Insight Image

حرائق الغابات والأدوار الجديدة للجيوش

14 أكتوبر 2022

حرائق الغابات والأدوار الجديدة للجيوش

14 أكتوبر 2022

شهدت السنوات القليلة الماضية موجة غير مسبوقة من اندلاع الحرائق في كثير من الغابات حول العالم، الأمر الذي أسفر عن كثير من التداعيات البيئية والجيواستراتيجية، حيث أظهر تقرير للمنتدى الاقتصادي العالمي أن حرائق الغابات أصبحت تلتهم حاليًا ضعفي ما كان يُحترق من أشجار في 20 عامًا، وأن هذه الحرائق تُتلِف 3 ملايين هكتار من الغابات سنويًا[1]. كما يتوقع تقرير صادر عن برنامج الأمم المتحدة للبيئة أن يؤدي تغير المناخ إلى زيادة تواتر حرائق الغابات وشدتها مع زيادة تصل إلى 14% عام 2030، و30% مع نهاية عام 2050، و50% بحلول عام 2100.[2]

لقد تناولت الكثير من التقارير والدراسات المتعمقة التأثيرات السلبية لموجات اندلاع الحرائق في الغابات، والتي انطلقت من أستراليا مرورًا بآسيا وأفريقيا والأمريكيتين وأوروبا وصولًا إلى منطقة سيبيريا الروسية التي تعد من أبرد مناطق العالم. ومع ذلك لم تُشر كثير من هذه الدراسات إلى الآثار المترتبة لحرائق الغابات على المؤسسات العسكرية، أو على طبيعة الأدوار والوظائف التي تقوم بها الجيوش في حال انتشار الحرائق. فقد فرضت التطورات المتسارعة والمتغيرة في البيئة الاستراتيجية العالمية تغييرات مهمة في طبيعة الأدوار والوظائف التي تقوم بها الجيوش، أو بالأحرى إضافة مهام جديدة للمؤسسات العسكرية لم تقم بها من قبل. وهو الأمر الذي اتضح في الفترة الأخيرة من خلال الأدوار التي قامت بها الجيوش في مواجهة جائحة “كوفيد- 19″، حيث لعبت دورًا في فرض الأمن والاستقرار الداخلي، والحد من انتشار المرض، والدخول السريع في مجال إنتاج مستلزمات الصناعات الدوائية، وعلاج المصابين في المستشفيات العسكرية أو إقامة وتجهيز مستشفيات متنقلة، وحماية سلاح الجو لشحنات الأدوية من أي عمليات سطو دولية محتملة.

 وظهرت أدوار جديدة للجيوش في التكيف مع الأزمات والتهديدات الناشئة سواء بفعل الطبيعة أو الإنسان، أو الاثنين معًا، إلى جانب وظيفتها التقليدية المتعلقة بشؤون التأهيل والتدريب وأعمال الدفاع بمفهومه الشامل. فخلال موجة الحرائق التي شهدتها العديد من بلدان العالم هذا العام، خاصة الدول الأوروبية وبعض دول شمال أفريقيا، لعبت الجيوش دورًا أساسيًا وهامًا في مكافحة الحرائق ودعم فرق الإطفاء من خلال استخدام معدات الجيش، على سبيل المثال: قاذفات قنابل مائية كتلك التي استُخدمت في المملكة المغربية لإطفاء حرائق إقليم العرائش جنوب طنجة أو الطائرات والمروحيات التابعة للقوات الجوية التي استُخدمت في الجزائر لإطفاء حريق غابة تالين.

وفي هذا الإطار تحاول هذه الدراسة الإجابة عن تساؤلات عدة، مثل: ما هي أسباب زيادة وتيرة حرائق الغابات؟ وما التداعيات والآثار التي فرضتها على الجيوش في العالم؟ وما طبيعة الأدوار التي تلعبها المؤسسات العسكرية لمواجهة ظاهرة الحرائق؟ وكيف ستغير هذه الحرائق في هياكل القطاعات داخل المؤسسات العسكرية؟ أو ما الأدوار المستقبلية المنتظرة من الجيوش لمواجهة ظاهرة الحرائق خاصة، والتغيرات المناخية عامة؟

أولًا: ارتفاع وتيرة الحرائق حول العالم

اندلعت هذا العام حرائق عديدة التهمت مساحات شاسعة من الغابات حول العالم. على سبيل المثال: في مارس 2022 شهدت كوريا الجنوبية حرائق التهمت قرابة 5989.3 هكتار في مقاطعة أولجين الساحلية وكادت أن تصل لمحطة هانول للطاقة النووية. وفي القارة الإفريقية عانت المملكة المغربية من حرائق في أقاليم العرائش ووزان وتطوان وتازة التهمت على أقل تقدير 1618.74هكتار من الغابات وبلغت المساحة التي التهمتها الحرائق منذ مطلع السنة حتى شهر أغسطس 2022 قرابة 25 ألف هكتار وفق بيانات المركز الوطني لتدبير المخاطر المناخية بالوكالة الوطنية للمياه والغابات بالمملكة.[3]

وفي يونيو شهدت كل من فرنسا وإسبانيا حرائق أسفرت في الأولى عن تدمير نحو 19303.5هكتار ومغادرة نحو 34 ألف شخص مناطقهم، بينما أحرقت ألسنة اللهب في الثانية 24685.82 هكتار على الأقل في إقليم زامورا وتم إجلاء أكثر من 6 آلاف شخص من قراهم. وفي تركيا دمرت حرائق الغابات في إقليم موغلا نحو 687.9 هكتار من الأراضي، وتم إجلاء 3530 شخصًا. وفي الولايات المتحدة الأمريكية اندلعت حرائق في كل من ولاية كاليفورنيا وولايتي أريزونا ونيومكسيكو. كما شهدت أمريكا الجنوبية حرائق في الأرجنتين في إقليم كوريينتس بالقرب من حدود باراغواي.[4]

وفي منتصف أغسطس الماضي أعلنت المفوضية الأوروبية عن دمار 700 ألف هكتار بسبب حرائق الغابات في الاتحاد الأوروبي لعام 2022. ولجأت دول الاتحاد 9 مرات إلى تفعيل آلية الدفاع المدني للاتحاد، وأرسلت 29 طائرة إطفاء، وثماني طائرات هليكوبتر و370 رجلًا من رجال الإطفاء لمكافحة الحرائق المنتشرة في القارة[5]. وفي صيف عام 2021، كان هناك 174حريقًا التهم غابات في روسيا تمتد على مساحة تتجاوز 1,5 مليون هكتار، وأعلنت هيئة حماية الغابات من الجو أنه تم تسجيل أكبر مساحة لحرائق الغابات في جمهورية ياقوتيا الروسية[6].

