مقدمة:
بعد المغامرات اللافتة للأنظار التي قام بها جورج دبليو بوش في السياسة الخارجية الأمريكية، أصبحت سياسات واشنطن في عهد باراك أوباما أقل بروزاً؛ فعلى صعيد أفريقيا جنوب الصحراء تحديداً أبقت إدارة أوباما عموماً على الوضع القائم الذي اتسم بنهج التباعد، ما أربك التوقعات التي قالت بأن أول رئيس أمريكي من أصل أفريقي سيدشّن عهداً جديداً من التقارب مع القارة. وبرغم أن أوباما زار القارة خمس مرات، وزاد الدعم العسكري للصومال والكاميرون وتشاد في حربها على الإرهاب، وأنشأ قواعد عسكرية في أكثر من عشر دول أفريقية، فإن التركيز العام في عهده كان منصبّاً في مناطق أخرى، ولا غرابة في ذلك، حيث لم تكن أفريقيا على رأس قائمة أولويات أي إدارة أمريكية منذ تسعينيات القرن العشرين، الأمر الذي يبرز نوعاً من الاتساق في السياسات الأمريكية الخارجية تجاه أفريقيا.
ومع وصول دونالد ترامب إلى السلطة، تحوَّل هذا الاهتمام النسبي تدريجياً إلى احتقار ملفت للنظر ويستحق المناقشة. فقد كانت سياسة ترامب الخارجية طوال السنوات الأربع الأخيرة تعني ركوداً في العلاقات الأمريكية-الأفريقية إن لم نقل تدهوراً. وكان الضرر الناجم عن قرارات ترامب وتقاعسه قد أضعف نفوذ واشنطن في القارة في وقتٍ تتطلب فيه الجهات الفاعلة الأخرى والديناميكيات الجديدة استجابةً متكاملة من جانب الولايات المتحدة الأمريكية؛ وفي واقع الأمر، ظل اللاعبون الآخرون، مثل الصين (والهند وروسيا وتركيا بدرجة أقل)، يستغلون عدم اهتمام ترامب بأفريقيا، وتراجُع النفوذ الأمريكي فيها تحت رئاسته.
سياسة أوباما تجاه أفريقيا.. نبذة مختصرة:
جاء أوباما رئيساً للولايات المتحدة في ظل سياق أوسع تمحور حول الأمن، وسيطرت عليه الحرب على الإرهاب التي عمل جورج دبليو بوش على دمج أفريقيا فيها من خلال عدد من المبادرات التي أطلقها، مثل قوة العمل المشتركة الموحدة في القرن الأفريقي (CJTF-HOA) التي أنشئت عام 2002 لكبح المنظمات الإسلاموية العنيفة في شرق أفريقيا، وبناء قدرات دفاعية في الدول الأفريقية. كما تم، في وقت لاحق، إنشاء القيادة العسكرية الأمريكية في إفريقيا (AFRICOM) عام 2007 لجمع كل برامج وزارة الدفاع في أفريقيا تحت مظلة واحدة.
وعلى الرغم من أن أوباما سعى إلى إيجاد توازن بين مكافحة الإرهاب والحقوق المدنية – الذي انتُقِد بوش بسبب إهماله له – فإنه واجه انتقاداً عاماً مفاده أن السياسة تُسير بطريقة آلية، وأن التركيز على الأمن أعطى اهتماماً أقل بقضايا الحكم؛ ففي بعض الأحيان، تحالفت الولايات المتحدة الأمريكية مع أنظمة دكتاتورية، ما اضطر واشنطن إلى عدم التدخُّل أو مساءلة الحكومات عن انتهاكات حقوق الإنسان في إثيوبيا، مثلاً، حيث كانت القضايا الأمنية تُعدّ أكثر أهمية.
ومع هذا، ومن حيث السياسة الملموسة، دشّنت إدارة أوباما “مبادرة الطاقة الأفريقية” عام 2013 من أجل المساعدة في زيادة حصول السكان على الطاقة الكهربائية في مختلف أنحاء القارة من خلال توليد 30 ألف ميغاواط إضافي من الكهرباء في أفريقيا جنوب الصحراء وتركيب 60 مليون من التوصيلات الكهربائية الجديدة. وقد يُنظَر إلى هذه المبادرة بوصفها عملاً تجارياً ونوعاً من القوة الناعمة التي اعترفت حكومة أوباما بأن برامجها ساعدت في تعزيز الشرعية الأمريكية. وأُطلِقت، بناءً على ذلك، “مبادرة القادة الأفارقة الشباب” لمساعدة الشباب الأفارقة المقيمين في القارة على الاستعداد لتولي مناصب قيادية من خلال توفير فرص التدريب والتواصل وبناء مهاراتهم.
