Insight Image

مشروع “تعزيز قيم الجمهورية الفرنسية”.. الإمكانات والتحديات

27 أغسطس 2024

مشروع “تعزيز قيم الجمهورية الفرنسية”.. الإمكانات والتحديات

27 أغسطس 2024

يؤطر قانون مكافحة الإسلاموية و”تعزيز قيم الجمهورية”، في فرنسا، مجموعة من الأهداف، لردع مخاطر تسييس الإسلام، وذلك عبر عدة محاور باتت تهدد المجتمعات الأوروبية، بداية من الخطاب الراديكالي المتشدد، والذي يشكل هوية بديلة لها صفة دينية مؤدلجة، تصنع أفرادًا لديهم “العزلة الشعورية” تجاه المجتمع، بل ولديهم الرغبة للانقلاب المحتمل على قيمه، وكذا استخدام المساجد والمراكز الثقافية والتعليمية في الاستقطاب والتجنيد والتعبئة. إن الميراث السوسيو-ثقافي للجمهورية الفرنسية، بكل ما به من تمثلات تاريخية، وبِنًى ذهنية، يمثل البنية التحتية التي يقوم عليها البناء السياسي، ويعمل على تكريس قيمها، والانطلاق من مبادئها التي صاغها الآباء الأوائل للجمهورية، عبر محطات تاريخية متعددة، نجحت في تصحيح أخطائها ومساراتها المتشابكة، وصولًا لمقاربة المبادئ التي رفعها الثوار الأوائل فوق أسوار الباستيل: الحرية والمساواة والإخاء.

كما أن الميراث التاريخي، الثقافي والسياسي، الذي تشكلت معه قيم الجمهورية واللائكية (العلمانية) الفرنسية، يفترض ثمّة خصوصية في العلاقة مع الإسلام، وهي علاقة لا تبدو معقدة بقدر ما تكشف عن تباينات، بعضها بحاجة إلى ضبط ومراجعة، وبعضها الآخر بحاجة ليكون في مستوى دائم من الحوار والانفتاح في فضاء العلمانية والتعدد. فالإسلام، وبخلاف النموذج المسيّس للقوى والتيارات الأصولية وجماعات الإسلام السياسي، هو الذي يتعيّن في إطار فئوي، اجتماعي وثقافي، ويعبر عن كتل أو تكتلات من بيئات ومرجعيات متفاوتة. بالتالي، فإن انعطافة فرنسا الأخيرة تجاه الإسلاموية، لا تعني الإسلام بالمعنى اللاهوتي أو العقيدي، بل النسخ المؤدلجة وحمولاتها العنيفة المتشددة، التي تصنع توترات مُتوّهمة على خلفية الصدامات بين الدولة والهوية والقوانين. وذلك من خلال مؤسسات تتخفى وراء قاعدة المجتمع المدني، وكذا المراكز الدينية والثقافية، بينما تقوم بدور تبشيري وتعبوي، لجهة تعميم قيم سياسية وأخلاقوية تتماهى وأدبياتهم الراديكالية.

في هذا السياق، تهدف تلك الدراسة إلى مخاطر الإسلاموية على المجتمع الفرنسي، والتي يمكن أن تتلخص في الانعزالية التي تهدف إلى بناء مجتمع موازٍ يتعارض مع قيم الجمهورية، وكيف أن سعي الحكومة الفرنسية لتحرير المجال الإسلامي من يد الإسلامويين يمثل أهم استراتيجيات مجابهة الإسلاموية، وأخيرًا كيف أن نتائج الانتخابات الفرنسية الأخيرة يمكن أن تمثل عقبة أمامها في هذا المسعى.