تنقسم مسببات حرائق الغابات إلى قسمين: حرائق نتيجة التغييرات المناخية وأسباب طبيعية، وحرائق بسبب العامل البشري.

  • الأسباب الطبيعية:

تنتج الحرائق من ظواهر طبيعية مثل: الرعد والبرق والرياح وارتفاع درجات الحرارة والفيضانات. فعلى سبيل المثال، شهدت مناطق كثيرة في أوروبا في هذا العام موجة حارة غير مسبوقة تتماشى مع تغير المناخ وارتفاع درجات الحرارة إلى ما يزيد على 40 درجة مئوية في بعض المناطق؛ ما أدى إلى اندلاع حرائق غابات في مناطق ريفية جافة في البرتغال وإسبانيا وفرنسا[7]. وفي الوقت الذي يتسبب فيه تغير المناخ بزيادة معدل الحرائق، يتأثر المناخ سلبيًا ويزداد سوءًا بسبب الحرائق أيضًا التي تدمر النظم البيئية الحساسة والغنية بالكربون مثل أراضي الخث (نوع خاص من الأراضي الرطبة) والأراضي المطيرة.[8]

  • الأسباب البشرية:

يقصد بالأسباب البشرية تلك الأسباب الناتجة عن الفعل أو العامل البشري؛ كالأخطاء، والإهمال البشري، سواء كانت متعمدة أو غير متعمدة. فعلى سبيل المثال، أكدت معلومات إدارة حرائق البراري (WFMI) وأرشيف بيانات أبحاث خدمات الغابات الأمريكية بين عامي 2000 و2017 أن ما يقارب 85٪ من حرائق البراري في الولايات المتحدة الأمريكية كانت ناتجة عن أسباب بشرية[9]. أو كما أشارت بعض التقارير إلى أن إشعال حرائق في غابات الأمازون غالبًا ما يتم عمدًا لإخلاء الأرض، وذلك بعد أن يحصل قاطعو الخشب على ما يريدون، يقومون بإحراق ما يتبقى من نباتات لإخلاء الأرض على أمل بيعها للمزارعين. ونتيجة لذلك؛ ارتفع معدل إزالة الغابات في الأشهر السبعة الأولى من عام 2019 بنسبة 67% مقارنة بالعام الذي سبقه[10]. وتخلي بعض الدول الأراضي عن طريق إحراقها؛ سعيًا للحصول على مساحات شاسعة منها يمكن بيعها والحصول على عوائدها الاقتصادية.

وفي بوليفيا أيضًا، تم العثور على أكبر بؤر إزالة للغابات في الأمازون، حيث يعتمد العديد من البوليفيين تكتيكات القطع والحرق لتطهير الأرض للماشية أو إنتاج فول الصويا. وفي العادة تخرج الحرائق عن السيطرة وتمتد إلى مساحات شاسعة من الغابات[11]. وفي تركيا، أثار قلقَ سكان “منطقة موغلا” قيامُ الحكومة باستغلال الأرض المحروقة في عام 2021 لفتح سلسلة من المناجم، حتى أشار بعضهم إلى أن تلك الحرائق تمت بإيعاز من الدولة، وخاصة بعدما منحت تراخيص التعدين، منذ عام 2018، لمساحات كبيرة كانت في الأصل غابات، وهو ما اعتُبر تهديدًا للنظام البيئي[12].

وفي دول شمال أفريقيا، لم تحدد المغرب الأسباب الرئيسية لاندلاع الحرائق، غير أن أصابع الاتهام وجهت إلى العامل البشري، حيث تم توقيف عدد من الأشخاص الذين يُشتَبَه بتورطهم في إضرام النار بغابة “كدية الطيفور” شمال البلاد، وهو الحريق الذي أودى بحياة 3 أشخاص وقضى على مساحات شاسعة من الغطاء النباتي[13]. وفي الجزائر، أعلن الرئيس عبدالمجيد تبون أن أغلب الحرائق التي تشهدها بلاده هي من فعل “أيادٍ إجرامية”، مشيرًا إلى إيقاف عدد من الأشخاص للاشتباه بضلوعهم في إضرام مجموعة من أشد حرائق الغابات تدميرًا في تاريخ البلاد[14].

ثانيًا: التداعيات الجيواستراتيجية

تعددت الآثار الجيواستراتيجية المترتبة عن ظاهرة الحرائق في الغابات، وتشمل مجالات متنوعة، وهي كما يلي:

  1. الآثار السياسية: أدت موجة الحرائق التي شهدتها دول عدة إلى زيادة حالة السخط المجتمعي من فشل الحكومات في التعامل معها، أو السيطرة عليها. ولم تقتصر حالة السخط على نشطاء البيئة فقط، بل امتدت إلى فئات أخرى من المجتمعات، خاصة قوى المعارضة، وهو ما أدى إلى وجود بعض التظاهرات التي نددت بطريقة التعامل الرسمي مع حرائق الغابات. فعلى سبيل المثال، في عام 2019 تسببت حرائق الأمازون بزيادة التوتر في العلاقات بين الرئيس البرازيلي جايير بولسونارو ومعارضيه، من ناشطين ومنظمات، ممن يعتبرون سياساته تحرّض على الحرائق التي تلتهم أكبر غابة في العالم. حيث تبنّـى بولسونارو في برنامجه الانتخابي تطوير المنطقة الزراعية والتعدين وشجع على سياسة قطع الأشجار، ووعد باستعادة اقتصاد البلاد من خلال إيجاد استخدامات أخرى لغابة الأمازون، وهو ما تم بالفعل بعد توليه السلطة، حيث أمر بتغيير العديد من القوانين التي تعود بالنفع على المجتمع الريفي الذي يحتاج إلى إزالة الغابات من أجل فتح الطريق أمامه لممارسة نشاطه الزراعي، والتي تقف غابات الأمازون عقبة في وجهه. وفي رد فعل على سياسات الرئيس بولسونارو خرج البرازيليون إلى الشوارع في أكثر من 12 مدينة احتجاجًا على تقاعس الحكومة عن مكافحة الحرائق، وأغلقوا طرقًا رئيسية في برازيليا وساو باولو. ونُظّمت احتجاجات مماثلة أمام سفارتي البرازيل في باريس ولندن[15].

وفي تركيا، أدت الحرائق إلى ضغوط على الرئيس أردوغان وحزبه العدالة والتنمية الذي اتُّهم بتفضيل مشروعات التنمية الشاملة على الحفاظ على البيئة الطبيعية في البلاد. وتعرضت الحكومة لانتقادات كبيرة بسبب رد الفعل غير المتكافئ، الذي سمح باشتعال النيران في البلدات الساحلية؛ ما أدى إلى تدمير العديد من المنازل أيضًا[16].

