واجهت البشرية على مر التاريخ أحداثاً جسيمة حملت في طياتها معضلات عويصة. وتحدِّد الاستجابة لهذه المعضلات ما إذا كانت هذه الأحداث التاريخية الفارقة ستقرب أكثر بيننا وتُبرز أفضل ما في الإنسانية أو ستُفرّقنا بيننا مخلِّفة إرثاً من الارتياب وانعدام الثقة؛ والحال نفسه ينطبق على جائحة كوفيد-19 التي أجبرت المجتمع الدولي على إعادة تقييم قيمه وأولوياته. كما كشفت الجائحة طبيعة العلاقات التي تجمع بيننا في ما يتعلق بأنظمتنا الحاكمة، وكيف نتعاون، أو لا نتعاون كمجتمع دولي من أجل القضاء على هذا الوباء.
ومنذ بداية الأزمة الصحية الحالية، برز سؤال رئيسي هو: هل ستلجأ الدول إلى اعتماد سياسات شبيهة بالسياسات الحمائية بحيث تتنافس في ما بينها من أجل الموارد اللازمة لاحتواء الوباء، أم أنها ستفعل العكس تماماً بتعبئة موارد المجتمع الدولي لمحاربة هذا التهديد وهزيمته؟ لقد ظل النهج الأول أكثر هيمنة من الثاني حتى الآن، واضطُررنا في الأشهر القليلة الماضية إلى مجابهة معضلة تتمحور حول التوزيع العادل والعاجل للقاحات كوفيد-19؛ فهل ستصبح هذه القضية مصدر خلاف مستمر بحيث تبذل كل دولة كل ما لديها من قوة لحماية سكانها وزيادة توفّير اللقاحات لمواطنيها؟ أم أنها ستجمع المجتمع الدولي على نهج عالمي يتم من خلاله توزيع اللقاحات لتلبية الاحتياجات العاجلة والعمل عموماً وفقاً لأفضل سبيل يعين على هزيمة هذا المرض المرعب؟
ثمة إجماع واسع على أن إتاحة اللقاحات والفحوصات والعلاجات لكل من يحتاج إليها هو السبيل الوحيد لاحتواء جائحة كوفيد-19 وهزيمته في النهاية. فقد قالت منظمة الصحة العالمية “إن الوباء العالمي يتطلب جهداً عالمياً لإنهائه، ولن يسلم أيٌّ منّا ما لم يسلم الجميع”. ويوفِّر طرح اللقاح على نطاق عالمي فرصة للتضافر وتأسيس إطار تعاوني يشمل المنظمات الدولية، والحكومات، والمجتمع العلمي، والشركات، والمنظمات غير الحكومية؛ وهذا لن ينقذ الأرواح فحسب، بل سيمكِّن من استعادة قدر من الحالة الطبيعية والتعافي الاقتصادي المطلوب.
ومع النجاح في تطوير لقاحات متنوعة لمكافحة انتشار وباء كوفيد-19، نشأ نقاش حول وضع أولويات التوزيع التي من شأنها أن تُظهِر تفاوت الثروة والقوة السائد في العالم. كما يوجد، إضافة إلى هذا، نقاش حول “دبلوماسية اللقاحات” التي عرَّفها العالِم الأمريكي المتخصص في الصحة العامة، بيتر هوتيز، بأنها “فرع الدبلوماسية الصحية العالمية الذي يعتمد على استخدام اللقاحات أو إيصالها”. وتكمّل هذه الدبلوماسية دبلوماسيةُ علم اللقاحات التي “يمكن أن تؤدي إلى تطوير بعض اللقاحات المبتكرة واختبارها”. ويوفِّر الوباء وتطوير لقاحاته فرصةً نادرة لهذا النوع من الدبلوماسية التي تستخدم القوة الناعمة للاستفادة من الدبلوماسية العامة.
