Insight Image

الحكومة الصومالية وحركة الشباب.. واقع المواجهة ومآلاتها

16 يوليو 2023

الحكومة الصومالية وحركة الشباب.. واقع المواجهة ومآلاتها

16 يوليو 2023

مقدمة:

تثير المواجهة المندلعة في الصومال بين الحكومة وحركة الشباب تساؤلات عديدة تتعلق بواقع هذه المواجهة وأسبابها وطبيعة ميزان القوى على الأرض بين الجانبين، والاستراتيجيات التي يتّبعها كل طرف في محاولته لهزيمة الطرف الآخر، بالإضافة إلى مآلات هذه المواجهة. وتسعى هذه الورقة إلى الإجابة عن هذه التساؤلات عبر الحفر في جينولوجيا المواجهة بين الطرفين.

وتأتي أهمية هذه الورقة من خلال مجموعة من الأسباب، من بينها أن حركة الشباب أصبحت تشكل في الوقت الحالي محطة من أهم محطات التطرف العنيف في منطقة القرن الأفريقي؛ حيث باتت طموحاتها تتجاوز حدود الصومال إلى محاولة تأسيس فروع لها في بعض القوى الإقليمية في منطقة شرق أفريقيا مثل كينيا وإثيوبيا[1]، كما أنها نجحت خلال الفترة الماضية في تنفيذ عدد كبير من الهجمات داخل الصومال وخارجه، الأمر الذي أصبحت تشكل معه خطرًا ليس فقط على الحكومة الصومالية وإنما أيضًا على بعض البلدان المجاورة، وقد تسبب هذا الأمر في زيادة اهتمام القوى الدولية الكبرى بهذه الحركة ومحاولة القضاء عليها، مخافة أن يتحول الصومال بعد انسحاب القوة الأفريقية منه إلى أفغانستان جديدة.

أولًا: جذور المواجهة بين الحكومة وحركات التطرف العنيف في الصومال:

 تعود جذور أول صراع بين نظام الحكم والتيارات الدينية في الصومال إلى ما يناهز نصف قرن من الزمان، وتحديدًا إلى عام 1975 حين حصل أول صدام بين الطرفين في عهد الرئيس السابق سياد بري، وذلك على خلفية خطاب ألقاه هذا الأخير في يناير من ذلك العام، ودعا فيه إلى إعادة النظر في التشريع الصومالي؛ بحيث تتم مراجعته بشكل يضمن تكريس حقوق المرأة والإعلاء من مكانتها من الناحية القانونية، وقد جاء رد علماء الدين الصوماليين على ذلك الخطاب قويًّا، وتمثل في قيامهم بحملة مركزة في الجوامع استهدفت نظام الرئيس سياد بري بشكل عام ومشروعه حول حقوق المرأة بشكل خاص، وكرد منه على هذه الخطوة، عمد نظام حكم الرئيس سياد بري إلى الزج بأولئك العلماء ورجال الدين في السجون، قبل أن يقوم في وقت لاحق بإعدامهم[2].

بيد أن حركات التطرف العنيف التي تعدّ حركة الشباب امتدادًا لها، لم تتمكن من إيجاد موطئ قدم لها في الصومال إلا خلال مرحلة تسعينيات القرن الماضي، حينما تحول هذا الأخير إلى قبلة مفضلة للمقاتلين العائدين من أفغانستان من مختلف الجنسيات، الذين وجدوا في الصومال فرصة سانحة لإعلان “الجهاد” ضد ما يُعرف في أدبيات تلك الحركات بـ “العدو الأكبر”، ممثلًا” بالولايات المتحدة، التي تمركزت عسكريًّا في البلاد خلال تلك الفترة، وتحديدًا خلال عام 1992، تحت ذريعة ما عُرف حينها بعملية إعادة الأمل، التي بررتها واشنطن بمسؤوليتها المتمثلة بمبدأ الحماية الإنسانية تجاه هذا البلد، الذي كان يعاني حينها حالة احتراب أهلي مدمر ومجاعة قاتلة. ولكن سرعان ما انسحبت الولايات المتحدة تحت وقع ضغط هائل من الرأي العام الأمريكي بعد أن بثت وسائل الإعلام العالمية صورًا لجنود أمريكيين يتم سحلهم في شوارع مقديشو، من قبل مقاتلين في ميليشيات تابعة لأحد أمراء الحرب الأكثر نفوذًا في الصومال آنذاك، وهو محمد فرح عيديد[3].

