Insight Image

مستقبل العلاقات الروسية- الأوروبية: الفرص والتحديات

10 مارس 2023

مستقبل العلاقات الروسية- الأوروبية: الفرص والتحديات

10 مارس 2023

دعا الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، خلال مؤتمر ميونيخ للأمن يوم 19 فبراير 2021، إلى الحوار مع روسيا وبناء هيكل جديد للأمن الدولي، واعتبر أن هذا الحوار ضرورياً للسلام في أوروبا. وهذه ليست المرة الأولى التي يدعو فيها ماكرون لإعادة النظر في العلاقات الأوروبية الروسية، فقد سبق وأن دعا لذلك خلال مؤتمر ميونيخ العام الماضي[1]، وكذلك في كلمة ألقاها في افتتاح مؤتمر الدبلوماسيين الفرنسيين في 27 أغسطس عام 2019 حين رأى أن العالم يعيش نهاية عصر الهيمنة الغربية وأن هناك دول أخرى بينها روسيا، تعمل لتغيير النظام العالمي، وأكد ضرورة إعادة النظر في العلاقة مع روسيا لأن “دفعها بعيداً عن أوروبا خطأ جسيم”[2].

لكن دعوة ماكرون أعقبها فرض عقوبات أوروبية جديدة على روسيا على خلفية قضية المعارض الروسي ألكسي نافالني، كما أنها جاءت مناقضة لتوجه أمريكي بشأن روسيا عبر عنه مراراً الرئيس الأمريكي الجديد جو بايدن، بالإضافة إلى أنها جاءت في سياق أوروبي غير مواتٍ حيث دان نواب بالبرلمان الأوروبي زيارة مفوض السياسة الخارجية للاتحاد الأوروبي، جوزيب بوريل، لموسكو مطلع فبراير 2021، معتبرين أنها أظهرت “ضعف الدبلوماسية الأوروبية”، وفي وقت لاحق أكد وزير الخارجي الروسية، سيرجي لافروف، أن روسيا مستعدة لقطع العلاقات مع الاتحاد الأوروبي، إذا فرض الأخير عقوبات خطرة تطال القطاعات الحساسة في الاقتصاد الروسي.

في ظل هذه الأجواء، أُثير العديد من التساؤلات حول واقع العلاقات الروسية- الأوروبية ومستقبلها، وما تشهده من حراك ملحوظ تتدافعه العديد من عوامل الشد والجذب، فمن ناحية تحتم المصالح الحيوية بين الجانبين التعاون وتطوير العلاقات بينهما، واستعادة الدفء بعد التدهور الذي شهدته على خلفية الأزمة الأوكرانية. ومن ناحية أخرى، ما زالت التناقضات على مدى واسع حول القضايا الاستراتيجية قائماً بين الجانبين ليظل التوتر والخلاف هو السمة الغالبة على العلاقات بين موسكو وبروكسل.

وتسعى هذه الورقة إلى استشراف مستقبل العلاقات بين روسيا والاتحاد الأوروبي في ضوء تحليل العوامل التي تدفع إلى إعادة صياغة هذه العلاقات، وفي مقدمتها المصالح المتبادلة والتطورات التي صاحبت أزمة كورونا ومبادرة روسيا بمساعدة عدد من الدول الأوروبية، في مقدمتها إيطاليا، والتحولات التي يشهدها الاتحاد الأوروبي والنظام الدولي، وكذلك بيان التحديات والتعقيدات التي تكتنف حاضر العلاقات الروسية- الأوروبية ومدى تأثيرها على مستقبل هذه العلاقات خاصة تلك المتعلقة بالعامل الأمريكي حيث أنه لا يمكن تحليل العلاقات بين موسكو وبروكسل إلا في إطار ثلاثي يتضمن علاقة الطرفين بواشنطن ونظرة الأخيرة لموسكو.

أولاً: عوامل الجذب في العلاقات الروسية- الأوروبية:

تتضافر مجموعة من المصالح الحيوية والروابط العضوية التي تربط روسيا بأوروبا وتمثل عوامل تقارب وجذب بين الطرفين، أهمها:

  • العامل الجيوسياسي:

تضمنت عقيدة السياسة الخارجية الروسية التي صدق عليها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في 30 نوفمبر 2016 النص على سعي السياسة الروسية في المنطقة الأورو-أطلسية إلى تشكيل فضاء مشترك للسلام والأمن والاستقرار على أساس مبادئ عدم قابلية الأمن للتجزئة والتعاون المتكافئ والثقة المتبادلة. وأن الاتحاد الأوروبي يظل شريكاً هاماً في التجارة والاقتصاد والسياسة الخارجية، مؤكدة اهتمام روسيا بتطوير العلاقات الثنائية مع كل من ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وإسبانيا والدول الأوروبية الأخرى[3]. وتنطلق روسيا في ذلك من كونها جزء من أوروبا، ومعنية بالأمن والاستقرار في القارة الأوروبية.

إن ربع مساحة روسيا تقع في أوروبا وتمثل الأراضي الروسية 40% من مساحة القارة الأوروبية. ومنذ التوجه غرباً لبطرس الأكبر، قيصر روسيا، وتأكيد الهوية الأوروبية لروسيا في القرن السابع عشر أصبحت الأخيرة على مر تاريخها القيصري أحد القوى الأوروبية الفاعلة والمؤثرة على الأمن والاستقرار وإدارة التفاعلات وإحداث التوازنات بالقارة الأوروبية حتى جاءت الثورة البلشفية ذات التوجهات الشيوعية عام 1917 لتباعد بين روسيا السوفيتية وأوروبا. إلا إن الموقع الجغرافي لروسيا فرض استمرار تأثيرها على التفاعلات الأوروبية والعالمية، وخلال الحرب العالمية الثانية تحالفت روسيا مع الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا للقضاء على العدو المشترك آنذاك والمتمثل في سياسات هتلر التوسعية التي هددت استقرار وأمن أوروبا والعالم. وهو التحالف الذي لم يستمر طويلاً، فسرعان ما برز التناقض الأيديولوجي بين الجانبين في إطار ما عُرف بالحرب الباردة.