الإسلاموية ومخاطر الانعزالية

مثّلت الإسلاموية، ومخاطر أو تهديدات “الانعزالية”، ما هو أبعد من فكرة الحروب الثقافية، الناعمة والمستترة. وقد برزت ضغوطاتها في سياقات عديدة، محلية وخارجية، عبر ابتعاث الحوامل الاجتماعية التي تكاد أن تُصبح مجتمعات موازية في مواجهة ما يعتبرونه مركزية العلمانية، وحماية ما يصفونه بسياسة “الإسلاموفوبيا” أو “الرهاب من الإسلام”، بحيث تتحول الخلافات، في ظاهرها، إلى نزاع وجودي بين الإسلام وفرنسا. في حين أن القضايا التي تجري على تخومها ولادة العنف الإسلاموي واستمالة هذه القوى الانعزالية من حواضنها، تقع ضمن وسائط الاستقطاب السياسي والإقليمي، كما هو الحال إزاء الموقف من حركة حماس أو جماعة الإخوان بفروعها المختلفة، وحزب الله ومثيلاته المختلفة من نسخ الإسلام السياسي الشيعي. بل إن آليات اشتغال الخطاب الخفية للإسلامويين تؤشر إلى مصالح أطراف محددة بواسطة “لوبياتها”، سواء عبر أئمة المساجد، أو المراكز الثقافية، أو المدارس أو المؤسسات التعليمية.

ويمكن القول إن استدارة فرنسا لمكافحة الإسلاموية، أو بالأحرى استراتيجياتها وتكتيكاتها، ليست أمرًا هينًا، حتى مع وجود مشروع جاد، قانوني وتشريعي، وكذا إرادة سياسية، لتصفية الجيوب اليمينية الراديكالية والانعزالية فيما يعرف بـ”إسلام الضواحي”. إذ إن تَسَيُّد نموذج “ما بعد الإسلاموية”، الذي ينجح في تمرحل الأزمات التي وقعت تحت وطأتها تنظيمات الإسلام السياسي، بخطاباتها وسردياتها التقليدية، وتسببت في انحسارها سياسيًا، كل ذلك يفاقم معضلة مواجهة التيار الإسلاموي، لاسيما مع قدرته على إعادة تكوين رأسماله الرمزي/ الديني، وتعميمه في المجال العام، بعيدًا عن الفكرة النمطية والكلاسيكية التي تتبنى تدشين الدولة الإسلامية.

وتتبدّى هذه المعضلة، راهنًا، في العواصم الأوروبية مع استراتيجية تمتين الإسلام السياسي بالمجال العام من خلال ربط “الإسلام بالحقوق والحريات”. وبهذا المعنى فهي -أي ما بعد الإسلاموية- ليست علمانية أو معادية للإسلام أو غير إسلامية[1]“. وإنما تمثل سعيًا نحو “ربط الإيمان بالحرية، والتدين بالحقوق، والإسلام بالتحرر[2]“، كما يقول الباحث الأمريكي من أصول إيرانية آصف بيات في كتابه “ما بعد الإسلاموية.. الأوجه المتغيرة للإسلام السياسي”. إذ إن هذه الصيغة المرنة تمثل أداة توفيقية وذرائعية لإنهاء شمولية الحالة الإسلاموية القديمة؛ بغرض ردم الهوة التي حُفرت بفعل الإخفاقات أسفل الوجود الاجتماعي والسياسي والثقافي للإسلامويين، وملء محلها بنماذج مغايرة قابلة للتحقق والاشتباك مع فواعل جدد آخرين، بخلاف هؤلاء الذين باعدت بينهم تجربة الفشل. فهي إذنْ “محاولة لقلب المبادئ المؤسِّسة للإسلاموية رأسًا على عقب، عبر التأكيد على الحقوق بدلًا من الواجبات، ووضع التعددية في مقابل سلطوية الصوت الواحد، والتاريخية بدلًا عن النصوص، والمستقبل بدلًا عن التاريخ[3]“.

هذا الدور الإحيائي، الذي يتعاطى مع الدولة الحديثة في درجة تطورها الحضاري كما هو الحال بالغرب، يشكل سردية انتقائية، ظاهرها القبول بالديمقراطية، حتى لو في صورتها الإجرائية/ الانتخابات، بينما لا تسعى للصدام الخشن (التكفيري)، مؤقتًا، مع القيم العلمانية، إنما يشكل دوائره الاجتماعية على مهل، مستفيدًا من هامش الحرية في البيئة التعددية السياسية، والتي تماثل “الغيتوهات” وتمددها في “إسلام الضواحي”، والذي يُبطن داخل أطره المغلقة الأفكار الأصولية التي تقف على النقيض من المجتمع، ويقع حتمًا في مواجهتها، بينما يظل في موازاتها من دون قدرة على الاندماج.