بعد الانسحاب الأمريكي من الصومال عاد هذا الأخير ليشهد حالة من الفوضى والاحتراب الداخلي، الأمر الذي سمح لتنظيم القاعدة بإيجاد أرضية له في ذلك البلد؛ حيث سعى التنظيم إلى أن يجعل منه محطة يشن منها الهجمات ضد المصالح الأمريكية والغربية في منطقة شرق أفريقيا بشكل عام، ويتم على أرضها تدريب المقاتلين الجدد، وقد بلغ وجود التنظيم بشكل خاص وفي منطقة القرن الأفريقي أوجَهُ خلال النصف الثاني من عقد التسعينيات من القرن الماضي، حين تمكن من أن ينفذ مجموعة من عمليات التفجير والعمليات الانتحارية ضد المصالح الأمريكية والغربية في المنطقة، من بينها عمليتا تفجير استهدفتا السفارتين الأمريكيتين في نيروبي ودار السلام، وهما العمليتان اللتان حدثتا في شهر أغسطس من عام 1998، وزادتا من تخوف وهواجس كانت لدى الولايات المتحدة تتعلق بإمكانية أن يتحول الصومال إلى ملاذ آمن لقيادات تنظيم القاعدة المطلوبين لديها[4].

 بعدها بسنوات شنت الولايات المتحدة حربًا على هذا التنظيم في إطار ما عُرف حينها بالحرب على الإرهاب التي جاءت كرد مباشر على هجمات الحادي عشر من سبتمبر[5]، بيد أن التيارات الدينية سرعان ماعادت إلى الساحة الصومالية، وهذه المرة من البوابة المحلية، من خلال ماعرف حينها بتنظيم المحاكم الإسلامية، الذي تشكّل من مجموعة من الفصائل المسلحة التي تمثل نتاجًا لتحالف لأهم مؤثرَيْن في البلاد وهما: رجال الدين، والمشيخات القبلية والعشائرية [6]، وقد تمكن هذا التنظيم من بسط سلطته على جميع الأراضي الصومالية بعد أن ألحق الهزيمة بأمراء الحرب، الذين كانوا يهيمنون على أجزاء معتبرة من البلاد في ذلك الوقت.

 وسرعان ما انشق عن تنظيم المحاكم تنظيم آخر أكثر تطرفًا وتشددًا عرف باسم “حركة الشباب المجاهدين”، الذي دخل، منذ إعلان تأسيسه الرسمي عام 2006، حربًا ضروسًا وضارية ضد مجموعة من الأطراف على الساحة الصومالية، على رأسها الحكومة المركزية التي تعتبرها الحركة “كافرة”؛ حيث شنت الحركة في هذا الإطار سلسلة كبيرة من الهجمات التي استهدفت من خلالها إضعاف النظام الحكومي تمهيدًا لإسقاطه والقضاء عليه، ومنذ عام 2008 تصاعدت العمليات الإرهابية التي نفذتها حركة الشباب في الصومال باطِّراد، وكان أبرزها استهداف مسؤولين في الحكومة الصومالية المؤقتة.

 عقب اغتيال القوات الأمريكية في سبتمبر عام 2009، صالح نبهان، أبرز عناصر حركة الشباب وقيادييها، تعهدت الحركة بالولاء التامِّ لتنظيم القاعدة، وأرسل قادتها رسائلَ إلى أسامة بن لادن يطلبون فيها الانضمام إلى القاعدة، لكنه رفض طلبهم حينئذ، لكن بعد اغتيال ابن لادن في مايو 2011، جددت الحركة مطلبها بالانضمام؛ حيث استجاب أيمن الظواهري لهذا المطلب، وأعلنت الحركة انضمامها الرسمي إلى تنظيم القاعدة في شهر فبراير من عام 2012، وبذلك غدت جزءًا من التنظيمات التابعة له كتنظيم أم[7].

