بين يوميْ (19 – 21) من شهر مايو الجاري (2023) تم انعقاد القمة السنوية لمجموعة السبع، حيث اختتمتْ مباحثاتها في مدينة هيروشيما باليابان. وليس خافيًا أن مباحثات قمة السبع في هذه المرة قد هيمنت عليها ظلال القلق تجاه سياسات روسيا والصين، باعتبارهما يُشكلان أكبر تَحَدِّيَيْن – بل أكبر تهديديْن – يواجهان هذه الدول، وذلك على حد تعبير العديد من قادة وزعماء مجموعة السبع. ومع ذلك، فإن مما يجدر الالتفات إليه ذلك التباين الذي ظهر في مواقف هذه الدول من طبيعة التعامل مع كلا الدولتين، أي روسيا والصين، إذ إن هناك ما يشبه الإجماع بين دول مجموعة السبع على مواجهة روسيا؛ بحكم أنها قوضت أسس النظام العالمي الذي تسيطر عليه دول المجموعة. أمّا بخصوص الصين، فإن غالبية هذه الدول تنحو كُلُّ واحدة منها لاتخاذ مقاربة مختلفة إزاءها – أي إزاء الصين – وذلك بحكم العلاقات التجارية الضخمة معها، وعلى أمل نيل دعمها والوقوف إلى جانبها في مواجهة طموحات روسيا “الإمبراطورية”. والسؤال الذي يطرح نفسه الآن هو: ما السياق الذي شكل محور هذه القمة؟ وما سبب أهميتها؟ وما الرمزية التي يشكلها عقد هذه القمة في هيروشيما على وجه الخصوص؟ وما النتائج التي تمخضت عنها فيما يتعلق بالموقف تجاه كُلٍّ من موسكو وبكين؟ وما التعقيدات التي تحيط بهذه الملفات؟.
السياق والأهمية
انعقدت قمة مجموعة السبع (غير الرسمية)، والتي تضم كندا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا واليابان والمملكة المتحدة والولايات المتحدة، خلال الفترة من 19إلى 21 مايو الجاري (2023) في اليابان، في ظل بيئة إقليميه ودولية متوترة، بل ربما تبدو الأعقد في السنوات الأخيرة، فمن جهة يتصاعد التوتر في شرق آسيا بسبب كوريا الشمالية، ولكن الأخطر من ذلك هو تنامي النفوذ الصيني، والقلق من قيام بكين بعمل عسكري ضد تايوان، الأمر الذي قد يؤدي إلى قلب الوضع في تلك المنطقة رأسًا على عقب، بل قد يتسبب في نشوب حرب إقليمية واسعة.
وعلى الجانب الآخر في الغرب ما زالت الحرب في أوكرانيا تواصل شهرها الخامس عشر، بينما أصبحت مختلف الجبهات تشهد تصعيدًا متجدّدًا بعد فترة الجمود التي اتَّسَم بها القتال في فصل الشتاء، حيث يجري الحديث الآن عن هجوم أوكراني معاكس، ما يعني أن الحرب قد تدخل مرحلة جديدة، وقد تطول هذه المرحلة ولا تخرج منها قريبًا. كل هذا بينما يعاني الاقتصاد العالمي، بما فيه اقتصاديات أكبر دول العالم، وفي مقدمتها الولايات المتحدة واليابان، وبالطبع الدول الأخرى في مجموعة السبع، كل هذه الاقتصاديات تعاني من وضع صعب، وسط مخاوف من حدوث ركود عالمي هذا العام أو العام المقبل. كما تتزايد الضغوط على الدول، ولا سيّما الدول الصناعية – دول مجموعة السبع بشكل رئيسي – وتدفعها إلى التعامل بفعالية أكثر مع التغير المناخي، الذي بات يُنظر إليه على أنه أحد أكبر التحديات المعاصرة ذات الطابع العالمي.