الاحتماء بالأصولية وبناء اجتماع موازٍ

مخاطر هذا النموذج أنه يمثل المفرزة، أو المصنع، الذي تشكل مقولاته الأيديولوجية أفرادًا لديهم رغبة محمومة في الوصول إلى الموت الخلاصي، أو كما يصفها المحلل النفسي فتحي بن سلامة في كتابه “رغبة هوجاء في التضحية.. المسلم الأعلى”، بأنه في أعقاب الحوادث الإرهابية التي طاولت العاصمة الفرنسية باريس في تشرين الثاني/ نوفمبر عام 2015، كان مفهوم “الأصولية/ radicalization” يملأ صخبه المجال العام، وهذه الأصولية تبدو ضمن الأفكار المهددة والتي لها قوتها التدميرية. ويُلمح بن سلامة إلى أن الاحتماء بالأصولية/ والهوية -باعتبارها “أداة سماوية” للانعزال عن العالم الواقعي- يُوَلِّد اشتهاء الموت بوصفه “ضرورة/ مهمة إلهية”. كما أن الانعزالية الإسلاموية، في معنى من معانيها، تماثل المتخيل الطوباوي الذي يصعد بأفراده (أو جماعاته) نحو عداء جذري تجاه الغرب؛ كونه يهدد ذواتهم بفقدان هوياتهم الدينية بفعل الحداثة. وعليه، فإن ضحايا الإرهاب، في شارلي إبدو كما في متحف باردو أو غيرهما، هم مجرد أجساد متهالكة لـ”وثنيين” في “عاصمة الرجس”، لنشر الرعب، والكشف عن عوالم مفارقة تقع تحت أعباء الخوف والتهديد المتواصلين[4].

هذه التوصيفات اللافتة لدى بن سلامة، وهي توصيفات معتادة تتناسب وطبيعة عمله في التحليل النفسي، يتفق معها الباحث الفرنسي أوليفيه روا، لكن بعبارات أخرى لا تستمد وعاءها النظري من التحليل السريري، وإنما تعمد إلى القراءة الثقافية والتاريخية والتحليل الاجتماعي السوسيولوجي. فيقول روا إن الإسلامويين هم مجرد ذوات، تباعد بينهم وبين محيط الأكثرية العوالم “التطهرية” المصنوعة. ويوضح في كتابه “الإسلام والعلمانية”، أن “طائفية هذه الأيام تميل إلى بناء طائفة خيالية تندرج في مجال آخر غير مجال الدولة-الأمة[5]“.

لهذا، كان قرار فرنسا، مطلع العام، بحظر استقدام الأئمة من الخارج، وفق وزير الداخلية جيرالد دارمانان، أمرًا لافتًا، فضلًا عن ترحيل عدد من رموز الإسلام السياسي، مثل ترحيل الإمام من أصل تونسي محجوب المحجوبي[6]، في شباط/ فبراير الماضي، نتيجة تصريحاته المعادية لـ”قيم الجمهورية”، والإساءة إلى “العلم الفرنسي” و”الشعار الوطني”، وبعدها بفترة وجيزة حدث الأمر ذاته مع القيادي بجماعة الإخوان أحمد جاب الله[7]. ورغم كون ما سبق يُعَدُّ بمثابة خطوة إجرائية، في إطار الاستراتيجية الفرنسية لمواجهة الإسلاموية مع قانون الهجرة الجديد، إلا أنه يساهم في شل قدرة الخطاب الصوتي الذي ترتج له مشاعر أبناء الجاليات من المهاجرين، على إحداث التأثيرات السلبية ضد “قيم الجمهورية”، بينما يشكل طبقات سميكة تحول بينهم وبين قدرتهم على الاندماج، ويصنع منهم مجرد أفراد انعزاليين، وفواعل وظيفية لديها الجاهزية التامة للتعبير عن تمردها ونقمتها السياسية، في ظل الاستقطابات المختلفة المجتمعية والسياسية والانتخابية.