ثانيًا: واقع المواجهة بين الحكومة وحركة الشباب:

يشير واقع المواجهة الحالية بين الحكومة وحركة الشباب إلى أنهما قد دخلا في معركة تكسير عظم متبادلة؛ بحيث أصبح كلٌّ منهما يلقي بجميع أسلحته إلى الميدان في محاولة منه لهزيمة الطرف الآخر، لكن وعلى الرغم مما يوحي به هذا السياق من أن حسم الصراع بات قريبًا، فإن تحقيق أي من الطرفين لانتصار نهائي على الطرف الآخر في الوقت الحالي هو أمر من الصعوبة بمكان الجزم به، ولا يزال أشبه بالحلم البعيد المنال، وفيما يلي محاولة لتناول استراتيجية كل طرف من طرفَيْ هذا الصراع في مواجهة الطرف الآخر والرهانات التي يسعى إلى كسبها في الوقت الحالي.

 1ـ استراتيجية الحكومة في مواجهة الحركة:

تتبنى الحكومة الصومالية استراتيجية شاملة متكاملة في مواجهة حركة الشباب؛ حيث شملت مجموعة من الإجراءات العسكرية، والمالية والإعلامية والقانونية. وقد قامت هذه الاستراتيجية على فكرتين رئيسيتين: الأولى، أن هدفها هو القضاء على حركة الشباب في أسرع وقت ممكن، وفي هذا الإطار أعلنت أنها عازمة على إضعاف الحركة بشتى الطرق والوسائل، سواء كان ذلك عن طريق الحرب العسكرية أو الوسائل التشريعية والقانونية، التي كان آخرها قانون مكافحة الإرهاب الجديد، الذي وافق عليه البرلمان مؤخرًا بعد أن ظل لسنوات طويلة قيد الانتظار[8]، والثانية، أن خير وسيلة للدفاع هي الهجوم؛ حيث لم تجعل الحكومة جوهر هذه الاستراتيجية هو الدفاع عن العاصمة مقديشو فقط والحيلولة دون سقوطها، كما كانت تفعل الحكومات السابقة، وإنما أصبحت تركز، ولأول مرة، على الهجوم على معاقل الحركة في جبهات بعيدة عن العاصمة يصل طول بعضها إلى 750 كيلومترًا[9].

في هذا الإطار بدأت الحكومة شن حملة على حركة الشباب، بمشاركة قوات من الجيش الصومالي، الذي يبلغ تعداده 25 ألف جندي، من ضمنهم 1500 جندي من القوات الخاصة المدرَّبة من قبل أمريكا، المعروفة اختصارًا بـ (دنب)، و2320 من القوات المدربة من قبل تركيا، المعروفة اختصارًا بـ (غورو غور)[10]، إضافة إلى مشاركة فعالة من الطائرات المسيَّرة التركية بيرقدار والطائرات المسيّرة الأمريكية.

إلى جانب ذلك، تتحرك الحكومة عسكريًّا بمشاركة قوة إفريقية تُعرف ببعثة الاتحاد الأفريقي في الصومال، وتتشكل من قوات من: أوغندا وجيبوتي وسيراليون وبوروندي وإثيوبيا وكينيا؛ حيث أسهمت هذه القوات بشكل كبير، منذ وصولها إلى البلاد عقب تشكيلها من قبل مجلس السلام والأمن في الاتحاد الأفريقي في يناير عام 2007، في الحرب ضد حركة الشباب وغيرها من حركات التطرف العنيف[11]، ويقدّر عدد تلك القوات بنحو 22 ألف جندي[12].

وقد كثّفت الحكومة والتحالف المؤيد لها من هجماتهما العسكرية على الحركة، وبحلول شهر يونيو 2023، يكون قد مضى عام كامل على بدء تحركات الحكومة العسكرية ضد الحركة، وهي التحركات التي تأتي في إطار تعهّد سبق أن قدَّمه الرئيس حسن الشيخ محمود فور وصوله إلى سدة الحكم في مايو من العام الماضي، بالقضاء على التطرف العنيف في الصومال وتطهير البلاد من حركة الشباب[13]. وبالفعل حققت الحكومة والتحالف المؤيد لها نجاحات كبيرة في حملتهما العسكرية ضد الحركة، نذكر منها على سبيل المثال، مقتل أكثر من 2000 مقاتل من حركة الشباب بعد مرور بضعة أشهر فقط من بدء حملة الحكومة العسكرية ضد الحركة، فضلًا عن نجاحها في دك معاقل حركة الشباب وتحرير عشرات القرى والبلدات التي كانت تسيطر عليها، خاصة في وسط البلاد[14].

