Insight Image

العلاقات الروسية – الغربية: طبول بلا حرب

23 يناير 2022

العلاقات الروسية – الغربية: طبول بلا حرب

23 يناير 2022

منذ نهاية العام الماضي وطبول الحرب تتصاعد بين روسيا والغرب، حتى اعتقد بعضهم أن المواجهة المباشرة بين الجانبين أصبحت وشيكة في أوكرانيا، وجاءت تطورات الأحداث في كازاخستان لتزيد الأجواء سخونة، وتضيف المزيد من التوتر في العلاقات الروسية – الغربية، وتطرح العديد من التساؤلات حول مستقبل هذه العلاقات، وهل الصدام العسكري أمر وارد لاسيما في ضوء تعثر المفاوضات الروسية – الأمريكية في جنيف، وروسيا – الناتو في بروكسل، والتي كانت مباحثات “صعبة”، لم تنجح في استبعاد شبح الصدام من خطاب الطرفين، وأكدت كون الخلاف بينهما عصياً على التسوية التامة بالنظر إلى تباعد المواقف وتناقض المصالح، وتمسك كل طرف بموقفه ورفضه تقديم أي تنازلات تمس أمنه القومي. في هذا السياق تبرز مجموعة من الأسئلة في فهم الوضع الراهن وتحليله للعلاقات الروسية – الغربية ومستقبلها المنظور.

أولها: لماذا التصعيد في هذا التوقيت؟

إن الأزمة الأوكرانية التي يدور حولها الحديث قائمة منذ عام 2014، وعلى مدى الثمانية أعوام الماضية شهدت الكثير من الشد والجذب، إلا أن التوجه العام الحاكم لها كان التمسك بالحل السلمي والمفاوضات عبر “رباعية النورماندي”، التي تضم رؤساء كلٍّ من روسيا وأوكرانيا وفرنسا والمستشارة الألمانية، و”اتفاق مينسك 2015” الذي تم التوصل إليه في إطارها[1]، كما شهدت هدوءاً وانفراجاً ملحوظين خلال فترة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.

من الواضح أن واشنطن هي من تمسك بإيقاع الأزمة، وأثّر وصول إدارة بايدن للبيت الأبيض كثيراً على مسارها، فمنذ مطلع إبريل الماضي والتوتر يسود المشهد الأوكراني، ليس لما أعلنه بايدن من أن روسيا العدو الأول للولايات المتحدة فقط، بالإضافة إلى كونه مهندس السياسة الأمريكية خلال فترة التصعيد الأولى عام 2014، وإنما لعوامل موضوعية ومصالح مهمة أيضاً. فمن ناحية تسعى إدارة بايدن لإثبات جدارتها ومغازلة الداخل الأمريكي في وقت تواجه الإدارة انتقادات حادة بسبب استمرار تردي الأوضاع الاقتصادية والعجز عن السيطرة على فيروس “كوفيد-19” وتداعياته ومتحوراته، إلى جانب استمرار ما يسمى بـ “الظاهرة الترامبية” وحالة الانقسام السياسي والمجتمعي الذي بلغ تصعيداً غير مسبوق مع اقتحام مبنى الكونجرس في 6 يناير من العام الماضي. في هذا السياق، فإن تصعيد المواجهة مع روسيا له أهميته، خاصة قبيل انتخابات التجديد النصفي للكونجرس الأمريكي المقررة هذا العام والتي يسعى الديمقراطيون لاستمرار تقدمهم بها.

من ناحية أخرى، تعمل إدارة بايدن على لمّ الشمل الغربي بعد ما أحدثه الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، ثم صفقة “أوكوس” من شروخ بين واشنطن وحلفائها الأوروبيين، وشكوك حول التزام واشنطن بالأمن الأوروبي الذي لخصة بايدن في شعار “America Back”. ويعتبر تأجيج المخاوف الأوروبية من موسكو أو ما يطلق عليه بعضهم “شيطنة روسيا” عاملاً أساسياً لتحقيق الاصطفاف الغربي، خاصة بعد أن تعالت بعض الأصوات الأوروبية مطالبة بإعادة تطبيع العلاقات مع موسكو ورفع العقوبات عنها نظراً إلى تأثيرها السلبي على المزارعين والاقتصاد الأوروبي عامة. كما يدعم هذا جهود واشنطن لتقليص النفوذ الروسي في سوق الطاقة الأوروبي وإتاحة مساحة أكبر لصادرات الغاز المسال الأمريكي لأهم الأسواق وأقربها إليها لاسيما بعد أن أصبحت الولايات المتحدة رابع أكبر مصدر للنفط والغاز في العالم عام 2020.