ففي خطابه عن “الانعزالية الإسلامية”، عام 2020، قال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إن “هدف فرنسا هو تكوين وتأهيل جيل من الأئمة والمثقفين الذين يدافعون عن إسلام يتوافق مع قيم الجمهورية”. فيما أكد وزير الداخلية الفرنسي، أن العام الحالي، شهد مُضِيّ القانون الجديد المعني بالأئمة قُدُمًا إلى حيز التنفيذ، حيث سيتم الاستعانة بأئمة خضعوا للتدريب في فرنسا، لضبط الخطاب الديني. وكان تقرير قد صدر في وقت سابق، تحديدًا قبل عام، عن مجلس الشيوخ الفرنسي، أوضح وجود 151 إمام مبتعث من تركيا، إلى جانب ثلاثمئة إمام يحصلون على رواتبهم من خارج البلاد. وذكر التقرير أن هؤلاء الأئمة لديهم “ولاء مزدوج”[8]. من ثم، دعا ماكرون لتأهيل الأئمة على أراضي فرنسا ببرامج محلية تتوافق مع “قيم الجمهورية وإرثها الإنساني”[9]، بالإضافة إلى تحري محفزات النهوض بالإسلام من الانغلاق والانسداد التاريخيين، وتحريره من أفق التسييس والأدلجة، عبر عملية إصلاحية شاقة، تستهدف الوصول إلى “إسلام الأنوار”، والحد من “التأثيرات الخارجية (الأجنبية)، كما يحددها ماكرون في استراتيجيته لمكافحة الإسلاموية، الأمر الذي لن يتم بالقوانين فقط، إنما بتجديد الإسلام ليكون “شريكًا للجمهورية”.

تحرير الإسلام يبدأ من المجال الديني

يسعى ماكرون إذنْ نحو “تحرير الإسلام من التأثيرات الأجنبية”، عن طريق وضع حد للاستعانة بأئمة من الخارج خلال أربع سنوات، والتركيز على تأهيل أئمة مسلمين فرنسيين، وتوفير الشفافية المالية للمنظمات والجمعيات الإسلامية وأتباعها، بقانون عام 1905 الذي ينظم عمل الجمعيات. بالمقابل، يهدف لإعادة إطلاق الدراسات الإسلامية في المعاهد والجامعات ومؤسسات البحث؛ لاستدعاء القيم الفلسفية والحضارية التنويرية. وقال: “أريد أن نعيد تعليم فلسفة ابن رشد وابن خلدون، وألا نترك الدراسات الإسلامية لمن يستغلها لصالحه”. فضلًا عن ذلك يريد تقوية تعليم اللغة العربية، على أن يتم ذلك تحت إشراف وزارة التربية والتعليم. وقرر ماكرون منح 10 ملايين يورو لـ”مؤسسة إسلام فرنسا” لتدريس الثقافة والحضارة الإسلامية.[10]

وفي منصة europeanconservative الفرنسية، كتبت هيلين دي لوزون عن تضاعف أعداد جماعة الإخوان منذ عام 2019، وذلك من خمسين ألفًا إلى مئة ألف، موضحة أن من بين تكتيكات الجماعة للتوغل في المجتمعات الأوروبية، اعتمادها على شبكات لا صلة مباشرة معها تنظيميًا، مثل “جمعية مسلمي فرنسا”[11]. ويقول المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات إن “جماعة الإخوان عملت على تكوين إمبراطورية مالية وفكرية، منذ عام 1978، بهدف تعميق وجودها وتعزيز نفوذها في المجتمع الفرنسي، كما ارتبط التنظيم بعلاقات مصالح مع عدد من الأحزاب السياسية داخل فرنسا”، موضحًا أن “فرنسا تضم أكثر من 250 جمعية إسلامية على كامل أراضيها، منها 51 جمعية تعمل لصالح الإخوان، بالإضافة إلى التجمع لمناهضة الإسلاموفوبيا، وجمعية الإيمان والممارسة، ومركز الدراسات والبحوث حول الإسلام، والمعهد الأوروبي للعلوم الإنسانية، ومعهد ابن سينا لتخريج الأئمة. هذه الجمعيات تمارس نشاطًا سياسيًا وتعمل لصالح الجماعات المتطرفة”[12].

