شهدت الساحة السورية تصعيدًا عسكريًا جديدًا يعكس -كما يبدو- تحولًا جذريًا في مسار الصراع في سوريا، الذي بدأ منذ أكثر من 13 عامًا، وخلف أكثر من نصف مليون قتيل وما يزيد على 12 مليون نازح داخليًا وخارجيًا. وقد جاء هذا التحول على يد المعارضة المسلحة، بقيادة هيئة تحرير الشام، حيث شنت هجومًا مباغتًا، هو الأكبر من نوعه منذ اتفاق وقف إطلاق النار في مارس 2020، سيطرت فيه على حلب وكامل محافظة إدلب، وتستمر في تقدمها نحو حماة. وقد أسهم اتفاق وقف إطلاق النار المذكور، بوساطة روسيا وتركيا، في تهدئة الوضع لفترة. بيد أنّ التطورات الأخيرة تُظهر أن التوترات ماتزال قائمة، وأن “هيئة تحرير الشام” تسعى لإعادة تشكيل موازين القوى في سوريا.
تأسست هيئة تحرير الشام”، التي تقود هذا الهجوم، عام 2011 تحت اسم “جبهة النصرة” كفرع لتنظيم القاعدة قبل أن تنفصل عنه عام 2016 بقيادة أبو محمد الجولاني. وقد أصبحت الهيئة القوة المهيمنة في محافظة إدلب، التي يقطنها نحو أربعة ملايين شخص، أغلبهم نازحون، حيث تدير الإدارة المحلية بحكم الأمر الواقع، رغم اتهامها بانتهاكات لحقوق الإنسان. ومنذ انفصالها عن القاعدة، ركزت الهيئة على إقامة حكم إسلامي في سوريا بدلًا من السعي لإقامة خلافة عالمية، كما حاول تنظيم داعش.[1] وفي العملية العسكرية التي يُطلق عليها “ردع العدوان” في عدة مناطق في شمال غربي سوريا، تتحالف عدة فصائل، أبرزها الجبهة الوطنية للتحرير وجيش العزة وبعض فصائل الجيش الوطني السوري الموالي لتركيا، مع هيئة تحرير الشام[2].
تسعى هذه الورقة إلى تحليل أبعاد العملية العسكرية الأخيرة للمعارضة المسلحة في شمال غرب سوريا، عن طريق استعراض التطورات الميدانية، والأسباب الكامنة وراء التصعيد العسكري، وتداعياته السياسية والإقليمية المحتملة. كما تهدف الورقة إلى تسليط الضوء على التحولات في ديناميات الصراع السوري وسيناريوهاته المستقبلية.
أولًا- العملية العسكرية وأهدافها وتطوراتها:
في تطور مفاجئ هو الأكبر منذ سنوات، شنت عدة فصائل سورية مسلحة بقيادة “هيئة تحرير الشام”، في 27 نوفمبر 2024، هجومًا واسع النطاق على القوات السورية؛ ما أدى إلى سيطرتها على حلب، ثاني أكبر مدن سوريا، وكامل محافظة إدلب، والتقدم نحو حماة جنوبًا.
وأعلنت الفصائل المسلحة أنّ هدفها توجيه “ضربة استباقية لقوات النظام السوري وميليشياته”، والدفاع عن المدنيين في وجه تهديد الحشود العسكرية للقوات السورية، وإعادة المهجّرين إلى ديارهم. كما أعلنت الفصائل أيضًا أنها تسعى لإبعاد نفوذ القوات السورية والميليشيات الإيرانية والشيعية المتحالفة معها عن مناطق سيطرة الفصائل بشمال غربي سوريا.
وقد حققت هذه الفصائل تقدمًا سريعًا خلال الأيام الأولى، حيث تمكنت المعارضة من إحكام سيطرتها على مناطق واسعة شملت وسط مدينة حلب ومعظم أحيائها الغربية و70 موقعًا عسكريًا في ريفي حلب وإدلب، إضافة إلى مواقع بارزة مثل قلعة حلب، والجامع الأموي، ومبنى محافظة حلب. وبعد إحكام السيطرة على معظم حلب، أعلنت فصائل المعارضة السورية المسلحة عن بدء توغلها في مدينة حماة، مشيرة إلى انسحاب القوات السورية من المدينة. في المقابل، نفت وزارة الدفاع السورية هذه الادعاءات، مؤكدة أن قواتها لم تنسحب من حماة، وأنها -بالتعاون مع القوات الروسية- تشن غارات تستهدف ما وصفته بـ”المجموعات الإرهابية” وخطوط إمدادها، وأنها تمكنت من استعادة السيطرة على قرى بريف حماة كانت قد سيطرت عليها هذه المجموعات[3].