يأتي هذا في وقت تشهد روسيا نمواً ملحوظاً في قدراتها العسكرية، واستقراراً اقتصادياً نسبياً رغم ما يواجهه الاقتصاد الروسي من صعوبات، وشراكة قوية مع العملاق الصيني. إن روسيا الحالية ليست روسيا ما بعد تفكك الاتحاد السوفييتي، وما قبلته في التسعينيات وأوائل الألفية لا تقبله اليوم، وهناك إصرار من جانب الرئيس بوتين على ترتيب العلاقة مع الغرب باتفاقات والتزامات مكتوبة تضمن الأمن القومي الروسي لعقود مقبلة قد لا يكون هو على رأس السلطة وقتها، وتمثل بصمة تاريخية له.

ثانيها: ما القضايا محل الخلاف والتصعيد؟    

هناك مدى واسع من القضايا محل الخلاف بين روسيا والغرب، لعل أهمها وأبرزها في الفترة الراهنة:

(1) قضية توسيع الناتو وضم أوكرانيا:

على مدى ما يقرب من العقدين، منذ الثورة البرتقالية 2004، أصبحت أوكرانيا في قلب رقعة الشطرنج بين واشنطن وموسكو. من ناحية تحاول الولايات المتحدة الأمريكية ومعها الاتحاد الأوروبي دمج أوكرانيا في المنظومة الأمنية الغربية وضمها إلى حلف شمال الأطلسي (الناتو) لتحقق بذلك إنجازاً استراتيجياً غير مسبوق وتجعل صواريخها قادرة على ضرب موسكو في غضون خمس دقائق دون أن تمتلك الأخيرة سرعة الرد. هذا في حين لا تتصور روسيا أن يقف الحلف على أبوابها المباشرة، أو “على عتبة بيتنا” على حد تعبير الرئيس بوتين[2]، وأن تصبح كييف التي كانت يوماً عاصمة روسيا القديمة وجزءاً عضوياً في إمبراطوريتها القيصرية ثم السوفييتية خصماً لها. ورغم أن واشنطن فازت في جولة الثورة البرتقالية، فإن موسكو فازت بالجولة التالية في الانتخابات الرئاسية لعام 2010 بفوز فيكتور يانكوفيتش المقرب من موسكو، وجاءت الجولة الثالثة وإطاحة المعارضة المدعومة من الغرب بالرئيس يانكوفيتش عام 2014 لتكون طاحنة وتلقي بظلالها على العلاقات الروسية – الغربية حتى اللحظة، فقد ضمت روسيا شبه جزيرة القرم، وأعلنت جمهوريتا دونيتسك ولوجانسك (منطقة دونباس شرق أوكرانيا) استقلالهما، حيث أغلبية السكان من الروس، واندلعت المعارك بين قوات الدفاع الذاتي في الجمهوريتين وقوات الحكومة المركزية في كييف، وعاد شبح الحرب الباردة في ظل التوتر بين موسكو وواشنطن خاصة في ضوء العقوبات الواسعة التي فرضتها الأخيرة وحلفاؤها الأوروبيون على روسيا وإقصائها من مجموعة الثماني وتجميد مجلس روسيا الناتو وغيرها.