رمزية القمة
من المعروف أن قمة مجموعة السبع الكبار قد انعقدت مرات كثيرة، حتى عندما كانت تُسمى “الثماني الكبار” قبل أن تُطرد روسيا منها بعد ضمها القرم 2014. وليس من السهل تذكر أيٍّ من هذه القمم، ولكن هذه القمة – على وجه الخصوص – قد تبقى في الذاكرة لسنوات طويله، لا سيّما أن انعقادها في هيروشيما يحمل رمزية خاصة؛ لكونها كانت أول مدينة في العالم تتعرض لهجوم نووي من قِبَل الولايات المتحدة، وقد حدث ذلك في السادس من أغسطس 1945، وهو أول هجوم نووي، وآخر هجوم نووي (حتى الآن). في الوقت نفسه تزداد المخاوف من حدوث سباق تسلح نووي في آسيا ومناطق أخرى من العالم، ومن تصاعد التهديدات بإمكانية استخدامه. جديرٌ بالذكر أن الهجوم بالقنبلة الذرية على هيروشيما، والذي قتل 140 ألف مدني في لحظات قلائل، كان هو الخطوة الأولى في سباق التسلح النووي، الذي شهد بعد 80 عامًا تقريبًا ما يقرب من 12500 رأس نووي – أغلبها أقوى بكثير جدًا من قنبلة “الولد الصغير” (الاسم الذي أطلق آنذاك على هذه القنبلة) – وتمتلكها الآن تسع دول. ومن ثم فإن عقد القمة في مدينة “السلام”، كما يصفها اليابانيون، له رمزية لا تخطئها العين. وبغض النظر عن جدول الأعمال المثقل بتحديات إقليمية ودولية كبيرة، فإن انعقاد القمة في هيروشيما يُمَثِّل تذكيرًا بمخاطر الحرب النووية، لا سيّما أثناء مناقشة الأوضاع إثر الحرب التي شنتها روسيا والصراع في أوكرانيا. كما يبعث برسائل قوية إلى موسكو وغيرها بأن الدول الكبرى تقف موحدةً في موقفها من رفض التهديد أو استخدام السلاح النووي مجددًا. وهذا ما أكد عليه البيان الختامي للقمة، وما ركز عليه أيضًا خطاب رئيس الوزراء الياباني كيشيدا، الذي وجهه للشعب عبر وسائل الإعلام، حيث أكد أن مهمة اليابان – بصفتها رئيسة لقمة مجموعة السبع – تتلخص في حماية الأمن والسلام الدوليين، وأنه يقع على عاتق الجميع مسؤولية تحقيق عالم دون أسلحة نووية.
الملفات: التوافقات والخلافات
بحثت القمة مجموعة واسعة من الموضوعات، حيث ناقشت عددًا من الملفات الحيوية. ومن البديهي أن يتفق القادة بشأن بعض هذه الملفات، وأن يختلفوا بشأن بعضها الآخر. ومن المعروف أن أهم هذه الملفات تدور دائمًا حول العلاقات الاقتصادية، والذكاء الاصطناعي، وتغير المناخ، وتعزيز التعاون مع البلدان النامية. ولكن كان هناك ملفان في غاية الأهمية، هما اللذان استحوذا على اهتمام القمة، وألقيا بظلالهما على مناقشات القادة، ومن ثم على القرارات المُتخذة، وعلى البيان الذي تمخضت عنه القمة. الملف الأول بخصوص الحرب في أوكرانيا والموقف من روسيا. والملف الثاني بخصوص الموقف من الصين، بما في ذلك ما يُطلق عليه مصطلح “الإكراه الاقتصادي”، ومساعي الصين لمد نفوذها في بحر الصين الجنوبي، والقلق من احتمالات أن تقوم بغزو تايوان.