وقد أطلقت فصائل مسلحة سورية موالية لأنقرة، أبرزها الجيش الوطني، عملية عسكرية أخرى باسم “فجر الحرية”، في 30 نوفمبر الفائت، بريف حلب الشرقي والشمالي، ضد القوات السورية وقوات سوريا الديمقراطية “قسد”. وقد تمكن الجيش الوطني والفصائل الموالية لتركيا من السيطرة على بلدتي السفيرة وخناصر الاستراتيجيتين، إضافة إلى مطار كويرس العسكري، بعد اشتباكات خاضتها مع قوات الجيش السوري، وكذلك السيطرة على مدينة تل رفعت الاستراتيجية وانتزاعها من أيدي القوات الكردية. يُذكر أنّ تحرك الجيش الوطني الموالي لتركيا جاء خشية أنْ تستغل قوات قسد التطورات في شمال سوريا، وتنشئ ممرًّا يصل مدينة تل رفعت الواقعة شمال مدينة حلب بمناطق شمال شرقي سوريا.
وقد لاحظ المراقبون التفكك السريع للجيش السوري وانهيار خطوطه الأمامية ومواقعه الدفاعية وانسحاب قواته من دون الكثير من المقاومة أمام هجوم الفصائل السورية، التي كانت تتقدم جنوبًا نحو مدينة حماة، بعد سيطرتها على مدينة حلب، باستثناء حيين يقطنهما الأكراد وتسيطر عليهما “قسد”[4].
والواقع أنّ هجوم السابع والعشرين من نوفمبر يُعد أول اختراق رئيسي لخطوط التماس في محافظة إدلب، منذ اتفاق وقف إطلاق النار الذي رعته روسيا وتركيا في مارس 2020. وجاء الهجوم المفاجئ على حلب بعد هدوء نسبي دام 4 سنوات، حيث استقرت سيطرة الجيش السوري على المدن الكبرى بدعم من القوة الجوية الروسية والميليشيات الإيرانية وحزب الله اللبناني.
وبرغم إصدارها تعليمات لقواتها بالانسحاب الآمن من المناطق التي سيطرت عليها المعارضة، فقد اتخذت الحكومة السورية وحلفاؤها عدة إجراءات عسكرية لاحتواء الموقف[5]، حيث شنت الطائرات الحربية الروسية والسورية غارات مكثفة على مواقع المعارضة في حلب وإدلب وريف حماة الجنوبي والشمالي، هي الأولى من نوعها منذ عام 2016. وأعلنت الحكومة السورية عن إرسال تعزيزات عسكرية إلى حماة؛ لتعزيز خطوط الدفاع واستعادة المناطق التي خسرتها. وقد أكد الكرملين دعمه لاستعادة الحكومة السورية السيطرة على المناطق التي فقدتها.
ثانيًا- توقيت هجمات المتمردين وأسبابها:
وقبل الحديث عن تداعيات هجمات المعارضة السورية المسلحة، يثور التساؤل عن توقيت هذه الهجمات عقب دخول اتفاق وقف إطلاق النار بين إسرائيل وحزب الله حيز التنفيذ مباشرة.