والمؤسف أن نرى أن العديد من الأنشطة الدبلوماسية المحيطة بوباء كوفيد-19 كانت أنشطة خلافية وليست تعاونية؛ ففي حين كانت الصين غير متعاونة في تبادل المعلومات حول تفاصيل طبيعة الوباء ومداه – خصوصاً في المراحل الأولى – فقد أدركت، منذ ذلك الوقت، فوائد إمداد اللقاحات للدول التي تمتلك موارد أقل منها، خصوصاً فوائد خطاب دبلوماسية اللقاحات. وحدث هذا في وقت كانت الولايات المتحدة تحت إدارة ترامب منهمكة في اللغة الوطنية المتعصبة حيث أظهر رئيسها تجاهلاً تاماً لتعددية الأطراف وازدراءً كاملاً للمنظمات الدولية، وتبلور ذلك في قراره بإلغاء عضوية بلاده في منظمة الصحة العالمية وسط أسوأ وباء؛ هذا القرار الذي أبطلته إدارة بايدن فاتحة بهذا الباب لمزيد من التعاون، على الأقل في مجال التصدي لوباء كوفيد-19.
تتمثّل أهداف دبلوماسية اللقاحات في تعزيز الوضع الصحي في جميع أنحاء العالم، وتحسين العلاقات بين الدول وتقويتها في الوقت نفسه؛ وهي ليست فكرةً جديدة حيث يعود تاريخ التعاون الدولي لكبح الأمراض المعدية والمدارية إلى القرن الرابع عشر على الأقل عندما بدأت ممارسة الحجر الصحي، وتكثف التعاون في عام 1851 عندما عُقِد “المؤتمر الصحي الدولي للوقاية من الأمراض” بهدف تنسيق الجهود لمواجهة انتشار الكوليرا، والحمى الصفراء في وقت لاحق. وأصبح، وفي الآونة الأخيرة، جلياً أن كبح انتشار أمراض مثل الإيبولا والسارس وكوفيد-19 والقضاء عليها يتطلب تنسيقاً دبلوماسياً. ومع انتشار الأمراض المعدية والمدارية التي لا تتقيَّد طبيعتها بحدود جغرافية أو سياسية، لا يمكن للحكومات أن تخدم مصالح دولها إلا من خلال الدبلوماسية والتعاون، بدلاً من التنافس والنظرة الذاتية الضيقة.
كان من المفترض أن يوفر إنشاء منظمة الصحة الدولية مظلةً جامعة لمواجهة مثل هذه التحديات الصحية العالمية، غير أن المنظمة سقطت منذ ذلك الوقت ضحيةً للخلافات بين الأعضاء الذين يستخدمونها في معاركهم وحساباتهم الضيقة. وأثبتت التجارب السابقة – مع القضاء شبه الكامل على أمراض مثل الجدري وشلل الأطفال والحصبة والدودة الغينية – أن التعاون الدولي هو السبيل الأفضل لتحقيق هذا الهدف المتمثل في تخفيف المعاناة في العديد من بقاع العالم، إضافة إلى أنه عزز من سمعة الدول المشاركة في هذه البرامج.
ويوجب – في هذا الصدد – الاعتقاد التقليدي الشائع أن يكون مناصرو دبلوماسية اللقاحات هي الدول الأكثر ثراءً التي تؤيد أيضاً القيم الديمقراطية الليبرالية العالمية وحقوق الإنسان، ولكن هذا أبعد ما يكون عليه الحال. فالولايات المتحدة، التي كان ينبغي أن تقود هذه المجموعة من الدول، تُعدّ من أكثر الدول تضرراً من فيروس كوفيد-19، وذلك في الغالب بسبب إهمال إدارة ترامب وعجزها. ولم تبدأ الولايات المتحدة في تغيير هذا الاتجاه في الداخل ودعم برامج اللقاحات في الخارج إلا بعد أن تولّى جو بايدن الرئاسة.
وفي عالمٍ يزداد تصدّعاً وتتكرر فيه الدلائل على أن حرباً باردة جديدة قد بدأت بوادرها تتشكّل، فإن التنافس بين الولايات المتحدة، والصين، وروسيا على النفوذ الدولي قد يزيد من استخدام دبلوماسية اللقاحات كأداة لكسب القلوب والعقول. وبدأ، في هذه الأثناء، الاتحاد الأوروبي يتداعى تحت ضغط الوباء في حين كان ينبغي أن يكون ذلك النموذج الساطع لتكتُّل فوق وطني. وقد جعل هذا الأمر دعم الاتحاد الأوروبي للجهود الدولية لتوزيع اللقاحات تتخلف عن الركب.