وشهدت الجزائر حالة غضب شعبي أيضًا؛ بسبب فشل الحكومة في التعامل مع الحرائق. ومن جانبه، حمّل “حزب التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية” السلطات مسؤولية الفشل في مواجهة الحرائق واعتبر أن الأمر كان يستدعي طلب دعم دولي، وخاصة طلب طائرات الإطفاء[17].

 

  1. أزمات وتوترات دولية: كاد العالم أن يشهد أزمات دولية نتيجة الاتهامات المتبادلة بالتقاعس في إخماد الحرائق. فعلى سبيل المثال، اعترضت الدول الأوروبية على السياسات البرازيلية في إخماد الحرائق التي نشبت في غابات الأمازون. وقادت بالفعل هجومًا على الرئيس بولسونارو الذي لم يخفِ تشكيكه في التغير المناخي. وفي هذا الإطار، انتقد الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، حكومة البرازيل لعدم بذلها المزيد من الجهود لحماية الغابة المطيرة، ودعا إلى إعلان حالة طوارئ دولية، وتشكيل تحالف دولي لإنقاذ غابات الأمازون مما وصفه جريمة “إبادة بيئية”[18]. كما عبّـر رئيس الوزراء البريطاني السابق، بوريس جونسون، والمستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، عن قلقهما حيال دمار غابات الأمازون. ومن جانبه، ندد بولسونارو بخطة ماكرون الخاصة بتشكيل تحالف دولي لحماية الأمازون، وقال: إن هذا التحالف سيعامل البرازيل كمستعمرة. وعلى الجانب الآخر، أشار الرئيس الجزائري إلى أن استجابة الدول الأوروبية لطلبات بلاده بخصوص شراء أو استئجار طائرات إطفاء لم تكن فورية، وأكد أن الدول الأوروبية لم تستجب لطلبات الجزائر لأنها أعطت الأولوية لكلٍّ من اليونان وتركيا[19].

 

  1. الآثار الاقتصادية: تنوعت الآثار المترتبة عن حرائق الغابات على الاقتصاد الوطني للدول، خاصة مع ارتفاع التكلفة اللازمة لإعادة تأهيل تلك الغابات مرة أخرى، أو تأثيرها السلبي على حجم الأنشطة المرتبطة بصناعات الترفيه والسياحة أو الحفاظ على الثروة الحيوانية والتنوع البيولوجي في تلك الغابات. وتعتبر خسارة الممتلكات أثرًا اقتصاديًا فوريًا لحرائق الغابات، التي ينتج عنها آثار متتالية تستمر لسنوات كتهجير العائلات والأفراد من منازلهم وخسارة شركات التأمين وقد قدرت دراسة أجرتها كلية لندن الجامعية، أن حرائق الغابات لعام 2018 في كاليفورنيا وحدها كلفت الاقتصاد الأمريكي، ما مجموعه 148.5 مليار دولار أي 0.7% من الناتج المحلي الإجمالي السنوي للبلاد.[20]. وقدرت دراسة اقتصادية نشرها موقع “إنفستوبيديا” الأمريكي أن كل يوم إضافي من التعرض للدخان الناجم عن حرائق الغابات يقلل الأرباح في المجتمع بنحو 0.04% على مدار عامين[21].

وفي روسيا، قال مسؤولو الغابات، إنه تم تخصيص ما يقارب من 123 مليون دولار لمكافحة الحرائق من الميزانية الفيدرالية وصندوق الاحتياط الحكومي، إلا أن علماء البيئة وخبراء الغابات يقولون إن المبلغ غير كافٍ. كما أدى اندلاع الحرائق في كلٍّ من اليونان وإيطاليا وكرواتيا وبريطانيا إلى إجبار شركات القطارات على إلغاء الخدمات، والمدارس على الإغلاق مبكرًا، وحث السكان على البقاء في منازلهم.[22] وفي تركيا، سادت حالة من التشاؤم بعد أن تسببت حرائق الغابات التي ضربت الآلاف من أشجار الصنوبر التي تشكل الغذاء الرئيسي للنحل في ضربة قاصمة لصناعة العسل في تركيا وحتى قبل اندلاع حرائق الغابات، عانى مربّو النحل في تركيا بالفعل من تغير المناخ، حيث أدّى الجفاف ودرجات الحرارة المرتفعة إلى تقليل عصارة أشجار الصنوبر وقتل الحشرات.[23]. وفي أستراليا أعلنت سلطات نيو ساوث ويلز تخصيص 1.2 مليار دولار أسترالي (740 مليون يورو) لإصلاح البنى التحتية في مناطق الحرائق[24]. وأثرت الحرائق في أنشطة الترفيه في المناطق المفتوحة أيضًا، التي تجذب السياح؛ الأمر الذي أثر بشكل سلبي في أعمال الضيافة والمطاعم والصناعات الأخرى. فعلى سبيل المثال، اضطرت السلطات الإيطالية إلى إجلاء عشرات الأشخاص، من ضمنهم الكثير من السياح إثر اندلاع حريق هائل في جزيرة بانتيليريا في صقلية[25]. إن خطورة هذه الحرائق المتصاعدة في جميع أنحاء العالم تجعل من الضرورة التفكير في الطرق التي تؤثر بها الحرائق في الاقتصاد.

  1. التداعيات البيئية: أجريت العديد من الدراسات التي تناولت أثر الحرائق في البيئة. وفي هذا المضمار، يخشى العلماء من استمرار تدمير غابات الأمازون؛ لأنها قد تتحول من غابات مطيرة إلى سافانا. وفي الوقت الذي سيتقلص فيه حجم مصرف الكربون في أفريقيا بنسبة 14%، فإن مصرف الكربون في غابات الأمازون سيكون في طريقه إلى الاختفاء تمامًا بحلول عام 2035[26]، وفقًا لبعض التقديرات. فحوض الأمازون يبعث حاليًا غازاتٍ أكثر مما يمتصه بشكل طبيعي، وليس ثاني أكسيد الكربون فقط، ولكن غازات عديدة، منها أكسيد النيتروز والميثان أيضًا، التي تتحلل بشكل أسرع في الغلاف الجوي ولكنها تحبس ما يصل إلى أكثر من 300 مرة من الحرارة لكل جزيء أثناء طفوها في الهواء[27].

وفي لبنان، أدت الحرائق إلى العديد من الخسائر البيئية، التي من بينها خسارة مساحات كبيرة من الأشجار المعمرة كالصنوبر والسنديان، والأشجار المثمرة، وغيرها. ونفوق عدد من الحيوانات التي تعيش ضمن الغابات والأحراج. بالإضافة إلى خسارة الطيور المحلية أو المهاجرة التي تعيش فيها، واحتراق التربة وكل مكوناتها البيولوجية، بحيث أصبحت ضعيفة وغير متماسكة[28].