وقد تفجرت الجولة الحالية من التصعيد الروسي – الغربي مع الحشود العسكرية الروسية التي بلغت 100 ألف جندي على حدودها الغربية مع أوكرانيا رداً على حشد الأخيرة 125 ألف جندي على حدود الدونباس استعداداً لإخضاع جمهوريتي دونيتسك ولوجانسك للسيطرة الأوكرانية بالقوة، وهو ما اعتبرته روسيا خرقاً لاتفاق مينسك للسلام 2015، وتهديداً للروس المقيمين في المنطقة وللأمن القومي الروسي خاصة مع إعادة تأكيد الناتو السعي لضم أوكرانيا ومعها جورجيا إلى عضويته، فيما تعتبره روسيا موجة سادسة من توسيع الحلف ومد بنيته العسكرية باتجاهها. وفي دائرة من التصعيد المتبادل حذرت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي من خطط روسيا “لغزو أوكرانيا” وعواقب ذلك، وهو ما نفته روسيا مؤكدة أن ما تتخذه من إجراءات داخل أراضيها هو لحماية أمنها القومي وكرد فعل لأنشطة الناتو العسكرية في البحر الأسود وعلى الحدود الأوكرانية معها رغم أن الأخيرة ليست عضواً في الناتو بعد. وأن تحركاتها تأتي في إطار العقيدة العسكرية الروسية لعام 2014[3]، وعقيدة السياسة الخارجية لعام 2016[4]، التي تنص على أن عدم التزام الحلف بمبادئ الأمن المتكافئ للجميع والتوسع وزيادة ترسانته العسكرية باتجاه روسيا هو التهديد الرئيسي للأمن القومي الروسي، ويقتضي التحرك بجدية لمواجهته باعتباره عملاً عدائياً ضد روسيا ويهدف إلى تطويقها.

بدأت المخاوف مع قرع طبول الحرب من الانزلاق لمواجهةٍ لا منتصر فيها ولا مهزوم، الكل خاسر دون شك. وحذرت روسيا من خطر وقوع مواجهة كبيرة مع الغرب ما لم تفكر واشنطن وحلفاؤها بجدية في تقديم ضمانات أمنية لموسكو، وتقدمت للجانب الأمريكي والناتو في 15 ديسمبر بمشروعي اتفاقين لضمانات أمنية ملزمة قانوناً حول ثلاث قضايا محورية. أولها، عدم توسع الناتو شرقاً بضم أوكرانيا وأي دول أخرى، وعدم إنشاء قواعد عسكرية في الجمهوريات السوفييتية السابقة غير المنتمية إلى الناتو واستخدام البنى التحتية فيها لممارسة أي أنشطة عسكرية، وعدم تطوير التعاون العسكري الثنائي معها، حيث تخشى روسيا من اتفاقات ثنائية بين أوكرانيا وكل من الولايات المتحدة وبريطانيا حال عدم انضمامها للناتو. ثانيها، التزامات بعدم نشر الصواريخ الأمريكية الجديدة متوسطة وقصيرة المدى في أوروبا. ثالثها، الحد من الأنشطة العسكرية في أوروبا واستبعاد زيادة ما يسمى بمجموعات قوات المرابطة الأمامية، ووجوب تخلي الناتو عملياً عن الانتشار المادي في الدول التي انضمت إلى الحلف بعد عام 1997، أي بعد التوقيع على اتفاق روسيا – الناتو[5].

ورغم تعدد القنوات الدبلوماسية لوقف التصعيد بدءاً من قمة الرئيسين بايدن وبوتين عبر الفيديوكونفرس، والتي يمكن اعتبارها “قمة أوكرانيا”، في 7 ديسمبر التي استمرت ساعتين لبحث سبل الخروج الآمن من المواجهة، ثم المحادثات الهاتفية بينهما في 30 ديسمبر التي استمرت خمسين دقيقة، وما أعقب ذلك من ثلاث جولات من المفاوضات المباشرة بين روسيا والغرب حول الضمانات الأمنية التي تقدمت بها موسكو، في جنيف مع واشنطن استمرت سبع ساعات ونصف الساعة يوم 10 يناير، ومشاورات مجلس روسيا – الناتو في 12 يناير في بروكسل والتي كانت الأولى منذ عامين ونصف العام، ثم اجتماع لممثلي موسكو ومنظمة الأمن والتعاون في أوروبا في 13 يناير في فيينا، فإنها جميعاً لم تنجح في بلورة تفاهمات بين الطرفين، بل ولم تحدد موعداً لجولات أخرى مقبلة.

