في مواجهة احتدام الصراع الجيوسياسي بين الولايات المتحدة والصين في جنوب شرقي آسيا، وردًّا على تكتيكات المنطقة الرمادية[1] التي تمارسها الصين في الإقليم، توثِر معظم دول الإقليم اتباع استراتيجية التحوّط؛ من أجل الحفاظ على استقلالٍ استراتيجي نسبي وتأمين المرونة لسياساتها الخارجية وبناء بيئة إقليمية مستقرة. وهذا ينطوي على انخراط هذه الدول في تفاعلاتٍ تعاونية مع كلتا القوتين الكبريين، وتعزيز القدرات الدفاعية والاقتصادية الذاتية، وتنويع شركائها الخارجيين.
بعبارة أخرى، لا ترغب معظم دول جنوب شرقي آسيا في الانحياز إلى أيٍّ من الولايات المتحدة والصين أو ما يُعرف بمسايرة الركب (Bandwagoning)، أو وضع نفسها في موقف يتطلب الاختيار بينهما. ومن ثم، تلجأ إلى استراتيجية التحوّط في سياساتها الخارجية تجاه كل من القوتين المتنافستين. كيف ذلك؟ ولماذا؟ وهل تستطيع هذه الدول الاستمرار في التحوّط مع اشتداد التنافس بين الولايات المتحدة والصين؟ هذا ما تسعى هذه الورقة للإجابة عنه.
أولًا- استراتيجية التحوّط.. أبعادها وتفسيرها
يشير التحوّط الاستراتيجي Strategic Hedging إلى إحدى الاستراتيجيات التي تلجأ إليها الدول لمتابعة مصالحها القومية، وتنفيذ أهداف سياساتها الخارجية، وصيانة أمنها القومي. ويُقصد بـ “التحوّط الاستراتيجي” أنْ تنخرط الدولة “المتحوِّطة” مع مصدر التهديد لأمنها الوطني لتجنُّب التهديدات أو الدخول في صراعاتٍ غير متكافئة، وفي الوقت ذاتِه تستعد الدولة “المتحوِّطة” لأي مواجهة محتملة من جانب الدولة المُهدِّدة؛ عن طريق تطوير مقدراتها العسكرية والاقتصادية، و/أو الانخراط في تحالفات مع القوى المنافِسة للدولة المُهدِّدة[2].
ولتوضيح طبيعة التهديد الذّي تواجهه الدولة المتحوِّطة، نجد أنّ التهديد الرئيس لا يتمثل في المواجهة المُحتملة مع الدولة الأقوى مصدر التهديد، سواء كانت دولة كبرى أم دولة إقليمية رئيسة؛ فقد تتخذ هذه المواجهة شكل حصار اقتصادي أو مقاطعة دبلوماسية أو حتى صدامات مسلحة. وهكذا، فإنّ سلوك الدولة المتحوِّطة مدفوع بالخوف من صدام محتمل مع الدولة المهدِّدة، في ظلّ وجود فجوة واسعة في القدرات بين الطرفين. وهنا يعمل التحوّط الاستراتيجي على تقليل هذه التهديدات إلى الحد الأدنى، عبر تعزيز القدرات العسكرية للدولة المتحوّطة، مع تجنّب الانخراط في تحقيق التوازن الصَّلْد (Hard Balancing) وتنمية القدرات الاقتصادية بوسائل مختلفة، مثل تنويع مصادر الطاقة وزيادة عدد الشركاء التجاريين واكتساب التكنولوجيا المتقدمة[3]. ويلاحظ أن قبول الدولة بتكاليف إضافية، على المدى القصير، من أجل تعزيز قدراتها الذاتية، خصوصًا العسكرية منها، أقل عبئًا بكثير من تحمّلها تكاليف الصراع المحتملة فجأة مع الدولة المهدِّدة.