ومن الواضح أن الحكومة الفرنسية باتت لديها رؤية لهذا الدور، غير المعلن، لقوى الإسلام السياسي، وذلك ما عبر عنه جيرالد دارمانان بوجود خطة شاملة لمكافحة “آفة الإخوان المسلمين”، و”الانفصال الديني”، و”الإسلام السياسي” في فرنسا. وقال في بيان له: “إن مشروع الانعزالية هو مشروع سياسي ديني منظر، يتميز بانحرافات متكررة عن مبادئ الجمهورية؛ بهدف بناء مجتمع مضاد”. وتابع: “يتجلى ذلك من خلال ممارسات معادية للجمهورية، مثل إخراج الأطفال القاصرين من المدارس، أو تطوير أنشطة ثقافية ورياضية مجتمعية”.

تزامن الإعلان عن قانون مكافحة الإسلاموية و”تعزيز قيم الجمهورية” مع حادث اغتيال الأستاذ صامويل باتي على يد لاجئ شيشاني مراهق، لا يتخطى عمره 18 ربيعًا، على خلفية عرضه رسوم كاريكاتورية عن النبي محمد أثناء حصة عن حرية التعبير، بينما يتضمن القانون تشديد الرقابة على تمويل الجمعيات ومعاقبة المحرضين على الكراهية عبر الإنترنت. ويجرم كل من يشارك معلومات حول شخص تتسبب في كشف هويته أو مكانه لأشخاص يريدون إيذاءه. فيما قدم الرئيس الفرنسي أمثلة على تنامي النزعة الطائفية، منها على سبيل المثال أطفال من عائلات مسلمة شديدة المحافظة أُخرجوا من المدرسة، وجمعيات رياضية وثقافية تُستعمل لتلقين الشباب أفكارًا متطرفة. وجاء في المشروع: “في مواجهة الإسلام المتطرف، وفي مواجهة كل (النزعات) الانعزالية، علينا الإقرار بأن ترسانتنا القانونية عاجزة جزئيًا”[13].

وقال وزير الداخلية الفرنسي دارمانان لصحيفة لوفيغارو: إنه “يجب أن ننقذ أطفالنا من قبضة الإسلامويين”. ونقل الناطق باسم الحكومة الفرنسية غابرييل أتال عن الرئيس الفرنسي قوله في جلسة مجلس الوزراء بخصوص حادث صامويل باتي: “المذنب معروف: هو الإسلام السياسي الذي يدعم منهجيًا تفكيك الجمهورية. إنها معركة أمنية وتربوية وثقافية ومعركة طويلة”. وفي حفل التأبين الذي أقيم للمدرس، قال ماكرون إن صامويل باتي قُتل “لأنه كان يجسد الجمهورية”، لافتًا إلى أن بلاده لن تتخلى عن “الرسومات والكاريكاتيرات وإن تقهقر البعض، وسنقدم كل الفرص التي يجب على الجمهورية أن تقدمها لشبابها من دون تمييز أو تهميش، وسنواصل أيها المعلم مع كل الأساتذة والمعلمين في فرنسا، وسنُعَلِّم التاريخ بمجده وشقه المظلم، وسنُعَلِّم الأدب والموسيقى والروح والفكر[14]“.

يهدف مشروع قانون “تعزيز قيم الجمهورية” أيضًا إلى مكافحة الكراهية على الإنترنت، المشابهة لتلك التي تعرض لها باتي، وضمان “المثول الفوري” للمتهمين أمام القضاء، وفق ما صرح به ديبون موريتي لإذاعة “إر تي إل”. وقال وزير العدل للإذاعة إن “هذا القانون (يقول): ارفعوا أيديكم عن أستاذي، ارفعوا أيديكم عن الجمهورية”. وجاء في المشروع أنه يجب على كل جمعية تتلقى دعمًا ماليًا أن “تحترم مبادئ وقيم الجمهورية”. كما سيتم اعتبار التبرعات الأجنبية التي تتجاوز 10 آلاف يورو موارد يجب التصريح بها لجهاز الضرائب. ويحرص النص على “ضمان شفافية ظروف ممارسة الديانة”، عبر تغيير قانون 1905 بشأن الفصل بين الكنيسة والدولة في شق تمويل الجمعيات الثقافية لناحية تعزيز الشفافية. وقد سبق لصحيفة لوفيغارو الفرنسية أن ذكرت “المديرية العامة للأمن الداخلي (المخابرات الداخلية الفرنسية) حدّدت ما لا يقل عن (20) صندوقًا مشبوهًا للأوقاف يرتبط بالإسلام السياسي في فرنسا[15]“.