وكان للرئيس السوفيتي السابق ميخائيل جورباتشوف دور رئيسي في إعادة التأكيد على الروابط العضوية بين روسيا وأوروبا حيث طرح فكرة “البيت الأوروبي المشترك” “Common European Home”، وهو التعبير الذي أشار إليه لأول مرة قبل توليه السلطة وذلك في خطابه أمام مجلس العموم البريطاني أثناء زيارته لبريطانيا في ديسمبر 1984[4]. وقصد به درجة من التوحد والاندماج والتعاون بين روسيا ودول شرق وغرب أوربا، وتجاوز اختلاف أنظمتها الاجتماعية والأحلاف المنتمية إليها. ولا يعني هذا استبعاد الولايات المتحدة حيث اعتبرها جورباتشوف جزءاً طبيعياً من الهيكل السياسي الأوروبي.[5]

وقد رأى جورباتشوف أن هناك مجموعة من العوامل التي تدفع إلى إقامة “البيت الأوروبي المشترك”، من أهمها أن عوامل التقارب والتوحد في أوروبا أكثر منها في أي منطقة أخرى في العالم، فأوروبا من الأطلسي وحتى الأورال تشكل كياناً ثقافياً واحداً ويجمعها تاريخ مشترك وتقاليد سياسية وخبرة مشتركة، كما أن كثافة التفاعلات وحجم العلاقات بين دول القارة الأوروبية ليس لها نظير في أي قارة أخرى مما يمهد الطريق لاستكمال بناء البيت الأوروبي المشترك، بالإضافة إلى أن التكامل والمزيد من التعاون والترابط بين شطري أوروبا هو السبيل الوحيد نحو مزيد من التنمية الاقتصادية والتقدم للحضارة الأوروبية ككل وكذلك للاستغلال الأمثل للإمكانات الاقتصادية والعلمية والتكنولوجية الهائلة لأوروبا. واعتبر جورباتشوف أن تحقيق “البيت الأوروبي المشترك” يتطلب أمرين أساسيين هما: نزع السلاح من أوروبا، وتعزيز التعاون الأوروبي.[6]

وعقب تفكك الاتحاد السوفيتي، سعت روسيا للتقارب مع أوروبا والاندماج في الهياكل والمؤسسات الغربية، وفي هذا السياق انضمت إلى مجموعة الدول الصناعية الكبرى لتتحول إلى مجموعة الثمانية في يونيو 2002، واستضافة وترأست قمة المجموعة عام 2006. كما أصبحت عضواً في منظمة التجارة العالمية في أغسطس 2012 بعد مفاوضات استمرت 18 عاماً. تم، على صعيد أخر، تأسيس مجلس “روسيا — الناتو” كمنتدى لتطوير التعاون والتنسيق السياسي والعسكري بين روسيا والدول الأعضاء في حلف شمال الأطلسي (الناتو) في 28 مايو 2002. وقد استمر هذا التوجه حتى جاءت الأزمة الأوكرانية لتعصف بكل ما سبق على النحو الذي سيلي بيانه تفصيلاً.

  • أمن الطاقة للجانبين:

هناك تكامل هيكلي في قطاع الطاقة بين روسيا والاتحاد الأوروبي، فروسيا أكبر مصدر للطاقة لأوروبا. ووفقاً لـ Eurostat، جاءت روسيا في المرتبة الأولى بين مصدري النفط لأوروبا حيث استأثرت بحوالي 30٪ من واردات الاتحاد الأوروبي من النفط و39٪ من إجمالي واردات الغاز له عام 2018،[7] ومن ثم فإن أمن الطاقة الأوروبي يرتبط عضوياً بروسيا لا سيما ألمانيا التي تعد أكبر مستهلكي الغاز الروسي.

من ناحية أخرى، يعتبر الاتحاد الأوروبي السوق الرئيسي للطاقة الروسية، ومن ثم للاقتصاد الروسي ولأمن الطاقة الروسي كدولة مصدرة للطاقة تركز على ضمان تدفق إنتاجها للأسواق، حيث تمد عوائد صادرات النفط والغاز الموازنة الروسية بنحو 55% من مداخيلها، وتسهم بأكثر من 60% من حصيلة روسيا من العملة الصعبة، وعلى سبيل المثال، مثلت هذه الصادرات ما يزيد عن 60% من الصادرات الروسية عام 2018، ويسهم النفط وحده بنحو 13% من إجمالي الناتج المحلي الروسي، وفي 10 يونيو 2020 أقرت الحكومة الروسية استراتيجية الطاقة حتى 2035 وتتمثل أحد أهم أهدافها الرئيسية في تطوير صادرات الطاقة الروسية من خلال التوسع في التصدير للأسواق القائمة وفي مقدمتها السوق الأوروبي من خلال تحديث وتوسيع وتوافر البنية التحتية، إلى جانب التوسع في أسواق آسيا والمحيط الهادئ التي لا تتجاوز حصتها  6% من إجمالي صادرات الغاز الروسي و12% من النفط.[8]