سياسة ترامب تجاه أفريقيا .. رفض وإهمال
عندما تولى ترامب الرئاسة عام 2017، وبعد أن خفّ تأثير الأزمة المالية العالمية وهدأت الحرب على الإرهاب عملياً، كانت الساحة مناسبة تماماً له لكي يعيد صياغة سياسة خاصة بأفريقيا. لكنه أكد موقفه منذ البداية عندما أرسل فريقه الانتقالي إلى وزارة الخارجية أربع صفحات من الأسئلة عن أفريقيا كشفت عن موقف مفرِط في رفضه تجاه القارة وموقعها في الدبلوماسية الأمريكية حيث تساءل الفريق الانتقالي في الأساس عن جدوى انخراط الولايات المتحدة في المساعدات ومكافحة الإرهاب والاتفاقات التجارية مع أفريقيا – وتضمنت بعض الأسئلة التي طُرِحت على وزارة الخارجية ما يلي:
1. “لماذا نُنفق الأموال على أفريقيا ونحن نعاني هنا في الولايات المتحدة الأمريكية؟”
2. “معظم (الواردات الأفريقية) منتجات بترولية تذهب منافعها إلى شركات النفط الوطنية، فلماذا ندعم تلك المنافع الضخمة لأنظمة فاسدة؟”
3. “هل بدأنا نخسر أمام الصينيين؟”
كان الطابع التجاري هو المرتكز الأساسي لأسئلة الفريق الانتقالي، فالسؤال الرئيسي هو: ماذا تكسب الولايات المتحدة الأمريكية من العلاقة؟. ونظراً إلى طبيعة المكانة الحالية لأفريقيا في النظام العالمي، فلا توجد عادةً سوى إجابة واحدة. فمنذ اليوم الأول، ترسخت ديناميكيةٌ ذاتية التحقُّق في طريقة تفكير إدارة ترامب وموقفها تجاه القارة الأفريقية.
لقد كانت سياسات أوباما مفتوحة للانتقاد ولكن القوة الناعمة للولايات المتحدة وصورتها كانت على الأقل معترف بها. أما ترامب فقد تخلّى عن هذا الأمر واتّبع نهجاً اتسم بالتهكُّم والعناد في سياسته تجاه أفريقيا، حيث لم يكن في أجندة “أمريكا أولاً” التي تبناها أي وقت لـ “الدول الخربة أو المتدنية” كما سماها، باستثناء تلك التي له فيها “العديد من الأصدقاء الذين يذهبون إلى بلدانكم ليحاولوا أن يصبحوا أثرياء” كما قال ترامب لقادة إثيوبيا وغانا ونيجيريا وأوغندا خلال مأدبة غداء في نيويورك.
ولأن أفريقيا لم تكن من الأولويات القصوى لواشنطن منذ انتهاء الحرب الباردة، فقد أُحيلت السياسة جوهرياً إلى كبار البيروقراطيين داخل السلطة التنفيذية، ما أنتج أنماطاً راسخة ومساراً تاريخياً عاماً للسياسات الأمريكية-الأفريقية لا يتغيَّر إلا بوجود رئيس أمريكي ناشط بدرجة كبرى، حيث إن القيادة من مكتب الرئاسة تحدث فرقاً كبيراً. وعلى سبيل المثال، عندما تنحَّت ليندا توماس-غرينفيلد من منصب مساعد وزير الخارجية للشؤون الأفريقية في مارس 2017، انتظر ترامب حتى يوليو 2018 ليعلن أن تيبور ناغي سيكون الشاغل التالي للمنصب (شَغَله أحد مساعدي وزير الخارجية بالنيابة في الفترة المؤقتة). ولم يكن هذا الأمر مقتصراً بالضرورة على أفريقيا، بل كان مؤشراً على افتقار عام إلى الاهتمام بالدبلوماسية، حيث إن ثماني وظائف من أصل 22 وظيفة مساعد وزير الخارجية كانت ما تزال شاغرة بحلول فبراير 2018، بما فيها الشؤون الأفريقية وشؤون نصف الكرة الغربي.
