Insight Image

العائدات من “دولة الخلافة”: الأسباب والإشكاليات

24 أبريل 2022

العائدات من “دولة الخلافة”: الأسباب والإشكاليات

24 أبريل 2022

مقدّمة

ما إن أعلن التحالف الدولي ضد تنظيم داعش إطلاق أولى عمليات الهجوم على “دولة الخلافة” حتى تواترت أخبار “الفارين والفارات”، فوثّقت وسائل الإعلام عمليات إلقاء القبض على عدد من “الجهاديين المهزومين”، ونشرت صور الذين غادروا ساحات القتال متنكرين في أزياء النساء وزينتهن. ثم سرعان ما تنافس الصحفيون على محاورة النساء العالقات في السجون أو المخيمات. وترتب على هذه التغطية الإعلامية اهتمام الكتّاب والدارسين المتخصصين في التطرف العنيف والباحثين الغربيين على وجه الخصوص، بموضوع عودة “المقاتلين” و”المهاجرات إلى أرض الخلافة”. فانكب أغلبهم على التمحيص في الأسباب التي جعلت النساء المنضويات تحت “دولة الخلافة” يناشدن حكوماتهن في تيسير عملية عودتهن إلى بلدانهن، ولم يفتهم تحليل ما سينجم عن العودة من نتائج قانونية وأمنية واجتماعية واقتصادية أيضاً تستوجب سرعة وضع برامج فك ارتباط “العائدات” بالفكر المتشدد والجماعات “الإرهابية”.

وعلى مرّ السنوات ازداد الاهتمام بهذا الموضوع لاسيما بعد أن أكد عدد من الدارسين أن عودة النساء والشابات المنخرطات في التطرف العنيف قد مكنت المحققين والباحثين من مختلف الاختصاصات، من التوصل إلى بعض المعطيات التي تساعد على فهم ظاهرة انجذاب الشابات والنساء الغربيات نحو “دولة الخلافة” وكيفيّة تأثرهن بالدعاية التي أسسها قياديو هذه الدولة، فضلاً عن الانتباه إلى طرائق تأقلمهن مع ما فرضته هذه “الدولة” من أحكام وسياسات، والحال أن أغلبهن ينتمين إلى مجتمعات “علمانية” منحت النساء عدداً من الحقوق.

وفي مقابل اهتمام الغربيين برصد شهادات “العائدات” وتحليلها والإفادة من دراستها لم تظهر أعمال كثيرة في “العالم العربي الإسلامي” ترصد تجارب هؤلاء “العائدات” وتستخلص منها الدروس. وبالاطلاع على البحوث والمؤلفات التي قاربت هذا الموضوع ندرك أن عودة “مقاتلي داعش” استأثرت باهتمام أغلب الدارسين بينما ظل النظر في هويات “العائدات” وأصنافهن ودوافع العودة وأشكالها على الهامش. وإذا قارنا ما صدر من كتب ودراسات وبحوث حول “العائدات” بالإنتاج الذي نشر منذ العشرية الأخيرة، حول أسباب حرص “دولة الخلافة” على استقطاب النساء وطرائق “هجرتهن” والأدوار التي نهضن بها أدركنا الفجوة المعرفية بشأن دراسة موضوع “العائدات”. فهل يعود الأمر إلى شعور القوم بالارتياح بعد زوال خطر “داعش”؟ وهل يفسّر العزوف عن البحث برغبة لا واعية في طمس أخبار “الدواعش” وإرادة النسيان؟ وهل ترجع حالة اللامبالاة إلى تعقّد الوضع وعدم وضوح سياسات الدول العربية والإسلامية في التعامل مع “العائدين” و”العائدات” ما يجعل البحوث دون جدوى أو نجاعة؟ ثم هل يرجع عدم الاكتراث بتحليل تجارب “العائدات” إلى استمرار النظر إليهن على أنهن ضحايا الأزواج والأسر؟

لا شك أن موضوع عودة “الداعشيات” يثير إشكاليات متعددة تتعلق بالمفهوم، وسوء الفهم وصعوبة تحديد انطلاق أولى عمليات العودة وأنواعها (فردية – جماعية – منظمة – غير منظمة، …) وصعوبة تحديد هويات “العائدات” وتصنيفهن بسبب قلة الدراسات الميدانية في البلدان العربية مقارنة بالبحوث التي أجريت في أوروبا وآسيا وغيرها من البلدان فضلاً عن غياب الإحصائيات الدقيقة[1]، وعدم ضبط المقاربة التحليلية إلى غير ذلك.

