تصاعدت الحرب الروسية-الأوكرانية بدرجةٍ كبيرة، لاسيما بعد الهجوم الأوكراني المفاجئ والمباغت على مقاطعة كورسك جنوب غربي روسيا منذ 6 أغسطس المنصرم، واستمرار الهجمات الروسية في الجبهة الشرقية الرئيسية (جبهة الدونباس)، وتحقيق موسكو مكاسب متراكمة، وتواصل القتال الموضعي في الخطوط الأمامية بأكملها، بما في ذلك الجبهة الجنوبية والمنطقة المحيطة بمدينة خاركيف، وزيادة وتيرة الضربات الجوية والصاروخية المتبادلة بين الطرفين ضد مرافق البنية التحتية والأهداف العسكرية واللوجستية.
بالتزامن مع ذلك، شهدت منطقة الساحل الأفريقي تطورًا قد يبدو أنه انعكاس للصراع الروسي-الأوكراني، عقب إعلان كل من مالي والنيجر قطع علاقتهما الدبلوماسية مع أوكرانيا، في ضوء التقارير التي أفادت بتورط كييف في الهجوم، الذي نفذته “جماعات الطوارق” المتحالفة مع جماعة “نصرة الإسلام والمسلمين”، ضد تشكيلات الجيش المالي وقوات فاغنر، في يوليو/تموز الماضي. وقد أسفر الهجوم الأخير عن مقتل 47 جنديًّا ماليًا، و84 من عناصر قوات فاغنر الروسية، وهو رقم قياسي في عدد الضحايا منذ وصول قوات فاغنر إلى البلاد عام 2021.
في هذا السياق، يثور التساؤل عن احتمالية تحول منطقة الساحل الأفريقي إلى ساحة للصراع بين موسكو وكييف، أو عن كون الدور الأوكراني في أفريقيا مجردَ وكيلٍ للولايات المتحدة والدول الغربية، التي تسعى لاستعادة نفوذها في منطقة الساحل الأفريقي، ومواجهة النفوذ الروسي المتنامي في الإقليم.
توترات متزامنة
أدى التصعيد في منطقة الساحل الأفريقي إلى تزايد المخاوف الدولية بشأن نقل الحرب الروسية-الأوكرانية إلى منطقة الساحل الأفريقي. وما يدعم هذه المخاوف هو أن هجوم يوليو المنصرم في مالي تزامن مع تطورات عدة، وخلّف تطورات أخرى، على النحو التالي.
- تصاعد الحرب الروسية-الأوكرانية من جديد:
جاءت هذه التوترات في المنطقة بالتزامن مع تصاعد العمليات العسكرية بين موسكو وكييف؛ حيث نجحت القوات الأوكرانية في التوغل نحو الحدود الروسية، والسيطرة على بعض الأجزاء الغربية من منطقة كورسك الروسية، وذلك في هجوم مفاجئ؛ حيث يعد أكبر توغل للقوات الأوكرانية داخل الأراضي الروسية، منذ بداية الحرب في 2022، وهو ما قد يعزز الموقف الأوكراني في محادثات وقف إطلاق النار، التي من المرجح عقدها بعد الانتخابات الأمريكية في نوفمبر 2024[1].
- قطع العلاقات الدبلوماسية مع أوكرانيا:
جاءت هذه التوترات بعد إعلان كلٍ من المجلس العسكري في النيجر، والحكومة الانتقالية في مالي قطعَ العلاقات الدبلوماسية مع أوكرانيا، وذلك في ضوء التصريحات التي أدلى بها المتحدث باسم وكالة الاستخبارات العسكرية الأوكرانية، أندريه يوسوف، بشأن العملية العسكرية ضد الجيش المالي وقوات فاغنر الروسية في أواخر يوليو الماضي. فضلًا عن ذلك، نشر السفير الأوكراني في داكار مقطع الفيديو الخاص بـ “يوسوف”، وهو الأمر الذي أدى إلى استياء السلطات السنغالية؛ حيث استدعت السفير الأوكراني للحصول على توضيحات بشأن الأمر، بالإضافة إلى إعلان بوركينا فاسو تضامنها مع المجلس العسكري المالي، وإرسال بعض القوات العسكرية للمساعدة في احتواء تمرد بعض الحركات المتطرفة في شمال البلاد[2].