وقد أكد بعض الخبراء أن الطائرات المسيَّرة، سواء التركية أو الأمريكية لعبت دورًا في هذه النجاحات التي حققتها الحكومة، وهو ما أكده الجنرال عبدالرحمن توريري، المدير الأسبق لجهاز المخابرات والأمن الوطني الصومالي، حين قال إن هذه المسيّرات لعبت دورًا كبيرًا في القضاء على نفوذ “الشباب” جزئيًّا في وسط البلاد، ومن دون الاعتماد على هذه المسيّرات لن يتمكن الجيش ولا مسلحو العشائر من تحقيق انتصارات عسكرية على مقاتلي الحركة. ولذلك يمكن القول إن هذه الطائرات غيَّرت ميزان القوى في المواجهات المسلحة القائمة حاليًّا بين الجانبين[15].

ولم تكتفِ الحكومة بما تتيحه مقدرات هذا التحالف من إمكانيات لخوض الحرب ضد حركة الشباب وإنما عمدت مؤخرًا إلى استنساخ الأسلوب العراقي المتمثل بما اصطُلِح على تسميته (نظام الصحوات)، فعمدت إلى تسليح بعض العشائر ومدّها بالوسائل والدعم اللازمين لمحاربة الحركة[16]، مستفيدة من حالة الاستياء الكبير الموجودة لدى هذه العشائر؛ بسبب ما تفرضه الحركة عليها من ضرائب وإتاوات ضخمة[17].

وقد أردفت الحكومة هذه الخطوات العسكرية بإجراءات أخرى مالية، استهدفت تجفيف منابع تمويل الحركة، وعيًا منها بأن الحركة من دون الحصول على الأموال ستتقلص قدراتها، وبالتالي تسهل هزيمتها، وانطلاقًا من ذلك، قامت الحكومة الصومالية بتجميد حسابات الحركة ومنع التحويلات المالية إليها، سواء عبر المصارف أو عبر الهواتف المحمولة، كما تم تجريم أي تعامل مالي مع حركة الشباب وتجميد حسابات عشرات الأفراد والمنظمات التي يُعتقَد أن لها صلات بالجماعة، كما استضافت مقديشو أواخر العام الماضي مؤتمرًا لتأسيس آلية تتعلق بتشديد الرقابة المالية على حركة الشباب والحيلولة دون وصولها إلى قنوات التمويل، وقد آتت تلك المقاربة المتعلقة بمحاصرة الحركة ماليًّا أُكُلها، إذ إنه بحسب تقديرات الحكومة الصومالية، فإن الحركة فقدت خلال آخر شهرين فقط من العام الماضي ما يقارب 30% من إيراداتها بسبب الإجراءات المالية الحكومية المضادة [18].

وفيما يتعلق بالإجراءات الإعلامية والأيديولوجية التي اتخذتها الحكومة تجاه حركة الشباب، فقد تم إطلاق قناة تلفزيونية مخصصة لتغطية العمليات المشتركة والتصدي للتقارير الإعلامية وغيرها من المواد الدعائية التي تبثها الهيئات الإعلامية لحركة الشباب، كما قامت الحكومة فيما يتعلق بالشق الأيديولوجي بتنظيم حوارات دينية تحت إشرافها يشارك فيها العلماء ورجال الدين المعتدلون، في محاولة منها لثني الشباب الصومالي عن اعتناق الفكر الديني المتشدد والمغالي في التطرف الذي تتّبعه حركة الشباب وغيرها من حركات التطرف العنيف، وقد نجحت الحكومة في هذا الإطار في جمع أكثر من 300 من علماء الدين في مقديشو في أواخر يناير الماضي تحت رعايتها، كما قامت بصياغة مقاربة للشؤون الدينية وعهدت إلى وزير الشؤون الدينية بتنفيذها، وقد عينت خصيصًا لهذا الغرض أحد القادة السابقين لحركة الشباب، مختار روبو، وزيرًا للشؤون الدينية[19].