وفي الوقت نفسه، سعت ميزانية ترامب (التي صدرت في مارس 2017 تحت عنوان “أمريكا أولاً: مخطط ميزانية لجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى”) إلى تخفيض مخصصات وزارة الخارجية ووكالة التنمية الدولية الأمريكية بنحو 30%، والتخلص من وكالات مثل المؤسسة الأمريكية للتنمية الأفريقية التي تموِّل مشاريع التنمية الأهلية في 30 دولة أفريقية، وبرامج التبادل التعليمي والثقافي التابعة لوزارة الخارجية، وصندوق الأزمات المعقدة. كما سعت الميزانية إلى تخفيض التمويل المخصص لبنوك التنمية متعددة الأطراف، بما فيها البنك الدولي، بمبلغ 650 مليون دولار تقريباً على مدى ثلاث سنوات مقارنةً بتعهُّدات الإدارة السابقة.
وتحت إدارة ترامب، فقدت وزارة الخارجية 60% من سفرائها المحترفين و20% من بيروقراطييها الأكثر خبرة ودراية بالعمل، الذين استقال كثيرون منهم اشمئزازاً من الوضع[1]؛ وفي بعض الأحيان، كان هؤلاء الدبلوماسيون يُستبدَلون بمانحين ماليين لحملة ترامب الانتخابية أو بأصدقاءٍ له لا يملكون أي خبرة أو مؤهلات أوّلية لأداء المهام الموكلة إليهم. لذلك عندما تولت سفيرة الولايات المتحدة الأمريكية الحالية لدى جنوب أفريقيا، لانا ماركس، منصبها، كتبت تغريدة على موقع تويتر تقول فيها إن ابنها، مارتن ماركس، هو “رئيس موظفيها”. وبعد أن أثار نائبها في السفارة، ديفيد يونغ، قضية المحسوبية والمخاوف منها، قيل إن لانا ماركس طردته من السفارة[2].
ومع تهميش وزارة الخارجية على نحو متعمَّد، تولَّت وزارة الدفاع الأمور، غالباً من دون إشراف يُذكر من حيث السياسة الفعلية، فتوسعت ضربات مكافحة الإرهاب وبعثات العمليات الخاصة رغم المخاوف من أن هذه البعثات لم تكن تمتلك خطة مكتملة ولم تصحبها أي جهود دبلوماسية؛ ففي أكتوبر 2017، قتل تنظيم داعش أربعة جنود أمريكيين في الصحراء الكبرى في النيجر، ما أثار جدالاً حول وجود قوات أمريكية في أفريقيا في مهام كانت إلى حد كبير غير معروفة حتى الآن. ولم يعلِّق ترامب على الكمين الذي أودى بحياة أولئك الجنود طوال 12 يوماً بعد وقوعه، الأمر الذي أثار انتقادات المعلقين والمحللين ضده.
وفي أواخر عام 2018، أعلن ترامب أن واشنطن ستخفِّض وجودها العسكري في أفريقيا بـ 10% على مدى السنوات العديدة المقبلة، بما في ذلك نصف قوات مكافحة الإرهاب العاملة في غرب أفريقيا. وقد كان واضحاً أن المبرر المنطقي وراء هذا الإعلان هو الرغبة في التصدي للنفوذ الصيني والروسي من خلال تحويل الجهود الأمريكية إلى أساليب أكثر تقليدية (رغم عدم تقديم أي مبرر منطقي واضح إطلاقاً). ولم تزد وزارة الدفاع عن القول بأن الهدف هو “إعادة ترتيب مواردنا المخصصة لمكافحة الإرهاب وقواتنا العاملة في أفريقيا خلال السنوات المقبلة من أجل الحفاظ على وضعية تنافسية في جميع أنحاء العالم”. ومع اتخاذ ترامب موقف المواجهة في التعامل مع الصين منذ تنصيبه رئيساً، تحدث المحللون عن شبح “حرب باردة” جديدة في أفريقيا تضع بكين في مواجهة مع واشنطن؛ وهذا ما لا تحتاج إليه القارة الأفريقية إطلاقاً. وفي الواقع، كان موقف ترامب تجاه أفريقيا سمة ملحوظة في تنميطه لأفريقيا بوصفها ساحة لصراعات القوى الكبرى الموجهة أساساً ضد بكين.