قيام وزير الخارجية الأوكراني بجولة أفريقية:
قام وزير الخارجية الأوكراني، ديمتري كوليبا (Dmytro Kuleba) – الذي أُقيل من منصبه أخيرًا –بجولة أفريقية لدول عدة، متضمنة (زامبيا، ومالاوي، وموريشيوس)، وذلك خلال الفترة من 4 إلى 8 أغسطس 2024، والتي تُعد محاولة من جانب كييف؛ لتعزيز العلاقات مع الدول الأفريقية، وكسب تأييدها في المحافل الدولية، لاسيما في ظل التوسع الدبلوماسي لأوكرانيا، وافتتاحها سفارات جديدة عدة لها في القارة الأفريقية[3]. وقد كانت هذه هي الجولة الرابعة لوزير الخارجية الأوكراني السابق منذ اندلاع الحرب الروسية-الأوكرانية في فبراير 2024.
- الخروج الأمريكي من النيجر:
أعلنت وزارة الدفاع الأمريكية أن الولايات المتحدة أكملت سحب قواتها العسكرية من النيجر في 5 أغسطس 2024، وانتهاء العملية العسكرية في مكافحة الإرهاب في نيامي، وسط استمرار حالة عدم الاستقرار بالمنطقة، إلا أن تزايد الخلافات بين البلدين حال دون عدم اكتمال المهمة العسكرية الأمريكية، التي كانت تحارب إلى جانب قوات الجيش في النيجر ضد الجهاديين في منطقة الساحل الأفريقي[4].
- خفوت الدور الفرنسي داخل القارة في الآونة الأخيرة:
تعاني فرنسا، في الوقت الراهن، خفوتًا في دورها، وتقلصًا في مكانتها داخل أفريقيا، لاسيما في ظل حالة الرفض التي تتعرض لها الدولة بالقارة. فقد كشفت التحركات العسكرية الأخيرة، التي قامت بها القوات المسلحة في مالي وبوركينا فاسو وغينيا، عن حالة الرفض وعدم قبول باريس داخل هذه الدول، بل والتخلص أيضًا من أنظمة الحكم المعاونة لها، ومن ثم خروج الشعب ضد الحكم الفرنسي والتنديد بتدخله في الشؤون الداخلية لهذه الدول، بالإضافة إلى رفع التأييد لروسيا، على أساس أنها دولة قادرة على سد الفجوة التي خلّفها الانسحاب الفرنسي من القارة الأفريقية.
دلالات الأزمة
يمكن القول إن قرار كلٍ من مالي والنيجر قطعَ العلاقات الدبلوماسية مع كييف قد يبدو لبعض المحللين أنه قرار غير مؤثر، نظرًا لمحدودية العلاقات بين أوكرانيا من جانب، ومالي والنيجر وبوركينا فاسو أيضًا من جانب آخر، لاسيما ما يتعلق بالمستوى الاقتصادي، وهو ما يثير تساؤلات عدة حول الدوافع الحقيقية وراء هذا القرار. إلا أن الحكومة الأوكرانية نددت بقرار باماكو، ووصفته بالمتسرع والقصير النظر، فضلًا عن رفضها المزاعم بشأن الدعم الأوكراني للإرهاب الدولي، في الوقت الذي تسعى فيه كييف إلى حشد الدعم الأفريقي بجانبها ضد موسكو، في ظل استمرار الحرب الروسية-الأوكرانية؛ حيث إن هناك العديد من الدلائل وراء التصعيد الأفريقي تجاه كييف، لعل أبرزها[5]:
- اعتراف أوكرانيا الضمني بتورطها في هجوم شمال مالي؛ حيث كشفت تصريحات أندريه يوسوف، المتحدث باسم وكالة الاستخبارات العسكرية الأوكرانية، عن أن كييف زوّدت الجماعات المتمردة بمعلومات واسعة للهجوم على الجيش المالي وفاغنر، مع وجود ترحيب دبلوماسي أوكراني بالعملية العسكرية ضد عناصر مجموعة الأمن الروسية وقوات مالي في شمال البلاد، وهو ما يثير الشكوك حول وجود علاقة قوية بين أوكرانيا والتنظيمات الإرهابية في شمال مالي؛ الأمر الذي دفع السلطات المالية إلى اتخاذ قرارها قطعَ العلاقات مع كييف.