مواجهة روسيا
انعقدت القمة على وقع تصعيد متنامٍ على جبهات القتال في الحرب التي اندلعت إثر الهجوم الروسي على أوكرانيا في 24 يناير 2022، حيث يحشد كل طرف قواته لشن هجوم واسع ضد الآخر. بينما يتزايد القلق من المنحى الذي يمكن أن تنجرف إليه هذه الحرب، خاصة في خضم الحديث المتكرر عن السلاح النووي، لا سيّما من جانب روسيا التي تمتلك ترسانة تضم ما يقرب من 6000 رأس نووي. ورغم تأكيد موسكو على مبادئها النووية، وأنها لن تستخدم هذا السلاح إلَّا في حالة حدوث تهديد وجودي، فإن هناك خشية من اللجوء إلى النوع التكتيكي منه، خاصة وأن مسار إنهاء الحرب – كما يبدو – يتجه إلى طريق مسدود، بل وربما تتأرجح مساراتها لصالح أوكرانيا، حيث يجري تعزيز قوات كييف بالأسلحة التي قدمت معظمها الدول التي اجتمعت في هيروشيما.
لذا كان أحد أهم أهداف القمة هو المحافظة على موقف موحد من روسيا، ومواصلة دعم أوكرانيا. وفي هذا السياق أكد رئيس الوزراء الياباني فوميو كيشيدا بقاء مجموعة السبع متحدة خلف أوكرانيا. وهو ما فعله القادة الآخرون كذلك؛ حيث قال رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك إن “تركيز مجموعة السبع كان على الدوام مُصَوَّبًا نحو روسيا، وسيظل كذلك هذا العام”. وكذلك فعل المستشار الألماني والرئيس الأمريكي. ومن المعروف أن الرئيس الأوكراني قد توجه بكلمة إلى القمة في اليوم الأول عبر تقنية الفيديو، طالب فيها بتزويد بلاده بالمزيد من الأسلحة، وقال إنه يرغب في أن تنتهي الحرب بحلول نهاية العام، وذلك قبل أن يظهر بشكل دراماتيكي في اليابان، وينضم مباشرة إلى زعماء المجموعة.
وقد بدا واضحًا أن القمة موحدة في موقفها من قضية أوكرانيا؛ حيث استبقوا وصول زيلينسكي بالإعلان عن حزمة عقوبات جديدة على روسيا، تستهدف “آلة الحرب الروسية” للحدّ من إمكانات تمويل حربها على أوكرانيا. هذه التدابير الجديدة تشمل قيودًا على صادرات منتجات “أساسية لروسيا في ساحة المعركة”، وتستهدف كيانات مُتّهمة بنقل معدّات عسكرية، وقد أعربت دول مجموعة السبع بوضوح عن التزامها الراسخ تجاه أوكرانيا.
وجديرٌ بالذكر أن البيان الصادر عن المجموعة قد أكد على الحاجة إلى الوقوف جبهةً مُوَحَّدَةً ضد تصرفات روسيا. وفي هذا الإطار قام البيان بتسليط الضوء على المعاناة الإنسانية التي سببها العدوان الروسي على مدار الخمسة عشر شهرًا الماضية. وقد تعهدت المجموعة بمواصلة الدعم العسكري لأوكرانيا، وفي هذا الصدد أعلن الرئيس الأمريكي عن دعمه لكييف عن طريق إرسال مقاتلات متقدمة – عبر طرف ثالث – وتدريب الطيارين الأوكرانيين.
هذا، وقد سبق انعقاد القمة بأيام إعلان العديد من دول المجموعة تقديم أسلحة متطورة لأوكرانيا، كما تعهدت بتقديم المزيد. وقد سلمت بريطانيا بالفعل صواريخ متطورة إلى أوكرانيا، وتعهدت بإقامة تحالف بُغْيَة تزويد كييف بطائرات مقاتلة من طراز إف – 16. وأعلنت ألمانيا أيضًا عن أكبر حزمة مساعدات لأوكرانيا حتى الآن، وهي دبابات وعربات مصفحة وطائرات استطلاع بدون طيار وذخيرة، بقيمة 3 مليارات دولار. وفي وقت سابق من هذا الشهر، أعلنت الولايات المتحدة عن حزمة بقيمة 1.2 مليار دولار لتعزيز الدفاعات الجوية الأوكرانية ومخزونات المدفعية، بينما أجاز الرئيس الأمريكي جو بايدن مساعدات بقيمة 375 مليون دولار أثناء وجوده في هيروشيما، وتشمل هذه الحزمة الجديدة مدفعية وذخيرة وراجمات هيمارس لإطلاق الصواريخ.