استراتيجية جديدة تجاه أفريقيا.. مواجهة الصين هي الأساس
في ديسمبر 2018، وضع مستشار الأمن الوطني، جون بولتون، استراتيجية جديدة تنص على أن الولايات المتحدة ستختار الآن شركاءها الأفارقة “بدقة أكثر”، ما يعني عملياً أن على الدول الأفريقية الآن أن تنحاز إلى طرف من الأطراف. وقد أوضح بولتون هذا بقوله إنه بموجب مبادرة “ازدهار أفريقيا” “سنشجع القادة الأفارقة على اختبار مشاريع استثمارية أجنبية عالية الجودة وشفافة ومتكاملة ومستدامة، بما فيها المشاريع الأمريكية”، وفي الوقت نفسه سنعيد تقييم الدعم الأمريكي لعمليات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة. وأضاف بولتون أنه وفقاً لفلسفة “أمريكا أولاً” “لن تقدم الولايات المتحدة الأمريكية بعد الآن أي مساعدات لجميع أنحاء القارة دون تمييز… وأن الدول التي تصوِّت مراراً ضد الولايات المتحدة في المحافل الدولية، أو تتخذ إجراءات ضد المصالح الأمريكية، ينبغي ألّا تتلقى المساعدات الأمريكية السخية”. واتَّهم الصين وروسيا تحديداً بالسعي إلى زيادة نفوذهما في أفريقيا من خلال الصفقات الاقتصادية الفاسدة (ذكر بولتون الصين أكثر من 15 مرة خلال عرضه لمبادرة ازدهار أفريقيا).
ومنذ ذلك الحين، ظلت واشنطن تعمل بجدِّية على الترويج لخطابٍ يتمحور حول الممارسات الصينية الاستغلالية في أفريقيا والادعاء بأن بكين تمارس “دبلوماسية فخ الديون” في جميع أنحاء القارة. ويبدو أن السعي إلى نزع الشرعية من الصين، بدلاً من وضع سياسة خارجية متماسكة تجاه أفريقيا، كان الأهم في هذا التوقيت، الأمر الذي أوقع القارة السمراء بين قطبى رحى عندما أعلن ترامب فجأة في مايو 2020، أن واشنطن سوف “تنهي علاقتها” مع منظمة الصحة العالمية خلال إحدى مشاحناته مع الصين. فقد اتهم ترامب المنظمة بالفشل في التصدي الفعال لوباء كوفيد-19 لأن الصين “لديها سيطرة كاملة” على المنظمة من خلال مديرها الإثيوبي، تيدروس أدهانوم غبريسوس، وهو ما استفز رئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي، موسى فقي محمد، واضطره إلى الدفاع عن تيدروس وقيادته للمنظمة. كما اضطر قادة أفارقة آخرون من دول مثل ناميبيا ورواندا وجنوب أفريقيا إلى الدفاع عن منظمة الصحة العالمية ومديرها وحمايته من ترامب.
ترامب وقضايا أفريقية أخرى
فُسِّرت هجمات ترامب في بعض أجزاء القارة الأفريقية بأنها جزء من أسلوب نمطي يُظهر أن إدارته معادية للقيادة الأفريقية للمنظمات الدولية؛ ففي وقت سابق، حاول ترامب عرقلة منح ولاية ثانية لرئيس بنك التنمية الأفريقي، أكينونمي أديسينا، من خلال ادعاءات بفساده. وكانت شخصية أديسينا المستقلة وتصميمه على الدفاع عن مصالح أفريقيا هو ما أثار استياء إدارة ترامب. وعلى الرغم من أن لجنة الأخلاقيات التابعة للبنك قد برّأت أديسينا من الادعاءات الكاذبة، فقد بذلت واشنطن كل ما في وسعها لإبعاد أديسينا من منصبه. ولأن الولايات المتحدة الأمريكية هي المساهم الأكبر في بنك التنمية الأفريقي من غير الأفارقة، فقد طالبت واشنطن، بإيعاز من وزير التجارة الأمريكي ستيفن منوتشين، بإجراء تحقيق إضافي بشأن أديسينا علاوة على عملية التحقيق الرسمي؛ وفي وقت سابق أيضاً، استخدم ترامب حق الفيتو ضد تعيين السيدة نغوزي أوكونحو-إويلا مديراً لمنظمة التجارة العالمية بعد أن أوصت لجنة الترشيحات في المنظمة بتعيينها.