- حق مالي في حماية سيادة أراضيها من الانتهاكات؛ حيث إن رفض مالي أن تصبح أراضيها بمنزلة مسرح للعميات العسكرية بين الدول الخارجية المتصارعة، لاسيما أوكرانيا وروسيا، يُعد تصفية للحسابات بين البلدين؛ إذ تشعر مالي – شأنها شأن معظم دول الساحل – بتوجس دائم تجاه انتهاك سيادتها الوطنية على أراضيها؛ ما يجعل الخطوة الأخيرة بمنزلة رسالة تحذيرية إلى الأطراف الدولية والإقليمية، لاسيما دول الجوار المباشرة في الساحل الأفريقي، وربما التعرض لقطع العلاقات مع باماكو.
- محاولة من الحكومة الانتقالية المالية لإخفاء الإخفاق العسكري: ربما يُعدّ ذلك محاولة من جانب السلطات المالية لإخفاء الهزيمة العسكرية التي تكبدتها قوات الجيش وفاغنر، والعمل على احتواء التهديدات الأمنية، من خلال تصدير بعض الأزمات الخارجية؛ وإظهار استمرار الدعم الأوروبي للحركات الإرهابية، لاسيما بعد الخروج الفرنسي من المنطقة، فضلًا عن خروج واشنطن من النيجر، وسط استمرار الأعمال العسكرية الإرهابية.
- استمرار الدعم الروسي: يعد رسالة قوية من النيجر ومالي باستمرار دعمهما لموسكو في حربها ضد كييف، وإظهار أوكرانيا كدولة داعمة للإرهاب، وهو ما قد يثير غضب بعض الدول، ويسبب إحراجًا دوليًا لها، لاسيما في خدمة قضيتها ضد روسيا، وربما يتسبب أيضًا في عرقلة الجهود الأوكرانية الأخيرة الرامية إلى تعزيز العلاقات داخل في القارة الأفريقية ومناهضة الوجود الروسي.
- استمرار الرفض الأوروبي داخل منطقة الساحل الأفريقي: تعد هذه التطورات استمرارًا لحالة الرفض الأوروبي داخل منطقة الساحل الأفريقي، لاسيما في ظل استمرار التوترات مع القوى الغربية، مثل فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي، منذ بداية الانقلابات العسكرية التي شهدتها دول الساحل الأفريقية بدايةً من مالي عام 2020، وسعي هذه الدول لإنهاء العلاقات مع الدول الغربية، وبناء شراكات جديدة مع روسيا والصين وتركيا وإيران، على حساب الدول التي استنزفت الثروات والموارد في الدول الأفريقية على مدى عقود طويلة.
أبرز ردود الفعل الدولية والإقليمية
ثمة ردود فعل مختلفة تجاه تصاعد التوترات بين دولتي الساحل وأوكرانيا، تتلخص فيما يلي:
- المجموعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا (إيكواس)، أعلنت المجموعة، في بيان لها على موقع التواصل الاجتماعي “إكس” (X)، تنديدها بالتدخل الأجنبي في شؤون جمهورية مالي، مشيرة إلى استنكارها الشديد وإدانتها لأي تدخل أجنبي في المنطقة يهدد السلام والأمن في غرب أفريقيا، وكذلك أي محاولات لجر المنطقة إلى المواجهة الجيوسياسية الحالية، كما أدانت الهجوم الإرهابي الذي وقع في مالي[6].