كما اتخذت الحكومة الصومالية إجراءات قانونية، أبرزها قانون مكافحة الإرهاب الجديد، ويتكون هذا القانون من 37 مادة، تنص الأولى منها على أن مصطلح الإرهاب يُقصد به كل ما من شأنه أن يؤدي إلى أعمال عدائية تسفر عن سقوط ضحايا، تنفذها جماعات مسلحة، أو خلق حالة من عدم الاستقرار، أو تهديد علني للمجتمع أو جزء منه، ولهذا القانون أهمية بالغة،؛ نظرًا لكونه جاء ليسد ثغرة كبيرة كانت موجودة فيما مضى، تتعلق بعدم وجود قانون لمكافحة الإرهاب في الصومال، كما أنه جاء ليوفر غطاء قانونيًّا لنشاطات الأجهزة الأمنية المتعلقة بمكافحة الإرهاب، كما أن من شأنه أيضًا أن يساهم في حماية البلاد من التدخلات التي كانت تقوم بها قوى خارجية تجاه التجار والشركات المحلية، والتي كانت تتم تحت ذريعة أن البلد ليس لديه قانون وطني لمكافحة الإرهاب[20].

2ـ استراتيجية حركة الشباب:

 في مقابل الاستراتيجية الحكومية، تبنّت حركة الشباب استراتيجية مواجهة قامت على أبعاد عسكرية واقتصادية، ففي الجانب العسكري، كثّفت الحركة من هجماتها ضد العديد من الأهداف الحكومية والمدنية في تحدٍّ واضح لإعلان الحكومة نيتها تصفية الحركة والقضاء عليها واستعادة الاستقرار في البلاد[21]، واستخدمت في هذه الهجمات أسلوب العمليات التفجيرية والمفخخة تارة، وأسلوب العمليات الانتحارية تارة أخرى[22]، كما استهدفت الحركة البنى التحتية، سواء منها ذات البعد السياحي، مثل الفنادق، أو تلك المرتبطة بالحياة اليومية للناس، مثل آبار وخزانات المياه التي أصبح تدميرها جزءًا من الأجندة اليومية للحركة[23]، بالإضافة إلى استهداف أبراج شركات الاتصالات بغية تدميرها، وعزل القرى عن بعضها بعضًا[24]، وذلك في محاولة منها لبث الرعب في نفوس السكان وإيصال رسالة إليهم مفادها، أن عليهم أن يختاروا بين العيش في كنف الحركة وتحت حكمها، أو أن يتم قتلهم بالمفخخات أو العطش، أو أن يعانوا العزلة، بمعنى أن الحركة تتبنى في هذا الإطار استراتيجية “أنا أو الطوفان”.

وإلى جانب الإجراءات العسكرية، اتخذت الحركة بعض الإجراءات الاقتصادية والمالية في محاولة للإفلات من الرقابة المشددة التي تفرضها الحكومة على تحويلاتها المالية من جهة، ومحاولة تطوير مداخيل جديدة وتنويعها من جهة أخرى، فقد سعت الحركة من ناحية إلى التحايل على الاشتراطات التي تضعها الحكومة للتحويلات فأصبحت تقوم بتحويل الأموال بما لا يتجاوز مبلغ 9500 دولار لتجنب تجاوز عتبة 10000 دولار المسموح بها وفقًا لقواعد المراقبة المالية التي وضعتها الحكومة[25]، ومن جهة أخرى زادت الحركة من الإتاوات التي تفرضها على المواطنين، سواء في شكل ضرائب معيشية أو ضرائب يدفعها المواطنون على حواجز الطرق التي تسيطر عليها الحركة [26].

ثالثًا: مآلات المواجهة بين الحكومة الصومالية وحركة الشباب:

على الرغم من أنه لا يزال من المبكر الحكم بشكل قطعي على مآلات المواجهة بين الحكومة الصومالية وحركة الشباب، ولمن ستكون الغلبة في هذا الصراع ذي الطابع الوجودي القائم بينهما، فإنه يمكن وبكثير من الحذر الذي يتطلبه البحث في هذا النوع من المواضيع ذات الطبيعة الراهنة، القول إن مآلات هذه المواجهة لن تخرج عن واحد من ثلاثة سيناريوهات محتملة:

 السيناريو الأول: هو انتصار الحكومة والتحالف الداعم لها، ونجاحهما في القضاء نهائيًّا على الحركة، إذ إن هناك مجموعة من العوامل ترجح حدوثه، من أهمها:

 أـ قدرة الحكومة الصومالية الكبيرة على التعبئة والحشد دوليًّا ومحليًّا من أجل إنجاح مقاربتها لمكافحة الإرهاب، وهذا المُعطَى يظهر من خلال تنوع هذا التحالف العريض الذي تمكنت الحكومة من تأسيسه، والمتمثل بالجيش الصومالي، وقوات دنب الصومالية المدرَّبة أمريكيًّا، وقوات غورو غور الصومالية المدرَّبة تركيًّا، فضلًا عن القوة الأفريقية المشكَّلة من 6 دول إفريقية مختلفة، بالإضافة إلى ميليشيا مشكَّلة من رجال العشائر الذين قامت الحكومة بتسليحهم، دون أن ننسى الولايات المتحدة التي تعدُّ أكبر داعم للتحالف المذكور.

ب ـ نجاح الحكومة في تطوير قدراتها القتالية بشكل كبير، سواء من خلال نجاحها في جلب طائرات مسيَّرة من أحدث طراز من تركيا، أو من خلال نجاحها في إقناع بعض حلفائها، مثل الولايات المتحدة وتركيا بتقديم تدريب عالي المستوى لقوات النخبة في جيشها.

ج ـ تذمّر رجال العشائر وعموم المواطنين من اضطهاد وظلم حركة الشباب، وفرضها الكثير من الإتاوات والضرائب الظالمة عليهم، ما يجعلهم تواقين لمن يخلّصهم من حكمها، وقد أدى هذا الأمر إلى توحيد الجبهة الداخلية ضد حركة الشباب، وبالتالي حرمانها من أن تكون لها بيئة حاضنة.

د ـ توسُّع وشمولية المقاربة الصومالية لمكافحة الإرهاب، فبعد أن كانت في السابق مقاربة أحادية تقوم على مرتكز واحد وهو الأمن، أصبحت الآن أكثر شمولية؛ بحيث أصبحت تقوم على مرتكزات عديدة ومتنوعة، فهي مقاربة سياسية وقانونية واقتصادية وأيديولوجية وإعلامية.

السيناريو الثاني: هو تمكُّن الحركة من الصمود في مواجهة الحملة التي تشنها الحكومة عليها، ويرجح حدوث هذا السيناريو نجاح الحركة في اتخاذ بعض الأمور التي تعزز قوتها وحدوث بعض العوامل الأخرى التي تُضعف من قوة الحكومة، ومن بينها ما يلي:

أ ـ نجاح الحركة في الاحتفاظ بالقوة التي تمتلكها، إذ تعدّ واحدة من أقوى المنظمات المتطرفة في العالم، وبما أنها تحصّلت على هذه القوة خلال فترة طويلة من الزمن منذ تأسيسها في عام 2006 وحتى اليوم، فإنه من الصعب أن تنهار مرة واحدة وتتلاشى وإنما ستكون هزيمتها أمرًا في غاية الصعوبة.

ب ـ تمكُّن الحركة من تعويض ما تفقده من قدرات قتالية ومالية، وذلك من خلال استمرار عمليات التجنيد التي تقوم بها، وضمان إمدادات كبيرة من الأسلحة، وتنويع مصادر دخلها والإفلات من الرقابة المالية والاقتصادية المفروضة عليها من قبل الحكومة.

ج ـ إصلاح الحركة علاقاتها المتوترة حاليًّا مع العشائر، ونجاحها في ضمان بيئة حاضنة من السكان المحليين.

د ـ تراجُع التنسيق بين الحكومة والتحالف الداعم لها، ووقوع أخطاء تؤدي إلى انفصام عرى العلاقة بينهما، وبالتالي تنفرد الحركة بكل طرف على حدة.

هـ ـ حدوث انسحاب غير مدروس للقوات الأفريقية، ربما ينتج عنه فراغ قد لا يتمكن الجيش الصومالي من ملئه، ومن ثم قد يتراجع أمام قوات الحركة الأكثر قدرة وتنظيمًا.

السيناريو الثالث: استمرار المواجهة بين الجانبين من دون قدرة أيٍّ منهما على حسم هذه المواجهة والقضاء على الطرف الآخر تمامًا، وهذا السيناريو هو المرجَّح، ولاسيما على المديَيْن القريب والمتوسط، بفعل التكافؤ الكبير في ميزان القوى بين طرفَي المواجهة.