 فقد أصرت روسيا على إغلاق الباب رسمياً أمام كلٍّ من أوكرانيا وجورجيا للانضمام إلى الناتو ووقف تمدده باتجاهها في حين رفض الحلف ذلك جملة وتفصيلاً، وأعاد الأمين العام للناتو، ينس ستولتنبرج، التأكيد على سياسة الباب المفتوح التي يتبعها الناتو، وحق كل دولة في اختيار الترتيبات الأمنية الخاصة بها، وأن الحلف لن يتنازل عن حق توسيع صفوفه، ونشر قواته في الشرق[6]. كما رفضت موسكو طلب الولايات المتحدة الخاص بإعادة تموضع القوات الروسية بسحبها من الحدود مع أوكرانيا وإعادتها لأماكن تمركزها، باعتبار ذلك شأناً داخلياً لا يجوز التدخل فيه لكون القوات داخل الأراضي الروسية.

(2) نشر الصواريخ متوسطة وقصيرة المدى في أوروبا:

تعتبر من أهم محاور الخلاف بين روسيا والغرب، وبرزت عقب انهيار اتفاقية الصواريخ قصيرة ومتوسطة المدى (INF) بالانسحاب الأمريكي ثم الروسي منها عام 2019. وكانت الاتفاقية قد تم توقيعها في 8 ديسمبر 1987، وتتعلق بالصواريخ ذات المدى المتراوح ما بين 500 و5500 كم في أوروبا، ونجحت الاتفاقية في التخلص من صواريخ “إس إس 20″ الروسية و”بيرشنج” الأمريكية التي كانت منتشرة في أوروبا، وكانت الأخيرة هي المستفيد الأساسي منها حيث تراجعت الصواريخ النووية المنتشرة بها من 60 ألف صاروخ قبل المعاهدة، إلى 15 ألف صاروخ بعد دخول المعاهدة حيز التنفيذ. وإعادة نشر هذه الصواريخ سيؤثر حتماً في الأمن الأوروبي، لأن الصواريخ الروسية المتوسطة والقصيرة المدى يمكن لها أن تصل إلى برلين وباريس ولندن وليس إلى واشنطن ونيويورك، كما قد يؤدي ذلك إلى أزمة في مجال الرقابة على الترسانات النووية.

وقد أكد الأمين العام لحلف الناتو، ينس ستولتنبيرج، أن الحلف لا يخطط لنشر مزيد من الصواريخ النووية في أوروبا، الأمر الذي يعني أن الأوروبيين لن يسمحوا بتجدد المواجهة العالمية على أراضيهم مرة أخرى، كما أنهم يرفضون إعادة تقسيم أوروبا إلى مناطق نفوذ من جديد بين موسكو وواشنطن. وطالب ستولتنبيرج، في 14 ديسمبر، روسيا بتدمير كل ما لديها من صواريخ SSC-8 التي تنتهك معاهدة الحد من الصواريخ متوسطة وقصيرة المدى، مؤكداً أن الناتو لا ينوي الرد على تصرفات روسيا بنشر صواريخ قادرة على حمل الذخيرة النووية في أوروبا، وأن الحلف لا يزال مستعداً للحوار مع روسيا ويؤمن بضرورة وجود نظام خاص للمراقبة على الأسلحة تجنباً لبدء سباق تسلح جديد.[7]

هناك مخاوف أوروبية من أن تقوم روسيا بنشر صواريخها الفرط الصوتية، ذات السرعات الأعلى من السرعات الأمريكية، والتي يصل مداها إلى 5000 كم، رداً على ما تم تداوله من خطط أمريكية لنشر صواريخ Dark Eagle  فرط الصوتية التي تبلغ سرعتها 4000 ميل في الساعة في ألمانيا وتحديداً في قيادة المدفعية السادسة والخمسين، ما يعني أن يستغرق وصولها من ألمانيا إلى موسكو 21 دقيقة و30 ثانية فقط. وعبّر المتحدث باسم وزارة الدفاع الأمريكية “البنتاجون”، جون كيربي، عن خشية واشنطن من إقدام موسكو على نشر صواريخ “تسيركون” فرط الصوتية الروسية الجديدة القادرة على حمل رؤوس نووية، وذلك عقب إجراء الفرقاطة الروسية “الأدميرال جورشكوف” اختبارات ناجحة لإطلاق “تسيركون” على هدف أرضي ونجاح الصاروخ في إصابة هدف على مسافة 350 كم في بحر بارنتس. وأشارت واشنطن مطلع يناير 2022 إلى أنها منفتحة لمناقشة نشر الصواريخ في أوكرانيا وأوروبا وإمكانية تقييد التدريبات الأمريكية والناتو مادامت روسيا تتعهد بالتزامات “متبادلة”، وأن الولايات المتحدة ليست لديها الخطط لنشر صواريخ هجومية في أوكرانيا، وأنها مستعدة لمناقشة مستقبل بعض أنظمة الصواريخ في أوروبا أيضاً على غرار معاهدة الصواريخ النووية متوسطة المدى التي لم تعد قائمة[8].