ومن استقراء تجارب التحوّط المختلفة، نجد أنّ استراتيجية التحوّط تتضمن عدة أبعاد، أهمها: (1) التعاون الأمني والدفاعي، بما في ذلك انخراط الدولة (الدول) المتحوِّطة في تحالفاتٍ رسمية، مع دولٍ إقليمية أو كبرى مناهضة لسياسات الدولة المهدِّدة؛ (2) تأسيس علاقات تعاونية في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية مع الدولة المهدِّدة؛ (3) التطوير المستمر للقدرات العسكرية الذاتية للدولة، ولاسيما لجهة زيادة التسلح، وما يرتبط بذلك من إعطاء الإنفاق الدفاعي أولوية متقدمة على ما عداه من أوجه الإنفاق العام؛ (4) اتباع سلوك خارجي محايد تجاه الأزمات/الصراعات التي تكون الدولة المهدّدة طرفًا فيها؛ أو ربما اتّباع سلوك خارجي تدخُّلي يرتكز كليةً على أسلوبي الوساطة والمساعي الحميدة. ولكن يجب التأكيد أنّ استراتيجية التحوّط تختلف عن الحياد؛ حيث إنّ الحياد يُجبر الدولة على عدم التدخل في موقف الصراع والتزام سلوك موحد تجاه كافة أطرافه، بينما يتيح لها التحوّط أن تتعاون في الوقت ذاتِه مع كلٍّ من الدولة الخصم والقوة أو القوى المتحالفة ضدها. (5) تلجأ الدولة (الدول) المتحوِّطة إلى الفصل بين القضايا (Issue-areas) وتنويع الشركاء؛ لتوسيع الفضاء الاستراتيجي لسياستها الخارجية. ويُقصد بالفصل بين القضايا أنْ تلجأ الدولة المتحوّطة إلى التحالف مع الدول الأخرى في قضايا مختلفة؛ للاستفادة من إمكاناتها. أما تنويع الشركاء، فيقصد به تطوير علاقات الدولة المتحوّطة مع عدد من الدول من داخل الإقليم وخارجه، في المجالات الاقتصادية والدفاعية والاستراتيجية؛ لتجنُّب الاعتماد على شريكٍ محدد. ويستند تنويع الشركاء إلى نقاط قوة هؤلاء الشركاء وخصائصهم[4]. ويُنظر إلى تنويع الشركاء على أنه نتيجة منطقية أو طبيعية لاستراتيجية التحوّط؛ فرفض المنطق الثنائي (إما الانحياز مع هذه الدولة الكبرى أو تلك) يفتح المجال الاستراتيجي للأطراف الثالثة للانخراط في علاقاتٍ مع الدول المتحوّطة وتزويدها بخيارات استراتيجية بديلة وشاملة[5].
وتأسيسًا على ما سبق، يمكن القول إنّ استراتيجية التحوّط تتضمن خليطًا من التعاون والصراع؛ ولذلك تُوصف بأنها “مختلطة“؛ حيث تُمكِّن الدول التي تُتابعها من الانخراط في تعاون اقتصادي وسياسي-اجتماعي مع الدولة المهدِّدة، بينما تُوظِف ميكانيزمات عسكرية واقتصادية ودبلوماسية لموازنة مصدر التهديد[6]؛ وهو ما يعني أنّ الدولة المتحوِّطة تسعى إلى انتهاج طريق وسط.
ويمكن أن تتحوّط الدولة تجاه دولة واحدة مهدِّدة (التحوّط المفرد) أو تجاه دولتين تَعدّهما مصدر تهديد لأمنها القومي (التحوّط المزدوج)[7]. وتُمثل الصين في تحوّطها تجاه الولايات المتحدة أحد أبرز الأمثلة على اتّباع الدولة التحوّط الاستراتيجي في سياستها تجاه دولة واحدة. بينما تُعدُّ دول جنوب شرقي آسيا، وفي مقدمتها سنغافورة وفيتنام وتايلاند، أبرز الدول التي تتبع التحوّط المزدوج في سياستها الخارجية تجاه الصين والولايات المتحدة، كما سيتضح في القسم اللاحق من هذه الدراسة.
ولكن لماذا تلجأ الدول إلى اتباع استراتيجية التحوّط؟
بادئ ذي بدءٍ، يمكن القول إنّ استراتيجية التحوّط، وإنْ كانت مفضّلة من قبل الدول الصغيرة والمتوسطة، فقد تُوظفها القوى الكبرى استراتيجيًّا لمواجهة الأخطار الكامنة في حالات عدم اليقين في البيئة الدولية.
وتتعدد العوامل والمتغيرات التي تُفسر لجوء الدول إلى التحوّط. فأولًا، يوفّر التحوّط “تأمينًا جيوبوليتيكيًّا” للدولة. والواقع أنّ فكرة التأمين ضد المخاطر المحتملة، أو الطوارئ، أساسية في تصميم استراتيجية التحوّط؛ فالعنصر الأساسي لفهم هذه الاستراتيجية هو أنّ الدولة المتحوِّطة تحاول أساسًا تقليل التهديدات الموجَّهة لاستقرارها، والبقاء في عالم فوضوي؛ بهدف تأمين وضعها النسبي[8]. بعبارة أخرى، فإنّ التحوُّط الاستراتيجي هو سلوك نشِطٌ ينشد التأمين؛ بمعنى التخفيف من المخاطر المحتملة، وتنمية الخيارات الاحتياطية في ظل بيئة تتسم بعدم اليقين[9].
وكما أنّ فكرة “التأمين” ضدَّ المخاطر المحتملة أو الطوارئ فكرة أساسية في تصميم استراتيجية التحوّط، فإنّ مسألة “عدم اليقين” أساسية أيضًا في اختيارها. ولذلك فمن المحتمل أنْ تسود هذه الاستراتيجية عندما يرى صنّاع القرار أنّ الأخطار المحيطة ببلادهم متقلبّة ومتعددة الجوانب وغير مؤكدة[10]. والواقع أنّ التحوّط يمثل في جوهره استراتيجية لإدارة المخاطر؛ حيث تقوم الدولة بحساب مخاطر اتّباع التوازن أو مسايرة الركب أو التحوّط. فإذا كانت مخاطر التوازن والمسايرة تفوق مخاطر التحوّط، يمكن تعظيم الأمن والاستقلالية من خلال اختيار التحوّط[11]. وهكذا، فإنّ الدافع الأساس للتحوّط هو تقليل المخاطر وآثار عدم اليقين المرتبطة باتخاذ مسار معيّن أو تبنّي استراتيجية معيّنة.