وتقوم روسيا بنقل الغاز الروسي مباشرة إلى أوروبا عبر شبكة من الخطوط التي تقوم بتلبية احتياجات الأخيرة المتزايدة من الطاقة، من بينها “خط يامال” الذي يربط “يامال”، أبرز أقاليم الغاز الروسية الشمالية بأوروبا عبر بيلاروسيا، وخط “نورد ستريم 1″ أو”السيل الشمالي 1” الذي ينقل الغاز الروسي إلى ألمانيا عبر بحر البلطيق. هذا إلى جانب مشروع “نورد ستريم 2” أو “السيل الشمالي 2” الذي أكد نائب رئيس الوزراء الروسي، ألكسندر نوفاك، في 14 فبراير 2021، إنه تم بالفعل إنجاز أكثر من 95٪ منه. ويتضمن مد خطين لنقل الغاز الروسي إلى ألمانيا مباشرة عبر قاع بحر البلطيق دون المرور بدول ترانزيت، بسعة إجمالية تصل إلى 55 مليار متر مكعب من الغاز سنوياً. وتعتبر أوروبا “السيل الشمالي 2” شريان حياة جديد لها، وتعول عليه ألمانيا كثيراً في تنفيذ خططها الرامية لتقليل الاعتماد على الطاقة النووية والفحم. ويملك كونسورتيوم مكون من خمس شركات طاقة أوروبية 50% من المشروع، 10% لكل منها، في حين تملك شركة “غازبروم” الروسية الـ 50% الأخرى.[9] وأكد وزير الخارجية الألماني، هايكو ماس، في 19 فبراير 2021 أن تهيئة الظروف الملائمة لاستكمال المشروع مع روسيا لا تزال على رأس أولويات حكومة برلين، على الرغم من الضغوط المكثفة من قبل الولايات المتحدة وتراجع العلاقات بين برلين وموسكو في ظل قضية الناشط الروسي المعارض المسجون أليكسي نافالني.

  • التعاون خلال أزمة كورونا:

يمثل إقدام روسيا على التعاون مع بعض دول القارة الأوروبية، إيطاليا بالتحديد، عاملاً من عوامل الجذب بين الجانبين، ففي ظل انتشار فيروس كورونا في إيطاليا في مارس 2020، أرسلت موسكو مساعدات لروما شملت 104 خبير في علم الفيروسات وثمانية فرق طبية وتمريضية مع تجهيزات طبية ومختبرات نقالة ووحدات تعقيم، تحت شعار “من روسيا مع الحب”، حيث أسهموا في تطهير المدن ومنها إلبينو وبيرجامو، وإنشاء مستشفى ميداني بفريق عمل روسي لعلاج مرضى كورونا.[10] وجاءت المساعدة الروسية في وقت حاسم لإيطاليا التي طالما ساندت رفع العقوبات عن روسيا، فيما كانت دول الاتحاد الأوروبي بطيئة في مساعدة الدول العضو في التكتل.

إلى جانب هذه المساعدة الروسية لإيطاليا، أعلنت بعض الدول الأوروبية رغبتها في الحصول على اللقاح الروسي “سبوتنيك في”، الأمر الذي دفع وكالة الأدوية الأوروبية (EMA) إلى الإعلان في 4 مارس 2021، أنها بدأت اختباراتها على اللقاح. وقد جاء ذلك بعدما أعلن رئيس الوزراء التشيكي، أندريه بابيس، في 28 فبراير 2021، أن بلاده قد تستخدم اللقاح الروسي حتى دون موافقة وكالة الأدوية الأوروبية عليه، وذلك أسوة بالنمسا وصربيا اللتين بدأتا بالفعل في شراء اللقاح اعتماداً على الموافقة الوطنية علي.

  • الدعاوى الأوروبية الداعمة لاستئناف التعاون مع روسيا:

هناك دعاوى يقودها سياسيون وبرلمانيون أوروبيون لاستئناف التعاون الروسي الأوروبي تلبية للمصالح الأوروبية، ومن ذلك مطالبة المتحدث باسم كتلة “البديل من أجل ألمانيا” في البرلمان، ستيفن كوتريتس، في 17 فبراير 2021، لواشنطن بتسديد تكاليف تأخير إنجاز مشروع “السيل الشمالي-2” مما تسبب في دفع المستهلك الألماني قيمة أعلى لقاء الغاز، وزيادة الضغط من جانب ألمانيا على واشنطن لرفع العقوبات والتهديد بفرض عقوبات مضادة، وفرضها إذا لزم الأمر. تزامن ذلك مع إعلان كلاوس إرنست، رئيس لجنة الاقتصاد والطاقة بالبرلمان الألماني معارضته دخول برلين في محادثات مع واشنطن حول وقف مشروع “السيل الشمالي – 2”.[11]

وانتقدت عضوة البرلمان الأوروبي الأيرلندية، كلير دالي، في 12 فبراير 2021 تعامل الاتحاد مع روسيا، معتبرة أنه يستخدم قضية نافالني لتأجيج المواجهة الجيوسياسية مع موسكو، “خدمة للمجمع الصناعي العسكري الذي يبحث دائما عن عدو كي يبرر نفقاته الضخمة”. وأكدت دالي دعمها لزيارة الممثل الأعلى للاتحاد الأوروبي للشؤون الخارجية جوزيب بوريل إلى موسكو بالقول: “أنتم على حق، علينا أن نتعاون مع روسيا ونشارك في الحوار معها لا أن نقرع طبول الحرب”.[12]

وفي 13 فبراير انتقد المشرع الفرنسي في البرلمان الأوروبي، وممثل كتلة “الهوية والديمقراطية” اليمينية في البرلمان الأوروبي، نيكولا باي، بشدة ما وصفه بـ “سخافة موقف الاتحاد الأوروبي إزاء روسيا”. وشدد على أن أوروبا تفرض عقوبات على روسيا على مدى نحو سبع سنوات، لكن الاتحاد نفسه بالدرجة الأولى يعاني من عواقب هذه الإجراءات العقابية، موضحاً أن هذا الأمر يتعلق بقطاعات مختلفة، منها المنتجات الزراعية.