خاتمة:

 بعد انقضاء فترة السنة التي حددها الرئيس الصومالي حسن الشيخ محمود للقضاء على حركة الشباب، فإن الحكومة الصومالية بذلت بالفعل جهودًا كبيرة في مواجهة الحركة، أسفرت عن مقتل عدد كبير جدًّا من عناصرها وطردها من عدد كبير من القرى التي كانت تسيطر عليها وتضييق الخناق عليها من الناحية الاقتصادية، فضلًا عن الانشقاقات العديدة التي عرفتها وتمرُّد الكثير من العشائر وثورتهم عليها. لكن برغم ذلك، فإن الحركة لا تزال موجودة وقوية على الأرض، وقادرة على خوض الحرب، ولو بأسلوبها المفضَّل، حرب العصابات، وما يدل على ذلك، مجموعة العمليات التي شنتها في الآونة الخيرة وطالت أكثر من مكان داخل الصومال وخارجه، وهو ما يُنبئ بأن المواجهة بين الحكومة والحركة قد تتحول إلى حرب استنزاف طويلة يصعب حسمها لأي من الطرفين.

المراجع

[1] – على سبيل المثال، لم تتوقف حركة الشباب منذ عام 2013 عن محاولة إقامة وجود عملياتي لها في إثيوبيا؛ أي تأسيس فرع محلي لها هناك، وقد كانت بداية هذا التوجه متمثلة بإسناد زعيم الحركة آنذاك، أحمد عبدي، المدعو “غودان” -الذي قتل لاحقًا في غارة أمريكية- تلك المسؤولية إلى قائد إثيوبي من أصول صومالية يُدعى علي ديار، لكن ديار لم يتمكن من تنفيذ المهمة الموكلة إليه. ونتيجة لذلك، تم تنفيذ جميع العمليات الرئيسية لحركة الشباب في إثيوبيا على مدى العقد الماضي من قبل جناح استخبارات الحركة الأم، وشملت تلك العمليات محاولة تفجير فاشلة لملعب لكرة القدم في أديس أبابا في عام 2013، ومحاولة تفجير انتحاري لمركز تجاري كبير في أديس أبابا في عام 2014؛ حيث تمت السيطرة على الانتحاري قبل أن يفجر نفسه. انظر: حمدي عبدالرحمن حسن، دلالات توغّل حركة الشباب داخل إثيوبيا، موقع الصومال اليوم، 04/08/2022، https://l8.nu/qxmV تاريخ الزيارة: 15/ 06/ 2023.

[2] – عبدالوهاب الكيالي وآخرون، موسوعة السياسة، الجزء الثالث (بيروت، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، د.ت) ص676.

[3] – صهيب محمود، الصومال: تعويذة الحرب على الإرهاب في سياق الدولة الفاشلة، موقع جدلية، 24/10/ 2021، https://l8.nu/rPXp تاريخ الزيارة. 14/ 06/ 2023.

[4] – المرجع نفسه.

[5] – سؤدد كاظم مهدي، المحاكم الإسلامية وأثرها على التطورات السياسية في الصومال 2004ـ 2006، مجلة الدراسات التاريخية، العدد 2، السنة 2023، ص: 768.

[6] – المرجع نفسه، ص: 762.

[7] – أميرة محمد عبدالحليم، حركة الشباب الصومالية والتحديات، موقع التحالف الإسلامي العسكري لمكافحة الإرهاب، 23/ 04/ 2020، https://l8.nu/qxGw تاريخ الزيارة 14/06/ 2023.

[8] – هل يساعد قانون الإرهاب الجديد الحكومة الصومالية في إضعاف حركة الشباب، موقع وكالة سبوتنيك الروسية، 23/03/2023، https://l8.nu/rQ3U تاريخ الزيارة: 13/ 06/ 2023.

[9] – المرجع سابق.

[10] – صهيب محمود، الصومال: تعويذة الحرب على الإرهاب، مرجع سابق.

[11] – المرجع نفسه.

[12] – انظر: حمدي عبدالرحمن حسن، مقاربات فعالة: تحديات استراتيجية الصومال في محاربة الشباب، مقال منشور بتاريخ: 16/03/ 2023، على موقع مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستراتيجية، على الرابط التالي: https://acpss.ahram.org.eg/News/17840.aspx . تاريخ الزيارة :14/ 06/ 2023.