وتنبع جاذبية استراتيجية التحوّط من أساسها الاستراتيجي المنطقي المتماسك؛ إذ تعكس الحسابات الاستراتيجية للدولة التي ترغب في تجنّب المواجهة مع الدولة التي تهدّد أمنها القومي في الأجل القصير، والاستعداد في الوقت ذاتِه للحالات الطارئة في الأجل البعيد، مثل حدوث نزاع عسكري. كما يُعطي التحوّط الدول الدافع لدعم أمنها من خلال إقامة التحالفات وزيادة القدرات العسكرية والانخراط في تعاون مع الدولة المُهدّدة؛ وهو ما يُمكّن هذه الدول من تجنّب تداعيات موقف المعضلة الأمنية[12].
علاوة على ذلك، تُتيح استراتيجية التحوّط للدول تعظيم المكاسب التي تتحقق من الانخراط في علاقات اقتصادية مع الدولة المهدِّدة. كما أن التحوّط يساعد الدولة المتحوِّطة في تجنّب المواجهة؛ وهو ما يُعدّ بالطبع بديلًا أكبر تكلفةً من استراتيجية التحوّط. وقد خلُص عدد من دراسات الحالة إلى أنّ المقارنة بين تكاليف التحوّط، حتى ولو كانت باهظة، وتكاليف الدخول في مواجهة مباشرة مع الدولة المهدِّدة، تُوضح أن التحوّط أقل تكلفةً بالطبع[13].
وفضلًا عن ذلك، تُتيح استراتيجية التحوّط تجنّب التبعية الأمنية لدولة كبرى، ولذلك يستخدم الدارسون نظرية التحوّط من أجل فهم محاولة العديد من دول جنوب شرق آسيا انتهاج طريق وسطى بين الصين والولايات المتحدة، وقرار الاتحاد الأوروبي بشأن تطوير قدرات دفاعية مستقلة من أجل تجنّب الاعتماد الزائد على الولايات المتحدة، وقرار عُمان اتّباع استراتيجية هجينة تجاه إيران لتجنّب التبعية لها[14]. وبصفة خاصة، تلجأ الدول الصغرى إلى اتباع التحوّط كخيار استراتيجي من أجل تعظيم المكاسب وتجنُّب التبعية للقوى الكبرى. ومثال ذلك سياسات دول مجلس التعاون الخليجي تجاه الحرب الأوكرانية-الروسية. ويعدُّ البعض التحوّط الاستراتيجي “الطريق الذكي” لتعويض صغر الدولة، ومحدودية أدوات القوة المتاحة أمامها لتنفيذ سياستها الخارجية وحماية أمنها القومي. كما تُتيح استراتيجية التحوّط مساحة جيدة للدولة الصغيرة لتوظيف قوتها النسبية من أجل تحقيق بعض الاستقلالية لسياستها الخارجية[15].
والواقع أنّ نظرية التحوّط الاستراتيجي هي نظرية هيكلية في المقام الأول؛ فسلوك التحوّط يكون مدفوعًا بعوامل هيكلية تتعلق بهيكل النظام الدولي، ويتضمن اعترافًا بالأبعاد الهيكلية للقوة في السياسة الدولية، ومحاولةً لتقليل تأثيرها في الداخل. بعبارة أخرى فإنّ سياسة التحوّط ليست نتيجةً كليةً لعوامل نابعة من الداخل ذات صلة بالمقدرات القومية، إنما تُحدَّد وفقًا للتفاعلات الخارجية و/ أو الدوافع الهيكلية (المتصلة بهيكل النظام الدولي) التي تدفع الدول، سواء كانت صغيرة أو متوسطة أو كبرى، إلى اتّباع هذه الاستراتيجية باعتبارها أحد أفضل البدائل للحفاظ على بقائها داخل النظام الدولي[1]، الذي يتّسم بعدم اليقين بشأن الخيار الاستراتيجي الأمثل لمواجهة الأخطار الكامنة في البيئة الدولية.
ثانيًا- التحوّط الاستراتيجي في سياسات دول جنوب شرقي آسيا
تتّبع معظم دول جنوب شرقي آسيا استراتيجية التحوّط “المزدوج” تجاه الولايات المتحدة والصين، وهو ما ينطوي على انخراط هذه الدول في تفاعلات تعاونية مع كلتا القوتين الكبريين بدلًا من الانحياز إلى إحداهما دون الأخرى، أو ما يُعرف بمسايرة الركب (Bandwagoning)، وتعزيز القدرات الدفاعية والاقتصادية لهذه الدول، وتنويع شركائها الخارجيين[16].
ويشير جدول (1) إلى مقارنة الانخراط الاقتصادي لدول جنوب شرقي آسيا مع كلٍّ من الولايات المتحدة والصين.
