د. محمد العلي
الرئيس التنفيذي ومؤسس مركز تريندز للبحوث والاستشارات
لا مِراءَ في أن نظرة عميقة على تاريخ الإنسانية تُسلمنا إلى الإقرار بأن للأديان، ولأشكال التَّدَيّن، دورًا مهمًا في العلاقات الدولية، وأن ثمة قوى مهيمنة في مسرح تلك العلاقات تَستخدم التّدَيّن والجماعات الدينية وسيلةً جيواستراتيجيةً ناجعةً - في كثير من الأحيان- لتحقيق أهدافها الاستراتيجية، على المستويات كافة. ومن هنا، أضحت الجماعات التّدَيُّنية، وعلى رأسها الجماعات الإسلاموية، أحد الفاعلين الرئيسيين في معادلات العلاقات الدولية المعاصرة، ولاسيّما أثناء ما عُرِف بالربيع العربي وما قبله.
وعلى صعيد آخر، فمن المؤكد أن المجتمعات العربية الحديثة والمعاصرة كانت إلى وقت قريب من أكثر المجتمعات في العالم التي تشهد حروبًا وأزمات وانقسامات، خصوصًا تحت تأثير عدم الوفاق الجماعي على شرعية سلطة الحكم، والافتقار إلى عقد جتماعي يُحدّد فيه دور الدين في الفضاءَيْن الدولي والعام، ومصادر الشرعية والتشريع.
ومن أهم العناصر المسؤولة عن هذا الوضع، من وجهة نظرنا، هو تأثير فترة الاستعمار، وما خلّفه من أدوات ليضمَن به ديمومة هذا الوضع حتى بعد رحيله، ((وعلى رأس تلك الأدوات جماعة الإخوان التي تلعب دورًا في تفجير المجتمعات، مشابهًا لما تفعله كبسولة التفجير (Detonator)، وهي الأداة التي تُستخدم لقدح العبوة الناسفة؛ فهي الكبسولة التي تحتوي على مادة متفجرة سهلة الإشعال، توفر طاقة التنشيط الأولية لبدء الانفجار»'.
في هذا السياق، يسعى هذا الكتاب لتسليط الضوء على الأدوار التي اضطلعت بأدائها جماعة الإخوان المسلمين في العلاقات الدولية المعاصرة، واختبار فرضية أن وجودها وخطاباتها وتداخلاتها وسلوكياتها على أرض الواقع، كل ذلك لم يكن إلا استنزافا للعالم العربي لمصلحة القوى المهيمنة العالمية أو بعض القوى الإقليمية، وذلك على النقيض من ادعاءاتها بأنها تسعى إلى عكس ذلك.
كيف تنظر جماعة الإخوان إلى العلاقات الدولية المعاصرة؟ وما الأدوار التي أدتها الجماعة في العلاقات الدولية منذ نشأتها عام 1928؟ ومَنْ الذي استخدمها لتحقيق أهدافه الجيوسياسية؟ وفي أي سياق؟ ولماذا؟ وما واقع جماعة الإخوان اليوم؟ وما ستقبلها في مشهد العلاقات الدولية؟ هل ستَخْرُج جماعة الإخوان من معادلات العلاقات الدولية؟.
وللإجابة على هذه الأسئلة، تَوَزّع الكتاب على ستة فصول. يدرس الفصل الأول إشكالية منظور الإخوان المسلمين لمسألة العلاقات الدولية، من زاوية تجمع بين التأصيل الأيديولوجي، على نحو ما هو مُرَسَّخٌ في أدبياتهم وخطاباتهم من جهة، وبين ما طَبَعَ ممارساتهم من نزعة براغماتية من جهة أخرى. ومن ثم فإن هذا الفصل يسعى لتفكيك خلفيات منظور الجماعة ومرجعياتها للعلاقات الدولية، وذلك من خلال خطابات مؤسّس الجماعة ومرشدها حسن البنّا، وما أنتجه دُعاتها ومنظروها في مراحل لاحقة. كما يولي هذا الفصل اهتمامًا كبيرًا بها كان عليه واقع علاقات الإخوان المسلمين الدولية من خلال ممارساتهم، وما نسجوه عبر تاريخهم المستمرّ منذ ما يناهز القرن من الزمان من شبكة علاقات بكثير من الدول، ولاسيّما الدول الفاعلة والمؤثرة في منظومة العلاقات الدولية. وتكمن أهمية هذا الفصل في رصده للهُوّة التي تفصل بين خطاب الجماعة وبين ممارستها، وكشفه عن مدى التزامها ووفائها لأصولها ومقولاتها الأيديولوجية.