كل هذا يشير إلى أن مجموعة السبع ماضية في طريقها لدعم أوكرانيا التي تستعد لشن هجوم مضاد واسع. ولا شك في أن التحدي الأكبر الذي يواجه قادة المجموعة هو الحفاظ على استمرار هذا الزخم في الأيام والأشهر القادمة؛ لا سيّما في ظل الصعوبات الاقتصادية التي تعاني منها كل هذه الدول دون استثناء، الأمر الذي يؤدي إلى مزيد من الضغوط المحلية عليهم، مع استمرار جهود بلدانهم للتعافي من وباء كوفيد – 19.
تنامي النفوذ الصيني
على بُعد ألف ميل إلى الغرب من هيروشيما، تقع العاصمة الصينية بكين، التي يشكل تعزيز وجودها العسكري مصدر قلق كبير للدولة المضيفة، اليابان، ولأهم حليف لها، الولايات المتحدة. وهذه المسألة هي التي كانت تشكل محور التركيز الثاني في القمة، ألا وهو سُبُل مواجهة القوة العسكرية والاقتصادية المتنامية لبكين. وقد ناقش القادة في ثاني أيام القمة ما أسموه سياسات “الإكراه الاقتصادي”، وأعلنوا أنهم يعارضون أي محاولات أحادية لتغيير الوضع القائم بالقوة، في إشارة إلى الصين التي طالما اتهمتها دول المجموعة باستخدام النفوذ الاقتصادي للضغط على الدول النامية من أجل تحقيق مصالحها. وقال رئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك إن الصين تشكل “التحدي الأكبر في عصرنا” فيما يتعلق بالأمن والازدهار العالميين، وأنها “استبدادية بشكل متزايد في الداخل والخارج“.
وغَنِيٌّ عن الذكر أن الصين تشكل مصدر قلق دولي وإقليمي، خاصة لدول المنطقة، ولا سيّما اليابان التي تخشى من تنامي النفوذ الصيني، وتتوجس من مساعيها لعسكرة منطقتيْ شرق آسيا وبحر الصين الجنوبي. ومن ناحية أخرى، تمثل كوريا الشمالية مصدر تهديد لأمن اليابان، خاصة مع استمرار بيونغ يانغ في إطلاق الصواريخ البالستية في اتجاهات مختلفة، بما فيها بحر اليابان وأجواء اليابان. وهو ما دفع طوكيو إلى إعادة التفكير بشكل جوهري في سياستها الدفاعية. فمع وجود عين على الصين والأخرى على كوريا الشمالية، أعلنت الحكومة اليابانية في ديسمبر 2022 عن مضاعفة ميزانيتها العسكرية، الأمر الذي قد يجعل اليابان صاحبة ثالث أكبر ميزانية عسكرية في العالم، بعد الولايات المتحدة والصين.
وفي هذا السياق أيضًا تعمل اليابان على تعزيز تحالفها مع الولايات المتحدة. ولا يبدو أن هناك أي شك في دعم واشنطن لطوكيو عندما يتعلق الأمر بالصين. وهناك بالفعل عشرات الآلاف من القوات الأمريكية تتمركز في اليابان. وقد أعلن الحليفان مطلع هذا العام عن تعزيز علاقتهما العسكرية، مع تخصيص وحدات جديدة من مشاة البحرية الأمريكية لتعزيز الدفاع عن اليابان.
وتعمل اليابان أيضًا على تعزيز العلاقات العسكرية مع بريطانيا، حيث أعلنت في يناير الماضي أيضًا عن “اتفاقية دفاعية تاريخية”، من شأنها أن تسمح لكل من الدولتين بنشر قوات في الدولة الأخرى.
ولعل أحد أكبر مخاوف اليابان من الصين هو الموقف من تايوان، التي تدّعي الصين السيادة عليها وتسعى حثيثًا من أجل ضمها، حيث لم يستبعد الرئيس الصيني شي جين بينغ استخدام القوة لضم الجزيرة إلى الوطن الأم. ويُذكر في هذا الصدد أن بعض الصواريخ الصينية قد سبق وأن سقطت أثناء التدريبات العسكرية في العام الماضي في المنطقة الاقتصادية الخالصة لليابان، بالقرب من الجزر اليابانية، وبالقرب من تايوان، وهو ما أثار قلق طوكيو إلى حد كبير.