هذا في حين أعلن الرئيس الروسي بوتين استعداد موسكو، بمحض إرادتها، الامتناع عن نشر صواريخ “M729 9” على القسم  الأوروبي من الاتحاد الروسي، بشرط اتخاذ خطوات مماثلة من جانب الناتو. وأن موسكو ستضطر إلى الرد بالمثل في حال نشر واشنطن صواريخها في أوروبا، وأن الدول الأوروبية التي ستوافق على نشر الصواريخ في أراضيها تُعرض أراضيها لخطر ضربة مضادة محتملة من روسيا[9]. وأعرب سيرجي ريابكوف، نائب وزير الخارجية الروسي، عن قلق موسكو من إمكانية اندلاع أزمة صواريخ جديدة في أوروبا، داعياً دول الناتو إلى التفكير في كيف يمكن جعل الحظر الروسي الأحادي لنشر هذه المنظومات ثنائياً ومتبادلاً وقابلاً للتحقيق[10].

(3) نشر للديمقراطية أم ثورات ملونة:

تنطلق الإدارات الديمقراطية بشكل عام وإدارة بايدن خاصة من التزام واشنطن بــ “نشر الديمقراطية” كأحد المبادئ الأساسية الحاكمة لسياستها الخارجية، وباعتبار ذلك يخدم المصالح الأمريكية ويسهم في خفض مستوى التهديدات للولايات المتحدة. ومنذ إدارة كلينتون (1993 – 2001) أعلنت واشنطن التزامها بنشر الديمقراطية كمحدد للسياسة الأمريكية في فترة ما بعد الحرب الباردة، وأن هوية الولايات المتحدة كدولة لا يمكن فصلها عن التزامها بالقيم الليبرالية والديمقراطية، وأن إضافة ديمقراطيات جديدة إلى الديمقراطيات الموجود سيوسع، تدريجياً، نطاق “منطقة السلام الديمقراطية”[11].

فى هذا السياق دعمت الولايات المتحدة وشركاؤها الأوروبيون على مدى العقدين الماضيين تغييرات جذرية في عدد من النظم بالفضاء السوفييتي السابق، بدءاً بجورجيا عام 2003، فأوكرانيا عام 2004، ثم قيرغيزستان عام 2005، فيما تطلق عليه روسيا “الثورات الملونة” وتعتبره تدخلاً سافراً في الشأن الداخلي لهذه الدول بهدف تقويض النفوذ والمصالح الروسية فيها، ومد الهيمنة الأمريكية وتوسيع الناتو على حساب روسيا والأمن والاستقرار في منطقة تمثل مجالها الحيوي المباشر، وتتهم واشنطن والغرب بإشعال النار في “الجوار القريب” لها لتحرقها.

وقد تجددت المواجهة الروسية – الغربية حول مسألة نشر الديمقراطية منذ أغسطس 2020، مع ما اعتبرته موسكو محاولة لثورة ملونة في بيلاروسيا، حيث اندلعت الاحتجاجات ضد نتائج الانتخابات الرئاسية، ودعمها الغرب حيث رفض الاتحاد الأوروبي نتائج الانتخابات وأكد أنه لا يعترف بالرئيس لوكاشينكو رئيساً للبلاد بمجرد انتهاء ولايته في 5 نوفمبر 2020، ورحب بتأسيس المعارضة البيلاروسية “مجلس التنسيق” برئاسة زعيمة المعارضة سفيتلانا تيخانوفسكايا التي احتضنتها ليتوانيا. وهي الأزمة التي سارعت روسيا باحتوائها ودعم لوكاشينكو في مواجهة الدعم الغربي حتى تجاوز الأزمة وأعاد فرض السيطرة على مقاليد الأمور في البلاد.