لا شك أن اختيار المعارضة السورية المسلحة هذا التوقيت لتنفيذ هجماتها ضد القوات السورية لم يكن عشوائيًا، بل جاء نتيجة عوامل داخلية وإقليمية ودولية متشابكة وفرت لها فرصة استراتيجية للقيام بعملية عسكرية واسعة. ويمكن تفسير ذلك من خلال النقاط التالية:
1. عف قدرات حلفاء سوريا: إيران وحزب الله:
فقد شهدت الشهور الأخيرة تراجعًا واضحًا في قوة حليفَيْ الحكومة السوريّة الأساسيين ونفوذهما؛ وهما إيران وحزب الله. فالحزب ركز جهوده، منذ أكثر من عام، على مواجهة التصعيد الإسرائيلي في لبنان؛ ما أجبره على سحب جزء كبير من قواته من سوريا للتركيز على الجبهة اللبنانية. وهذا الانسحاب ترك فراغًا كبيرًا في الجبهة السورية. وتعرضت إيران لضغوط كبيرة؛ بسبب الضربات الجوية الإسرائيلية التي استهدفت قياداتها العسكرية ومواقعها الاستراتيجية في سوريا؛ ما أضعف قدراتها اللوجستية والعسكرية، إضافة إلى أنّ تصاعد المواجهة بينها وبين إسرائيل أثر على دعمها للقوات السورية في معارك حاسمة، مثل تلك التي شهدتها حلب[6]؛ ولعل ذلك هو ما أغرى المعارضة المسلحة باستغلال اللحظة لتوسيع نفوذها. ولن يكون بمقدور إيران دعم سوريا بنفس الزخم الذي حدث من قبل في عام 2015 أو ما بعدها. أضف إلى ذلك معاناة الجيش السوري من تفشي الفساد وضعف التنسيق بين قواته، فضلًا عن سيادة تصوُّر خاطئ لدى القيادة السورية بأنّ الحرب انتهت لمصلحتها، وأنّ إدلب لم تعد مصدر تهديد رئيسي؛ ما جعل جيشها غير قادر على الصمود أمام الهجوم الأخير[7].
2. انشغال روسيا في حرب أوكرانيا:
أدى انشغال روسيا بحربها في أوكرانيا منذ عام 2022 إلى تقليص اهتمامها بالمشهد السوري، ومن ثَمّ تقليص دعمها المباشر للحكومة السورية، حيث سحبت أنظمة دفاع جوي متقدمة، مثل نظام S-300، ووجهت مواردها نحو الجبهة الأوكرانية. وقد ولجت الحرب الروسية-الأوكرانية في مرحلةٍ غير مسبوقةٍ من التصعيد العسكري منذ 17 نوفمبر المنصرم؛ ففي تغير رئيسي لسياستها تجاه الحرب، سمحت الولايات المتحدة للقوات الأوكرانية باستخدام الصواريخ الأمريكية بعيدة المدى من طراز “أتاكمز” لضرب أهدافٍ في العمق الروسي، ثم تبعتها المملكة المتحدة وفرنسا، اللتان أعطتا الإذن لأوكرانيا باستخدام صواريخ “ستورم شادو”. ولم تتردد أوكرانيا في استخدام الصواريخ الغربية الطويلة المدى ضد أهداف في كورسك وأوريانسك المجاورة. وقد ردت روسيا على القرارات الغربية بتعديل عقيدتها النووية، ومن ثم التهديد باستخدام الأسلحة النووية ضد أوكرانيا ومن يساندها، وبتكثيف حملتها الجوية والصاروخية على مناطق واسعة في أوكرانيا، بما في ذلك العاصمة كييف، وتوظيف الصاروخ الباليستي المتوسط المدى “أوريشنك” لأول مرة في الحرب ضد مدينة دنيبرو الأوكرانية. وتبادل الطرفان الروسي والأوكراني ضربات جوية مكثفة، ضد البنية التحتية والأهداف العسكرية واللوجستية لعبت فيها الطائرات المسيّرة دورًا رئيسيًّا، وإن كانت الضربات الروسية أكثر كثافةً وأوسع نطاقًا[8].
ومن ثم، فإن الدعم الجوي الروسي، الذي كان حجر الزاوية في انتصارات الحكومة السورية السابقة، أصبح أقل فعّالية. فقد لوحظ أنّ قاعدتي طرطوس واللاذقية الروسيتين لم تؤديا دورًا مؤثرًا في العمليات العسكرية ضد الفصائل المسلحة بقيادة جبهة تحرير الشام، خاصة في حلب؛ وهو ما جعل الجيش السوري أكثر عرضة للهجمات. وقد رافق هذا التصعيدَ في حرب أوكرانيا زيادةٌ في مستوى الصراع بين روسيا والدول الغربية إلى درجةٍ غير مسبوقة منذ نهاية الحرب الباردة. والخلاصة أنّ تركيز روسيا على صراعاتها الأوروبية خلق فراغًا في سوريا يمكن للمعارضة استغلاله لتحقيق مكاسب ميدانية.