[13] – صهيب محمود، حركة الشباب في الصومال وغياب الاستراتيجية الشاملة: أدوات المواجهة وراهنها وآفاقها، صحيفة العربي الجديد، 120/10/ 2022، https://l8.nu/qydz تاريخ الزيارة: 14/06/ 2023.

[14] – حمدي عبدالرحمن حسن، مقاربات فعالة، مرجع سابق.

[15] – الشافعي أبتدون، الحرب المعلنة على حركة الشباب الصومالية: تداعياتها المحلية وأبعادها الإقليمية، مركز الجزيرة للدراسات، 09/01/ 2023، https://l8.nu/rQAw تاريخ الزيارة: 13/ 06/ 2023.

[16] – صهيب محمود، حركة الشباب في الصومال وغياب الاستراتيجية الشاملة، مرجع سابق.

[17] – الشافعي أبتدون، الحرب المعلنة على حركة الشباب الصومالية، مرجع سابق.

[18] – حمدي عبدالرحمن حسن، مقاربات فعالة، مرجع سابق.

[19] – مختار روبو، الملقب بأبي منصور، هو شخصية قيادية سابقة معروفة في حركة الشباب وأحد مؤسسيها، وسبق له أن شغل منصب المتحدث باسمها في عام 2009، كما أنه كان يعدُّ الرجل الثاني في الحركة خلال فترة رئاسة أحمد عبدي غودان لها، وقد اعلن انشقاقه عن الحركة في عام 2013 رفقة 500 من أتباعه، فأعلن رئيسها آنذاك غودان الحرب عليه فدخل في صراع مسلح مع الحركة قبل أن يسلم نفسه للسلطات الصومالية في منتصف عام 2017، وفي عام 2018 أعلن ترشُّحَه لمنصب رئاسة ولاية جنوب غربي الصومال الفيدرالية، الأمر الذي رفضته السلطة الحاكمة قبل أن تعتقله وتزج به في السجن الذي ظل فيه 4 سنوات قبل أن يصل الرئيس الحالي حسن الشيخ محمود إلى سدة الحكم، والذي لم يكتفِ بإطلاق سراحه وإنما قام بتعيينه وزيرًا للشؤون الدينية في الصومال مع بداية شهر أغسطس من عام 2022. للتوسع أكثر انظر: الشافعي أبتدون، مختار روبو من “حركة الشباب” إلى الوزارة، العربي الجديد 04/ 08/ 2022، https://l8.nu/qF9o . تاريخ الزيارة: 21/ 06/ 2023.

[20] – الصومال: البرلمان يصادق على قانون مكافحة الإرهاب، العربي الجديد،08/ 03/ 2023، https://l8.nu/rXVq. تاريخ الزيارة: 21/ 06/ 2023.

[21] – صراع الوجود يشتد بين الحكومة الصومالية وحركة الشباب في حرب استنزاف طويلة… فمن يحسمها؟ موقع وكالة سبوتنيك الروسية، 26/ 10/ 2023، https://l8.nu/rR58، تاريخ الزيارة: 15/ 06/ 2023.

[22] – من المعروف عن حركة الشباب أنها تستخدم في كثير من الهجمات التي تنفذها انتحاريين يتم تجنيدهم في بعض الأحيان خصيصًا لهذا الغرض، فوفقًا لدراسة نشرها مركز مكافحة الإرهاب التابع للأكاديمية العسكرية الأمريكية في ويست بوينت، فإن (حركة الشباب) شنَّت في الفترة ما بين 18 من شهر سبتمبر من عام 2006، وبداية شهر أكتوبر من عام 2017، ما يصل إلى 155 عملية انتحارية نفذها 216 من أعضاء الحركة، بمعدَّل 4 عمليات في الشهر تقريبًا، انظر: أميرة محمد عبدالحليم، حركة الشباب الصومالية والتحديات، مرجع سابق.

[23] – صهيب محمود، حركة الشباب في الصومال وغياب الاستراتيجية الشاملة، مرجع سابق.

[24] – المرجع نفسه.

[25] -: حمدي عبدالرحمن حسن، مقاربات فعالة، مرجع سابق.

[26] – أميرة محمد عبدالحليم، حركة الشباب الصومالية والتحديات، مرجع سابق.

المواضيع ذات الصلة