وقد فشل ترامب أيضاً حتى عندما أبدى اهتماماً فعلياً بأفريقيا. فقد سعى إلى التدخل في العلاقات المتدهورة بين مصر وإثيوبيا بسبب نزاعهما حول سد النهضة الإثيوبي على النيل الأزرق. ورغم ادعاء ترامب بأنه يستحق جائزة نوبل للسلام على “الاتفاق” الذي زعم أنه أنجزه بين الدولتين (في إشارة واضحة إلى تدخله بدعوة من الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي لحل الخلاف حول سد النهضة)، فقد فشلت وساطته لأن إثيوبيا رأت فيه وسيطاً غير محايد وأكثر تأييداً لوجهة النظر المصرية[3]. وقد أصبح هذا الوضع أكثر وضوحاً عندما قطعت الولايات المتحدة الأمريكية مساعداتها عن إثيوبيا في سبتمبر 2020 بعد أن بدأت إثيوبيا ملء خزان السد. وعندما قال ترامب في أكتوبر 2020، إن مصر “سينتهي بها الأمر إلى نسف السد … عليهم أن يفعلوا شيئاً … كان ينبغي عليهم إيقافه قبل وقتٍ طويل من بدايته”. ونظراً إلى ما تتسم به منطقة القرن الأفريقي من انعدام أمن مزمن وتوترات جيوسياسية عميقة، فإن تعليقات ترامب اللامبالية هذه لم تكن مفيدة.
وتحظى قضية سد النهضة بأهمية خاصة لمصر، حيث أنه قد يحتجز 88% من متوسط تدفق نهر النيل السنوي، ما يعني أنه يشكِّل خطراً محتملاً على الأمن المائي في مصر والسودان، خصوصاً أن مصر تعتمد في تلبية احتياجاتها المائية على مياه النيل بنسبة 90%، يأتي 57% منها من النيل الأزرق الذي يُقام عليها سد النهضة[4]. واحتكاماً إلى معاهدة أُبرِمت عام 1959، وبناءً على اتفاقية عام 1929 الموقَّعة خلال الحقبة الاستعمارية، تؤكد مصر امتلاكها حق النقض ضد بناء أي مشاريع على نهر النيل أو أيٍّ من روافده. كما تطالب كل من القاهرة والخرطوم بإبرام اتفاق ملزِم وواجب التنفيذ، في حين تفضّل أديس أبابا وجود ترتيب مرن وغير ملزِم يتضمن توجيهات، بدلاً من ترتيبات ثابتة، وذلك للمحافظة، في ما يبدو، على استقلالية إثيوبيا في ما تراه شأناً من شؤونها الداخلية ولتصحيح المعاهدة المُبرَمة خلال الحقبة الاستعمارية. وقد سعى الاتحاد الأفريقي إلى رعاية الحوار وتشجيعه وظل ملتزماً بالحياد والنزاهة بحرصٍ شديد.
وعلى الرغم من أن ترامب خسر الانتخابات الرئاسية وأصبح مفتقراً إلى الدعم السياسي لتمرير أي سياسات، فقد أعلن في ديسمبر 2020 أن الولايات المتحدة ستسحب تقريباً كل قواتها المكوّنة من 700 جندي من الصومال. وكان هذا القرار مفاجئاً وارتجالياً، ما أثار القلق في مقديشو التي استخدمت القوات الأمريكية في الحرب على حركة الشباب، وفي نيروبي. لقد كان قرار سحب هذه القوات متوافقاً مع توجُّه ترامب القاضي بإصدار أوامر بخفض مستويات القوات الأمريكية في مناطق مثل أفغانستان وتكبيل يدَيْ بايدن قبل أسابيع فقط من تولي الإدارة الجديدة مهامها. وقد سمح هذا القرار أيضاً لـ ترامب بالادعاء بأنه أوفى بوعده الانتخابي بأن “يُنهي الحروب اللانهائية” التي تخوضها الولايات المتحدة الأمريكية (مع ترك العواقب ليتحملها كلٌّ من هم على الأرض، وبايدن، بطبيعة الحال).
وخلال ولاية ترامب، طبَّع كل من المغرب والسودان علاقته مع إسرائيل، ومن المؤكد أن يحذو المزيد من الدول حذوهما، وربما تكون تشاد هي الدولة التالية. وقد جاء اعتراف المغرب بإسرائيل في ديسمبر 2020 بمقابل. ويرى بعض المسؤولين الأفارقة أن الاعتراف الأمريكي بسيادة المغرب على الصحراء الغربية يمثّل تحولاً في السياسة الأمريكية التي سعت في السابق إلى إيجاد حل سلمي لهذه القضية من خلال جهود تقودها الأمم المتحدة (عن طريق الاستفتاء والمحادثات المباشرة). وبالاعتراف بسيادة المغرب على الصحراء الغربية، ربما يزيد ترامب من التوترات في المنطقة ويثير رد فعل قوي من جانب جبهة البوليساريو وحليفتها التاريخية، الجزائر، وسيكون هو حينها خارج البيت الأبيض بطبيعة الحال.