- الموقف الروسي: اتهمت موسكو السلطات الأوكرانية بسعيها إلى فتح جبهات جديدة للحرب على روسيا، لاسيما من خلال دعم تنظيمات إرهابية داخل القارة الأفريقية؛ حيث أشار المتحدث باسم وزارة الخارجية الروسية إلى أن كييف تسعى لفتح جبهة جديدة للقتال ضد موسكو، بعدما فشلت في هزيمة بلاده داخل ساحة المعركة؛ لذلك تلجأ أوكرانيا إلى دعم الإرهاب داخل أفريقيا للإضرار بالمصالح الروسية[7].
- الموقف الأوكراني: رفضت وزارة الخارجية الأوكرانية اتهامات مالي بالتورط في الهجوم الإرهابي على الجيش المالي في 27 يوليو، وأدانت قرار باماكو إنهاءَ العلاقات الدبلوماسية، ووصفته بأنه قرار متسرع وقصير النظر، منددةً بالعدوان الروسي غير المبرر على أوكرانيا، مؤكدة أن كييف تعمل على تعزيز ودعم المجتمع الدولي من أجل استعادة العدالة، والعمل على احترام القانون الدولي؛ بهدف حماية جميع دول العالم، لاسيما الدول الأفريقية والحفاظ على استقلالها وسلامة أراضيها[8].
- الموقف الفرنسي: كشف أحد المواقع الروسية عن أن أحد قادة القوات المسلحة الفرنسية أشار، خلال مداخلة تلفزيونية على قناة (LCI)، إلى ضرورة مساعدة باريس لأوكرانيا في محاربة النفوذ الروسي في القارة الأفريقية، مؤكدًا ضرورة تقديم الدعم المالي لكييف؛ لتعزيز علاقاتها مع الدول الأفريقية، وإعاقة التوسع الروسي بالقارة[9].
- الموقف السويدي: أعلن وزير التعاون الدولي والتجارة الخارجية السويدي أن بلاده سوف تنظر إلى استراتيجيتها تجاه المساعدات التي تقدمها إلى مالي، وربما يتم التخلي عنها، لاسيما بعدما قررت الحكومة الانتقالية في البلاد قطع علاقاتها الدبلوماسية مع أوكرانيا. إزاء هذا الأمر، استدعت السلطات المالية السفيرة السويدية في باماكو إلى وزارة الخارجية، وأمهلتها 72 ساعة لمغادرة البلاد بعد التصريحات العدائية ضد مالي[10].
التوظيف الروسي للأزمة
في هذا السياق، يمكن القول إن التوترات الأخيرة بين دول الساحل الأفريقي وأوكرانيا قد تمثل تحولًا كبيرًا فيما يتعلق بمستقبل العلاقات الروسية في القارة الأفريقية، لاسيما في ظل ما تكتسبه من أهمية بالنسبة لكلا الجانبين، فضلًا عن تنامي أهمية هذه القمة، خاصة في سياق تطوير العلاقات الروسية- الأفريقية. ويمكن تناول الاستفادة الروسية من خلال نقاط عدة، أبرزها:
- إعادة تجديد العلاقات الروسية داخل أفريقيا: حيث تمثل هذه التطورات أهمية كبيرة نحو تعزيز علاقات موسكو داخل أفريقيا، لاسيما بعد أن أدركت روسيا أهمية القارة الأفريقية استراتيجيًا، خاصة في ظل تصاعد الحرب الروسية- الأوكرانية مجددًا، ومن ثم أصبحت مسرحًا للتنافس الدولي بين مختلف القوى الدولية والإقليمية. وتعمل موسكو على توسيع علاقاتها السياسية والاقتصادية والاستراتيجية داخل أفريقيا، على أساس أن القارة ستصبح مركزًا دوليًا جديدًا في النظام العالمي، وهو الأمر الذي يُوجِد الرغبة والدافع لدى بوتين لتعزيز نفوذ بلاده الاستراتيجي داخل معظم الدول الأفريقية.