وإجمالًا، حذر العلماء من تداعيات حرائق الغابات، فبالإضافة إلى أنها تفاقم انبعاثات الكربون، فإنها تهدد بشدة بتدهور المناظر الطبيعية للغابات، وفقدان التنوع البيولوجي، خاصة عندما تقترن الحرائق بقطع الأشجار وظهور الآفات والأمراض التي تتفاقم مع تغير المناخ، وفقدان أنواع نادرة من الحيوانات أيضًا[29]. فيما يحذّر خبراء من أن الحيوانات التي نجت من الحرائق تواجه الخطر نفسه وتكافح من أجل البقاء على قيد الحياة[30].

  1. الآثار المجتمعية والصحية: أدت موجه الحرائق التي شهدها العالم، مؤخرًا، إلى حزمة من التداعيات الاجتماعية والصحية التي ترتبت على إخلاء السكان، وعمليات الإنقاذ، ووفاة العديد من المواطنين. فقد تسببت الموجة الحارة التي ضربت إسبانيا في وفاة أكثر من 510 أشخاص[31]. وأدت حرائق الغابات في الجزائر إلى مقتل 38 شخصًا على الأقل وأصابت العشرات. وذكرت وسائل إعلامية محلية أن المئات من السكان أصيبوا بحروق ومشاكل في الجهاز التنفسي [32]. ويواجه الأفراد القريبون من حرائق الغابات مخاطر استنشاق الدخان، إذ من الممكن أن تؤثر حرائق الغابات سلبيًا في جودة الهواء على بُعد آلاف الأميال، حتى الأشخاص الذين لم يصابوا بشكل مباشر في الحريق قد يتعرضون لتداعيات صحية تؤثر في معيشتهم واحتياجاتهم الحياتية والنفسية. وبالنسبة إلى الناجين من حرائق الغابات، قد تتأثر الصحة العقلية لهم سلبيًا أيضًا. وقد يعاني بعضهم اضطراب ما بعد الصدمة والاكتئاب الذي يتطلب علاجًا.

ثالثًا: الأدوار المتنوعة للجيوش في مواجهة الحرائق

تتعدد الأدوار التي تقوم بها المؤسسات العسكرية لمواجهة الحرائق، ومنها ما يلي:

  • المشاركة في إطفاء الحرائق: ذكرت دراسة نشرها “مركز المناخ والأمن” الأمريكي بأن حرائق الغابات لها عواقب وخيمة على عشرات الملايين من الأشخاص ومجتمعاتهم في أنحاء العالم، وأن التصدي لها لا يقتصر على رجال الإطفاء فقط، بل إنه في أحيان كثيرة يتطلب تدخل الجيش الوطني في الدول لمكافحة النيران. لذا، قامت المؤسسات العسكرية بمهام متعددة أثناء موجة الحرائق الأخيرة التي نشبت في العديد من بلدان العالم، وكانت من أولى هذه المهام المشاركة مع الأجهزة والمؤسسات الأخرى في إطفاء الحرائق. ففي الولايات المتحدة الأمريكية، تندلع النيران بشكل شبه سنوي؛ لهذا فإن حكّام الولايات باتوا يستعينون بشكل رسمي بقوات الحرس الوطني والوحدات الأرضية والجوية العاملة بمعداتها لمكافحتها، وتقليل الخسائر الناتجة عن هذه الحرائق[33]. وفي البرازيل، قام الرئيس بإرسال الجيش للمساعدة في مكافحة الحرائق التي نشبت في غابات الأمازون[34]. أما في الجزائر فقد أدت مشاركة الجيش في إطفاء الحرائق إلى مقتل 28 جنديًا؛ ما أثار موجة من الغضب بين الجزائريين الذين اعتبروا أن الجنود دفعوا حياتهم ثمنًا لفشل التخطيط الحكومي في مواجهة الحرائق، الأمر الذي فتح أبواب النقد والمساءلة كذلك للقيادة التي أرسلت هؤلاء الجنود إلى حتفهم، خاصة أن الوضع كان في غاية الخطورة ويتطلب إمكانيات وتدريبًا لم يتوافرا لدى الوحدات التي دُفع بها إلى هناك[35].
  • عمليات الإغاثة وإجلاء الرعايا: لا يقتصر عمل الجيوش على المشاركة في إخماد الحرائق، ولكنه يمتد إلى المساعدة في عمليات الإغاثة وإجلاء المواطنين من الغابات؛ ففي إيطاليا لم تستطع إدارة الإطفاء إخماد عشرات الحرائق التي اندلعت في مقاطعة باليرمو، في صقلية، ما دفع السلطات إلى الاستعانة بقوات طوارئ إضافية إلى الجزيرة السياحية باستخدام مروحية عسكرية وسفينة لإخلاء العائلات وإغلاق الطرق السريعة مؤقتًا[36]. وفي تركيا، قامت فرق الإغاثة التركية التابعة للجيش بإجلاء المئات من السكان بحرًا، فيما اقترب حريق من محطة للطاقة الحرارية تخزن آلاف الأطنان من الفحم. وعلى وقع إنذارات الإخلاء، كان السكان يكدسون المقتنيات القليلة التي تمكّنوا من أخذها من منازلهم على متن زوارق سريعة لحرس السواحل الذين جُنِّدوا في مرفأ أورين قرب مدينة ميلاس التي تقع بجوارها محطة الطاقة. ومن جانبه قال وزير الدفاع الألباني إن فرق الإطفاء الألبانية تمكنت من السيطرة على كل حرائق الغابات التي نشبت في ألبانيا[37]. وفي كوسوفو ساعدت قوات حفظ السلام الدولية بقيادة حلف شمال الأطلسي (الناتو) في إخماد الحرائق، ولكن السلطات قلقة من إمكانية اندلاع المزيد منها[38].

 

  • رفع حالة الجهوزية والتعبئة: أدت حرائق الغابات العابرة للحدود إلى قيام عدد من الدول إلى رفع حالة التأهب والجهوزية للقوات المسلحة التابعة لها كجزء من الاستعداد المبكر لمواجهة تلك الحرائق. ففي اليونان، قال رئيس الوزراء كرياكوس ميتسوتاكيس “نواجه ظروفًا غير مسبوقة بعدما حوّلت موجة حر استمرت أيامًا عدة البلاد إلى برميل بارود”، فيما وضعت 6 مناطق من 13 منطقة في البلاد في حالة تأهب قصوى[39]. وفي المغرب، تمت تعبئة نحو 2000 عنصر من قطاعات المياه والغابات والوقاية المدنية والقوات المسلحة الملكية والدرك الملكي والقوات المساعدة، معزَّزين بشاحنات الإطفاء وسيارات التدخل السريع، كما تمت الاستعانة خلال هذه العمليات بطائرات تابعة للدرك الملكي، في محاولة لوقف اتساع رقعة الحرائق. ونفذت 8 طائرات تابعة للقوات الجوية طلعات جوية، توازيًا مع انتشار المئات من عناصر المياه والغابات والوقاية المدنية والقوات المساعدة والقوات المسلحة الملكية وأعوان الإنعاش الوطني[40].وقامت أستراليا بتجهيز دعم عسكري للمساعدة في إخماد الحرائق، وأكد رئيس الوزراء الأسترالي، سكوت موريسون، أن أفراد الجيش متأهبون للتحرك إلى مناطق الحرائق إذا تدهورت الأمور بشدة، حيث سبب ارتفاع درجات الحرارة وسرعة الرياح وضعًا خطرًا. وتنقَّل العسكريون من منزل إلى آخر ببلدة بارندانا في جزيرة كانغارو بجنوب أستراليا لحث السكان على الرحيل هربًا من الحرائق الهائلة[41].