توافق وسط تباينات
صحيحٌ أن مجموعة السبع قد زادت من ضغوطها على موسكو وبكين، إلَّا أن هناك انقسامات بين هذه الدول حول المدى الذي يجب أن تصل إليه الإجراءات العقابية. ومن الواضح أن اليابان والدول الأوروبية يبدو عليها أنها مترددة في خفض حجم التجارة مع روسيا والصين إلى الحد الذي تطالب به واشنطن. وقد أفادت صحيفة “فاينانشيال تايمز” أن اليابان والدول الأوروبية رفضت الشهر الماضي اقتراحًا أمريكيًا بحظر الصادرات الروسية بشكل كامل؛ لأنها تعتبره أمرًا غير واقعي. كما أعرب دبلوماسيون أوروبيون عن مخاوفهم بشأن بعض المقترحات التي طُرحت لإغلاق أنابيب الغاز الطبيعي بشكل دائم، والتي أوقفتها روسيا بعد غزوها لأوكرانيا العام الماضي.
ورغم الموقف الصارم الذي أبدته القمة تجاه سلوك الصين الاقتصادي والعسكري، فإن مجموعة السبع ليست متحدة في موقفها تجاه الصين. بل إن الواقع يشير إلى وجود تباين بين الموقفين الأمريكي والأوروبي على وجه الخصوص. وقد سبق أن صرح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بعد زيارته بكين في أبريل الماضي أن على أوروبا ألَّا تصبح “مجرد أتباع لأمريكا”، وقد أدلى الرئيس الفرنسي بذلك في أثناء إجابته عندما سئل عن احتمال غزو الصين لتايوان، وأكد على ضرورة ألَّا تنشغل أوروبا “بأزمات ليست أزماتها، مما يمنعها من بناء استقلالها الاستراتيجي”. وبطبيعة الحال ، لم ينل هذا الموقف استحسانًا من قِبَل الولايات المتحدة، ومن قِبَل بعض شركاء ماكرون الأوروبيين، ولا شك أن ذلك الأمر كان ضمن موضوع البحث.
ولكن الأمر الذي كان أكثر وضوحًا هو أن الانقسامات داخل مجموعة السبع – فيما يتعلق بالصين – كانت هي الأكثر بروزًا، ربما على نحو مختلف عمّا هو الحال بالنسبة لروسيا؛ فقد اختلفت هذه الدول بشأن كيفية التحذير مما تعتبره تهديدًا من قِبَل الصين لسلاسل التوريد العالمية والأمن الاقتصادي، بحيث لا يصل الأمر إلى حَدِّ عزلها، لا سيّما وأنها – أي الصين – شريك تجاري قوي ومهم لكل هذه الأطراف؛ حيث ترتبط دول مجموعة السبع ارتباطًا اقتصاديًا وثيقًا بالصين، التي تشكل ثاني أكبر اقتصاد في العالم، وقاعدة التصنيع العالمية الرئيسية.
وأيًا ما كان الأمر فإن الأمريكيين قد حاولوا التقليل من شأن هذه الخلافات، وقد قال مسؤول كبير بالإدارة الأمريكية إن قادة المجموعة مُوَحَّدُون وراء نهج مشترك تجاه الصين، رغم أنها كانت “واحدة من أكثر القضايا تعقيدًا“. وبالفعل فقد تحدث القادة بصوت واحد عن سلسلة من المواقف المتعلقة بالصين، بما في ذلك الحاجة إلى مواجهة ما أطلقوا عليه “الإكراه الاقتصادي”، وحماية التقنيات المتقدمة التي يمكن أن تهدد الأمن القومي، مع التأكيد – في الوقت نفسه – على أن التعاون مع بكين هو أمر ضروري. وتأمل المجموعة أن تضطلع بكين بدور أكبر من أجل إنهاء الحرب في أوكرانيا؛ وبذلت جهودًا لحث الصين على الضغط على شريكتها الاستراتيجية – روسيا – لإنهاء حربها على أوكرانيا وحل النزاعات الإقليمية سلميًا. وعلى كل حال فإن قادة مجموعة السبع قد شددوا في البيان المشترك على أنهم لا يريدون إلحاق الضرر بالصين، بل يسعون إلى إقامة “علاقات بناءة ومستقرة” مع بكين“.