3. التغيرات الإقليمية:
ربما عمدت الفصائل السورية المسلحة إلى استباق أية مصالحة سورية-تركية محتمَلة لتعزيز مواقعها قبل أن تتغير موازين القوى الإقليمية. وربما كان لتطبيع العلاقات بين سوريا والدول العربية، وخصوصًا تقوية علاقاتها مع دول مجلس التعاون الخليجي، دور في محاولة الحكومة السورية تقليل اعتمادها على إيران وحزب الله. كما لعب التهديد الإسرائيلي أيضًا دورًا في تقليل الوجود الإيراني في ريف حلب. على الجانب الآخر، دعمت تركيا -رغم محاولات تهدئة الوضع- المعارضة المسلحة الموالية لها للحفاظ على توازن القوى ضد النفوذين الإيراني والكردي في شمال سوريا. وهناك من يرى أنّ مثل هذا الهجوم لم يكن ليتم دون معرفة تركيا، بالنظر إلى نفوذها الكبير في المنطقة. وقد تكون أنقرة رأت في هذا التصعيد فرصة لتعزيز نفوذها في الشمال السوري وتخفيف التهديدات الأمنية على حدودها، في حين استغل التحالف الجديد هشاشة الموقف العسكري للحكومة السورية لإحداث هذا الاختراق المفاجئ.
4. غياب الاهتمام الدولي:
كما أن تراجع الاهتمام الدولي عمومًا بالأزمة السورية قد لعب دورًا كذلك في تعزيز الفوضى داخل البلاد. ومع انشغال المجتمع الدولي بقضايا أخرى مثل الحرب في أوكرانيا والصراعات الإقليمية الأخرى، أصبحت سوريا ساحة مفتوحة للقوى الإقليمية، مثل تركيا وإيران وروسيا. هذا الغياب الدولي شجع المعارضة على استغلال الظروف المحلية والإقليمية لإعادة ترتيب صفوفها والمبادرة بالتصعيد الميداني.
ثالثًا- تداعيات هجوم 27 نوفمبر وآفاقه:
ربما يكون أول تداعيات هجوم الفصائل المسلحة في 27 نوفمبر هو تغيير خريطة السيطرة العسكرية في شمال وشمال غرب سوريا؛ فمنذ فبراير 2020، استقرت خريطة السيطرة العسكرية في سوريا دون تغييرات كبيرة في خطوط التماس بين الأطراف المتصارعة، لكنّ الهجمات الأخيرة للمتمردين أدت إلى تحركات ميدانية لافتة، أبرزها سيطرة المعارضة المسلحة على مدينة حلب. وتتوزع مناطق السيطرة الحالية كما يلي:
- المعارضة المسلحة: عدا سيطرتها على حلب، توسعت مناطق نفوذها لتشمل أجزاء كبيرة من شمال وشمال غرب سوريا، بما في ذلك أجزاء من محافظات إدلب وحلب وربما حماة. ففي اليوم الثالث للعملية، حيث كان التقدُّم أسرع من اليومين السابقين بسبب الانهيارات الواسعة في صفوف قوات الحكومة السورية، التي وجَّهت مجموعاتها في مدينة حلب إلى الانسحاب إلى مدينة السفيرة، أعلنت الفصائل المسلحة السورية المعارضة عن دخول مدينة حلب ثم مدينة سراقب.
- قوات الحكومة السورية: تسيطر على العاصمة دمشق ومحيطها، بالإضافة إلى مناطق في وسط وجنوب البلاد، مثل حمص وحماة ودرعا.
- قوات سوريا الديمقراطية (قسد): تسيطر على معظم مناطق شمال شرق سوريا، بما في ذلك أجزاء من محافظات الحسكة والرقة ودير الزور.