 

  • إعادة تأهيل الغابات: قامت القوات المسلحة في بعض البلدان بالعمل على إعادة تأهيل الغابات بعد أن التهمت الحرائق مساحات شاسعة منها. وقد تم ذلك من خلال المشاركة في إعادة تأهيل البنية التحتية، وأماكن المراقبة المخصصة في الغابات، فضلًا عن إنشاء طرق جديدة تستطيع من خلالها سيارات الدفاع المدني العبور إلى وسط الغابات، وإنشاء برك للمياه، وإعادة زارعة الشتلات في الغابات. كذلك من المهم التدبير الغابوي ليس من منظور التنمية الريفية أو جودة المناظر الطبيعية فحسب، بل كذلك بسبب الدور المهم الذي يلعبه في الوقاية من الحرائق. فالتنبؤ بنوع الحريق ومداه يستند إلى دراسة تركيبة التضاريس المحلية والظروف المناخية، حيث يسمح ذلك بالتعرف على طرق انتشار الحريق وحدته[42]. والتدبير الغابوي نهج طويل الأمد يؤدي إلى تحولات وتغيرات مهمة تساعد على تطوير واستحداث تقنيات حقيقية للهندسة البيئية.

رابعًا: تداعيات الحرائق على المؤسسات العسكرية

أدت موجة الحرائق التي شهدتها العديد من الدول إلى تداعيات مختلفة على الجيوش، وإن كانت أغلب تلك الآثار – بالطبع – سلبية، إلا أنها تختلف من جيش إلى آخر، حسب أنواع الحرائق ومدتها وتكرارها التي تشهدها كل دولة منفردة. وفي ظل التغيرات المناخية المتسارعة، وما يترتب عليها من ظواهر متجددة، تلجأ بعض الدول مباشرة إلى قواتها المسلحة من أجل الحد من نتائج تلك الظواهر، أو كبح جماحها، خاصة إذا كانت ظاهرة عابرة للحدود، الأمر الذي حدث مع موجة الحرائق مؤخرًا، والتي أدت إلى تأكيد بعض الرؤساء والمسؤولين على أن “الأمن الوطني” في خطر. وقال الرئيس الأمريكي، جو بايدن: إن الحرائق المندلعة في المناطق الغربية من الولايات المتحدة دمّرت أراضي تزيد في مساحتها على (ولاية) نيوجيرسي.. وكتب: “أمننا القومي في خطر”[43]. لا شك في أن الحرائق المنتشرة في العالم تمثل بالفعل تهديدًا للأمن الوطني، والعالمي أيضًا، فهي تؤدي إلى ارتفاع معدلات الخسائر في الأرواح وتدمير الممتلكات، وتؤثر في البيئة بشكل كبير، حيث أدت إلى تدهور جودة الهواء، خاصة مع انتشار الدخان عبر آلاف الأميال، وأحدثت ضررًا بخطوط الطاقة، كما أدت إلى انقطاع التيار الكهربائي في بعض المناطق، وأثرت في التنوع البيولوجي في البيئة.. إلخ. وكلها أمور لا شك أنها مرتبطة بالأمن الوطني للدول، وتقع في قلب الأمن العالمي أيضًا.

وفي هذا الإطار، هناك جملة من الآثار المترتبة عن الحرائق على الجيوش، والتي من بينها:

– إخلاء القواعد العسكرية: أدت الحرائق الممتدة في بعض الغابات إلى إجبار بعض الجيوش أحيانًا على إخلاء بعض القواعد العسكرية الموجودة داخلها، أو تلك المجاورة لها، وذلك خوفًا من أن تنشب النيران في تلك القواعد، أو تمتد إلى مخازن المعدات والسلاح الموجودة بتلك المنشآت العسكرية. وفي تقرير صدر عام 2019 بعنوان “تأثيرات تغير المناخ” نشرته وزارة الدفاع الأمريكية، أشارت فيه إلى أن “آثار تغير المناخ هي قضية أمن قومي” من حيث التهديد الذي يواجه القواعد العسكرية للولايات المتحدة المنتشرة في العالم. وأكد التقرير أيضًا أنه “يجب أن تكون وزارة الدفاع قادرة على تكييف العمليات الحالية والمستقبلية لمواجهة آثار مجموعة متنوعة من التهديدات والظروف، بما في ذلك تلك الناجمة عن الطقس والأحداث الطبيعية. وتحقيقًا لهذه الغاية، فإن وزارة الدفاع الأمريكية حددت العوامل التي ستتأثر بها جراء تغيرات المناخ في تخطيط مهامها وتنفيذها. وأشار تقرير للبنتاغون إلى التهديدات المتعلقة بتغير المناخ على 72 قاعدة عسكرية أمريكية حول العالم، وأهمية دراسة ظواهر؛ مثل: حرائق الغابات، والجفاف، والفيضانات، والتصحر؛ الأمر الذي سيكون له تأثير في بنية عمل الجيش وطريقته في تلك الأماكن المهددة بهذه الظواهر[44].

وعلى سبيل المثال، تسبب إعصار “فلورنس” في نورث كارولينا عام 2018 في غمر ثلاث منشآت تابعة لسلاح مشاة البحرية؛ ما تسبب في أضرار تكلفتها 3.6 مليار دولار. وبعد بضعة أسابيع اجتاح إعصار “مايكل” قاعدة تيندال الجوية؛ ما تسبب في أضرار تكلفتها نحو 4.7 مليار دولار في منشأة فلوريدا. وفي هذا الإطار، فإن وزارة الدفاع الأمريكية تدير أكثر من 1700 منشأة عسكرية عالمية على السواحل يمكن أن تكون عرضة لارتفاع مستوى سطح البحر، كذلك حذرت دراسة استقصائية أجريت في عام 2019 شملت 79 منشأة من أن نحو ثلثي المنشآت معرضة للفيضانات المتكررة، وأن نصفها الآخر مهدد بالجفاف والحرائق[45]. وعليه، صرحت المتحدثة باسم القوات الجوية الآمريكية، سارة فيوكو، لموقع Defense News: “تتعرض جميع منشآتنا تقريبًا لبعض التهديدات المتعلقة بالمناخ، مثل: الأعاصير، وحرائق الغابات، والطقس الشتوي القاسي. هذه الاعتبارات المناخية لها تأثير مباشر في قدرتنا على أداء مهامنا [46]. وفي عام 2020 تم إخلاء قاعدة “ترافيس” الجوية في شمال كاليفورنيا بسبب حرائق الغابات التي اندلعت في مكان قريب منها[47].

