارات في أفريقيا في بعض الأحيان دور الوسيط بين التنظيمات الإرهابية والدول الساعية إلى تحرير مواطنيها المختطَفين لدى تلك التنظيمات، نظرًا إلى أن لديها قنوات اتصال سرية مع هذه التنظيمات، إذ كشفت بعض التقارير في نوفمبر 2021 عن استعداد الاستخبارات المالية للتوسط لدى جماعة نصرة الإسلام في الإفراج عن الرهائن الفرنسيين المختطفين لديها، لكن فرنسا رفضت ذلك تخوفًا من عرقلة المفاوضات.[23] وما يؤيد هذا الأمر ما جاء في بيان الرئاسة في دولة مالي في نوفمبر 2021، عقب الإفراج عن ثلاثة مواطنين صينيين اختُطفوا في جنوب غرب البلاد من قِبل إحدى المجموعات الإرهابية، بأن عملية الإفراج جاءت “بفضل تضافر جهود قوات الدفاع والأمن، والقوات الخاصة وأجهزة الاستخبارات”[24].
  • بعض القادة السياسيين: كشفت مجموعة من التقارير الصادرة منتصف 2020 أن بعض القادة الحكوميين في منطقة الساحل والصحراء يتربحون من عمليات الاختطاف من خلال لعب دور الوسيط والحصول على نسبة من الفدية المالية، وهو ما يجعلهم في بعض الأحيان حريصين على عرقلة أي مفاوضات مباشرة يمكن أن تحدث بين مندوبي الحكومات والخاطفين، على غرار الرئيس البوركيني المخلوع “بليز كامباوري”، الذي كان يحرص على التدخل بنفسه في عمليات التفاوض مع التنظيمات الإرهابية في الساحل للإفراج عن الرهائن، حيث كشف تأكيده في عام 2012  أن الرهائن الفرنسيين الستة الذين كان يحتجزهم تنظيم القاعدة في منطقة الساحل “لا يزالون على قيد الحياة” عن مدى علاقته بالتنظيم وقدرته على الوصول إليه[25]، وهو ما كان يجعله يحرص على التفاوض مع الإرهابيين بشكل مباشر وبعيد عن أي وسطاء، إذ كان يحتفظ لنفسه بثلثَي قيمة الفدية ويسلّم الإرهابيين الثلث المتبقي[26]، ومن المرجح وفق ذلك أن تكون هناك شبكات داخل الأجهزة الأمنية والسياسية تعلب دور وسيط الإرهاب، للحصول على نسبة من قيمة الفدية، وربما يفسر هذا حرص الفرنسيين في عملية التفاوض مع جماعة نصرة الإسلام والمسلمين-التي سبقت الإشارة إليها- عبر وسطاء إرهاب من اختيارها  وليس عبر الحكومة المالية، حتى لا تفشل المفاوضات بسبب تواطؤ بعض المسؤولين مع التنظيم لرفع قيمة الفدية، بالنظر إلى أنه كلما ارتفعت قيمة الفدية المالية، ارتفع معها نصيب الوسطاء الحكوميين.

خاتمة.. مستقبل ظاهرة وسطاء الإرهاب في أفريقيا:

على ضوء ما سبق، يمكن القول، إن استمرار التنظيمات الإرهابية في أفريقيا في اختطاف الرهائن، وخاصة من مواطني الدول الغربية، سيشجع المزيد من الميليشيات المسلحة والحركات القومية على الدخول إلى مجال خطف الرهائن، ما يعني تصاعد دور وسطاء الإرهاب خلال المرحلة القادمة، وانضمام فئات جديدة من رجال القبائل والسياسيين ورجال الأعمال والمتطرفين السابقين إلى منظومة “الوسطاء”، من أجل الحصول على مكاسب مالية وبناء شبكة علاقات قوية تسمح لهم بممارسة دور كبير في مناطق نفوذهم، وهو ما يجعل من خطف الرهائن تجارة رائجة قد تدفع بعض الوسطاء أنفسهم إلى التحريض عليها بشكل غير مباشر للحفاظ على الامتيازات الكبيرة التي يمنحها لهم دور “وسطاء الإرهاب”، ما يعني تزايد عمليات خطف الأجانب في القارة الأفريقية، وانتقالها إلى مناطق أخرى من العالم، وخاصة أن هناك مناطق تعاني الفوضى والهشاشة الأمنية، وتمثل تربة خصبة لخطف الرهائن، وبالتالي انتعاش هذه الظاهرة وانتشارها.