-
فتح آفاق جديدة لتعزيز التعاون الاقتصادي الروسي مع القارة، حيث يمكن لموسكو، من خلال توسيع نطاق عمل القمة، بناء آفاق للتعاون الاقتصادي بما يعزز أواصر التقارب والتعاون، بالإضافة إلى توسيع حجم التجارة مع الدول الأفريقية، في ظل تنامي حجم تجارة الدول الغربية والصين في أفريقيا؛ إذ بلغ حجم التبادل التجاري الصيني مع القارة نحو 254 مليار دولار، فيما وصل التبادل التجاري للاتحاد الأوروبي إلى نحو 295 مليار دولار، وكان حجم التبادل التجاري بين موسكو وأفريقيا قد بلغ حتى نهاية عام 2022 نحو 18 مليار دولار.
تسعى روسيا إلى تعزيز حجم استثمارها في القارة، وتشجيع شركاتها على توسيع أنشطتها داخل أفريقيا، لاسيما في مجالات البترول والغاز الطبيعي والاستثمار في البنية التحتية والتعدين داخل الدول الأفريقية، في ظل امتلاك القارة العديد من الثروات والموارد الطبيعية التي أصبحت محفزًا للتنافس الدولي بين الدول الكبرى. وتهدف موسكو من خلال وجودها في السوق الأفريقية إلى ضخ مزيد من العملات الأجنبية داخل روسيا؛ من أجل تقليل الاعتماد على الدولار، وتعزيز قيمة العملة الروسية ومنحها الصفة الدولية لتحقيق تبادل تجاري واسع[11].
-
تعزيز الصادرات العسكرية الروسية إلى القارة الأفريقية، إذ تعد القارة السمراء سوقًا كبيرة على الساحة الدولية، وهو الأمر الذي تسعى موسكو لاستغلاله وتعزيز صادراتها العسكرية، وزيادة حجم مبيعات الأسلحة الروسية إلى السوق الأفريقية، بحجة مواجهة الجماعات المسلحة ومخاطر الإرهاب، فضلًا عن توسيع نفوذها العسكري والأمني داخل القارة، لاسيما في ظل الصراع القائم بين الدول الكبرى. ورغم أن الحرب الروسية- الأوكرانية تسببت في انخفاض حجم مبيعات الأسلحة الروسية، فإنها لاتزال أكبر مصدر للأسلحة داخل القارة الأفريقية.
أصبحت موسكو تسيطر، في الوقت الراهن، على نصف الواردات الأفريقية من السلاح؛ فضلًا عن كون القارة ثاني أكبر جهة مستوردة للأسلحة الروسية بعد قارة آسيا؛ فقد وصلت نسبة مبيعاتها من الأسلحة داخل أفريقيا إلى نحو 40%، في حين بلغت نسبة مبيعات الولايات المتحدة الأمريكية نحو 16%، وفرنسا نحو 8%، والصين نحو 1%، فضلًا عن تصاعد نفوذ قوات “فاغنر” داخل العديد من الدول الأفريقية، والتي ينظر إليها على أنها أداة غير رسمية للسياسة الخارجية لموسكو، بالإضافة إلى كونها جهازًا أمنيًا للدول الأفريقية في مواجهة الجماعات المسلحة والإرهابية[12].
- الاستفادة من الكتلة التصويتية الأفريقية في المحافل الدولية، حيث تسعى موسكو، من خلال تعزيز علاقاتها مع الدول الأفريقية، إلى الاستفادة من الكتلة التصويتية لتلك الدول، التي يبلغ تعدادها (54 دولة)، نظرًا لما تمتلكه هذه الدول من تأثير كبير على المستوى الدولي، خاصة في المحافل الدولية. برزت أهمية هذا الدور الأفريقي بالنسبة لروسيا خلال حربها مع أوكرانيا، لاسيما خلال تصويت الدول الأفريقية على قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة، حيث أدانت معظم تلك الدول العملية العسكرية التي قامت بها روسيا في أوكرانيا، فضلًا عن أن نسبة تصويت الدول الأفريقية على قرار الجمعية العامة بلغت نحو 27,97% من إجمالي نسبة الأصوات[13].