-إعادة تأهيل البنية العسكرية: إن موجة حرائق الغابات سوف تؤدي إلى إعادة التفكير في إقامة المنشآت العسكرية داخل الغابات، أو على أقل تقدير إعادة تأهيل المعسكرات والقواعد العسكرية داخل الغابات والأحراش بما يتلاءم مع ظاهرة الحرائق، مثل طرق تخزين السلاح، وعدم تخزين أنواع معينة من الأسلحة في الغابات خوفًا من النيران. وقد تؤدي الحرائق، أو غيرها من الظواهر الطبيعية، إلى تعطيل القدرات والمرافق العسكرية، بما في ذلك نطاقات التدريب العسكري، وربما قد تؤدي إلى ضرورة تغيير طبيعة التدريبات أيضًا. ووفقًا لوزارة الدفاع الأمريكية، فهناك عدد من المنشآت العسكرية الأمريكية المعرضة للخطر بالفعل، الأمر الذي يتطلب الاستعداد التشغيلي لوزارة الدفاع للوصول المستمر إلى التدريب البري والجوي والبحري وفضاء الاختبار، وإعادة تأهيل البنية العسكرية لبعض المنشآت. فعلى سبيل المثال، تعاني قواعد سلاح الجو الأمريكي في القطب الشمالي التي تستضيف أنظمة الإنذار المبكر بالرادار ومعدات الاتصالات تآكلًا؛ بسبب التربة الصقيعية، وأن ذوبان الجليد يهدد القواعد العسكرية ويدمر البنية التحتية [48]، الأمر الذي يتطلب نقل هذه القواعد أو إعادة تأهيلها من جديد، وينصرف هذا بالضرورة ويطبق على بعض القواعد الموجودة في الغابات.

– التدريب والاستعداد: إن حجم الحرائق والخسائر المترتبة عليها قد تدفع الجيوش إلى إنشاء فروع بداخلها مخصصة لعمليات إخماد الحرائق وإنقاذ الكائنات الحية وإيجاد بدائل لها في حال نشوب حرائق ممتدة. وتدرك بعض المؤسسات الدفاعية أن تغير المناخ وما ينتج عنه من حرائق عامل جدير بالاعتبار في التخطيط المستقبلي للأمن الوطني من أجل الحفاظ على بنيتها التحتية وعلى ضمان الاستعداد العسكري في المستقبل. وأدت بعض حرائق الغابات إلى تأجيل عمليات التدريب والعمليات المتعلقة بالوصول إلى مرافق التدريب البرية والجوية والبحرية[49].

– الحد من العمليات: إن تغير المناخ وانتشار الحرائق يقوضان قدرة المؤسسات العسكرية على تنفيذ عملياتها بفاعلية وكفاءة، سواء في الداخل أو في الخارج. ولذلك، سيتعين على الجيوش أن تلعب دورًا داعمًا في التطوير المستمر وتنفيذ المبادرات لتقليل انبعاثات غازات الاحتباس الحراري، وفي الوقت نفسه عليها تكييف منشآتها وموظفيها ومهامها من أجل عالم متغير بشكل كبير. كما أن عليها تغيير أنواع المعدات؛ لأن الحرائق ستؤدي إلى التأثير في أنواع المعدات التي ستحصل عليها المؤسسات الدفاعية وطرق نقلها وتوزيعها وتخزينها، وأعمال الدفاع بشكل عام.

– دور الجيوش في مواجهة التغيرات المناخية، والحرائق: تقوم الجيوش الآن بدمج تقييمات مخاطر المناخ في خططها العسكرية، ومنها الحرائق. وفي حين أن تأثير تغير المناخ يهدد البنية التحتية العسكرية، فإن تأثيرها في النظم الاجتماعية يمكن أن يفرض أكثر التحديات الأمنية إلحاحًا[50]. على سبيل المثال، كشفت وزارة الجيوش الفرنسية عن استراتيجيتها لحماية التنوع البيولوجي، وشرعت الجيوش الفرنسية في برنامج للحفاظ على الطبيعة على أسس عسكرية. وتخطط الوزارة لتنفيذ سياسة “لتحسين عزل الكربون” على الأراضي العسكرية أيضًا. لهذا الغرض، أبرمت الوزارة اتفاقية مع اتحاد المعاهد النباتية للمساحات الطبيعية (FCEN) لإنشاء “أحواض الكربون الطبيعية، ولاسيما في الغابات ومستنقعات الخث والأراضي الرطبة”[51].

الاستخبارات البيئية: إن انتشار الحرائق قد يؤدي بالأجهزة الاستخباراتية العسكرية إلى مزيد من أعمال المراقبة والتتبع للغابات، وخاصة أن اندلاع بعض الحرائق كان نتيجة للعوامل البشرية. وفي دراسة نشرها موقع “المكتبة الرقمية لمركز الأمن والدفاع الأمريكي” (Homeland Defense and Security Digital Library)، برزت دعوة إلى استخدام القدرات الاستخباراتية كنهج عملي لمواجهة التهديدات وتقليل آثار حرائق الغابات. ومن بين هذه الوسائل جمع المعلومات وتحليلها ونشرها حول تهديدات الحرائق وتحديد العديد من التوصيات التي تشمل سبل التنبؤ بحدوث الحرائق وسرعة التصرف لإنقاذ الأرواح وتقليل الخسائر[52].

خامسًا: الأدوار المستقبلية المنتظرة من الجيوش لمواجهة تأثيرات التغير المناخي

كما أسلفنا القول تتعاظم في الآونة الأخيرة الأدوار والمهام التي تقوم بها الجيوش لمواجهة الأزمات والكوارث، ويأتي في القلب منها ظاهرة الحرائق التي تتنامى بشكل لافت للنظر في السنوات الأخيرة، سواء كانت طبيعية أو تلك المرتبطة بفعل الأخطاء البشرية. إن الاعتماد على الجيوش لمكافحة مثل هذه الأزمات أمر طبيعي؛ لأنها أوقات وظروف استثنائية تمر بها المجتمعات، وفي الوقت ذاته تتمتع الجيوش بالقدرات الهائلة والسمات الأكثر انضباطًا، ولذا فهي أكثر قدرة من غيرها على مواجهة مثل هذه الظاهرة المتنامية. الأمر الذي يفرض على المؤسسات العسكرية في معظم بلدان العالم أعباء جديدة تضاف إلى مهامها التقليدية، ويفرض عليها أيضًا ضرورة إحداث تعديل في خطط التدريب والتطوير الخاصة بها، وكذلك في خطط التسليح من أجل امتلاك الأدوات والقدرات والمعدات التي تساعد على مكافحة ظاهرة الحرائق والاستعداد المبكر لها.