يفرض ما سبق على المجتمع الدولي ضرورة المبادرة بالتصدي لتلك الظاهرة بطرق جذرية، وخاصة داخل القارة الأفريقية التي بدأت تشهد تنافسًا بين التنظيمات المختلفة على اختطاف الرهائن، وذلك من خلال اتخاذ مجموعة من الخطوات المهمة؛ منها الضغط على الدول الغربية لعدم الاستجابة للإرهابيين ودفع فديات مالية لهم، كونها لا تساعد التنظيمات في بناء قدراتها التنظيمية على نحو يصعب معه القضاء عليها فحسب، بل تشجع تلك التنظيمات على التمادي في خطف الرهائن، وتحفيز مجموعات إرهابية وعرقية أخرى على الدخول إلى عالم خطف الرهائن أيضًا. كما أن هناك حاجة ماسة إلى اتخاذ الإجراءات والتدابير الأمنية التي تحول دون السماح للتنظيمات الإرهابية باختطاف مزيد من الرهائن، من قبل حكومات الدول التي تنشط فيها المجموعات الإرهابية، وهو ما يفرض على الدول الغربية تقديم العون والمساعدة إلى هذه الحكومات.

المراجع

[1] خطف اثنين من موظفي الصليب الأحمر شمال مالي قرب منطقة تنشط فيها الجماعات المسلحة، موقع فرانس 24، بتاريخ 5 مارس 2023، على الرابط:  https://2u.pw/FMWRfZ

[2] هل من الصواب دفع فدى للإفراج عن رهائن؟، موقع  بي بي سي عربي، بتاريخ 7 أكتوبر 2014، على الرابط: https://www.bbc.com/arabic/middleeast/2014/10/141007_ransoms_hostages_feature

[3] علي بكر، لماذا تصاعدت عمليات خطف الرهائن داخل القارة الإفريقية؟، موقع مجلة السياسية الدولية، 24 فبراير 2021، على الرابط: https://2u.pw/r0g7iC

[4] د. محمد لعقاب، 9 أساليب لمكافحة الإرهاب والتحول من الفرنسة إلى الأفرقة، مجلة آراء حول الخليج، مركز الخليج للأبحاث بتاريخ 30 مايو 2021، على الرابط: https://2u.pw/uZzA6

[5] “الاختطاف”.. ظاهرة مقلقة تخدم أجندة الإرهاب في إفريقيا، مرصد الأزهر لمكافحة الإرهاب، بتاريخ 20 يناير 2021، على الرابط: https://2u.pw/qpWvU

[6] الاختطاف والابتزاز – مصدر تمويل مهم للإرهاب، موقع دويتشه فيله، بتاريخ 22 أغسطس 2014، على الرابط: https://2u.pw/IzPJb

[7] مؤشر العمليات الإرهابية في الدول الإفريقية لشهر إبريل 2023، مرصد الأزهر لمكافحة التطرف والإرهاب، بتاريخ 7 مايو 2023، على الرابط: https://2u.pw/359YjR

[8] الشيخ محمد حرمه، النيجر.. الإفراج عن الصحفي الفرنسي أوليفييه دوبوا، موقع صحراء ميديا، بتاريخ 20 مارس 2023، على الرابط: https://2u.pw/NnfwnK

[9] مصدر مالي: فرنسا دفعت ملايين اليوروهات للإفراج عن الرهائن في النيجر، موقع سبوتنيك عربي، بتاريخ 21 مارس 2023، على الرابط: https://2u.pw/nVHNAr