ويدفعنا تهميش دراسة موضوع العائدات، والنقص في التوثيق، والاستخفاف بدراسة الظاهرة إلى إيلاء عودة المورطات في التطرف العنيف (الفاعلات) أو اللواتي أجبرن على مرافقة أزواجهن أو عائلاتهن (الضحايا) الأهمية التي تستحقها. وسوف تتناول هذه الدراسة تحديد أسباب العودة والإشكاليات التي تطرحها.

  • هوية العائدات

أدى سقوط “دولة الخلافة” إلى بروز مصطلحات جديدة منها: المنشقون، المنشقات، العائدون، العائدات، المنقولات، العالقات في المخيمات، المقاتلات، الإرهابيات الأجانب، الجهاديات السابقات، الموقوفات والمُرَحلات، والمدرجات على قائمة المراقبة، وهو أمر يثبت تطور المعجم الاصطلاحي من جهة، وعسر التصنيف من جهة أخرى، بالإضافة إلى صعوبة تحديد هويات “العائدات” وعددهن إذ تلجأ بعض النساء اللواتي جُرّدن من أوراقهن الثبوتية وجوازات سفرهن إلى ادعاء انتسابهن إلى دول محددة بغرض الإفلات من العقاب الصارم بينما تتعمد أخريات انتحال صفات اللواتي قتلن. وتتسلل أخريات إلى بلدانهن دون أن تلاحظ السلطات ذلك فيكن خارج التعداد.

وتختلف أعداد الراغبات في العودة أو العائدات أو المرحّلات من بلد إلى آخر، ومن فترة تاريخية إلى أخرى ما بين الأعوام (2017-2019) وكذلك من حيث طريقتها: منظمة ورسمية وتحت رعاية دولية أم غير منظمة وبطريقة غير شرعية يشرف عليها المهربون. ولكن الإشكال لا يتعلق بطريقة العودة بقدر ما يتصل بصعوبة حصر أعداد العائدين والعائدات، على الأقل في الوقت الحاضر. وتشير التقديرات إلى أن 256 امرأة منهن فقط عدن إلى بلدانهن الأصلية وفقاً لمصادر مجهولة، ولا يزال هناك القليل من الدراسات والأدبيات الواصفة مصير حال النساء العائدات، ولا يوجد لهن إحصائية دقيقة بأعدادهن أو حتى مصائرهن بعد تفكك تنظيم “داعش”، ولا تزال هناك ندرة في الأرقام عن العائدات من الجماعات المتطرفة العنيفة”[2]. ولئن نجحت بعض الدول الغربية في تحديد قائمة العائدات، وهن فئة قليلة، فإن أغلب الدول العربية والإسلامية عجزت عن ضبط أعداد العائدات وقد أثر ذلك بداهة في مستوى البحوث المنجزة، فغياب الإحصائيات الدقيقة وتضاربها في بعض الأحيان، أدى إلى عجز الدارسين وواضعي السياسات عن تقديم بيانات واضحة تسمح بإجراء المقارنات.

وعلى الرغم من هذه العوائق، فإن التفريق بين “العائدات” ضروري، فثمة اختلاف أولاً، بين النساء اللواتي نجحن في الهروب قبل سقوط “دولة الخلافة” بعد أن اكتشفن زيف مشروع “الدولة الإسلامية العادلة”، و”العائدات” بعد أفول نجم “دولة الخلافة”، وثانياً بين المرّحلات قسراً بعد اتفاقيات عقدت بين الدول أو العشائر والسلطة التي احتجزتهن في المخيمات[3]، فكن بذلك موضوعاً للتفاوض، والعائدات طواعية بعد أن تغيّرت موازين القوى، والحال أنهن كن يرددن دائماً أن ما أجبرهن على شد الرحال إلى “أرض الخلافة” هو تحول الموطن الأصلي إلى “أرض كفر”.