تنقسم دبلوماسية اللقاحات الحالية بين برامج الدول الأفراد، مثل برنامج الصين أو الهند أو روسيا، وبرنامج كوفاكس الذي يمثل شراكةً عالمية تهدف إلى تسريع تطوير لقاحات كوفيد-19 وتصنيعها، إضافة إلى إنتاج التقنيات التشخيصية والعلاجات، وضمان الحصول عليها على نحو سريع وعادل ومنصف في جميع أنحاء العالم. وما زال برنامج كوفاكس في بدايته، وتم حتى الآن توزيع أكثر من 38 مليون جرعة من اللقاح على 98 دولة. وما زالت، مع هذا، عشرات من الدول الأخرى تنتظر الحصول على اللقاحات لكي تبدأ في تلقيح العاملين الصحيين والمسنّين.
وعلى الرغم من أننا لا نفكر عادةً في اللقاحات بوصفها أداة للسياسة الخارجية، فإن دبلوماسية اللقاحات تعمل بطرق مشابهة حيث أنها تدور حول تطبيق القوة من خلال إمداد اللقاحات من أجل كسب النفوذ. وقد أنهك كوفيد-19 منظومات الرعاية الصحية في جميع أنحاء العالم، منذ أيامه الأولى لأن الطلب تجاوز العرض بكثير من حيث عمليات الفحص، والملابس الواقية، والمعدّات، والعلاج، والاستشفاء.
وكان يعني الحصول على أي من هذه أو كلها احتمال أعلى للبقاء على قيد الحياة والشفاء الكامل، وينطبق الأمر نفسه على اللقاحات. ويشكِّل التوزيع العادل والمنصف للقاحات التحدي الأكبر الذي يواجهه العالم اليوم، لأنها سلعة نادرة يفوق الطلب عليها الكمية المعروضة منها بمستويات هائل. وتكمن هنا، إضافة إلى هذا، فرصة الدول التي لديها القدرة على توفيرها للآخرين والحصول على بعض النفوذ السياسي الذي يمكن أن تستفيد منه في المستقبل.
لقد روّج الباحثون الطبيون، في بداية انتشار الوباء، كثيراً لمجموعة من المعايير التي تنطبق بالتساوي على توزيع اللقاحات، بما في ذلك “تعظيم المنافع المنتَجة من الموارد الشحيحة، ومعاملة الناس بالتساوي، وتعزيز القيمة البراغماتية وتحفيزها، وإعطاء الأولوية لمن هم أسوأ حالاً”؛ إضافة إلى المناداة بوجوب ألّا تحدد ثروة الفرد ما إذا كان سيعيش أو سيموت. وتضيف دبلوماسية اللقاحات عاملا آخرا يرتبط بعدم ضرورة تشكيل الثروة أو الفقر النسبي لدولةٍ ما عاملاً في حصول مواطنيها على ما قد ينقذ حياتهم ويوقف معاناتهم.
وكما نبّهتنا مؤخراً المديرة العامة لصندوق النقد الدولي، كريستالينا غورغييفا، بأن “سياسة اللقاحات سياسةٌ اقتصادية”، لأن في إسهامها في التعجيل بإنهاء هذه الأزمة الصحية يمكن أن تضيف نحو 9 تريليونات دولار إلى الناتج المحلي الإجمالي العالمي بحلول عام 2025. وبقدر ما أن دبلوماسية اللقاحات واجبٌ أخلاقي، فإنها تصب أيضاً في المصلحة الذاتية للقوى الاقتصادية الرائدة التي تعتمد في رفاهيتها اعتماداً كبيراً على عودة النشاط الاقتصادي إلى مستويات ما قبل الوباء.