ويوجد فصل “ضد الانقلاب”، ويهدف إلى تجنب سيطرة متشددين على المساجد، ومنع أشخاص من ارتياد أماكن العبادة “في حال الإدانة بالتحريض على أفعال إرهابية، أو التحريض على التمييز أو الكراهية أو العنف”. وأضاف دارمانان لصحيفة لوفيغارو قوله: “سنعرف من يمول من على أراضينا، وسنعطي إمكانيات أكبر لوكالة تراكفين (الحكومية لتعقب الأموال) لصد كل التدفقات غير المرغوب فيها”. وتوجد في الشق التعليمي إشارة إلى مكافحة مدارس الجمعيات غير القانونية، وإنهاء التعليم في المنزل لجميع الأطفال اعتبارًا من سن الثالثة “، إلا لدواعي محدودة جدًا تتعلق بوضع الطفل أو عائلته”. وتوجد فصول أخرى حول منع شهادات العذرية، وتعزيز الترسانة القانونية ضد تعدد الزوجات والزواج بالإكراه.

إذنْ، فقد استثارت الحوادث الإرهابية العنيفة، منذ العام 2020، ذهنية السلطات الفرنسية، وبعثت داخلها رغبة لإعادة النظر في مستوى ومضمون العلاقة مع الإسلام السياسي عبر رموزه المختلفة، سواء كانوا أفرادًا أو مؤسسات وهيئات، وتضاعفت تلك الرغبة الملحة مع ضغوط جمّة وَسَّعَتْ من مجال الرؤية باتجاه ما يفاقمه هذا التغلغل الإسلاموي و”آفة الإسلاموية” في فرنسا، كما في بلدان أوروبية أخرى، ويتقاطع مع سياقات خارجية، مثل تهديدات داعش بالغرب (بخاصة مع تنظيم فرنسا للألعاب الأولمبية) وآسيا وغرب أفريقيا، ثم حرب غزة، وكذا صعود اليمين الأوروبي المتطرف، وذلك بما يقوض أوروبا أمنيًا، ويفرض تحديات سياسية على جدارية التحولات الجيوسياسية بالعالم.

تحت وطأة هذه المتغيرات القصوى، لجأت إدارة الرئيس الفرنسي ماكرون إلى مشروع متكامل لـ” تعزيز احترام المبادئ الجمهورية”، بما يضمن للإسلام في فرنسا حضوره غير المسيس أو غير المؤدلج، ويتخطى مجاله الفئوي الضيق والمتشدد، وتبعيته السياسية أو الإقليمية الخارجية، إلى إسلام ثقافي ينتمي إلى بيئة وحضارة منفتحة كما لم تكن يومًا منبتة الصلة في حوارها الحضاري مع العالم الإسلامي، وتملك شروط تجديد الحوار الذي بدأ مع أصوات عديدة مؤثرة، مثل ابن رشد والإمام محمد عبده والشيخ الأزهري محمد عبد الله دراز (والأخير درس في جامعة السوربون وحصل على “الدكتوراه” في فلسفة الأديان. في حين تمثل مؤلفاته وثيقة بالغة الأهمية حول تلك العلاقة المنتجة للعقل الكوني الإنساني وتبادلية المعرفة من دون ميول استعلائية).

وعليه، طلب الرئيس ماكرون من “مجلس الديانة الإسلامية”، الممثل الرسمي للمسلمين في فرنسا باتحاداته الثمانية، أن يتفقوا على “ميثاق للقيم الجمهورية”[16]، للحد من التمويل الخارجي أو التماهي مع قيم وأهداف سياسية، وألا يتجاوز الدين دوره الإيماني في حيز الفرد وتوظيفه كما دور العبادة في أي نشاط حركي/ سياسي وتعبوي. غير أن طلب الرئيس الفرنسي ترتب عليه انقسامات داخلية، وقد رفضت عدة هيئات التوقيع على الميثاق المقترح، منها اللجنة التنسيقية للمسلمين الأتراك في فرنسا، وجماعة ميللي غوروش التركية، ومنظمة الإيمان والممارسة. بالتالي، وفي ظل التشظي الذي ساد المجلس، الذي استمر كممثل للإسلام بفرنسا على مدى عقدين من نهاية التسعينيات تقريبًا، كانت الحاجة ملحة إلى إنشاء تكتل آخر عُرف بـ”منتدى الإسلام في فرنسا”. ومن بين الأمور التي عُني بها المنتدى الجديد، قبل عامين، إدارة المساجد وتأهيل الأئمة وتدريبهم مهنيًا، فضلًا عن توظيفهم، ومواجهة الممارسات المعادية.