- استفادة القارة من تحقيق تمثيل دائم في مجلس الأمن: في هذا الصدد، ومن خلال الكتلة التصويتية للقارة، يمكنها تعزيز العلاقات مع روسيا من خلال استمرار عقد القمم الثنائية، وكسب الموقف الروسي لدعم القارة في توظيف مقعد دائم لها بمجلس الأمن الدولي، حيث تهدف موسكو أيضًا إلى تعزيز علاقاتها مع الدول الأفريقية في الأمم المتحدة، لاسيما فيما يتعلق بتقديم الدعم في عمليات حفظ السلام. وربما تستغل الدول الأفريقية موقف الرئيس الأمريكي “جو بايدن”، الذي أكد دعم بلاده في حفظ حق أفريقيا في حصولها على تمثيل دائم بمجلس الأمن، خلال القمة الأمريكية- الأفريقية، التي عقدت في ديسمبر 2022، فضلًا عن دعم حق أفريقيا في الانضمام إلى مجموعة العشرين (G 20)[14].
- العمل على مواجهة التحديات المرتبطة بالإرهاب داخل القارة، حيث يعد هذا الأمر ضروريًا وحيويًا بالنسبة لعدد من الدول داخل القارة الأفريقية، لاسيما في ظل استمرار حالة عدم الاستقرار داخل مناطق إفريقية عدة. بالإضافة إلى ذلك، يعد المحور الأمني من أهم محاور اهتمام روسيا بالقارة الأفريقية، من أجل تعزيز وجودها فيها. ونتيجة لتصاعد الجماعات الإرهابية، استطاعت موسكو تعزيز وجودها بالقارة، من خلال تعزيز حجم صادرات الأسلحة الروسية واحتلالها قمة الدول المصدرة للأسلحة. نتيجة لذلك، تعهدت موسكو في وقت سابق بضرورة إرسال الأسلحة الروسية إلى أفريقيا مجانًا؛ من أجل تعزيز حالة الاستقرار فيها، وكذلك فتح مجالات جديدة من التعاون العسكري في القارة، فضلًا عن تعزيز التعاون مع الأجهزة الأمنية والاستخباراتية داخل الدول الأفريقية، مستغلة وجود قوات فاغنر داخل عدد منها[15].
التداعيات المحتملة
يمكن القول إن التوترات الأخيرة بين أوكرانيا من جانب، والنيجر ومالي من جانب آخر، والتي أدت إلى إنهاء دولتي الساحل الأفريقي العلاقات الدبلوماسية مع كييف، دفعت إلى العديد من التداعيات على المستويات المحلية والإقليمية والدولية. ويمكن تناول هذه التداعيات فيما يلي:
- زيادة الاضطرابات الداخلية في دولتي الساحل، لاسيما داخل مالي، التي تعرضت قواتها العسكرية لهزيمة كبيرة على يد فصائل الأزوادية المسلحة، وهو الأمر الذي يمكن أن يسلط الضوء على قدرات النظام المالي، وزيادة مخاوف الرأي العام الداخلي بشأن ضعف القوات العسكرية للجيش، وعدم قدرة الحليف الروسي على مواجهة التهديدات المسلحة التي تتعرض لها البلاد، وهو ما يمكن تناوله على أنه تكرار للفشل الفرنسي في تطويق الإرهاب. وربما يقوض هذا الأمر الشرعية السياسية للنظام العسكري الحاكم خلال الفترة المقبلة، لاسيما أن صعوده إلى السلطة عقب الانقلاب العسكري في البلاد جاء نتيجة إخفاق النظام الحاكم السابق في القضاء على الإرهاب في شمال ووسط البلاد.