ومن بيلاروسيا إلى كازاخستان، ثالث أهم الجمهوريات السوفييتية السابقة بالنسبة إلى روسيا، بعد أوكرانيا وبيلاروسيا، والعضو المؤسس في منظمة معاهدة الأمن الجماعي والاتحاد الاقتصادي الأوراسي ومنظمة شنغهاي، وحيث قاعدة بايكونور الفضائية الروسية ونحو 20% من السكان من الروس، اتهمت موسكو الغرب بالوقوف وراء الاحتجاجات التي اندلعت في كازاخستان مطلع العام الجاري، والتي بدأت باحتجاج سكان مدينتي جاناوزين وأكتاو في منطقة مانجيستاو، وهي منطقة منتجة للنفط في غرب كازاخستان، على مضاعفة أسعار الغاز للمواطنين، واتسعت نطاقاً وامتدت إلى مدن أخرى، وخرجت عن السيطرة يوم 5 يناير في “ألماتي”، العاصمة الصناعية للبلاد، حيث تحولت  إلى مواجهات عنيفة وأعمال شغب ونهب للممتلكات العامة والخاصة وعمليات اعتداء وإشعال الإطارات، ومهاجمة مقر الإقامة الرئاسية في ألماتي، ومبنى وزارة الداخلية والمطار ومبنى البلدية ومكاتب القنوات التلفزيونية ومقر فرع حزب “نور وطن” الحاكم في المدينة وغيرها.

وقد اعتبرت موسكو الأحداث محاولة من الغرب لتقويض أمن كازاخستان وسلامتها بالقوة باستخدام تشكيلات مسلحة مدربة ومنظمة، واعتبر الرئيس بوتين، ما حدث هجوماً على كازاخستان وإنه عمل عدواني، وأن بعض القوى الخارجية والداخلية استغلت الوضع الاقتصادي في كازاخستان لتحقيق أغراضها، وأن أحداث كازاخستان ليست المحاولة الأولى ولن تكون الأخيرة للتدخل الخارجي، ولذا كان من الضروري الرد عليه دون تأخير، وأن منظمة معاهدة الأمن الجماعي تمكنت من اتخاذ إجراءات مهمة لمنع تدهور الأوضاع في كازاخستان، مؤكداً أن دول المنظمة أظهرت أنها لن تسمح بـ”ثورات ملونة”[12].

ولا تقل بيلاروسيا وكازاحستان أهمية بالنسبة إلى موسكو عن أوكرانيا، ويفسر هذا التحرك الروسي السريع والحاسم تحت مظلة منظمة معاهدة الأمن الجماعي، حيث تم إرسال قوات لحفظ السلام، روسية بالأساس، لتأمين المنشآت الحيوية في البلاد خاصة في العاصمة نور سلطان حتى تتفرغ القوات الكازاخية لمواجهة المحتجين في دعم مباشر وفوري للنظام الكازاخي في مواجهة القوى و”الارهابيين” المدعومين من الغرب من وجهة نظر كازاخستان وموسكو، ومحاولتهم تقويض ركيزة مهمة للأمن القومي الروسي في وسط آسيا، على غرار ما حدث في أوكرانيا التي تعد ركيزة للأمن القومي الروسي في أوروبا. وكان للدعم الروسي دور رئيسي في سرعة تعافي كازاخستان واستعادة الأمن والاستقرار في البلاد في غضون أسبوع وبدء انسحاب قوات حفظ السلام لمنظمة معاهدة الأمن الجماعى بدءاً من يوم 13 يناير. وكانت واشنطن قد انتقدت التدخل الروسي في الأزمة وطالبت موسكو بسرعة سحب الجنود الذين أرسلتهم إلى كازاخستان، ونفت الاتهامات الموجهة لها بالتواطؤ في تفاقم الوضع هناك.

وقد انطوى السلوك الروسي في الأزمة الكازاخية ومن قبلها الأزمة في بيلاروسيا على رسالة مباشرة مفاداها أن موسكو لن تسمح بزعزعة نفوذها عبر الإطاحة بالنظم الصديقة لها في دول الجوار، وأن ما حدث في أوكرانيا وجورجيا لن تسمح بتكراره تحت أي مبرر، الأمر الذي يفاقم حالة الاحتقان مع الغرب الذي يجعل من نشر الديمقراطية وحماية حقوق الإنسان هدفاً رئيسياً له وإن لم يكن الهدف الحقيقي.