نتائج الانتخابات عقبة أمام ماكرون

وفي هذا الإطار، تقع سياسة الرئيس ماكرون لمواجهة “آفة الإسلاموية” أمام معضلة المؤشرات التي لاحت بها الانتخابات البرلمانية الأخيرة بصعود اليمين المتطرف، صحيحٌ أنه لم يكن بإمكانه تحقيق نفوذ وفوز نهائيين، إلا أنه يعيق إتمام مشروع “تعزيز قيم الجمهورية”، والذي قد يراوح مكانه في ظل الاستقطابات التي يتبادلها الطرفان تجاه قاعدته الانتخابية. فمن المعروف أن السردية اليمينية -بأحزابها القومية- تتبنّى آليات الخطاب الإسلاموي القائم على خصوصية الانتماء الثقافي الديني العرقي، والذي يشكل هاجسًا لكل طرف أمام مهددات ما يعتبره تهديدًا لانتمائه الهوياتي، وهكذا يستفيد كل خصم من خصمه أو نقيضه لتوسيع قاعدته وناخبيه؛ على أساس بناء اصطفاف لحماية أمنه الوجودي والثقافي والاجتماعي. وهنا، فإن ماكرون من خلال استراتيجيته لمكافحة الإسلاموية يسعى لحلحلة تلك القاعدة (من يمين الوسط) وكسبها انتخابيًا. غير أن الرهانات وحسابات المكسب والخسارة بين الطرفين لن يتبين أفقها النهائي إلا مع انتخابات الرئاسة المزمع إجراؤها عام 2027. وعلى الرغم من البون الشاسع بين خطاب حزب “الجمهورية إلى الأمام” وحزب “التجمع الوطني اليميني”، الذي حقق طفرة خطيرة، إلا أن عددًا كبيرًا من الناخبين وضعوا الحزبين في سلة واحدة، لتتصدر الجبهة الشعبية الجديدة (يسار) بفارق ملحوظ عن حزب الرئيس، والذي وجد نفسه بين اليمين واليسار، في مفارقة لم تحدث من قبل، وعليه حسم موقفه لبناء تحالف سياسي لتكوين الحكومة، وربما يفضل في نهاية الأمر التحالف مع اليسار، لتجنب دفع فاتورة الخطاب اليميني على الصعيد الشعبي، وإن كان ذلك يعني في الوقت نفسه تقديم تنازلات في مواجهة الإسلاموية.

ويمكن القول إن فشل حزب الرئيس في تحقيق نتائج حاسمة في الانتخابات الأخيرة، ووقوعه في منتصف الطريق، بين اليسار الأكثر مرونة مع الإسلاموية، واليمين الأكثر تطرفًا في مواجهتها، يشكل عقبة حقيقية أمام المشروع الذي أعلنه وزير الداخلية وشرع في تنفيذه. ذلك أن جماعات الإسلام السياسي، بتحالفاتها وعلاقاتها المعقدة مع اليسار، صاحب الأغلبية، سوف تضع العقبات أمام تقويض بنيتها الاجتماعية والاقتصادية الهائلة، التي صنعتها عبر عقود، وإذا ما تحالف حزب “الجمهورية إلى الأمام” مع اليمين، لتشكيل حكومة ائتلافية، فسوف يكون مطالبًا أمام حلفائه بانتهاج سياسات أكثر تشددًا، ما يضع الحكومة في مواجهة المعارضة اليسارية القوية من جهة، ومن جهة أخرى يضعها في مواجهة أنصار حزب الرئيس، الذين قد تزعجهم مقولات اليمين. وفي كل الأحوال على ماكرون أن يقدم بعض التنازلات لهذا أو ذاك، مع بذل جهد مضاعف لتحقيق التوازن السياسي الذي يُمَكِّنه من المُضِيّ قُدُمًا في إعلاء قيم الجمهورية.