[10] محمد محمود السيد، جدل “التنازلات”: دوافع تباين السياسات الغربية تجاه عمليات تحرير الرهائن، مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، بتاريخ 3 إبريل 2019، على الرابط: https://2u.pw/jzMGq

[11] منصور لخضاري، السياسية الأمنية الجزائرية.. المحددات- الميادين-التحديات، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الطبعة الأولى، بيروت، 2015، على الرابط.

 https://2u.pw/piAiy

[12] أشهر عمليات الاختطاف في الساحل الإفريقي، موقع وكالة أنباء الأناضول، بتاريخ 5 يناير 2021، على الرابط: https://2u.pw/iOr7v

[13] تقرير مجلس حقوق الانسان بالأمم المتحدة، حول “حقوق الإنسان والمسائل المتعلقة بأخذ الرهائن على يد الإرهابيين”، بتاريخ 18 فبراير 2013، على الرابط: https://2u.pw/WXNrG

[14] الإمارات تبحث تجريم دفع الفدية للإرهابيين، موقع الرؤية، بتاريخ 16 أكتوبر 2016، على الرابط: https://2u.pw/BOhyy

[15] مروة حامد، التفاوض وموقعه في إطار استراتيجيات مكافحة الإرهاب دراسة حالة للتفاوض الأمريكي مع طالبان، مجلة كلية الاقتصاد والعلوم السياسية، جامعة القاهرة- العدد 89 أكتوبر 2021، على الرابط:  https://2u.pw/cnnl2

[16] فرنسا تقتل قياديًا في تنظيم «القاعدة» الإرهابي بمالي، موقع الاتحاد، بتاريخ 12 يونيو 2021، على الرابط: https://2u.pw/D21UQ

[17] كيف تمت عملية تحرير رهائن في بوركينا فاسو من قبل قوات فرنسية؟، موقع فرانس 24، بتاريخ 11 مايو 2019، على الرابط: https://2u.pw/BmRqv

[18] نهايات “كارثية” لعمليات تحرير رهائن، موقع سكاي نيوز عربية، بتاريخ 7 ديسمبر 2014، على الرابط: https://2u.pw/BCsUA

[19] “الشافعي” مشعل حرائق إفريقيا وإرهابي سمسار رهائن، موقع العربية نت، بتاريخ 20 مايو 2020، على الرابط: https://2u.pw/qrUy0

[20] موقع معرفة، تاريخ الدخول على الرابط، 30 مايو 2023، الرابط: https://2u.pw/gSZaH0

[21] هل دفعت مالي مليوني يورو «فدية رهينة»؟ موقع البيان، بتاريخ 5 إبريل 2021، على الرابط: https://2u.pw/ntsRKe

[22] الجريمة المنظَّمة والصراع في منطقة الساحل والصحراء، مركز كارنيجي للسلام، بتاريخ 13 سبتمبر 2013، على الرابط: https://2u.pw/HYjcF

[23] أحمد بدوي، صفقة رهائن مالي.. حين «فاوض» الفرنسيون «القاعدة» من وراء ستار، موقع صحراء ميديا، بتاريخ 11 أكتوبر 2020، على الرابط: https://2u.pw/1XXvf

[24] الإفراج عن 3 رهائن صينيين في مالي، موقع الخليج، بتاريخ 2 نوفمبر 2021، على الرابط: https://2u.pw/NVFPy

[25] رئيس بوركينا: الرهائن الفرنسيون على قيد الحياة، موقع صحراء ميديا، 21 سبتمبر 2012، على الرابط: https://2u.pw/WSEvJ

[26]  علي بكر، لماذا تصاعدت عمليات خطف الرهائن داخل القارة الإفريقية؟، موقع السياسية الدولية، بتاريخ 24 فبراير 2021، على الرابط: https://2u.pw/pEyBX

المواضيع ذات الصلة