خاتمة:

لعل السؤال المهم هو: ماذا بعد؟ وما مآلات هذا التصعيد بين روسيا والغرب؟ وهل وصلت المفاوضات إلى طريق مسدود تتعزز معه احتمالية المواجهة العسكرية المباشرة بين الطرفين؟ أم إنه مازال هناك ضوء في نهاية النفق ولم يستنفذ الحوار بعد بين الجانبين؟ وهل تُقدم روسيا على إشعال الموقف والمبادرة بعمل عسكري بالهجوم على أوكرانيا كما يتخوف الغرب؟

من الواضح أن موسكو تسير في اتجاه “خطوة مقابل خطوة”، فإذا كانت الخطوة الغربية تصعيدية سيقابلها خطوات مماثلة من جانب روسيا، والعكس. إن روسيا لن تبادر بالتصعيد إلا إذا صدر من الغرب ما يعتبر تصعيداً بالنسبة إليها. فإذا قام الغرب بنشر صواريخ ستقوم روسيا بنشر منظومات أيضاً، ليس على حدودها الغربية مع أوروبا فقط، وإنما في الحديقة الخلفية للولايات المتحدة وتحديداً كوبا وفنزويلا.

وفي حال أقدمت كييف على عمل عسكري بهدف إعادة إخضاع منطقة دونباس بالقوة لسلطتها، قد تقوم روسيا بالرد، وسيكون الرد الروسي في حدود حماية الروس في المنطقة ووقف العمليات العسكرية وأي ضربات من جانب كييف عليها، على غرار ما حدث في جورجيا وأوسيتيا الجنوبية عام 2008، أي ليس اجتياحاً لأوكرانيا بالكامل، وإنما عمل “دفاعي” من وجهة نظر موسكو يمكن أن يحرك مفاوضات لاحقة.

إن سيناريو الحرب المفتوحة والمواجهة المباشرة بين روسيا والناتو يبدو بعيداً عن الواقع، فالأمر أقرب إلى “تكسير عظام” من الجانبين لتحقيق مكاسب استراتيجية، وسوف ينتهى الأمر في الغالب إلى تجميد الأوضاع وربما فرض مزيد من العقوبات الغربية على روسيا، يدعم هذا مجموعة من العوامل والمؤشرات. أولها أن الولايات المتحدة التي أعلنت انسحابها من أفغانستان لأنها لا تريد الاستمرار في “حرب لا نهاية لها” على حد تعبير بايدن، لا يمكن أن تتورط في مواجهه غير محسوبة العواقب كهذه في أوروبا، وكل ما تريده واشنطن هو استمرار روسيا كشبح يهدد أوروبا لضمان بقاء الأخيرة في الفلك الأمريكي. ورغم أن ويندي شيرمان، مساعدة وزير الخارجية الأمريكي أعلنت رفض المقترحات الأمنية الروسية واعتبرتها غير مقبولة مطلقاً مؤكدة أن واشنطن لن تسمح لأحد بوقف سياسة الأبواب المفتوحة للناتو أمام أي دولة، فإنها أكدت اتفاق الطرفين على ضرورة منع نشوب حرب نووية[13].

ثانيها، ميل الطرفين للحوار فقد أكد بايدن أن واشنطن لن تحارب عن أوكرانيا واستبعد إرسال قوات أمريكية إليها إذا تعرضت لهجوم روسي، مؤكداً أن الهدف هو إقامة علاقات مستقرة وقابلة للتنبؤ بين واشنطن وموسكو[14]. ورغم تعثر المفاوضات الأخيرة فإن باب الحوار مازال مفتوحاً، وأعلن وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف في 13 يناير أن موسكو تتوقع أن يسلم الغرب إليها اقتراحاته بشأن مبادرتها بخصوص الضمانات الأمنية في غضون أسبوع، وإن كان قد حذر من مماطلة الغرب وأن روسيا لن تنتظر رد الغرب على مبادرتها إلى ما لا نهاية. ووصف المتحدث باسم الرئاسة الروسية ديميتري بيسكوف، سلسلة المفاوضات التي جرت مع الولايات المتحدة والناتو حول الضمانات الأمنية لروسيا، بأنها لم تكن ناجحة، إلا أنه أكد وجود إرادة سياسية لدى روسيا لمواصلة الحوار، وأن المطلوب هو تحقيق نتيجة ملموسة من خلاله. وأعلن ستولتنبرج، عقب مفوضات بروكسل أن الحلف مهتم بالحوار مع روسيا لكنه يرفض تقديم أي تنازلات بشأن أوكرانيا، وأنه على استعداد لاستئناف بعثتي الطرفين بين بعضهما دون شروط مسبقة.