خاتمة

بناء على كل ما تقدم، تلوح في الأفق بوادر التغيير، بحيث يمكن القول إن قطار القضاء على خطط الإسلاموية قد غادر محطته، وأن التراجع بات أمرًا مستبعدًا، في ظل الكشف المستمر عن خطورة البِنى الأيديولوجية لجماعات الإسلام السياسي، ومدى تشابك مساراتها المريبة في الاجتماع والاقتصاد، وبالتبعية السياسة، وفق شبكة معقدة من المصالح والتخادم بينها وبين بعض جماعات وأحزاب اليسار. وفي المقابل، على ممثلي المسلمين في فرنسا تكريس قيم الاندماج، وفصل الرعاية الروحية للمسلمين عن كل الأجندات السياسية التي تعتنقها جماعات الإسلام السياسي، لتكريس مواطنة حقيقية، في مجتمع متعدد، بات يرفض كل أشكال العزلة والانفصال. وفي هذا الإطار، فإن الحيز الذي تسعى له خطط فرنسا، القانونية والمجتمعية، لتموضع الإسلام، ينبغي له أن يظل بعيدًا عن إكراهات السياسة والأيديولوجيا؛ حتى يسترد الفرد ديناميته، من خلال إسلام تنويري حضاري، غير شمولي، ولا يخضع لشروط مصالح جماعة من المنتفعين.


[1]آصف بيات، ما بعد الإسلاموية.. الأوجه المتغيرة للإسلام السياسي، ترجمة: محمد العربي بيروت، جداول للنشر، بيروت 2016.

[2]نفس المرجع السابق.

[3] نفسه.

[4] فتحي بن سلامة، رغبة هوجاء في التضحية، مؤمنون بلا حدود، بيروت 2016.

[5] أوليفيه روا، الإسلام والعلمانية، ترجمة صالح الأشمر، دار الساقي، بيروت، 2016.

[6] Christophe Ayad: Gérald Darmanin se félicite de l’expulsion en urgence de l’imam Mahjoub Mahjoubi, Le Monde, 23-2-2024.

https://2u.pw/6w41n6kY

[7] Jean-Baptiste Marty: Visé par une procédure d’expulsion, un cadre des Frères musulmans a quitté la France pour la Tunisie.., Europe1, 1-3-2024.

https://2u.pw/p8NwrgPB

[8] المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية يتجاوز عقبات الإخوان، تقرير، صحيفة العرب، لندن، 18-1-2021.

https://2u.pw/ceb8y7bN

[9] قرار فرنسي جديد يخص الأئمة الأجانب، تقرير، الحرة، 30-12-2023.

https://2u.pw/j4AQm9ea

[10]ميشال أبو نجم: ماكرون يضع خمسة محاور لمواجهة «الانفصالية الإسلاموية»، الشرق الأوسط، 2-10-2020.

https://2u.pw/sKcQWJNb

[11]محمد إسماعيل: 100 ألف «إخواني» على أراضيها.. فرنسا تقرع طبول الحرب ضد التنظيم، العين الإخبارية، 8-5-2024.

https://al-ain.com/article/brotherhood-france-political-islam

[12] الإخوان المسلمون في فرنسا: الهيكل التنظيمي ومصادر التمويل، المركز الأوروبي لدراسات مكافحة الإرهاب والاستخبارات، تقرير، 5-7-2023.

https://2u.pw/sgtfa8Z

[13]فرنسا تنتهي من صياغة قانون لمكافحة “التطرف الإسلامي”.. هذه أبرز بنوده، تقرير، الحرة، 18-11-2020.

https://2u.pw/P16dB4u5

[14]ماكرون: لن نتخلى عن الرسومات والكاريكاتيرات الساخرة، تقرير، صحيفة الوطن المصرية، 21-10-2020.

https://www.elwatannews.com/news/details/5007986

[15]مركز مينا للأبحاث، إزالة السم من الجسد: فرنسا تقتلع جماعة الإخوان المسلمين، 20 – 5 – 2024.

https://2u.pw/d9Kzs3oj

[16] مجلس الديانة الإسلامي، ميثاق مبادئ الإسلام في فرنسا، 18 – 1- 2021.

 https://www.cfcm-officiel.fr/wp-content/uploads/2021/01/Charte-des-principes-17.01.2021.pdf

المواضيع ذات الصلة