قضايا أخرى على الطاولة
لقد كان على طاولة المباحثات قضايا أخرى ناقشتها القمة، من أهمها الاقتصاد العالمي والمشاكل التي يواجهها، والتغير المناخي، والتكنولوجيا، وقد بحث القادة سبل تعميق تعاونهم في هذه القضايا. وكان من الطبيعي أن تُلقي قضية الديون الأمريكية بظلالها على مباحثات القمة، لدرجة أن الرئيس الأمريكي قد ألغي زيارة مقررة لأستراليا وبابوا غينيا الجديدة؛ وذلك للعودة إلى واشنطن من أجل حمل الكونجرس على تمرير تشريع يرفع سقف ديون الحكومة الأمريكية، وقد بادر بالفعل في التفاوض مع قادة الكونغرس بعد عودته مباشرة. وهناك مخاوف من أن فشل الكونجرس في الموافقة على رفع سقف الدين بحلول الأول من يونيو قد يؤدي إلى تعثر الولايات المتحدة في سداد ديونها، وهذا الأمر بدوره سوف تتجاوز تأثيراته الخطيرة الاقتصاد الأمريكي إلى الاقتصاد العالمي. فوفقًا لخدمة أبحاث الكونغرس، فإن حوالي 30 ٪ من ديون الحكومة الأمريكية مملوكة للأجانب، أي حوالي 7.3 تريليونات دولار على شكل سندات خزينة، وكان اثنان من أكبر أصحاب هذا الدين – اليابان وبريطانيا – على رأس طاولة المفاوضات مع بايدن في هيروشيما؛ حيث تحتل اليابان المرتبة الأولى بين حائزي سندات الخزانة الأميركية بمبلغ 1076 مليار دولار، تليها الصين بمبلغ 867 مليار دولار، ثم المملكة المتحدة بمبلغ 655 مليار دولار.
قمة الرباعية
كان من المفترض أن يتبع الاجتماع في هيروشيما عقد قمة في أستراليا لزعماء التحالف الرباعي: الولايات المتحدة، واليابان، والهند، وأستراليا. ولكن في ظل الأوضاع الاقتصادية في الولايات المتحدة، فقد ألغى بايدن رحلة مخططة إلى أستراليا، وبدلًا من ذلك تم ترتيب هذا اللقاء الرباعي في هيروشيما أيضًا، حيث اجتمع زعماء الدول الأربع التي تشكل الرباعية، برئاسة رئيس وزراء أستراليا، التي ينتابها القلق أيضًا من تنامي النفوذ الصيني؛ وناقش القادة ملفاتهم على عجل، وأكدوا على تعزيز التعاون بينهم، بما يجعل منطقة المحيطيْن الهندي والهادي منفتحة ومزدهرة. هذا وقد أعلن رئيس الوزراء الهندي ناريندرا مودي أن بلاده ستستضيف قمة الرباعي عام 2024. يُذكر أن هذه المجموعة – المعروفة رسميًا باسم الحوار الأمني الرباعي – قد تأسستْ منذ عام 2007 بمبادرة يابانية، ولكنها شهدت بروزًا متزايدًا في السنوات الأخيرة، كرد فعل على سياسة الصين الخارجية، ولا سيّما مساعيها للتمدد في منطقة آسيا باسيفيك.