وعلاوة على تحديد تاريخ العودة ومدى رغبة المرأة في الرجوع إلى بلدها أو الاستقرار في بلد آخر عندما تنجح في التسلل إليه، يجدر التمييز بين “العائدات” وفق السن، والوضع الاجتماعي، والطبقة، والعرق، والإثنية وغيرها من المحددات التي تجعلنا ننتبه إلى دوافع العودة المضمرة. وبناء على هذه الفروق يتأكد أن “العائدات” لا يُمثلن كتلة واحدة منسجمة، ذلك أن حكاياتهن مختلفة، ومسارات هروبهن متنوعة، كما أن هوياتهن خضعت لتحولات مهمة تتطلب من المتخصصين الانكباب على تحليلها. ولا شك عندنا أن التمحيص في مسار الخروج من بلدان الصراع وبؤر التوتر من شأنه أن يقودنا إلى معرفة ملامح هذه العودة وخصوصياتها. فهل هي مادية تقتصر على الانتقال الجغرافي من بلد إلى آخر دون أن يتغير شيء في قناعات المرأة وولائها “لدولة الخلافة” أم إن “العائدة” هي من عادت بالفعل إلى رشدها وراجعت نفسها؟

2-أسباب العودة

إن الفتيات والنساء اللواتي يقبعن في السجون العراقية أو الليبية أو في المخيمات السورية أو في سجون إقليم كردستان لسن مجرد أرقام تحصى[4]، إذ تلح الدراسات المتخصصة في النوع الاجتماعي والتطرف العنيف على اعتبارهن مستقلات يتعين التعامل معهن بإنصاف، ومنحهن فرصة التعبير عن تجاربهن مثلهن مثل الرجال العائدين الذين يخضعون لاستجوابات مطولة تعكس تمثلات سائدة تقرن الرجل بالعقل والفاعلية واتخاذ سلطة القرار، والشجاعة والعدوانية وغيرها من الصفات.

وانطلاقاً من هذا التصور الذي ينفي فاعلية المرأة وقدرتها على الاختيار دعت الدراسات إلى ضرورة إجراء حوارات مطولة مع “العائدات” فهذه التقنية تعد وسيلة لا غنى عنها حتى يتسنى للباحثين وغيرهم من المهتمين بظاهرة التطرف العنيف تحديد أسباب العودة ومساراتها والمخاطر التي حفت بها ودراسة العلاقات الجندرية المبنية على السلطة، وتحليل أنماط العلاقات الاجتماعية، وطرائق توزيع الأدوار فضلاً عن استخلاص الدروس[5]. أما استهانة الأمنيين في بعض الحكومات وأغلب الباحثين بدراسة العينات النسائية، فإنها تعتبر شكلاً من أشكال التمييز بين الجنسين، وعلامة على هيمنة العنصر الذكوري الذي يولي تجارب الرجال وأقوالهم أهمية، ويثمّن أفعالهم على حساب تجارب فئات أخرى كالنساء، والأطفال، والمسنات، والمعاقين وغيرهم.

وتذهب الدراسات المتخصصة في النوع الاجتماعي والتطرف العنيف إلى أن أسباب العودة متعددة وتختلف حسب وضع المرأة: عزباء /متزوجة /أرملة /حامل /أم لعدد من الأطفال/سليمة /مريضة…ثم حسب درجة وعيها وقناعاتها وبنيتها النفسية، ومدى قدرتها على تخطي الصعوبات والتحديات وكذلك حسب استعدادها للحديث والتفاعل مع المحاورين. وعلى هذا الأساس يكون التعامل مع العائدات محكوماً بمدى فهم المحققين والمستجوبين لهذه العوامل المتقاطعة: السن، والطبقة، والإثنية، والمذهب، والطائفة، والفقر وغيرها من المحددات التي تسمح بتحليل ظاهرة التطرف العنيف في مختلف أبعادها وصد أسباب العودة.