جدول (1)
العلاقات الاقتصادية بين دول جنوب شرقي آسيا وكلٍّ من الولايات المتحدة والصين (2022)
الصين |
الدولة |
|||
% |
حجم التجارة |
% |
حجم التجارة |
|
8.9 |
27.3 |
24.7 |
76.2 |
إندونيسيا |
11.2 |
48.9 |
21.3 |
93 |
تايلاند |
17 |
90.9 |
27.1 |
145 |
فيتنام |
10.9 |
16.7 |
27.2 |
41.8 |
الفلبين |
10.1 |
42.7 |
23.2 |
98.4 |
ماليزيا |
10.8 |
59.3 |
21.5 |
118 |
سنغافورة |
— |
— |
34.7 |
12 |
ميانمار |
14.9 |
5.59 |
24.8 |
9.31 |
كمبوديا |
— |
— |
28.5 |
3.65 |
لاوس |
— |
— |
34.7 |
12 |
بروناي |
المصدر: LOWY Institute Asia Power Index, 2023 Edition, https://2u.pw/k2pvZW3.
ويتضح من الجدول السابق أنّ معظم دول جنوب شرقي آسيا منخرطة في علاقاتٍ تجارية مع كلٍّ من الولايات المتحدة والصين، وإنْ كان الوزن النسبي للتفاعلات مع الأخيرة أكبر بكثير بحكم القرب الجغرافي والاعتماد المفرط لاقتصادات “الآسيان” على الاقتصاد الصيني وهو ما يرجَّح أنْ يستمر في المستقبل المنظور. وبصفة عامة تُفضل دول جنوب شرقي آسيا، ولاسيما الـدول الأعضـاء العشـر فـي رابطـة “الآسـيان”، التعاون مع الصين في القضايا الاقتصادية، لكنّها تنخرط مع الولايات المتحدة في القضايا الأمنية. وأكثر من ذلك، وبرغم اتجاه معظم دول جنوب شرقي آسيا إلى زيادة قدراتها العسكرية والدفاعية، فإنها ما تزال تعتمد على الوجود العسكري الأمريكي، والبحري منه خصوصًا، لتحقيق التوازن ضدَّ الصين[17].
ويشير جدول (2) إلى القدرات الاقتصادية (وكذلك الديمغرافية) والدفاعية لدول جنوب شرقي آسيا، حسب إحصاءات 2022.
جدول (2)
القدرات الاقتصادية والعسكرية لدول جنوب شرق آسيا (2022)
المصادر:
– International Monetary Fund. “World Economic Outlook: Countering the Cost-of-Living Crisis, October 2022.
– The World Bank, Population, total, https://2u.pw/e3ghmZ.
– LOWY Institute Asia Power Index, 2023 Edition, https://2u.pw/k2pvZW3.
ويتضح من الجدول السابق أنه من حيث حجم الإنفاق الدفاعي، تحلُّ إندونيسيا في المركز الأول. وهذا مفهوم؛ بسبب حجم سكانها (أكثر من 275 مليون نسمة)، وحجم اقتصادها (أكثر من 4 تريليون دولار، بالأسعار الجارية لعام 2022). ثم تليها سنغافورة، برغم قلة حجم سكانها (نحو 5.6 مليون نسمة)؛ وهو ما قد يُفسَّر بشعورها بالتهديد وسط الصراع المتنامي في إقليمها بين كلٍّ من الولايات المتحدة والصين، وشعورها بالتهديد أكثر من تصاعد نفوذ الأخيرة في الإقليم. ثم تأتي تايلاند وفيتنام وماليزيا والفلبين بعد ذلك. وبصفة عامة، وطبقًا لميديروس Medeiros، تحاول هذه الدول توظيف قوتها النسبية من أجل تحقيق بعض الاستقلالية لسياستها الخارجية[18]. ويستثمر عدد من دول جنوب شرقي آسيا جزءًا من ميزانياتها الدفاعية في تعزيز قدراتها الدفاعية الذاتية. ففي السنوات الأخيرة بذلت تايلاند جهودًا لزيادة قدراتها الإنتاجية الدفاعية المحلية في مجالات مثل المركبات المدرعة والأنظمة الجوية بدون طيار والتقنيات العسكرية الأخرى[19].
ويشير الجدول الآتي إلى أهم الشركاء الاقتصاديين (غير الولايات المتحدة والصين) لدول جنوب شرقي آسيا:
جدول (3)
دول جنوب شرقي آسيا.. تنويع الشركاء
الاتحاد الأوروبي |
اليابان |
الدولة |
||
% |
حجم التجارة |
% |
حجم التجارة |
|
7.6 |
23.3 |
7.9 |
24.3 |
إندونيسيا |
7.5 |
32.7 |
11.6 |
50.4 |
تايلاند |
9.2 |
49.1 |
7.4 |
39.6 |
فيتنام |
8.2 |
12.6 |
12.1 |
18.5 |
الفلبين |
8 |
34.1 |
6.9 |
29.3 |
ماليزيا |
9.2 |
50.5 |
|
|
سنغافورة |
9.9 |
3.42 |
5.2 |
1.79 |
ميانمار |
10.3 |
3.89 |
|
|
كمبوديا |
3.9 |
0.497 |
2.1 |
0.270 |
لاوس |
|
15.6 |
1.88 |
بروناي |
المصدر: LOWY Institute Asia Power Index, 2023 Edition, https://2u.pw/k2pvZW3.