ويعد القطاع الزراعي اليوناني الأكثر تضرر نظراً لأن المنتجات الزراعية اليونانية تشكل أكثر من 40% من صادرات اليونان إلى روسيا، ويستأثر السمك اليوناني بنحو 35% من السوق الروسية، وتعتبر الأخيرة من أهم أسواق تصريف الفواكه المعلبة في اليونان كالخوخ والدراق، وتستوعب حوالي 60% من إنتاج الخوخ اليوناني ونصف إنتاج الكيوي و90% من إنتاج الفراولة في اليونان وكلها محاصيل قصيرة العمر لا يمكن تخزينها لفترات طويلة. وكذلك الحال بالنسبة لقطاع الزراعة ومنتجات الألبان الفنلندي مما دفع وزير الخارجية الفنلندي، بيكا هافيستو، خلال زيارته لموسكو في 13 فبراير إلى التأكيد على أهمية الحوار والعلاقات مع روسيا في مختلف المجالات.[13]

ثانياً: التحديات التي تواجه العلاقات الروسية الأوروبية:

رغم عوامل الجذب السابق الإشارة إليها والتي تدفع العلاقات الروسية – الأوروبية إلى المراجعة واستئناف التعاون، فإن هناك جملة من التحديات التي تعرقل ذلك، أهمها:

  • التناقضات الاستراتيجية:

تعد روسيا التهديد الأول والرئيسي للأمن الأوروبي وفقاً لحلف شمال الأطلسي (الناتو)، فمع ميلاد الحلف حدد اللورد إسماي، أول أمين عام للحلف، أهدافه في ثلاث مرتكزات أساسية كان أهمها “إبعاد الروس عن أوروبا”، باعتبار موسكو التهديد الرئيسي للحلف. ورغم مرور سبعة عقود على ذلك وتفكك الاتحاد السوفيتي وانتهاء الحرب الباردة، فإن عقيدة الحلف لم تشهد تغيراً في هذا الخصوص. ففي الأول من ديسمبر 2020 قدم الأمين العام للحلف، ينس ستولتنبرج، في المؤتمر الافتراضي لوزراء خارجية الحلف تقرير بعنوان “الناتو – 2030: الوحدة في عصر جديد”[14]، اعتبر فيه روسيا التهديد العسكري الرئيسي للحلف، مستنداً في ذلك إلى استمرار “سياساتها العنيدة وأعمالها العدوانية” ومشيرا إلى ما اعتبره “عدوان موسكو” على أوكرانيا وجورجيا. كما أشار التقرير إلى “التأثير السلبي على أمن المنطقة الأوروبية الأطلسية” لأعمال روسيا النشطة في البحر الأسود وبحر البلطيق، وفي القطب الشمالي وشرق البحر المتوسط. يزيد من مخاوف الحلف أن التقرير المذكور اعتبر الصين، الشريك الاستراتيجي الأول لروسيا، العدو العسكري الثاني للحلف، بعد روسيا، خلال السنوات العشر المقبلة. ومن ثم فقد اعتبر التقرير أنه “من المرجح أن تظل روسيا على المدى الطويل، حتى عام 2030، التهديد العسكري الرئيسي لحلف شمال الأطلسي”.

إن أزمة الثقة بين الناتو وروسيا أصبحت هيكلية في العلاقة بينهما، وتتداخل العديد من العوامل الاستراتيجية والمصلحية التي تجعل من تجاوزها أمراً ليس باليسير، وليس في المدى المنظور، ويتضمن ذلك مدى واسع من القضايا محل الخلاف، منها ما هدأ قليلاً مثل الخلاف حول بلاروسيا، ومنها ما زال قائماً ويؤجج الخلاف بين الطرفين، ومن أبرزها:

  • أوكرانيا والعقوبات المتبادلة:

تعتبر أوكرانيا أحد قضايا الخلاف الجوهرية بين موسكو وبروكسل، ونموذج لتناقض المصالح بين الجانبين وذلك منذ تفجر الأزمة أواخر عام 2013. ففي الوقت الذي سعى فيه الاتحاد الأوروبي لدمج أوكرانيا ضمن هياكله الاقتصادية والأمنية من خلال اتفاقية “الشراكة الشرقية” التي طرحها عام 2009 بهدف تعزيز العلاقات مع ست من دول الاتحاد السوفيتي السابق منها أوكرانيا والتي تتضمن اتفاقية طويلة المدى مع كل منها على حدة بالإضافة إلى اتفاق تجارة حرة وتخفيف قواعد منح تأشيرات الدخول، طرح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مشروعه “الاتحاد الأوراسي” الذي يتضمن بناء اتحاد اقتصادي بين روسيا ودول الاتحاد السوفيتي السابق وفي مقدمتهم أوكرانيا، لتتصادم المصالح بين موسكو وبروكسل. وصعّد من هذا الصدام طرح الناتو ضم أوكرانيا لعضويته ليقف الحلف بذلك على الحدود الروسية مباشرة وهو ما اعتبرته موسكو تهديد مباشر لها لا يمكن قبوله. ومن ثم كانت إدارة الأزمة الأوكرانية أشبه بساحة مواجهة بين موسكو من ناحية والاتحاد الأوروبي وواشنطن من جهة أخرى.

في هذا السياق، وعقب ضم شبه جزيرة القرم لروسيا في مارس 2014، وفي خضم عدد من الإجراءات التصعيدية والعقابية التي قادتها واشنطن لمواجهة موسكو، فرض الاتحاد الأوروبي ثلاث حزم من العقوبات على روسيا تتضمن حظر سفر مواطنين روس، وفرض عقوبات اقتصادية ضد عدد من مؤسسات النفط التابعة للدولة وشركات الصناعات العسكرية والشركات المالية، أما الحزمة الثالثة فتمثلت في عقوبات مرتبطة بالقرم. وتُجدد الحزمتان الأولي والثانية كل ستة أشهر بينما تجدد حزمة العقوبات المرتبطة بالقرم كل عام. وفي 21 يناير 2019 تم فرض حزمة جديدة من العقوبات الأوروبية على روسيا شملت رئيس جهاز الاستخبارات العسكرية الروسي، إيجور كوستيوف، ونائبه وعنصرين آخرين، لتطول “اللائحة السوداء” 155 شخصية من بينهم مقربين من الرئيس بوتين، إلى جانب 44 مؤسسة وشركة روسية.[15]

وكرد فعل أصدر الرئيس بوتين في 6 أغسطس 2015 مرسوماً يتضمن حظر استيراد المنتجات الزراعية والمواد الخام والأغذية من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وكندا والنرويج وأية دولة قررت فرض عقوبات ضد هيئات أو شخصيات روسية. والاستعاضة عنها ببدائل من دول آسيا الوسطى وأذربيجان وصربيا ومصر والمغرب وتركيا وإيران ودول أمريكا اللاتينية، إلى جانب تشجيع المنتجين المحليين في روسيا للتوسع في إنتاج المواد التي تم حظر استيرادها.