لا شك في أن بعض المؤسسات العسكرية باتت تتحول بالفعل وتدريجيًا في عقيدتها العسكرية لمواجهة التهديدات اللامتماثلة، وخاصة الناتجة عن التغيرات المناخية بشكل عام، وتعمل من أجل التحول الاستراتيجي لمواجهة الأزمات والكوارث، سواء كانت أوبئة أو حرائق أو فيضانات.

وفي هذا الإطار، هناك سيناريوهات عدة متوقعة لأدوار الجيوش في مواجهة ظاهرة الحرائق، وكلها تتطلب من المؤسسات العسكرية امتلاك القدرات والتكنولوجيا المتطورة في مجال مكافحة ظواهر الحرائق الممتدة، سواء كان في الأماكن المفتوحة مثل الغابات والأراضي الزراعية، أو في الأماكن المكتظة بالسكان مثل المدن والمنشآت السياحية، وتتمثل هذه السيناريوهات فيما يلي:

السيناريو الأول، تقديم جهود الإسناد والدعم: ويُقصد به أن تقوم الجيوش بتقديم مزيد من مهام الإسناد والدعم للأجهزة الأخرى المعنية بمكافحة الحرائق، والمرتبطة بالأساس بالمؤسسات الشُّرَطية مثل إدارات الحماية المدنية. وفي ظل هذا السيناريو سوف تتدخل الجيوش عندما يطلب منها تقديم مهام المشاركة في أعمال الإطفاء أو إجلاء المواطنين، أو نقل ممتلكات عامة أو خاصة إلى مناطق أخرى بعيدًا عن مناطق الحرائق. والجدير بالذكر، أن هذا السيناريو قائم بالفعل في العديد من بلدان العالم، لكن من المتوقع أن تقوم المؤسسات العسكرية بالمزيد من أعمال المساندة والدعم للأجهزة المتخصصة الأخرى في مكافحة الحرائق.

السيناريو الثاني، المشاركة الفعالة: ويقصد بهذا السيناريو عدم اقتصار دور الجيوش على تقديم المساعدة فقط، وإنما القيام بدور أكثر فاعلية من خلال المشاركة في مكافحة الحرائق بالتعاون مع الأجهزة المعنية منذ اللحظات الأولى لاندلاعها، وهذا يتطلب التنسيق والتدريب المشترك مع المؤسسات المتخصصة الأخرى؛ ما يساعد على تقليل حجم الخسائر واحتواء المشكلة دون الانتظار حتى تخرج عن السيطرة وتتسع رقعة الحرائق.

السيناريو الثالث، القيام بعبء مكافحة الحرائق: وهذا يعني أن يتم إسناد مهام إخماد حرائق الغابات، تحديدًا، إلى المؤسسات العسكرية دون غيرها من الأجهزة الأخرى التي يقتصر دورها على الحرائق المحدودة داخل المدن. وهنا، تقوم الجيوش بالاعتماد على أجهزتها وقدراتها كافة لإطفاء النيران، وإخلاء السكان والممتلكات المادية والعينية، الخاصة والعامة. وفي ظل هذا السيناريو، سوف تقوم الجيوش بالاستعداد المبكر، ورفع قدراتها المادية والبشرية عبر امتلاك أحدث المعدات والأجهزة والمواد المستخدمة في مجال الإطفاء، وقد تنشأ أقسام أو فروع داخلها تكون متخصصة أيضًا، في مجال الحرائق والإطفاء فقط. ويضاف إلى ذلك أن الجيوش ستقوم بتخصيص مختبراتها من أجل الوصول إلى اختراعات جديدة تساعد في الحد من ظاهرة الحرائق.

الخلاصة: إن المؤسسات العسكرية في الدول المختلفة سوف تقوم بالسيناريوهات الثلاثة، وربما يختلف حجم المهمة وعبء الدور من دولة إلى أخرى، ولكن المؤكد أن التغير في البيئة الجيواستراتيجية يفرض على الجيوش أدوارًا جديدة بات عليها القيام بها.

المراجع

[1]. Mikaela Weisse and Elizabeth Goldman, “The World Lost a Belgium-sized Area of Primary Rainforests Last Year”, World Resources Institute, April 25,2019. https://www.wri.org/insights/world-lost-belgium-sized-area-primary-rainforests-last-year

[2]. “خبراء يحذرون من ارتفاع عدد حرائق الغابات بنسبة 50٪ مع نهاية القرن”، الأمم المتحدة، 23 فبراير 2022، https://news.un.org/ar/story/2022/02/1094732

[3]. حرائق الغابات تكتسح العالم ويزداد تواترها.. تعرف على أبرزها في 2022، يورونيوز مع رويترز، 20 يوليو 2022، https://arabic.euronews.com/2022/07/20/wildfires-are-sweeping-the-world-and-their-frequency-is-increasing

[4] المصدر السابق

[5]. Euronews, “Forest fires have burned a record 700,000 hectares in the EU this year” August 19, 2022. https://rb.gy/hcriir

[6]. “إخماد 51 حريق غابات في روسيا خلال الـ 24 ساعة الأخيرة”، روسيا اليوم، 8 أغسطس 2021، https://rb.gy/04phpm

[7]. “الحرارة تغزو قارة أوروبا”، صحيفة العرب، 19 يوليو 2022، https://bit.ly/3Q1tlr0

[8]. “خبراء يحذرون من ارتفاع عدد حرائق الغابات بنسبة 50٪ مع نهاية القرن”، الأمم المتحدة، 23 فبراير 2022، https://news.un.org/ar/story/2022/02/1094732

[9]. Wildfire Causes and Evaluations, 8 march 2022, https://www.nps.gov/articles/wildfire-causes-and-evaluation.htm

[10]. “لماذا تثير حرائق الأمازون قلق العالم”، صحيفة العرب، 27 أغسطس 2019. https://bit.ly/3wHSrEg

[11]. “رئة الأرض تساهم في احترار الكوكب لا تبريده”، صحيفة العرب، 13 إبريل 2022. https://bit.ly/3Q7zqC6

[12]. ألكسندرا دي كريمر، “كيف دمّرت حرائق الغابات في تركيا صناعة العسل؟”، صحيفة العرب، 25 سبتمبر 2021. https://bit.ly/3Rm9bc7