أدى عدم الإنصاف في الحصول على اللقاحات إلى تحويل هذه السلعة المنقذة للحياة إلى ورقة مساومة دبلوماسية. فقد أدركت الصين، والهند، وروسيا إمكانية تعزيز مكانتها عالمياً فاغتنمت الفرصة لاستخدام لقاحات كوفيد-19 لمكافأة أصدقائها وحرمان منافسيها وأعدائها. ويتجاوز، في الوقت الراهن، خطاب دبلوماسية اللقاحات تطبيقه على الواقع.
كانت الصين، في ذروة الوباء، أول من أدرك قيمة الانتقال من احتواء الأزمة الصحية في الداخل إلى العمل بطريقة مماثلة في الخارج. وربما يقول بعض الناس بوجود شيء من الإحساس بالذنب في ذلك، غير أن هذا التوجه يتماشى كثيراً مع النهج المزدوج في السياسة الخارجية الذي تتبعه الصين التي بنت قوتها الضاربة من خلال إنشاء أكبر قوة بحرية في العالم ومشاركاتها العسكرية المتزايدة على الصعيد العالمي، ولكنها في الوقت نفسه تكمِّلها بسياساتها بعيدة الأثر في مجال القوة الناعمة لكي ترفع من مكانتها ونفوذها، بما في ذلك مبادرة الحزام والطريق.
أعلن الرئيس الصيني، شي جينبينغ، في مايو من العام الماضي، في افتتاح جمعية الصحة العالمية، أن الصين ستوفر مساعدات اقتصادية واجتماعية للدول المتأثرة بوباء كوفيد-19، خصوصاً الدول النامية، كما صرّح بأن الصين ستطوّر لقاحات وتوزِّعها لتكون “سلعة عامة عالمية”، مؤكداً على دعم الدول التي لا تستطيع تطويرها بنفسها أو لا تمتلك الموارد اللازمة لشرائها. وتشير التقديرات حالياً إلى أن الصين أرسلت إلى الخارج أكثر من 60% من الجرعات المتوفرة لديها.
ونشطت روسيا أيضاً في توفير عشرات الملايين من جرعات لقاح سبوتنيك الروسي لدول أخرى، وأرسلت الهند 64 مليون جرعة من اللقاحات إلى 85 دولة. وتعهّدت أوروبا، بما فيها المملكة المتحدة، بدعم برنامج كوفاكس لإعطاء العالم النامي جرعات اللقاح الفائضة. وتوجد، مع هذا، أيضاً نماذج مقلقة من المنافسات والعداوات التي طالت توزيع اللقاحات، وكان ذلك هو حال الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة خلال فترة ما بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. وكان لدى إسرائيل برنامجا ناجحا جداً لطرح اللقاح، ولكنها تتجاهل حالة الفلسطينيين الصعبة في الضفة الغربية وقطاع غزة ورفضت مناشدات السلطة الفلسطينية بالمساعدة في برنامج تلقيح مشابه.
من السهل جداً أن يتهكم المرء بشأن دوافع الدول الأفراد وراء توفير لقاحات مجانية أو مموَّلة؛ ومع هذا تبقى اللقاحات أداة شرعية للسياسة الخارجية، وكغيرها من أنواع المساعدات الأخرى، لا تُعطى للجمعيات الخيرية. وربما لا تنبع بالضرورة من الإيثار، ولكن النتيجة جديرة بالثناء أخلاقياً ومناسبة عملياً من حيث مشاركة المعرفة العلمية واللقاحات. ويمكن أن تساعد دبلوماسية اللقاحات في بروز مجتمع عالمي أكثر صحةً، بالمعنى الأوسع للكلمة، وأكثر شمولاً وتعاوناً. لقد أوضح عمق المعاناة التي سببها وباء كوفيد-19 أن هناك مسؤولية مشتركة تخدم أيضاً مصالح الدول الأفراد التي تشكل المجتمع الدولي. ويمكن أن يقود هذا لاحقاً إلى درء الأزمات الصحية واحتوائها، وإلى فتح مجالات إضافية تخدم مصلحة البشرية جمعاء.