ويتضح من الجدول السابق أنّ الاتحاد الأوروبي واليابان هما أبرز شريكين اقتصاديين لدول جنوب شرقي آسيا، بعد الصين والولايات المتحدة، وإن كانت بعض هذه الدول قد اتجهت أيضًا إلى تكوين شراكات مع كلٍّ من أستراليا وكوريا الجنوبية والهند.
ولا تقتصر جهود دول جنوب شرقي آسيا في تنويع الشركاء على المجال الاقتصادي، وإنما تشمل أيضًا المجال الأمني. فبجانب الولايات المتحدة الأمريكية، التي تنهض منذ عقود بدور محوري كونها “قوة إحداث التوازن البحري” في المنطقة، هناك الآن عدد كبير من الأطراف الخارجية التي لديها الرغبة للاضطلاع بدور أكبر للإسهام في تحقيق الاستقرار في جنوب شرقي آسيا. وقد قامت أستراليا، وفرنسا، والهند، واليابان، على سبيل المثال لا الحصر، في الفترات الأخيرة إما بتوسيع أو البدء في إنشاء دور أمني لها. ومع التنافس الصيني الأمريكي المتصاعد، هناك الآن مجال أوسع لمشاركة هذه الأطراف وأطراف أخرى من خارج المنطقة[20].
وفي خضمّ التنافس الصيني الأمريكي المتصاعد في إقليم جنوب شرقي آسيا، الذي يتزايد فيه الدور الصيني حضورًا والتصرفات الصينية غموضًا، علاوة على المسائل المتعلقة بالجاهزية المستقبلية للقوات العسكرية الأمريكية في المنطقة وتلك القوات الموجودة في الدول الإقليمية، يواجه الإقليم مستقبلًا غير محدد المعالم، ويترك ذلك دوله، ولاسيما دول رابطة الآسيان، أمام عدد محدود من الخيارات[21]، وجد كثير منها أن أفضلها هو التحوّط الاستراتيجي.
والواقع أنّ استراتيجية التحوّط هي الأكثر شعبيةً في سياسات دول جنوب شرقي آسيا لدرجة أنّ الدراسات عن التحوّط الاستراتيجي في هذا الإقليم أسهمت في تطوير نظرية التحوّط الاستراتيجي في العلاقات الدولية. بعبارةٍ أخرى، يمكن فهم السياسات الخارجية لمعظم هذه الدول من خلال منظور التحوّط، وليس التوازن أو مسايرة الركب، حيث تتخذ هذه الدول مسارًا وسطًا، بدرجةٍ أو بأخرى، في العلاقات بين الولايات المتحدة والصين، مع إدراكها أنّ الأخيرة تُمثل أكبر تحدٍ لأمنها الوطني. وتتابع هذه الدول سلوكًا تحوّطيًّا تجاه الصين خوفًا من نفوذها المتنامي في الإقليم، وتجاه تبلور نظام إقليمي جديد؛ وهو النظام الذّي يتم تشكيله أساسًا بواسطة الصين والولايات المتحدة[22].
وتستهدف استراتيجية التحوّط لدول جنوب شرقي آسيا إلى تحقيق عدة أهداف، أهمها- تأمين وضعها النسبي والحفاظ على بقائها؛ وتحقيق أعظم الفوائد عن طريق الانخراط مع الصين (من خلال المؤسسات والروابط الاقتصادية) وانتهاج التوازن غير المباشر (تحديث قدراتها العسكرية والروابط الأمنية مع الولايات المتحدة)؛ وكسب حرية أكبر في سياستها الخارجية من خلال توسيع خياراتها الاستراتيجية. وتتراوح ميكانيزمات التحوّط لهذه الدول بين تعاونية وأخرى صراعية، وتتضمن تحديث القدرات العسكرية، واتباع درجة منخفضة من القسر (مثل التدريبات العسكرية مع طرف ثالث)، والتعاون الأمني المحدود (مثل إجراءات بناء الثقة والتعاون الأمني بين أعضاء رابطة الآسيان)، والتعاون المالي، والروابط التجارية والاستثمارية[23]. وقد استطاعت هذه الدول تحقيق مكاسب اقتصادية من خلال انخراطها مع الصين، وفي الوقت ذاتِه تحسين روابطها الأمنية مع الولايات المتحدة.