ورغم إطلاق صيغة “رباعية النورماندي” التي تضم رؤساء روسيا وفرنسا وأوكرانيا والمستشارة الألمانية، وتوصلها إلى اتفاق “مينسك 2″، “خطة السلام”، في 12 فبراير 2015، التي تضمنت 13 بنداً في مقدمتها وقف إطلاق النار بين الطرفين، وكذلك الانفراج النسبي الذي أعقب وصول فلاديمير زيلينسكي للسلطة في أوكرانيا، وتبادل المحتجزين من الجانبين الروسي والأوكراني، واستئناف “رباعية النورماندي” في 9 ديسمبر 2019 في باريس بعد توقف أربع سنوات، إلا أن العقوبات الأوروبية على روسيا، والعقوبات الجوابية من جانب روسيا استمرت، وعلى مدى ما يزيد عن ست سنوات اتسع نطاق العقوبات الأوروبية من حيث المجالات والمسئولين.

والواقع إن العقوبات والعقوبات المضادة من جانب روسيا لم تؤثر فقط على روسيا، ولكن كان لها تأثير واضح على اقتصادات بعض الدول الأوروبية والاقتصاد الأوروبي عامة حيث تعد روسيا سوق رئيسية للمنتجات الأوروبية، وتستوعب 10% من صادرات المنتجات الزراعية للاتحاد الأوروبي، وهي الشريك التجاري الثالث للاتحاد الأوروبي، بينما يشكل الاتحاد الشريك الأول لموسكو. الأمر الذي ألقى بظلال واضحة على التوافق الأوروبي حول استمرار العقوبات المفروضة على روسيا، وشهد الاتحاد الأوروبي جدل بين مجموعتين من الدول، الأولى ترى ضرورة تشديد العقوبات على روسيا وتقودها بريطانيا وبولندا ودول البلطيق، أما الثانية فتضم الدول التي تضررت على نحو ملحوظ من العقوبات ومن ثم فهي أميل إلى التهدئة مع روسيا، مثل المجر واليونان، وقد انحاز مجلس الاتحاد الأوروبي للفريق الأول ويتم تمديد العقوبات بشكل منتظم.

  • دعم روسيا لليمين المتطرف:

وجه الاتحاد الأوروبي اتهامات عدة بشأن دعم موسكو لتيار اليمين المتطرف الذي يعتبره الاتحاد تهديداً لكيانه في ضوء إعلاءه للدولة الوطنية ومطالبته بحل الاتحاد، واعتبر أن دعم روسيا لهذا التيار بما يحمله من خطاب معادٍ للاتحاد الأوروبي وحلف الناتو والسياسات الأمريكية، يخدم المصالح الروسية عبر إضعاف المنظومة الغربية.

واستندت هذه الاتهامات إلى دعوة عدد من رموز وقادة هذا التيار لزيارة روسيا والتنسيق المتبادل معها، ففي مايو 2013 زار برونو جولنيش، أحد رموز حزب الجبهة الوطنية اليميني الفرنسي، روسيا، كما تكررت زيارات زعيمة الحزب السابقة والمرشحة للرئاسة الفرنسية مارين لوبان، لموسكو، والتقت خلال زيارتها في مارس 2017 بالرئيس بوتين في الكرملين. وفي ديسمبر 2016 وقع حزب الحرية اليميني النمساوي اتفاق تعاون مع الحزب الروسي الحاكم “روسيا الموحدة” للتنسيق والتفاهم حول عدد من القضايا، واعتبر رئيسه نوربرت هوفر أن “التعاون مع حزب روسيا الموحدة هو بمثابة بادرة نحو التعاون السلمي”.

هذا إلى جانب الدعم المالي لبعض الأحزاب اليمينية المتطرفة حيث حصل حزب الجبهة الوطنية الفرنسي في عام 2014 عل قرض تُقدر قيمته بـ 9 ملايين يورور لتمويل أنشطته من البنك الروسي التشيكي ومقره موسكو وفقا لموقع “إذاعة صوت روسيا” في 23 نوفمبر 2014. كذلك مساندة وسائل الإعلام الروسية للمنتمين لتيار اليمين المتطرف مثل نايجل فاراج زعيم حزب استقلال بريطانيا، وخيرت فيلدرز زعيم حزب الحرية الهولندي، ومارين لوبان زعيمة حزب الجبهة الوطنية الفرنسي واستضافتهم بصورة متكررة. كما دعت موسكو عددًا من الأحزاب اليمينية مثل: رابطة الشمال الإيطالي، وفلامز بيلانج البلجيكي، وجوبيك المجري، وحزب الحرية النمساوي، والجبهة الوطنية الفرنسية لمراقبة الاستفتاء الذي أقر ضم القرم لروسيا في مارس 2014.[16]