- زيادة حالة العداء الأفريقي للدول الغربية؛ حيث من المتوقع أن تسلط دولتا الساحل الضوء على أن الدول الغربية تعمل على تأجيج الصراعات داخل منطقة الساحل الأفريقي؛ لتحقيق عدم الاستقرار ومنع دول المنطقة من المُضي قُدمًا نحو تحقيق التنمية. سيدفع ذلك الأمر إلى تجدد الخطابات التي تنادي بضرورة لاستغناء عن الغرب والتحول إلى حلفاء دوليين جدد موثوق بهم؛ ما يفاقم في الوقت نفسه من السخط والرفض الشعبيين إزاء الدول الغربية، وهو ما سوف يعزز من مكانة موسكو في المنطقة، رغم الإخفاق في القضاء على المتمردين بشمال البلاد.
- إبراز أهمية التحالف الثلاثي الإقليمي لدول الساحل بين النيجر وبوركينا فاسو ومالي: قد تؤدي هذه التوترات إلى زيادة التقارب بين تحالف كونفيدرالية دول الساحل؛ للعمل على تعزيز أهدافها، واتخاذ خطوات سريعة وجادة نحو تفعيل واستكمال التحالف، ليكون مؤهلًا وقادرًا على مواجهة التحديات التي تواجه دوله، ما من شأنه أن يعزز قوته على الصعيد الإقليمي، وربما يقود إلى فتح المجال أمام دول أخرى لدخول أعضاء جدد؛ من أجل مواجهة التحديات الأمنية التي تتورط فيها بعض الأطراف الدولية[16].
- الإضرار بسمعة أوكرانيا داخل القارة الأفريقية: قد تنجح دولتا الساحل في تسليط الضوء على أن أوكرانيا تدعم الإرهاب، وهو ما يؤدي لنتائج عكسية ضدها في أفريقيا، وربما إلى زيادة السخط الشعبي والرأي العام الأفريقي ضد جهود كييف الرامية لتعزيز علاقاتها بالدول الأفريقية لمصلحة موسكو؛ حيث يتم الترويج لمحاولة أوكرانيا زعزعة استقرار الدول الأفريقية، وهو ما قد يعرقل تحركات كييف التي بدأت في بناء علاقات دبلوماسية مع الدول الأفريقية في الآونة الأخيرة.
- تنامي التوترات بين دول الساحل والدول الغربية، حيث من المرجح أن تؤدي هذه التوترات إلى زيادة حالة الاحتقان بين مالي والنيجر ضد الدول الغربية، لاسيما بعد إظهار أوكرانيا على أنها داعمة للإرهاب ضد الدول الأفريقية، وهو ما قد يثير غضب الدول الغربية الرافضة لهذه الادعاءات، خاصة في التوقيت الحرج الذي تشهده كييف في ظل تصاعد أعمال العنف مع موسكو في مناطق روسية عدة. وربما تقود هذه الأوضاع إلى تعميق الفجوة بين الطرفين، بما يخدم مصالح دول أخرى، من شأنها زيادة الاحتقان بين الغرب والدول الأفريقي، لاسيما إيران وروسيا والصين.
ختامًا، يمكن القول إن هذه التطورات من شأنها أن تثير المخاوف بشأن تنامي التنافس وحرب النفوذ بين روسيا وأوكرانيا في أفريقيا، خاصة في ظل رغبة الولايات المتحدة والدول الغربية الحليفة لها في استعادة نفوذها بالقارة بعد انسحابها من دول الساحل والصحراء، في الوقت الذي تسعى فيه موسكو إلى تعزيز مكانتها بالقارة، وهو ما قد يؤدي إلى مزيد من التصعيد بينها وبين كييف في الصراع على النفوذ في منطقة الساحل الأفريقي، على خلفية تصاعد وتيرة الحرب الروسية –الأوكرانية من جديد.