ولْنأخذ إندونيسيا على سبيل المثال، ففي ظل بيئةٍ إقليمية تتسم بعدم اليقين؛ نتيجة التنافس الاستراتيجي بين الولايات المتحدة والصين، وأزمة أو انعدام الثقة بينهما، فضلًا عن وجود نزاعات بحرية، خصوصًا في بحر الصين الجنوبي، بين دول الإقليم، تبنّت جاكرتا استراتيجية التحوّط تجاه كلٍّ من الصين والولايات المتحدة. وتهدف استراتيجية التحوّط الإندونيسية إلى الحد من الآثار السلبية للصعود الإقليمي الصيني، وكبح جماح القوة الأمريكية المهيمنة، وتجنُّب الآثار السلبية للتنافس الصيني-الأمريكي على الاستقرار الإقليمي. ومن وجهة النظر الإندونيسية فإنه بينما يعمل الصعود الصيني على تقليل الدور المحوري للولايات المتحدة في شرقي آسيا، فإنّ الوجود العسكري الأمريكي حيوي، بلاشك، لحفظ التوازن الإقليمي. وإذا كانت جاكرتا غير متيقنة من النوايا الاستراتيجية للصين، فإنّ مصالحها قد تتطابق وقد تتنافر مع المصالح الأمريكية في المنطقة[24].
وتوضح متابعة السياسة الدفاعية الإندونيسية أنها كانت فعّالة في استخدام التحوّط، فمن ناحية انخرط المسؤولون الإندونيسيون مع دول الآسيان في تفاعلات متعددة الأطراف؛ من أجل الإسهام في مأسسة معايير السلوك الإقليمي، بما في ذلك بناء الثقة وعدم التدخل والأمن التعاوني والتسوية السلمية للصراعات. ومن ناحيةٍ أخرى تستخدم إندونيسيا الدبلوماسية الدفاعية الثنائية لتحديث قدراتها العسكرية ورفع مستوى صناعاتها العسكرية الناشئة. فإضافة إلى التعاون الدفاعي مع الولايات المتحدة والدول الأوروبية، تنخرط إندونيسيا مع الصين وروسيا وكوريا الجنوبية في عمليات توريد الأسلحة. وبهذا تسعى جاكرتا إلى التخفيف من تأثير التغيرات الجيوبوليتيكية، والحفاظ في الوقت ذاتِه على قدراتها الدفاعية ضد حالة عدم اليقين الإقليمي[25]. وبصورةٍ محددة، تبنّت إندونيسيا سياسة التحوّط تجاه مبادرة الحزام والطريق الصينية التي اقترحها الرئيس الصيني شي جين بينغ في عام 2013. وقد رأت جاكرتا أن التحوّط هو الاستراتيجية الأنسب تجاه الصين، فهي تسعى إلى تطوير قدراتها التنافسية والاقتصادية للحد من الفجوة مع بكين، وتعمل في الوقت ذاته على التعاون مع الأخيرة لتحقيق مكاسب اقتصادية، على المديين القصير والطويل؛ وهو ما سيجنبها التهديدات أو على الأقل سيقللها[26].
ومثل إندونيسيا تُعد تايلاند من نماذج الدول المتحوّطة القوية، فيما تعد كلٌّ من سنغافورة وفيتنام من نماذج التحوّط الأضعف. وتمارس تايلاند سلوك التحوّط عن طريق الحفاظ على علاقات وثيقة مع بكين وواشنطن على حدٍّ سواء لتعظيم فوائدها، وفتح أُفقٍ جديدة للمناورة. ففي مجال توريد الأسلحة تُعد الصين وكوريا الجنوبية والولايات المتحدة من بين الموردين الرئيسيين، وفي مجال العلاقات الأمنية مع الولايات المتحدة وقّعت تايلاند سلسلة من المشروعات مع الولايات المتحدة تهدف إلى تأمين التجارة ضد الهجمات الإرهابية، منها مشروع ثنائي لتتبع الحاويات من الموانئ التايلاندية إلى الموانئ الأمريكية. كما أعادت الحكومة التايلاندية فتح القاعدة البحرية في ساتاهيب Sattahip، التي تبعد عن بانكوك نحو 200 كيلومتر، للسماح بنشر المعدات العسكرية الأمريكية في المنطقة. وتتمتع تايلاند حاليًّا بوضع حليف رئيسي من خارج حلف شمال الأطلسي (Major Non-NATO Ally) مع الولايات المتحدة؛ وهو ما يوفر لبانكوك مزايا معينة في مجالات التجارة الدفاعية والتعاون الأمني، وينخرط الجيشان التايلاندي والأمريكي في تدريبات عسكرية سنوية متعددة الجنسية “كوبرا جولد” في تايلاند، وهي واحدة من أكبر التدريبات متعددة الجنسيات في منطقة المحيط الهادئ[27].
وعلى النقيض من ذلك، قررت سنغافورة ترسيخ علاقاتها الأمنية مع الولايات المتحدة، وبالتالي تميل بقوة نحو واشنطن بعيدًا عن بكين. ولكنّها في الوقت ذاتِه تتحوّط مع الصين لمواجهة التحدي الصيني للاستقرار الإقليمي، واحتمال قيام بكين بعرقلة جهود التنمية الاقتصادية في سنغافورة. وفي السنوات الأخيرة كانت فرنسا والولايات المتحدة الموردين الرئيسيين للأسلحة لسنغافورة، التي لديها صناعة الأسلحة الأكثر تطورًا في جنوب شرقي آسيا، وهي أيضًا أكبر مستورد للأسلحة[28].