وفي يونيو 2020 أشار تقرير صحفي صادر عن مجلة فوكس الألمانية إلى أن عددا من أعضاء جناح الشباب في “الحزب الوطني الديمقراطي” اليميني المتطرف في ألمانيا والحزب اليميني الأصغر “الطريق الثالث” أكملوا تدريبا شبه عسكري في معسكر تدريبي تابع لجماعة روسية متطرفة تدعى “الإمبراطورية الروسية” بالقرب من مدينة سان بطرسبرج. وقد أضافت الخارجية الأمريكية في أبريل 2020 هذه الجماعة إلى قائمة تحذير أولية في خطوة سابقة لتصنيفها كجماعة إرهابية، انطلاقاً من أن المجموعة “قدمت تدريباً على النمط شبه العسكري للداعين إلى تفوق العرق الأبيض والنازيين الجدد في أوروبا”.[17]

جـ. قضية ألكسي نافالني:

يجسد ألكسي نافالني، المعارض الروسي، من المنظور الأوروبي القيم الليبرالية الغربية في روسيا، وهو بالنسبة لهم سياسي وشريك مفضل على بوتين، ويُعتقد أنه تعرض للتسميم في روسيا، وأنه، بفضل ميركل والأطباء الألمان، وقف على قدميه. وانتقدت الدول الأوروبية بشده اعتقاله، بمجرد عودته إلى روسيا أوائل يناير 2021 من ألمانيا، التي كان يتواجد فيها منذ تعرضه للتسميم في أغسطس 2020، والحكم عليه بالسجن بتهمة انتهاك شروط وقف تنفيذ عقوبة السجن الصادرة بحقه سابقا في قضية الاختلاس. وفي 5 فبراير طردت موسكو 3 دبلوماسيين من السويد وبولندا وألمانيا شاركوا في التظاهرات التي دعا إليها نافالني في موسكو وسان بطرسبورج في 23 يناير 2021، وردت الدول الثلاث بطرد عدد من الدبلوماسيين الروس في 8 فبراير.

وتصاعد التوتر بين الجانبين بفرض عقوبات على مسؤولين روس على خلفية قمع نافالني وأنصاره في 2 مارس، استناداً إلى نظام العقوبات الجديد المرتبط بحقوق الإنسان والذي يتم تفعيله للمرة الأولى. ومن بين المسؤولين الذين تستهدفهم العقوبات رئيس لجنة التحقيقات الروسية ألكسندر باستريكين، وقائد الحرس الوطني الروسي فيكتور زولوتوف، ومدير دائرة السجون الفيدرالية ألكسندر كلاشنيكوف، والمدعي العام الروسي إيجور كراسنوف. هذا في حين حذرت الخارجية الروسية من أن عقوبات أوروبية جديدة ضد مسؤولين روس على خلفية قضية اعتقال نافالني، لن تبقى دون رد.[18]

  • العامل الأمريكي:

تضمنت استراتيجية الأمن القومي الأمريكي الصادرة في ديسمبر 2017 تأكيداً واضحاً على أن دور روسيا الدولي يمثل تهديداً للولايات المتحدة، مستخدمة مصطلح “الدول التحريفية” للإشارة إلى روسيا والصين اللتان تحاولان تغيير الوضع الراهن، أو “القوى المراجعة” التي تريد خلق عالم لا يتوافق بالضرورة مع المصالح والقيم الأمريكية[19]. واستراتيجية الأمن القومي الأمريكي على هذا النحو جاءت كاشفة، وليست مؤسسة، لتوجهات السياسة الأمريكية عامة وتجاه روسيا خاصة. فقد أفصحت الوثيقة عن حجم المخاوف الأمريكية إزاء العودة الروسية، وأن التنافس بينهما في الملفات المختلفة هي تناقضات هيكلية ممتدة بين الولايات المتحدة، باعتبارها القوة التي هيمنت منفردة على مقاليد النظام الدولي على مدى أكثر من عقدين، والقوى العائدة ممثلة في روسيا، ومعها تلك الصاعدة ممثلة في الصين، واللتان تحاولان معاً حلحلة النظام أحادي القطبية الذي تتربع الولايات المتحدة على قمته، وفي ضوء ذلك تحتدم المنافسة والمواجهة الأمريكية الروسية باعتبارها تؤشر لمستقبل النظام الدولي والمكانة الأمريكية به.

وفي خطابه الذي ألقاه بوزارة الخارجية الأمريكية، يوم 4 فبراير، شدد الرئيس الأمريكي جو بايدن على ما تمثله روسيا ومعها الصين من تحدي وتهديد للأمن القومي الأمريكي والمصالح الأمريكية، وأن المواجهة الأمريكية الروسية مستمرة وستزداد شراسة في المستقبل، أو على حد تعبير بايدن أن “أيام تراجع الولايات المتحدة أمام روسيا انتهت”، وأنه جرى “رفع الثمن الذي ستدفعه روسيا”.[20] ومن المعروف أن بايدن جاء من قلب المؤسسات الحاكمة أو ما يسمى بـ “Establishment” وتشبع عبر تاريخه السياسي الطويل بروح الحرب الباردة، وكان نائب أوباما وشريكه في التصعيد ضد روسيا منذ عام 2014 على خلفية الأزمة الأوكرانية. وسبق أن أشار بايدن في مقابلة له مع تليفزيون “سي بي إس”، إلى أن “روسيا تشكل أكبر تهديد للولايات المتحدة على الساحة الدولية”. وفي كلمته بمؤتمر ميونخ للأمن فى 19 فبراير 2021، اتهم نظيره الروسي، فلاديمير بوتين، بالسعي إلى “إضعاف التحالف الأوروبي والناتو” و”تقويض الوحدة الأطلسية”. كما اتهم بايدن روسيا بالتورط في الهجمات الإلكترونية التي تستهدف الولايات المتحدة ودول أوروبا، مؤكداً “أن أمريكا عادت، الحلف الأطلسي عاد… وأن الشراكة بين الولايات المتحدة وأوروبا تمثل حجر زاوية لكل ما نسعى إلى تحقيقه في القرن الـ21”.