ونتبين من خلال التمحيص في شهادات بعض العائدات دور العواطف في اتخاذ القرارات إذ كان دافع العودة لدى عدد من النساء الشعور بخيبة الأمل بعد اكتشاف حقيقة مشروع بناء دولة الخلافة وطبيعة المعاملات بين الناس على أرض الواقع. تقول إحداهن: “ومع مرور الوقت بدأتُ أرى الظلم الذي يعانيه الشعب، ورأيتُ بعيني فرداً داعشياً يحذر سيدة تسير في الشارع دون أن تغطي عينيها ثم أطلق عليها النار لعدم استجابتها لأمره … إن التنظيم لا علاقة له بتعاليم الإسلام، إنه لا يعرف سوى الظلم والقهر وقتل الناس … لقد انضممنا إليه عام 2014 ولم نستطع الخروج منه، فهو يمنع الذهاب إلى الحدود. كان يمكنني أن أعيش ديني بجانب عائلتي، لقد فهمت هذا مؤخراً”[6].

ومن الملاحظ أن سبب العودة متصل كذلك بإدراك فئة من النساء بتحول مشروع استمرار دولة الخلافة إلى يوتوبيا أو انتباه بعضهن إلى أن مخاطر البقاء كثيرة وتعرض مشروع “الخلافة باقية وتتمدد” للانهيار؛ لذلك يقررن الرجوع استجابة لأوامر زعيم “دولة الخلافة”، حتى ينهضن بمهمة لا تقل عن الجهاد: تربية الأبناء في محيط آمن استعداداً لإقامة الدولة من جديد. تقول إحداهن: “سنربي أبناء وبنات أقوياء ونخبرهم كيف كنا في ظل الحكم (الذي أقامه داعش) حتى وإن كنا قد عجزنا عن الإبقاء عليها فإن أطفالنا سيتمكنون من استعادتها يوماً ما”[7]. ويضاف إلى هذه الأسباب المذكورة عامل آخر براغماتي يتمثل في شعور بعضهن بالحاجة إلى ملجأ آمن مستقر، حيث تُقدم أفضل الخدمات الصحية والنفسية بعيداً عن صوت المدافع أو الصراعات التي تحدث في المخيمات بين النساء بسبب ظروف الإقامة اللا إنسانية خاصة في السنوات الأخيرة بعد انتشار وباء “كوفيد- 19″[8].

وإذا نظرنا إلى هذه الأسباب من منظور النوع الاجتماعي تبين لنا أن التوقعات الاجتماعية تصور النساء في أزمنة الحرب على أنهن ضعيفات ومذعورات وتابعات وضحايا يبحثن عن طوق النجاة حتى يتجنبن الفضيحة والعار والذل والمهانة بعد سقوط الدول، وهو ما يجعلهن أكثر استعداداً للاندماج في أسرهن. ولكن التقارير الصحفية والحوارات والشهادات تثبت أن من النساء العائدات من أبدين كرهاً شديداً لهذه الأنظمة التي أسقطت “دولة الخلافة” وكسرت شوكة القيادات وأذلت النساء وجعلتهن في مخيمات “بائسة”، وهو ما جعل بعضهن يخططن لتنفيذ عمليات إرهابية.

وانطلاقاً من هذا الواقع تعتبر الدراسات المتخصصة في النوع الاجتماعي والتطرف العنيف أنه لابد من استثمار “سرديات النساء” ذلك أنها تشكل أهمية بالغة. فعن طريقها يتسنى فهم مقومات التركيبة الشخصية وتحليل البنية النفسية لكل عائدة والوقوف عند العوامل التي أسهمت في اتخاذ قرار السفر إلى” دولة الخلافة” ثم العودة. وترد في شهادات أغلب العائدات بطرق غير شرعية روايات حول تدبير الرحلة وكيفية التعامل مع المهربين والمسالك الوعرة التي مررن بها، والمخاطر التي واجهنها ونتبين هشاشتهن من خلال تضارب مشاعرهن بين إحساس بالرعب والوهن وشعور بالفرح والارتياح بعد نجاحهن في الوصول إلى أوطانهن. أما اللواتي رحّلن بعد تقديم مطالب كثيرة أو تحت ضغط سياسي مورس على دولهن فإنهن يسردن تفاصيل العودة وأشكال التعامل معهن التي تتراوح بين حسن الاستقبال (السودانيات، الموريتانيات…) وسوء المعاملة والوصم والتشهير في بلدان أخرى. وإفساح المجال للعائدات حتى يتحدثن عما مررن به هو استراتيجية تستعملها المحللات النفسيات والمحققات حتى يتمكّن من اختبار العائدة ومعرفة قدراتها على الصمود والتأكد من مدى استعدادها لتقبّل برامج التأهيل.