- القوات الأجنبية: تحتفظ كل من الولايات المتحدة وتركيا وروسيا وإيران بوجود عسكري في مناطق مختلفة من سوريا، حيث تمتلك روسيا 21 قاعدة و93 نقطة عسكرية موزعة على عدة محافظات، بينما تراجع عدد المواقع العسكرية الإيرانية من 570 إلى 529 موقعًا، انظر الخريطة التالية:
خريطة السيطرة العسكرية في شمال غرب سوريا
وبالإضافة إلى تغيير خريطة السيطرة العسكرية، أعاد النجاح السريع لهجوم الفصائل المسلحة بزعامة “هيئة تحرير الشام” صياغة دينامية الحرب الأهلية السورية[9]. ويبدو أنّ الأزمة المركَّبة في سوريا تشهد تحولًا كبيرًا يتعلق أساسًا بموازين القوة الهشة في البلاد، عقب تقدم الفصائل المسلحة في ريفَيْ حلب وحماة. فقد تمكنت الأخيرة من استعادة زمام المبادرة بعد سنوات من الجمود النسبي والحرب الموضعية. كما أنّ نجاح المعارضة المسلحة في تحقيق مكاسب ميدانية كبيرة يشير إلى قدرة متزايدة على التنسيق واستغلال نقاط الضعف لدى قوات الحكومة السورية وحلفائها؛ ما يهدد توازن القوى الحالي، ويعيد فتح ملفات الصراع المعقدة.
لا يثير تصاعد القتال في شمال سوريا المخاوف من احتمالات إعادة فتح جبهة عنيفة أخرى في الشرق الأوسط وحسب، لكنه يلفت الانتباه أيضًا إلى الكيفية التي سعى بها أبو محمد الجولاني، زعيم “هيئة تحرير الشام”، لإعادة تشكيل تنظيمه داخل سوريا؛ فخلال السنوات الأخيرة قاد الجولاني تحولات جذرية عن طريق تحالفات مع الفصائل المحلية، وإعادة هيكلة المجلس العسكري تحت مسمى “غرفة الفتح المبين”، التي تضم أكثر من 26 فصيلًا[10]. وركز الجولاني تنظيمه على تعزيز ما يسمى “حكومة الإنقاذ” داخل المناطق الخاضعة لسيطرتهم، وشن حملة صارمة على بعض الجماعات المتطرفة هناك، عقب إعلانه فك الارتباط مع تنظيم القاعدة. كما أخذ الجولاني يصور نفسه على أنه حامي الديانات الأخرى، حتى أنه سمح العام الماضي بإقامة أول قداس مسيحي في مدينة إدلب منذ سنوات. ومع ذلك، من الصعوبة بمكان التصديق بأن فصيله قد تخلص بالفعل من أيديولوجيته المتطرفة.
كما أن سيطرة المعارضة على مواقع استراتيجية تكشف عن ضعف تمركز القوات السورية، التي تواجه تحديات لوجستية ومعنويات متراجعة. وهذا الضعف يعكس الضغوط الاقتصادية والسياسية على الحكومة السورية، إضافة إلى الإنهاك الطويل الأمد لقواتها، وهو ما قد يمنح المعارضة فرصة لمواصلة الضغط وتوسيع سيطرتها.
وقد تستغل المعارضة نجاحها الأخير لتحقيق مكاسب إضافية، في حين أن الحكومة السورية تسعى لتعويض خسائرها بهجمات مضادة بدعم من روسيا وإيران؛ ما يعني أننا أمام تصعيد جديد في الصراع، مع احتمالات استمرار القتال، وربما تغييرات جذرية على الأرض تدفع نحو تسوية سياسية.
والأخطر من ذلك أنّ هذه التطورات العسكرية في شمال سوريا، سواء على صعيد عملية “ردع العدوان” أو عملية “فجر الحرية”، التي تتزامن مع هجمات لمجموعاتٍ مسلحة محلية في السويداء ودرعا جنوبي البلاد على قوات الجيش السوري ومقرات أمنية، تُهدد بتجدد الحرب الأهلية السورية في جولةٍ ثانية، سوف يكون المدنيون أكبر ضحاياها. وتشير المعطيات الراهنة داخل سوريا إلى أن الصراع الجاري له عواقب وخيمة حقًّا، بل وربما يغير قواعد اللعبة إذا أثبتت قوات الحكومة السورية عدم قدرتها على الصمود. وستشمل هذه المخاطر تنظيم داعش الذي قد يرى مقاتلوه أن ما يحدث الآن يُعدُّ فرصة مواتية يتعين عليهم انتهازها واستغلالها. وهناك تقارير تتحدث عن محاولات من الحرس الثوري الإيراني لإعادة ترتيب صفوفه، بالاستعانة بالمجموعات العراقية التي سينقلها من المناطق الشرقية إلى محافظة حلب.