وفي الثالث من مارس 2021 نشرت إدارة بايدن وثيقة الدليل الاستراتيجي المؤقت للأمن القومي، التي تعطي ملامح إرشادية عامة عن توجهات هذه الإدارة المستقبلية، والتي تحدثت عن التهديد الذي تفرضه روسيا التي “تصر على تعزيز نفوذها العالمي، ولعب أدوار تتسبب في حالة من الفوضى على الساحة العالمية”[21].

في هذا السياق، سوف تستمر الضغوط الأمريكية المعرقلة للتفاهمات والتعاون الروسي الأوروبي خاصة في مجال الطاقة، وسبق أن استطاعت الولايات المتحدة وقف مشروع “السيل الجنوبي” نهاية عام 2014، والذي كان من المفترض أن ينقل الغاز الروسي مباشرة إلى دول جنوب أوروبا عبر قاع البحر الأسود. وفرضت واشنطن سلسلة من العقوبات بهدف عرقلة مشروع “السيل الشمالي 2″، كان أخرها تلك التي أقرها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يوم 19 يناير 2021،[22] وسبقها حزمة أخرى هامة في 20 ديسمبر 2019 على أفراد وشركات وسفن عاملة في مد القسم البحري من خطي الأنابيب “السيل الشمالي-2” و”السيل التركي”، ومن المقرر أن يضخ الأخير الغاز من روسيا إلى تركيا وبعض دول أوروبا عبر قاع البحر الأسود والأراضي التركية، وتبلغ قدرته الإجمالية 31.5 مليار متر مكعب سنويا.

وتحاول الولايات المتحدة تبرير العقوبات المفروضة من جانبها باعتبارات معلنة تتضمن حماية أوروبا من الهيمنة الروسية وتحكم موسكو في إمدادات الغاز التي تعني الحياة بالنسبة لأوروبا. وأن تبعية الاتحاد الأوروبي للغاز الروسي تنطوي على مخاطر لأوروبا والغرب بشكل عام، وأن خط “السيل الشمالي 2” سيسمح بنشر قوة روسيا وتأثيرها عبر بحر البلطيق، وسوف يُمكن روسيا من مواصلة تقويض سيادة أوكرانيا واستقرارها، كما ستمكن إيراداته روسيا من تمويل تقويض المؤسسات الديمقراطية في أوروبا والولايات المتحدة.[23]

إلا إن موسكو ترى أن المصالح الأمريكية وسعي واشنطن لمزاحمة روسيا في سوق الطاقة الأوروبي هو السبب الحقيقي لفرض مثل هذه العقوبات حيث جعلت ثورة الغاز الصخري من الولايات المتحدة مصدرا مهما لتصدير الغاز المسال إلى باقي دول العالم، وخاصة أوروبا التي تعد أهم الأسواق العالمية للغاز، كما إنها الأقرب والأكثر جدوى اقتصادياً لواشنطن. وبدأت الأخيرة بالفعل في تصدير غازها المسال لأوروبا منذ عام 2016، إلا إن صادرات الغاز الأمريكي لأوروبا مازالت أقل بكثير مما تطمح إليه واشنطن، ومن قدرة السوق الأوروبية على الاستيعاب، ومازال الأخير أميل لاستيراد الغاز من روسيا باعتباره الأقل سعراً من نظيره الأمريكي، كما إنه الأيسر في النقل والإمداد حيث ينطلق الغاز مباشرة من روسيا إلى أوروبا، خلافاً للغاز الأمريكي المسال الذي يتم نقله بالسفن، فالاتحاد الأوروبي ينطلق من الجدوى الاقتصادية لإمدادات الغاز الروسي خاصة وأن روسيا تدير هذه المشروعات في إطار من الشراكة المشتركة وحسن الجوار.

ماذا عن المستقبل؟

يوضح التحليل السابق أن العلاقات الروسية الأوروبية تتنازعها عوامل عدة بعضها إيجابي يمثل فرص وآفاق لدفع التفاهم والتعاون بين الجانبين، والبعض الأخر يؤثر سلباً ويباعد بين موسكو وبروكسل في ضوء التناقضات الاستراتيجية والمواجهة الأمريكية الروسية التي مازالت قائمة وممتدة في المدى المنظور، لتظل أوروبا حائرة بين الالتزام بمقتضيات تحالفها الاستراتيجي مع واشنطن من ناحية، والرغبة في عدم الإضرار بمصالحها الواسعة مع موسكو من ناحية أخرى.

وفي ضوء هذه المعطيات ستظل العلاقات الروسية الأوروبية في منطقة ما رمادية حيث يستمر التعاون في مجالات حيوية للطرفين مثل الطاقة، وقد يصل الطرفان لتفاهمات تكتيكية، ولكن تظل التناقضات الاستراتيجية حاضرة بينهما، فأي تحسن جذري في العلاقات الروسية الأوروبية يجب أن يمر عبر البوابة الأمريكية، الأمر الذي يجعله بعيد المنال في المستقبل المنظور. كما أن هذا التحسن النسبي قد يكون على مستوى العلاقات الثنائية بين روسيا وعدد من الدول الأوروبية مثل إيطاليا وفرنسا وألمانيا وليس بالضرورة على المستوى الأوروبي العام.

ويتسق هذا مع التوجه السائد في العلاقات الدولية الذي أصبحت تحكمه البرجماتية كأساس يتحكم في السياسة الخارجية للدول حيث تسعى كل دولة لتعظيم مكاسبها من خلال تفاهمات جزئية أو تكتيكية، فتتفق وتتعاون في قضايا وتتناقض في أخرى تبعاً لحيوية المصالح المرتبطة بكل منها.


الهوامش:

[1] Macron calls for better long-term relations with Russia, France24, 15/02/2020 (https://www.france24.com/en/20200215-macron-calls-for-better-long-term-relations-with-russia)

[2] Keeping Russia out of Western fold a ‘strategic error’, Macron says in key speech, France24, 27/08/2019 (https://www.france24.com/en/20190827-france-macron-ambassadors-speech-new-economic-order-diplomacy-foreign-policy)

[3] Концепция внешней политики Российской Федерации, утверждена Президентом Российской Федерации В.В.Путиным 30 ноября 2016 г, http://www.mid.ru/foreign_policy/news/-/asset_publisher/cKNonkJE02Bw/content/id/2542248

[4]  Hannes Adomeit, “Russia as a “Great Power” in World Affairs: Images and Reality”, International Affairs, vol. 71, no. 1, (1995), p. 190.