وبغض النظر عن نيات العائدات وما يضمرنه فإن ما يسترعي الانتباه طريقة تقبّل مختلف المجتمعات للعائدات من بؤر التوتر والصراع وتعامل الحكومات معهن. فبينما ترفض مكونات المجتمع المدني في تونس مثلاً عودة “المجرمات” من خلال تنظيم المسيرات الاحتجاجية والضغط على الحكومة حتى لا تتولى تنظيم عودة “الإرهابيات” “الداعشيات”…يرحب المجتمع السوداني برجوع النساء إلى عشائرهن، وهو ما دفع الروائي السوداني حمور زيادة إلى انتقاد هذه الطريقة في التعامل مع العائدات. يقول: “في دولة حقيقية كن (كذا) هؤلاء الفتيات سيخضعن لتأهيل نفسي، ولاستخراج معلومات أمنية وبحثية مفيدة، عن داعش، وعن كيف تم تجنيدهن؟، وعن سفرهن إلى ليبيا؟، وعن الإرهابيين هناك ومجتمعاتهم وتفاصيل حياتهم. هذا يحتاج إلى باحثين جادين لا مقابلات تلفزيونية. ولا يمكن استقبالهن بالزغاريد في ساحة المطار كأنهن رهائن محررات! إنهن عضوات في تنظيم إرهابي أيديهن ملوثة بدماء الأبرياء في ليبيا وفي أنحاء العالم. فإن لم يكن قتلن بأنفسهن فإنهن من أعددن الطعام والفراش للإرهابيين. هناك جرائم ارتكبت. فإن لم يعاقبن عليها وتم قبول عودتهن باعتبارها توبة، فلا أقل من ألا يُحتفى بهن كعائدات من الحجاز بعد زيارة شباك النبي”[9].

3- إشكاليات العودة

لا شك أن عودة هؤلاء النسوة تشكّل معضلة أمام واضعي السياسات ومسؤولي تنفيذ القانون، ذلك أن بلداناً عدة لم يكن أمامها خيار إلا قبول مواطنيها. ولعل ما يسترعي الانتباه في هذا الأمر، غياب سياسة واضحة بخصوص كيفية التعامل مع العائدات والأطفال. فلئن حُوّل المورطون في جرائم القتل وتسفير الشباب إلى السجون، فإن أكثر الزوجات والأمهات والفتيات لم يكن لهن سجل في الدوائر الأمنية وعلى هذا الأساس لا يمكن بأي حال، إثبات مدى تورطهن في ممارسة العنف. وقد يزداد الوضع تعقّداً عندما يزعم أغلبهن أنهن ضحايا. يقول مسؤول مغربي في هذا السياق: “كل النساء يخبرننا القصة ذاتها وهي أن أزواجهن قد سافروا سعياً وراء المكاسب المادية، وأنهن تبعوهن لأنه لم يكن أمامهن خيار آخر”.[10] أما العائدات اللواتي خضعن للمحاسبة وصدرت في شأنهن أحكام بالسجن فإن اختلاطهن ببقية السجينات يمثل خطراً في حد ذاته، إذ ثبت بالفعل استقطاب بعض العائدات لعدد من النساء، وهو سبب يجعل أغلب الدول تتنصل من مسؤولياتها.

والحكومات إذ تتردد في استقبال العائدات (تونس مثلاً) تبرر ذلك بخطورة الأدوار التي نهضت بها فئة من النساء كالمشاركة في عمليات التفجير والقتل والتجسس وغيرها. وتشكّل عودة “زوجات الجهاديين” والنساء القياديات خطراً مضاعفاً إذ احتللن موقعاً مهماً في التنظيمات وصارت لهن خبرة في استقطاب الشابات وفي التواصل مع مختلف الشبكات وجمع الأموال وغيرها[11].

ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد فالأمهات العائدات بصحبة أبنائهن دون أوراق ثبوتية يطرحن إشكاليات أخرى تتعلق بجنسية كل طفل[12]. فالمعلوم أن الأرامل كن يُزوّجن من مقاتلين من جنسيات مختلفة، وينجبن النسل الذي يعزز صفوف “دولة الخلافة” ونجد من بين هؤلاء الأبناء فتية نشؤوا على حب هذه “الدولة” المزعومة والقيم السائدة التي روّجت لها ومنهم من تدرب على القتال[13]، ومن هنا كانت عودتهم محفوفة بالمخاطر لاسيما في ظل غياب برامج إعادة تأهيلهم وانعدام مقررات تعليمية خاصة بهم[14].

ولا يمكن التغاضي عن إشكالية أخرى تتصل برفض بعض الجهات الاستخباراتية والأمنية (كتركيا) التنسيق مع بعض الدول ومدّها بالبيانات الضرورية وقائمة أسماء من ذهبن إلى سوريا أو العراق الأمر الذي يترتب عنه غياب إحصائيات دقيقة حول عدد العائدات سراً والمُعادات رسمياً[15]، ويزداد الأمر سوءاً في ظل عدم وجود قوانين تخص العائدات يمكن من خلالها أن يتم محاكمتهن، وفي هذا الصدد نشر موقع “دويتشه فيله” تقريراً تحدث فيه عن صعوبة محاكمة عائدات من داعش في ظل عدم وجود قواعد قانونية واضحة يمكن تطبيقها عليهن[16].

وقد دفعت الضغوط التي مارستها بعض الدول، كالولايات المتحدة في عهد ترامب، على دول أخرى لاستقبال رعاياها المتورطين مع “دولة الخلافة الإسلامية”[17] وعدم وجود فرصة للقيام بحملات توعوية وفتح نقاش مجتمعي إلى لفظ العائدات ووصمهن ورفض إدماجهن في المجتمعات على قاعدة العيش معاً، بل وصل الأمر إلى تهديد أسرهن ومنع التعامل مع أي فرد له صلة قرابة بعائدة من بؤر التوتر والصراع.[18]  ولا عجب في ذلك فالمرأة التي انتمت بشكل من الأشكال إلى التنظيمات والجماعات المتطرفة توصم على أنها إرهابية، داعشية، وقنبلة موقوتة، وهي مثل الرجل “وباء” يهدد  أمن العباد والبلاد. يقول رفعت سيد أحمد: “إن (الدواعش العائدين)، من العراق وسوريا سيمثلون، عبئاً أمنياً واجتماعياً ودينياً ثقيلاً على البلاد الأوروبية والعربية التي ستُبتلى بعودتهم، الأمر الذي يحتاج إلى إعادة نقد لسياسات التعامل الحالي معهم (…) ويحتاج إلى بناء استراتيجيات صحيحة لمواجهة هذا الوباء القادم”[19].

الخاتمة

تواجه دول العالم كلها تحديات غير مسبوقة بسبب ملفّ العائدين، ولكن عدم أخذ بعض واضعي السياسات عودة النساء مأخذ الجد يشكّل في حد ذاته عقبة أمام تدبير ملف العائدات. فقد ساد الاعتقاد لدى بعض المسؤولين الأمنيين في بعض البلدان العربية بأن مراقبة الرجل العائد ضرورية لأنه الفاعل والعدواني والقوي. أما رصد تحركات العائدة فلا فائدة ترجى منه لأن المرأة “بطبعها” جبانة، وغير فاعلة، وضحية، وضعيفة، وخاضعة، ومعنية برعاية أفراد الأسرة.