ومن التداعيات الأخرى، ستهدد هذه الهجمات خطوط الإمداد الإيرانية إلى لبنان، والتي تعد بالغة الأهمية لقدرة طهران على إعادة تسليح وإمداد حزب الله في لبنان بعد حربه مع إسرائيل. كما قد يصبح التماسك الداخلي للحكومة السورية موضع تساؤل وسط عجز الجيش السوري عن صد الانتفاضات المحتملة الأخرى في جميع أنحاء البلاد[11].
خاتمة:
من المرجح، مع استمرار تطور هجوم 27 نوفمبر، أن تقع أجزاء كبيرة من الأراضي السورية تحت سيطرت الفصائل المسلحة بقيادة جبهة تحرير الشام، قبل أن يصلوا إلى الإرهاق العملياتي[12]، ومع ذلك، فإنّ قدرة هذه الفصائل على الحفاظ على مكاسبها تظل موضع تساؤل.
ومن المرجح أيضًا أن تتمكن الفصائل المسلحة الموالية لتركيا من توسيع مناطق سيطرتها في الشمال السوري، وأن تمنع قوات سوريا الديمقراطية “قسد” من تعزيز نفوذها في الشمال الشرقي. وربما يكون ذلك تنفيذًا لهدف أنقرة بتأسيس منطقة عازلة في الأراضي السورية لحماية حدودها من تهديدات حزب العمال الكردستاني والفصائل الكردية السورية المتحالفة معه، إلا إذا تم تطبيع العلاقات بين أنقرة ودمشق، واتفقتا على خطة بديلة لتأمين الحدود المشتركة والعمل ضد قوات “قسد”.
لكن التغيير الجاري في شمال سوريا يطرح تساؤلات حول مدى ارتباطه بالتغيير المحتمل في السياسة الأمريكية تجاه سوريا، وأن الفصائل المسلحة وداعميها، وعلى رأسهم تركيا، ربما أرادت استباق تنصيب الرئيس دونالد ترامب، وهي تعلم أنه يحبذ سحب القوات الأمريكية من شمال سوريا، وقد سعى من قبل إلى سحبها في عامي 2018 و2019.
[1] Sebastian Usher, Who are Hayat Tahrir al-Sham?, BBC, 30 November 2024:
https://www.bbc.com/news/articles/ce313jn453zo
[2] هيبار عثمان، “إعلان بـ”التعبئة العامة”.. المعارضة السورية تعلن تقدمها.. والنظام يجهز الرد”، الحرة، 1 ديسمبر 2024، https://shorturl.at/kTVXt .
[3] الدفاع السورية تنفي شائعات انسحاب الجيش من حماة، سبتمبر 26، 30 نوفمبر 2024:
https://26sep.net/index.php/local/92825-2024-11-30-19-17-54?utm_source=chatgpt.com
[4] Stratfor, “Syria: Government Forces Crumble in Northwest as Aleppo Falls,” November 30, 2024, https://shorturl.at/ghhNB
[5] Reuters,
https://www.reuters.com/ar/world/PKUMBPQAO5KTLCR2TZ5D3PPKYA-2024-11-29/?utm_source=chatgpt.com
[6] سي إن إن عربية، 29 نوفمبر 2024:
[7] الجزيرة، 30 نوفمبر 2024:
[8] Institute for the Study of War (ISW), “Russian Offensive Campaign Assessment, November 17, 2024, https://shorturl.at/lT2dY; —-, November 18, 2024, https://shorturl.at/S5llZ; —-, November 19, 2024, https://shorturl.at/MnYjS .
[9] Stratfor, “Syria: Government Forces”.
[10] سكاي نيوز عربية، “هيئة تحرير الشام والفصائل.. أسرار العودة والتمويل الخارجي،” 1 ديسمبر 2024، https://shorturl.at/pPWVK .
[11] Stratfor, “Syria: Government Forces”.
[12] Stratfor, “Syria: Government Forces”.