إن التصعيد الروسي – الغربي الحالي ليس هو الأول من نوعه، وإنما هو حلقة في سلسلة طويلة من الشد والجذب بين روسيا والغرب على مدى العقد الماضي، وذلك في إطار مرحلة رخوة من إعادة تشكيل النظام الدولي وتأكيد التحول لتعددية القوى، وفي سياق من صراع المكانة والنفوذ وتناقضات المصالح بين الجانبين والتي سوف تستمر في المستقبل المنظور.

المراجع

  1.  Полный текст Минских соглашений,  РИА Новости, 12.02.2015, https://ria.ru/20150212/1047311428.html
  2. Ежегодная пресс-конференция Владимира Путина, 17 декабря 2020, http://kremlin.ru/events/president/news/64671
  3. Военная доктрина Российской Федерации, (http://kremlin.ru/events/president/news/47334)
  4. Концепция внешней политики Российской Федерации, утверждена Президентом Российской Федерации В.В.Путиным 30 ноября 2016 г, (http://www.mid.ru/foreign_policy/news/-/asset_publisher/cKNonkJE02Bw/content/id/2542248)
  5.  Гарантии безопасности РФ и США намерены обсуждать по трем направлениям, Известия, 31 декабря 2021, https://iz.ru/1272071/2021-12-31/garantii-bezopasnosti-rf-i-ssha-namereny-obsuzhdat-po-trem-napravleniiam
  6.  Press conference by NATO Secretary General Jens Stoltenberg following the meeting of the NATO-Russia Council, 12 Jan. 2022, https://www.nato.int/cps/en/natohq/opinions_190666.htm
  7.  NATO rejects Russian accusations on missile deployment, Reuters, December 14, 2021, https://www.reuters.com/world/nato-rejects-russian-accusations-missile-deployment-2021-12-14/
  8. Paul Sonne, John Hudson & Ellen Nakashima, U.S. plans to discuss missile deployments with Russia as part of effort to defuse Ukraine crisis, National Security, January 8, 2022, https://www.washingtonpost.com/national-security/us-russia-talks-ukraine/2022/01/07/2fb5874e-6ff6-11ec-974b-d1c6de8b26b0_story.html
  9. При условии встречных шагов со стороны НАТО»: Путин заявил о готовности не размещать в Европе ракеты 9М729, 26 октября 2020, RT, https://russian.rt.com/world/article/796474-zayavlenie-vladimir-putin-drsmd
  10. Рябков заявил об угрозе нового ракетного кризиса, РИА Новости, 27.12.2021, https://ria.ru/20211227/ryabkov-1765615003.html
  11. Sean M. Lynn-Jones, Why the United States Should Spread Democracy, Belfer Center for Science and International Affairs, Harvard Kennedy School, March 1998.
  12.  Переломный момент: что Путин и другие президенты обсудили на саммите ОДКБ, Ведомости, 10 января 2022, https://www.vedomosti.ru/politics/articles/2022/01/10/904112-odkb-sobitiya-kazahstane
  13. Deputy Secretary Wendy R. Sherman at a Press Availability, US Department of State, January 12, 2022, https://www.state.gov/deputy-secretary-wendy-r-sherman-at-a-press-availability-2/
  14. Biden says U.S. ground troops ‘not on the table’ for Ukraine, The Washington Post, December 8, 2021, https://www.washingtonpost.com/politics/biden-says-ground-troops-not-on-the-table-but-putin-would-face-severe-economic-sanctions-for-ukraine-invasion/2021/12/08/3b975d46-5843-11ec-9a18-a506cf3aa31d_story.html

المواضيع ذات الصلة