ونظراً إلى هيمنة مثل هذه التجليات الاجتماعية التي تقلل من شأن عدوانية النساء وقدرتهن على ممارسة العنف، فإن الوضع الأمني في عدد من البلدان العربية والإسلامية يعد أكثر تعقيداً، إن لم نقل خطورة. فعدم الاعتراف بالتحولات الطارئة على الهويات النسائية يجعل إعادة انتشار الأفكار المتطرفة أيسر لاسيما إذا كنا نتعامل مع شريحة غير تقليدية من النساء والأطفال والفتيان والشابات الذين استقروا لفترات متفاوتة في أرض “الخلافة” ودَخل أغلبهم ممارسات وخطابات وقيماً وصوراً تحتفي بالعنف وتعده وفاء لروح الشريعة. وما عودة هؤلاء المواليات “للخلافة” إلى بلدانهن إلا فرصة لإحياء مشروع إقامة “دولة الخلافة” من جديد.

تواجه مختلف دول العالم إذن معضلة عودة النساء بدرجات متفاوتة: كلّ وفق استعدادها وتصوراتها واستراتيجياتها وإمكانياتها المادية ومدى تفاعل الناشطات الحقوقيات وبانيات/صانعات السلام مع هذا الملف وقدرتهن على فرض مناهجهن وتصوراتهن على أصحاب القرار ولذا ينبغي أن تؤخذ مقترحات هؤلاء الناشطات مأخذ الجد لأنهن أكثر قدرة على فهم الظروف التي مرت بها النساء وأسباب معاناتهن، وأكثر تمكناً من اقتراح برامج الوقاية من خطر إعادة استقطاب النساء[20]. تقول مها عقيل في هذا الصدد: “هناك بعض الإجراءات والسياسات التي يمكن أن تتفق بخصوصها جميع الدول المعنية بهذه الظاهرة، ومنها على  وجه الخصوص زيادة التوعية حول إمكانية وجود إرهاب نسائي وإمكانية تطرف النساء، بشكل ربما يضاهي أو يكون أكثر تشدداً من تطرف الرجل، إضافة إلى ضرورة توسيع دائرة المعنيين بمواجهة التطرف، وعلى رأسهم المرأة، من خلال تمكينها من القيام بدورها الاستباقي في منع التطرف ومواجهة علاماته التي يمكن أن تظهر على أبنائها ومحيطها الاجتماعي”[21]. ولئن ناقشنا في مؤلف سابق[22]، مدى جواز تقسيم الإرهاب وفق النوع الاجتماعي فإن الثابت هو أن دخول في النساء في التنظيمات المتطرفة قد أدى إلى تغيير قناعاتهن ورؤيتهن لأنفسهن وأفضى إلى تغيير في الهويات والأدوار والمكانة.

المراجع

[1]. يقدّر عدد النساء العربيات المهاجرات وأطفالهن بـ 1453، عدا العراقيات، ويأتي المغرب على رأس القائمة ويبلغ تعداد النساء والأطفال منه 582. تليه مصر 377 امرأة وطفلاً، ثم تونس 251. بينما يبلغ تعداد النساء والأطفال من الجزائر 98 سيدة وطفلها، ومن الصومال 56. ومن لبنان 29. ومن السودان 24. ومن ليبيا 11. ومن فلسطين 8، والرقم نفسه من اليمن، إضافة إلى 9 من دول أخرى. لمزيد من التفاصيل انظر:

  • مها عقيل، “الداعشيات… ماضٍ مظلم ومستقبل مجهول”، الشرق الأوسط، 13يناير 2020، https://bit.ly/3udcslr

[2]. هالة فودة، “العائدات من داعش.. حواضن الإرهاب الجديد”، موقع المرصد المصري، 1 سبتمبر 2021، https://marsad.ecss.com.eg/61041/

[3]. المرجع السابق. وحسب مها عقيل، يتدخل وجهاء العشائر والشيوخ في سوريا والعراق ليطالبوا بالسماح بإخراج النساء برفقة أطفالهن، لاسيما المنحدرات من مناطق الإدارة الذاتية في شمال سوريا وشرقها، وقد بدأ العمل بنظام «الكفالة» فخرجن من معسكر الهول على دفعات.

[4]. يقدر بعض الباحثين أن نسبة العائدات من بؤر التوتر هي 4% من مجموع العائدين.