[5] Mark Webber, “The Emergence of the Foreign Policy of the Russian Federation”, Communist and Post-Communist Studies, vol. 26, no. 3, (September 1993), p. 34.

[6] Mikhail S. Gorbachev, Perestroika, (New York: Harper & Row Publishers, 1987)., pp. 195 – 198.

[7] Eurostat,) https://ec.europa.eu/eurostat/cache/infographs/energy/bloc-2c.html(

[8] Энергетическая стратегия Российской Федерации на период до 2035 года, (https://minenergo.gov.ru/node/1026)

[9] Новак заявил о готовности «Северного потока – 2» на 95%, (https://www.vedomosti.ru/business/news/2021/02/14/857880-novak-zayavil-o-gotovnosti-severnogo-potoka-2-95)

[10] Пятнадцатый самолет ВКС России вылетел в Италию для помощи в борьбе с коронавирусом, (https://tass.ru/obschestvo/8069403)

[11]https://arabic.rt.com/business/1203479-%D8%AF%D8%B9%D9%88%D8%A9-%D8%A3%D9%84%D9%85%D8%A7%D9%86%D9%8A%D8%A9-%D9%84%D9%85%D8%B7%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%A9-%D9%88%D8%A7%D8%B4%D9%86%D8%B7%D9%86-%D8%A8%D8%AA%D8%B3%D8%AF%D9%8A%D8%AF-%D8%AA%D9%83%D8%A7%D9%84%D9%8A%D9%81-%D8%AA%D8%A3%D8%AE%D9%8A%D8%B1-%D8%A5%D9%86%D8%AC%D8%A7%D8%B2-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%8A%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%B4%D9%85%D8%A7%D9%84%D9%8A-2/

[12]https://arabic.rt.com/world/1201905-%D9%86%D8%A7%D8%A6%D8%A8%D8%A9-%D8%A7%D9%8A%D8%B1%D9%84%D9%86%D8%AF%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%B1%D9%84%D9%85%D8%A7%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%88%D8%B1%D9%88%D8%A8%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D9%82%D8%B6%D9%8A%D8%A9-%D9%84%D9%8A%D8%B3%D8%AA-%D9%86%D8%A7%D9%81%D8%A7%D9%84%D9%86%D9%8A-%D9%88%D8%AD%D9%82%D9%88%D9%82-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D9%86%D8%B3%D8%A7%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%B9%D8%A7%D9%88%D9%86-%D8%B1%D9%88%D8%B3%D9%8A%D8%A7/

[13] https://arabic.sputniknews.com/world/202102131048103706-%D9%88%D8%B2%D9%8A%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%AE%D8%A7%D8%B1%D8%AC%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%86%D9%84%D9%86%D8%AF%D9%8A-%D9%8A%D8%B4%D8%AF%D8%AF-%D8%B9%D9%84%D9%89-%D8%A3%D9%87%D9%85%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AD%D9%88%D8%A7%D8%B1-%D9%85%D8%B9-%D8%B1%D9%88%D8%B3%D9%8A%D8%A7/

[14] “NATO – 2030: United for a New Era”, (https://www.nato.int/nato_static_fl2014/assets/pdf/2020/12/pdf/201201-Reflection-Group-Final-Report-Uni.pdf)

[15] История введения экономических санкций ЕС в отношении России, (https://tass.ru/info/7340615)

[16] Russia’s long arm reaches to the right in Europe, Financial Times, 23 May 2019, (https://www.ft.com/content/48c4bfa6-7ca2-11e9-81d2-f785092ab560)

[17]https://www.dw.com/ar/%D8%AA%D9%82%D8%B1%D9%8A%D8%B1-%D8%B5%D8%AD%D9%81%D9%8A-%D9%85%D8%AA%D8%B7%D8%B1%D9%81%D9%88%D9%86-%D8%A3%D9%84%D9%85%D8%A7%D9%86-%D9%8A%D8%AA%D9%84%D9%82%D9%88%D9%86-%D8%AA%D8%AF%D8%B1%D9%8A%D8%A8%D8%A7%D8%AA-%D9%81%D9%8A-%D9%85%D8%B9%D8%B3%D9%83%D8%B1%D8%A7%D8%AA-%D8%A8%D8%B1%D9%88%D8%B3%D9%8A%D8%A7/a-53693001

[18] ЕС и США ввели санкции против российских чиновников из-за преследования Навального, Новая Газета, 2 марта 2021, (https://novayagazeta.ru/articles/2021/03/02/es-vvel-sanktsii-protiv-rossiiskikh-chinovnikov-iz-za-presledovaniia-navalnogo)

[19] American National Security Strategy 2017, (http://nssarchive.us/national-security-strategy-2017/).

[20] Remarks by President Biden on America’s Place in the World, (https://www.whitehouse.gov/briefing-room/speeches-remarks/2021/02/04/remarks-by-president-biden-on-americas-place-in-the-world/)

[21]Interim National Security Strategic Guidance, March 2021,  https://www.whitehouse.gov/wp-content/uploads/2021/03/NSC-1v2.pdf

[22] Nord Stream 2: Trump approves sanctions on Russia gas pipeline, BBC, 21 December 2019, (https://www.bbc.com/news/world-europe-50875935)

[23] U.S. imposes sanctions on Russian vessel involved with Nord Stream 2 pipeline, Reuters, January 19, 2021 (https://www.reuters.com/article/us-usa-nordstream-sanctions-idUSKBN29O1XL)

 

المواضيع ذات الصلة