أمّا الفصل الثاني فيتناول تأثير السياق الدولي في أداء المشروع الإخواني في المنطقة العربية، وبدرجة أقل المشروع الإخواني في السياق الأوروبي، بالإضافة إلى أنه يدرس -دراسة عميقة- المحددات المرتبطة بثنائية السياق الدولي/ المشروع الإخواني؛ وذلك من خلال محوريْن اثنيْن، يتفرعان إلى عدد من المحاور الجزئية. المحور الرئيسي الأول: محطات مفصلية في تأثير السياق الدولي على أداء المشروع الإخواني. المحور الرئيسي الثاني: تفاعُل صُناع القرار في المنطقة العربية وفي الخارج مع الأفق الدولي للمشروع الإخواني.
في حين يوضح الفصل الثالث كيف أصبحت التنظيمات المتطرفة بمختلف أشكالها راغبة في أن يكون لها دور في العلاقات الدولية، وخصوصًا جماعة الإخوان المسلمين؛ وذلك من خلال الاتصال بقوى خارجية تساندها وتقدم لها الدعم السياسي والمادي والإعلامي، وفي مقابل ذلك تقوم هذه التنظيهات بتنفيذ أجندات تلك القوى، أو على الأقل، تَعْمَدُ إلى إجهاد الأنظمة السياسية القائمة في دولها، على نحو يجعلها قابلة للضغوط الخارجية. مثلما يدرس هذا الفصل من الكتاب طبيعة العلاقة بين جماعة الإخوان المسلمين والتنظيمات الأخرى، فيما يتعلق بالعلاقات الدولية، وما ينبثق عنها من قضايا وإشكاليات، ويوضح طبيعة العلاقة التي تربط بينهما: هل هي علاقة تكامل وتعاون؟ أم علاقة تنافس وصراع؟
ويوضح الفصل الرابع أهداف التنظيم الدولي لجماعة الإخوان، وتطوره، وهيكله التنظيمي في أهم المناطق مثل أوروبا والولايات المتحدة، وأبرز قياداته، وكذلك دور التنظيم الدولي في العلاقات الدولية للجماعة على مَرّ تاريخها، خصوصا أثناء ما سُمّيَ «الربيع العربي»، للدفع بالجماعة إلى صدارة المشهد، بوصفها التنظيم السياسي الوحيد القادر على الوصول إلى السلطة.
أمّا الفصل الخامس فيسلط الضوء على العديد من الأمثلة على لَعِب جماعة الإخوان لدور الذي تلعبه كبسولة التفجير في المجتمعات العربية والمسلمة؛ وذلك منذ نشأة الجماعة عام 1928 وحتى الآن، إذ لم يتمخّض عن وجودها وخطاباتها وتداخلاتها وسلوكياتها على أرض الواقع إلا استنزاف العالم العربي لمصلحة القوى المهيمنة العالمية أو قوى إقليمية، وذلك بعكس ادعاءاتها بأنها تسعى إلى عكس ذلك. فهل هذا هو دورها المرسوم في العلاقات الدولية؟ ويجيب الفصل عن هذا التساؤل من خلال قراءة متعمّقة لتاريخ العلاقات الدولية المعاصرة والعالم العربي المعاصر. مثلها يسلط الفصل الضوء على أهم الديناميات التي قلصت من الدور الإخواني في العلاقات الدولية. بالإضافة إلى أن الفصل يختبر فرضية خروج جماعة الإخوان من معادلات العلاقات الدولية في المستقبل، كنتيجة من نتائج ما يُسمى بالربيع العربي.
وخلاصة الأمر أنه في سياق نُدرة الكتب التي تحلل بعمق دور جماعة الإخوان المسلمين في مشهد العلاقات الدولية -منذ نشأتها وحتى الآن - يسعى مركز تريندز للبحوث والاستشارات من خلال هذا الكتاب لسد جزء من هذا الفراغ في المكتبة العربية، إذ يستهدف: أولا- إنجاز تحديد تاريخي للمحطّات المفصلية لتغيّر مسار جماعة الإخوان ونهجها في العلاقات الدولية. ثانيًا - رصد التباين في واقع جماعة الإخوان بين ثبات التنظير، وبين الحركية العملية البراغماتية. ثالثا- رصد مظاهر الاختلاف والاتفاق بين جماعة الإخوان والجماعات المتطرفة في تصوّر العلاقات الدولية. رابعًا - رصد مدى تغلغل التنظيم الدولي للإخوان في العالم الغربي، وانعكاس ذلك على تأثيره في مشهد العلاقات الدولية. خامسًا - توضيح توظيف القوى المهيمنة للإخوان في مشهد العلاقات الدولية. سادسًا - استشراف مستقبل الجماعة في العلاقات الدولية.