[5]. يمكن الرجوع إلى: Return Of Maghrebian Women From The Hotbeds Of Tension, Union du Maghreb Arabe&Friedrich Elbert Stiftung, April ;2021.

[6]. انظر في ذلك: – حسام الحداد، “المقاتلات الأجانب.. عائدات من تنظيم داعش الإرهابي”، بوابة الحركات الإسلامية، 17 يوليو 2019، https://bit.ly/3r4AxbW

– نساء مع “داعش”… وثائقي خاص عن الزوجات الدواعش، موقع قناة الحرة على يوتيوب، 23 إبريل 2022، https://www.youtube.com/watch?v=c2mT3ev-ksk

[7]. سعاد ميخينيت وجوبي واريك، “خطر «العائدات»: نساء يهجرن «داعش»… وليس القتال”، الشرق الأوسط، 28 نوفمبر 2017، https://bit.ly/3KeLGOZ

[8]. Sofia Barbarani, Leaving Syria’s notorious al-Hol camp, civilians find little to go home to, The New Humanitarian, 14 January 2021, https://bit.ly/3rg8whF

[9]. حمور زيادة: روائي سوداني يعلق على عودة فتيات سودانيات من تنظيم داعش، موقع الراكوبة، 6 إبريل 2018، https://bit.ly/3uxj8eb

[10]. سعاد ميخينيت، وجوبي واريك، مرجع سبق ذكره.

[11]. Lydia Khalil, Behind the veil: Women in jihad after the caliphate, Lowy Institute, June 2019, https://bit.ly/3x6sCig

[12]. ماهر فرغلي، “العائدون من “داعش”: التصنيف والمخاطِر، والإدماج”، مركز الإمارات للسياسات، أكتوبر 2020، https://bit.ly/36ZBGLh

[13]. أفاد تقرير نشره المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان في يونيو 2017، أن تنظيم “داعش” جند أكثر من ألف طفل ودربهم على مهام عسكرية من بينها العمليات الانتحارية، انظر،

“Children exploited by all factions in Iraq”, The Euro-Mediterranean Human Rights Monitor, Jun 12,2017, https://bit.ly/3va9TzF

[14]. انظر:

  • هالة فودة، “نساء وأطفال “داعش” … الى أين؟”، المركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية، مايو 2019، https://bit.ly/3r2rbxu

-Rapid Review to Inform the Rehabilitation and Reintegration of Child Returnees from the Islamic State, PMC (nih.gov), https://bit.ly/37kO2NE

[15]. ماهر فرغلي، مرجع سابق.

[16]. ماتياس فون هاين، ألمانيا.. لماذا لم تطل ذراع القانون العائدين من “داعش”؟، 25 مايو 2020، https://bit.ly/3vvnvpF

[17]. معضلة عودة المقاتلين الأجانب إلى أوروبا تثير الجدل من جديد، المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات، 11 نوفمبر 2019، https://bit.ly/3LVKOzk

[18]. Sofia Barbarani, op.cit.

[19]. انظر في ذلك:

– رفعت سيد أحمد، “الدواعش العائدون.. الخطر القادم الذي لم يستعد له أحد”، الميادين نت، 4 مايو 2017،  https://bit.ly/3DHGhO9

-BARRETT, RICHARD (OCTOBER 2017) BEYOND THE CALIPHATE: Foreign Fighters and the Threat of Returnees, The Soufan center, https://bit.ly/3ufwlZb

– علاء عادل، “الجهاديون العائدون: الجذور والواقع والمستقبل”، المعهد المصري للدراسات، 6 ديسمبر 2018، https://bit.ly/38wr4UB

[20]. Jihadist women, a threat not to be underestimated, General Intelligence and Security Service aivd.nl, November 2017.

-Anita Perešin, The Role of Women in Post-IS Jihadist Transformation and in Countering Extremism, Published by: Leuven University Press. (2019) Stable URL:  https://www.jstor.org/stable/j.ctvq2vzmt.9

[21]. مها عقيل، مرجع سابق.

[22]. آمال قرامي ومنية العرفاوي، النساء والإرهاب.. دراسة جندرية (تونس، دار مسكلياني، 2017).

المواضيع ذات الصلة