وقد رأى البعض أن سياسة سنغافورة تجاه الصين متناقضة؛ إذْ تتميز بالدفء في العلاقات الاقتصادية والدبلوماسية؛ حيث تُعد منذ فترة طويلة الشريك التجاري الأكبر للصين في رابطة “الآسيان”، ولكن سنغافورة بعيدة عن بكين في المجالات السياسية والاستراتيجية، لأن سنغافورة دولة تعاني من ضعفٍ هيكلي نتيجة موقعها الجغرافي، وحجمها الصغير، ومواردها المحدودة، ووضعها الجيوسياسي. ولمواجهة هذا الضعف لجأ زعماء سنغافورة إلى نهج يتألف من ثلاث مكونات: تعزيز التكامل الاقتصادي، والسعي وراء التسلح والتحالف، ورعاية توازن إقليمي للقوة. ويهدف هذا النهج إلى المحافظة على الوضع الإقليمي. ومن هذا المنطلق تهتم سنغافورة بالقضايا المتعلقة بكلٍّ من تايوان ومضيق “سبراتليز”؛ ويرجع ذلك إلى اعتماد سنغافورة الكبير على التجارة البحرية، وخشيتها من أية توترات في مضيق تايوان، أو أي نزاعٍ مسلح في المنطقة يمكن أن يؤدي إلى زعزعة استقرار التجارة والاستثمار الأجنبي. ونظرًا إلى أوجه عدم اليقين بشأن نوايا الصين المستقبلية، تنخرط سنغافورة في تعاونٍ عسكري مع الولايات المتحدة، ولكنها تنأى بنفسها عن أي سياسة لمسايرة الركب، حتى وإن كان ذلك بشكل محدود، وهو ما يرجع إلى الوضع الجيوسياسي لها؛ حيث تُشكّل القومية الصينية 76% من سكانها. ولعل ذلك ما يُفسر أيضًا رفض سنغافورة اعتبارها “الصين الثالثة”، خصوصًا من قبل جارتيها صاحبتَي الأكثرية المسلمة: ماليزيا وإندونيسيا[29].
وتُماثل حالة الفلبين الوضع السنغافوري، فقد كان تولّي فرديناند ماركوس الابن الرئاسية الفلبينية، في يونيو 2022، منعطفًا حاسمًا في العلاقات الأمريكية-الفلبينية؛ إذ سمح لواشنطن بإعادة تفعيل تعاونها العسكري مع مانيلا بعد سنوات من تحجيمها في عهد الرئيس السابق رودريغو دوتيرتي، وتواترت مؤشرات تعزيز العلاقات السياسية والعسكرية بين الدولتين في الفترة الأخيرة. ومع ذلك ما تزال الفلبين تتحوّط في علاقاتها تجاه الصين التي تُعدُّ الشريك الاقتصادي الأول للفلبين، كما يوضح جدول (1). ولا يُتوقع أن تسعى مانيلا لتصعيد التوترات مع بكين أو أن تنخرط في أي مواجهة قد تقودها واشنطن في بحر الصين الجنوبي تستهدف بكين بشكل مباشر. بل يُتوقع، برغم زخم الميل الفلبيني تجاه الولايات المتحدة وتصاعد الخلاف بين الصين والفلبين، أن تُفعَّل مبادرة خط الاتصال المباشر بين البلدين المتفق عليها منذ يناير 2023[30].
أما فيتنام فعلى الرغم من أنّها توصف بـ “صديق الصين”، غير أنها قد طوّرت علاقاتها بالولايات المتحدة في السنوات الأخيرة[31]. ومنذ تطبيع العلاقات الصينية-الفيتنامية في عام 1991، جرى تشكيل سياسة فيتنام تجاه الصين بالاعتماد على مجموعة من الاقترابات التي يمكن وصفها على أفضل وجه بأنها استراتيجيةُ تحوّطٍ متعددة المستويات والاتجاهات. وفي هذا الصدد تسعى فيتنام إلى استغلال الظروف المؤدية إلى التعاون الثنائي، ولاسيما في المجال الاقتصادي، من أجل تعزيز تنميتها المحلية، من ناحية، ومن ناحية أخرى فإنّ المطالب المتنازعة في بحر الصين الجنوبي، وموقف الصين المهدِّد بشكل متزايد، يُمليان على فيتنام أن تقاوم الصين في هذا الجانب؛ لحماية مصالحها الوطنية على أفضل وجه. وتعتمد استراتيجية التحوّط الفيتنامية على أربعة عناصر أساسية، هي البراجماتية الاقتصادية، والانخراط المباشر، والتوازن الصلد، والتوازن الناعم. فأولًا، غدت الصين أكبر شريك تجاري لفيتنام منذ عام 2004، وقد ساعدت الروابط الاقتصادية في تفعيل شبكة التفاعلات الثنائية التي تعمل كوسيلة لامتصاص التوترات الناشئة عن المجالات الأخرى للعلاقة الثنائية. ثانيًا، وبالنسبة للانخراط المباشر؛ أي توسيع وتعميق الآليات الثنائية المختلفة لبناء الثقة المتبادلة، كان للزيارات الرسمية بين مسؤولي البلدين أثر في التمهيد لتوقيع الاتفاقات والعقود لتعزيز التعاون الثنائي. ثالثًا، وبسبب التحديث السريع للبحرية الصينية، ونشر العديد من قدراتها البحرية الحديثة في جنوب الصين، عقدت فيتنام مجموعة من الصفقات العسكرية مع روسيا[32]. فقد ظلت موسكو المورّد الأكثر أهمية للمعدات العسكرية الحديثة لفيتنام، لكن الأخيرة نوّعت مشترياتها من الأسلحة لتشمل أكثر من اثنتَي عشرة دولة أخرى بما في ذلك بيلاروسيا وإسرائيل وهولندا وكوريا الجنوبية والولايات المتحدة[33]. كما صنّعت فيتنام مجموعة من الأسلحة والمعدات، مثل مدافع الهاون، وقاذفات القنابل الأوتوماتيكية، ومكونات الوقود لصواريخ (سكود)، والمركبات الجوية الأساسية بدون طيار. رابعًا، أما التوازن الناعم، أي تعزيز المشاركة في المؤسسات متعددة الأطراف، فقد أصبح التركيز الأساسي لنهج فيتنام متعدد الأطراف هو رابطة “الآسيان”؛ حيث تستخدمها كأداة دبلوماسية في نزاعاتها مع الصين، وتصرُّ على وضع نزاع بحر الصين الجنوبي على أولوية أجندة عمل الرابطة[34].