[13]. “حريق غابة كدية الطيفور يلتهم 90 هكتارًا”، جريدة هسبريس الإلكترونية، 16 أغسطس 2022 https://rb.gy/arudas

[14]. “تبون يتهم “أيادٍ إجرامية” بإشعال أشد الحرائق تدميرًا في الجزائر”، صحيفة العرب، 13 أغسطس 2021. https://bit.ly/3Rp9hjd

[15]. “لماذا تثير حرائق الأمازون أزمة للبرازيل والعالم؟”، صحيفة الرؤية، 26 أغسطس 2019، https://www.alroeya.com/60-0/2060458-لماذا-تثير-حرائق-الأمازون-أزمة-للبرازيل-والعالم؟

[16]. ألكسندرا دي كريمر، “كيف دمّرت حرائق الغابات في تركيا صناعة العسل؟”، صحيفة العرب، 25 سبتمبر 2021، https://bit.ly/3Rm9bc7

[17]. “جنود أبطال وتخطيط عسكري وحكومي جزائري كارثي في مواجهة الحرائق”، صحيفة العرب، 12 أغسطس 2021،https://bit.ly/3x8wYVx

[18]. “لماذا تثير حرائق الأمازون أزمة للبرازيل والعالم”، مرجع سبق ذكره.

[19]. “الرئيس الجزائري: أغلب الحرائق التي اندلعت في البلاد كانت من فعل أيادٍ إجرامية”، روسيا اليوم، 12 أغسطس 2021، https://rb.gy/ybqiqs

[20]. Full cost of California’s wildfires to the US revealed, UCL,7 Dec 2020 https://www.ucl.ac.uk/news/2020/dec/full-cost-californias-wildfires-us-revealed

[21] غنوة كنان، “كيف ستؤثر حرائق الغابات على العالم، وكم كلفتها؟” صحيفة الرؤية، 7 أغسطس 2021، https://rb.gy/lig5mu .

[22]. ياسمين السيد هاني، “مسألة أمن قومي.. حرائق الغابات تغادر مربع الكوارث البيئية”، العين الإخبارية، 24 يوليو 2022. https://bit.ly/3e98EvX

[23]. “حرائق الغابات في تركيا تلحق ضررًا بقطاع تربية النحل” ترك برس، 13 أغسطس 2021 https://www.turkpress.co/node/84066

[24]. “حرائق أستراليا تشرد البشر وتقضي على الحيوانات”، صحيفة العرب، 11 يناير 2020. https://bit.ly/3ct21UU

[25]. “حرائق الغابات في جزيرة صقلية الإيطالية.. المصمم الشهير جورجيو أرماني وآخرون يفرون”، موقع يورونيوز، 18 أغسطس 2022 https://rb.gy/rm7uwh

[26].  PATRICK GALEY, AFP, The Amazon Is Almost Fully Saturated, And Could Flip to Emitting Carbon in 15 Years”, Science alert, March 25,2020. https://www.sciencealert.com/african-forests-and-the-amazon-are-flipping-from-carbon-sinks-to-major-sources/amp

[27]. “رئة الأرض تساهم في احترار الكوكب لا تبريده”، صحيفة العرب، 13 أبريل 2021 https://alarab.co.uk/رئة-الأرض-تساهم-في-احترار-الكوكب-لا-تبريده

[28]. “الحرائق تفاقم أزمات لبنان المنهك”، صحيفة العرب، 13 أغسطس 2021. https://bit.ly/3cBhvpJ

[29]. “الحرائق تحوّل جنة الغابات في البرازيل إلى جحيم”، صحيفة العرب، 16 سبتمبر 2020. https://bit.ly/3Q52Oc2

[30]. “حرائق أستراليا تشرد البشر وتقضي على الحيوانات”، صحيفة العرب، 11 يناير 2020. https://bit.ly/3ct21UU

[31]. “السلطات الإسبانية تعلن وفاة أكثر من 500 شخص بسبب موجة الحر التي تشهدها البلاد” فرانس 24، 20 يوليو 2022، https://rb.gy/1vj155

[32]. “حرائق الغابات في الجزائر: مقتل 38 شخصًا وإصابة المئات” بي بي سي نيوز عربي، 18 أغسطس 2022، https://www.bbc.com/arabic/middleeast-62594430

[33]. ياسمين السيد هاني، مرجع سبق ذكره.

[34]. “لماذا تثير حرائق الأمازون قلق العالم”، مرجع سابق.

[35]. “جنود أبطال وتخطيط عسكري وحكومي جزائري كارثي في مواجهة الحرائق”، صحيفة العرب، 12 أغسطس 2021. https://bit.ly/3x8wYVx

[36]. إجلاء العشرات في إيطاليا بسبب حرائق باليرمو، مجلة ترايدنت الإخبارية، أغسطس 2022، https://treidnt.net/world/37990.html

[37]. “الحرائق تحوّل بلدانًا عديدة في العالم إلى براميل بارود”، صحيفة العرب، 7 أغسطس 2021،https://bit.ly/3cB9Qrt

[38]. المرجع السابق نفسه.

[39]. المرجع السابق نفسه.

[40]. “المغرب يسيطر على غالبية حرائق الغابات”، صحيفة العرب، 19 يوليو 2022، https://bit.ly/3Rv72uZ

[41]. “حرائق أستراليا تشرد البشر وتقضي على الحيوانات“، صحيفة العرب، 11 يناير 2020، https://cutt.ly/xVsqY8D

[42] . الحرائق الغابوية دليل موجَّه للإعلاميين والصحفيين، مجموعة مؤلفين، eFIRECOM، سبتمبر 2016، المديرية العامة للمساعدات الإنسانية والحماية المدنية (DG-ECHO) التابعة للاتحاد الأوروبي، https://efirecom.ctfc.cat/docs/Guideline%20for%20journalists%20Arabic.pdf

[43]. ياسمين السيد هاني، مرجع سبق ذكره.

[44] .”Climate Change and U.S. Military Bases”, American Security Project. https://bit.ly/2x096Dr

[45] . Andrew Eversden, “Climate change is going to cost us’: How the US military is preparing for harsher environments”, defense news, Aug 9, 2021. https://bit.ly/3Av98nC

[46] . Ibid.

[47] . Ibid.

[48] . Andrew Eversden, op.ct.

[49] . Brian La Shier & James Stanish, “The National Security Impacts of Climate Change”, Journal of National Security Law & Policy, Vol 10: 27, 2019. https://bit.ly/3wKvm46

[50] . Sara Schonhardt, “Military Operations Will be Strained by Climate Change”, scientific American, June 8, 2021. https://bit.ly/3KC5YmG

[51] .” La biodiversité à l’agenda du ministère des Armées”, 9 octobre 2021, https://bit.ly/3RgJ6LE

[52]. ياسمين السيد هاني، مرجع سبق ذكره.

المواضيع ذات الصلة