وفي ما يتعلق بالصحراء الغربية، تلقّى المغرب تاريخياً دعماً لموقفه من العديد من الحكومات الأفريقية (المسلمة في معظمها) ومن جامعة الدول العربية. ومن الناحية الفردية، تباينت مواقف الدول الأعضاء في جامعة الدول العربية وفقاً لتوجهاتها الأيديولوجية واهتماماتها الجيوستراتيجية واصطفافاتها السياسية الأوسع؛ باستثناء الجزائر التي لم تبدِ اهتماماً كبيراً بالمسألة، أملاً في تجنب سيناريو يضع عرباً ضد عرب. ونظراً إلى الطبيعة الهامشية للقضية وحقيقة أن الإجماع يؤيد الطرف المغربي، فمن غير المرجح أن يضر قرار ترامب بالعلاقات مع العالم العربي الأوسع. وتجدر الإشارة إلى أن الجزائر هي الدولة الوحيدة التي تتمسك بموقف عدائي تجاه مطالب المغرب؛ ومع هذا، فإن قرار ترامب في هذا الصدد يعكس الطبيعة التجارية لدبلوماسيته.
خاتمة:
كانت سياسات أوباما تجاه أفريقيا مبنية على مفهوم القيادة من الخلف وتشجيع التعاون متعدد الأطراف وممارسة أشكال القوة الأكثر نعومة؛ وهي استراتيجية مصمَّمة للحفاظ على الثقة في قدرة القيادة الأمريكية على حل الأزمات وتعزيز بعض عناصر القوة الناعمة (كما أثبتت ذلك مبادرة الطاقة الأفريقية ومبادرة القادة الأفارقة الشباب). لكن على العكس من ذلك، لم يؤسس ترامب أي علاقات هادفة مع القارة الأفريقية ولم يلتقِ خلال رئاسته إلا برئيسيْن أفريقييْن فقط في المكتب البيضاوي (رئيس نيجيريا ورئيس كينيا)، ولم يزُر أي دولة من دول أفريقيا جنوب الصحراء بعد توليه الرئاسة. لقد كان افتقار ترامب إلى الاهتمام الإيجابي بالقارة الأفريقية سمةً لفترة من العلاقات الأمريكية-الأفريقية ربما يتذكرها الناس للأسباب الخاطئة الكامنة وراءها.
ونظراً إلى رفض ترامب القبول حتى الآن بخسارته للانتخابات، فإن القول إن باستطاعة واشنطن أن تلقي دروساً على الدول الأفريقية حول كيفية إجراء انتخابات أصبح الآن أمراً مشكوكاً فيه، مثلما حدث في غانا مؤخراً ، حيث نصحت السفارة الأمريكية في أكرا المعارضة الغانية بوجوب اللجوء إلى المحكمة لحل الخلافات حول صحة الانتخابات الغانية العامة. ومع استعداد إدارة بايدن-هاريس لتولي زمام الأمور، يجب أن يكون إصلاح الضرر على رأس قائمة الأولويات في ما يتعلق بعلاقات الولايات المتحدة مع أفريقيا. فعلى العكس من واشنطن، لم تتجاهل الصين طيلة السنوات الأربع الأخيرة أفريقيا (والأفارقة).
المراجع:
[1] Billy Perrigo ‘Top Diplomat Says U.S. Has Lost 60% of Its Career Ambassadors Under President Trump,’ Time, November 9, 2017,
https://time.com/5016774/trump-ambassadors-state-department-lost-60-percent-afsa-barbara-stephenson/
[2] Sara Smit ‘Trump’s ambassador to SA under fire for nepotism allegations,’ Mail and Guardian, February 10, 2020, https://mg.co.za/article/2020-02-10-trumps-ambassador-to-sa-under-fire-for-nepotism-allegations/
[3] Farouk Chothia ‘Trump and Africa: How Ethiopia was ‘betrayed’ over Nile dam,’ BBC News, October 27, 2020, https://www.bbc.co.uk/news/world-africa-54531747
[4] ‘Ethiopia/Egypt/Sudan: Trust, linkage, and cooperation can end dam dispute,’ Africa Report, October 21, 2010, https://www.theafricareport.com/44337/ethiopia-egypt-sudan-trust-linkage-and-cooperation-can-end-dam-dispute/