هذا، ولا يزال تأثير التحركات الأوكرانية داخل القارة الأفريقية محدودًا، بالنظر إلى التحركات الاستراتيجية التي تقوم بها روسيا في القارة؛ حيث نجحت في تعزيز نفوذها بشكل كبير داخل المنطقة، من خلال تعزيز الشراكات الاقتصادية ودعمها للتحولات الديمقراطية في دول عدة، وكذلك الاتفاقيات العسكرية والزيارات الدبلوماسية الأخيرة. فضلًا عن ذلك، يمكن القول إن موسكو استطاعت ترسيخ بعض الأفكار لدول القارة بأن أوكرانيا تعد وكيلًا للدول الغربية في المنطقة، وصورة أخرى من صور الاستعمار، لاسيما بعد خفوت دور الدول الغربية، وفي مقدمتها فرنسا والولايات المتحدة الأمريكية. فضلًا عن ذلك، لاتزال كييف تواجه مجموعة من التحديات التي قد تعرقل تقدمها في القارة، إضافة إلى أن وجودها في القارة الأفريقية لايزال يفتقر إلى العديد من المقومات والاستراتيجية الواضحة الرامية لتعزيزه، وذلك مقارنة بروسيا، التي نجحت أخيرًا في استغلال الخروج الغربي من القارة، وإظهار نفسها كشريك قوي لدول المنطقة، وداعمٍ للتنمية الأفريقية في مختلف المجالات التنموية.
[1] ــــ “هجوم أوكراني “ضخم” بمسيّرات على منطقة ليبيتسك الروسية”، سكاي نيوز عربية، 9 أغسطس 2024، https://shorturl.at/PntMm
[2] Aanu Adeoye, “Niger joins Mali in severing diplomatic ties with Ukraine”, The Financial Times, 7 August 2024, https://shorturl.at/9b1oZ
[3] Pavel Polityuk, “Ukraine foreign minister heads to Africa to win support in war against Russia”, Reuters, 4 August 2024, https://shorturl.at/JTiNa
[4] ـــــ”الجيش الأمريكي يكمل انسحابه من قاعدة جوية مهمة في النيجر”، دويتشه فيله، 8 يوليو 2024، https://shorturl.at/TKkZO
[5] ـــــ”لماذا قطعت مالي علاقتها الدبلوماسية بأوكرانيا؟”، مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، 7 أغسطس 2024 https://shorturl.at/FG8e2
[6] ـــــ”ECOWAS opposed foreign interference in Mali’s affairs”, Russian news agency -African Initiative, 6 Aug 2024, https://shorturl.at/eZ5MV
[7] ـــــ”روسيا تتهم أوكرانيا بفتح جبهة ثانية في إفريقيا عبر دعمها جماعات إرهابية”، قراءات إفريقية، 7 أغسطس 2024 https://shorturl.at/lAOZg
[8] ـــــ “ECOWAS opposed foreign interference in Mali’s affairs”, Op.cit.
[9] French military expert urged to help Ukraine fight Russian Federation in Africa, Russian news agency – African Initiative, Aug 2024, https://shorturl.at/YXMi5
[10] سلطات مالي تطالب السفير السويدي بمغادرة البلاد، روسيا اليوم، 9 أغسطس 2024. https://shorturl.at/EsEBM
[11] فاروق حسين أبوضيف، “القمة الروسية – الإفريقية الثانية .. سياقات الانعقاد والمكاسب المشتركة”، مجلة السياسة الدولية، مصر: مؤسسة الأهرام، المجلد 58، العدد 234 – أكتوبر 2023، ص209 – 210.
[12] Maria Katamadze, “Russia-Africa summit: Who stands to gain what?”, DW, 26 July 2023. https://shorturl.at/GpFxn
[13] Mahama Tawat, “Russia-Ukraine war: decoding how African countries voted at the UN”, the conversation, March 2023. https://bit.ly/40VCpUn
[14] ـــــ”هل تعيد قمة واشنطن تعزيز الدور الأمريكي في إفريقيا؟”، مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، 11 يناير 2023. https://bit.ly/3KMWdUx
[15] ـــــ”هل تعيد قمة واشنطن تعزيز الدور الأمريكي في إفريقيا؟”، مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، 11 يناير 2023. https://bit.ly/3KMWdUx
[16] Sahel military chiefs form confederation, cement exit from West Africa bloc, Voice of America (VOA), 5 July 2024, https://rb.gy/eznlvg