قمة على وقع أخرى
غير بعيد عن هيروشيما، عُقدت قمة أخرى على مدار يومين – لم يكن توقيتها مصادفة – بين الصين ودول آسيا الوسطى: وهي كازاخستان وقيرغيزستان وطاجيكستان وتركمانستان وأوزبكستان، حيث أرادت بكين أن تظهر أنها لن تقف مكتوفة الأيدي، وأن لديها خياراتها في الرد على موقف المجموعة منها، وذلك من خلال تعزيز نفوذها في آسيا الوسطى، عبر مشاريع الطاقة، وزيادة حجم التبادل التجاري مع دول هذه المنطقة والذي بلغ 70 مليار دولار في عام 2022. وفي الوقت نفسه شهدت القمة التوقيع على اتفاقيات تعطي دفعة قوية لمبادرة “الحزام والطريق”، التي تتضمن توسيع شبكات طرق، بحيث تضمن سرعة وصول البضائع الصينية إلى العالم. وقال الرئيس الصيني شي جين بينغ في افتتاح القمة إن بكين مستعدة لمساعدة دول آسيا الوسطى على بناء قدرات دفاعية، وإنها تهدف إلى تعزيز اتفاقات الاستثمار معها.
ومن المعروف أن الصين تسعى لاستعراض نفوذها خارج النظام الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة، الذي يهدف إلى الحدّ من تنامي النفوذ الصيني. ومن هذا المنطلق فإن أول أهداف الصين – التي كانت تسعى إلى تحقيقها من خلال انعقاد هذه القمة – هو أن تعزّز أمنها في حدودها الغربية، التي تعتبر بمثابة خاصرة ضعيفة في البنية الأمنية للصين، على عكس ما هو في الشرق والجنوب. وثاني الأهداف تعزيز علاقاتها الاقتصادية في المنطقة؛ حيث توجد فيها استثمارات ضخمة، أضف إلى ذلك أن الصين تبحث عن خيارات أخرى بشأن الطاقة، لا سيّما في ظل معاناة روسيا من آثار العقوبات الغربية.
وهنا يمكن أن تثار نقطة جديرة بالاهتمام، ألا وهي موقف موسكو من هذه القمة. فمن المعلوم أن روسيا امتنعت عن إبداء أي موقف رسمي أو علني إزاء هذه القمة، رغم أن هذه القمة – بلا شك – قد تُسفر عن الحدّ من النفوذ الروسي أيضًا، خاصة وأن روسيا تعتبر هذه المنطقة ساحة نفوذ حصري لها. وهذا الأمر بالطبع يمثل مشكلة بالنسبة لهذه الدول – أي دول آسيا الوسطى – والتي عبّرت بوضوح عن قلقها إزاء السياسة الخارجية الروسية في السنوات الأخيرة، خاصة بعد ما حدث مع أوكرانيا، وأظهرت مخاوفها من بعض الممارسات الروسية؛ باعتبار أن النخب الروسية ما زالت تمارس محاولاتها من أجل الهيمنة عليها، ولا تتعامل معها على قدم المساواة، وقد سبق وأن عبّر بعض قادة هذه الدول بوضوح عن هذا الأمر.
والخلاصة أن قمة مجموعة السبع أظهرت موقفا موحدا فيما يتعلق بروسيا وأظهرت تصميمها على مواجهتها عبر فرض المزيد من العقوبات عليها وتقديم دعم عسكري نوعي لأوكرانيا. وفيما يتعلق بالصين كان القادة والمسؤولون الغربيون واضحين أيضا في تأطير الإجراءات كرد على ما اعتبروه تهديدات الصين وخاصة فيما يتعلق بما سموه “الاكراه الاقتصادي”، ولكنهم حرصوا في الوقت نفسه على جعل الباب مفتوحا، وعبروا عن رغبتهم بعلاقات جيدة معها؛ بحكم حجم العلاقات الاقتصادية معها، وعلى أمل أن تمارس الصين ضغوطا على روسيا. ومع ذلك فإن أكبر تحدي أمام المجموعة هو المحافظة على هذا الزخم في دعم أوكرانيا ومواجهة روسيا، وتحقيق توازن في العلاقة مع الصين بحيث تحافظ على مصالحها معها ولا سيما في المجال الاقتصادي، بينما تكبح مساعيها لعسكرة منطقة بحر الصين الجنوبي وتردعها عن القيام بأي عمل عسكري ضد تايوان.