ثالثًا- مستقبل استراتيجية التحوّط في جنوب شرقي آسيا
يثور التساؤل عن إمكانية استمرار دول جنوب شرق آسيا في ممارسة التحوُّط الاستراتيجي مع اشتداد الصراع بين الولايات المتحدة والصين. وللإجابة عن هذا التساؤل، يمكن القول إنّ هناك ثلاثة عوامل مترابطة تُفسر إصرار هذه الدول على التمسك باستراتيجياتها التحوّطية، وهي تصوراتها “الرمادية” للتهديدات، ومخاوفها من “نبوءةٍ تحقق ذاتها” تتعلق بتحول الصين من تهديدٍ محتمل إلى تهديدٍ مؤكد، وحالة عدم اليقين التي تُظلل السياسة الدولية في إقليم جنوب شرقي آسيا ومنطقة الإندو-باسيفيك عمومًا[35].
وبادئ ذي بدءٍ، نجد أنّ تصورات دول جنوب شرقي آسيا للتهديدات بعيدة كل البعد عن الأبيض والأسود؛ فهذه الدول تنظر إلى جميع القوى الكبرى في المنطقة بمنظوراتٍ “رمادية”؛ أي كونها مصادر للمشكلات والحلول بدرجات متفاوتة. وفي الوقت الذي تتصوّر فيه هذه الدول، خصوصًا تلك التي لديها مطالبات متداخلة في بحر الصين الجنوبي، أن الصين مصدر للتهديد، وتنظر إلى شراكاتها الدفاعية مع القوى الغربية كدعم أساسي، فإن هذه التصورات تبدو مختلطة ومتناقضة. ففي حين أنّ الاتجاه الإكراهي الحازم في سياسة الصين آخذٌ في النمو غير أنها لم تشكّل بعدُ تهديدًا مباشرًا لدول جنوب شرقي آسيا يستدعي موازنته بأي ثمن. فبالنسبة لمعظم دول جنوب شرق آسيا، إنْ لم يكن جميعها، هناك مجموعة واسعة من المشكلات والمخاطر المتصورة أكثر إلحاحًا من “التحدي الصيني“، ولا ترغب أيٌّ منها في عزل الصين. فبالنسبة لزعماء المنطقة، فإنّ خطر الانكماش الاقتصادي نتيجة لصراع أوسع نطاقًا يلوح في الأفق أكبر من التهديد الأمني الذي يواجه الدول بصورة فردية.
ومن ناحيةٍ أخرى، ما تزال دول “الآسيان” تنظر إلى الصين باعتبارها شريكًا لا غنى عنه في قضايا التنمية والقضايا ذات الصلة. وتعدُّ هذه من بين الأولويات القصوى للنخب الحاكمة في جميع دول رابطة “الآسيان”؛ لأن خلق فرص العمل وتحقيق النمو وضمان الاستقرار وإدارة المشكلات الداخلية والفوز في الانتخابات هي المسارات الرئيسية للحفاظ على شرعيتها. وبالنسبة لدول جنوب شرقي آسيا، فإن القرب الجغرافي يعني أن الصين تشكل عاملًا دائمًا في المعادلات الخارجية. وفي الوقت الذي تتزايد فيه المخاوف الإقليمية بشأن التوترات عبر مضيق تايوان، لا تساوي جميع دول جنوب شرقي آسيا بين “الصين في آسيا” و “روسيا في أوروبا“.
وفي الوقت الذي ما تزال فيه الولايات المتحدة شريكًا مهمًّا للغاية، ولاسيما في المجال الأمني، لدول جنوب شرقي آسيا، يُنظر إلى أدوارها الاقتصادية والدبلوماسية على أنها في تراجعٍ نسبي، بل تُعدُّ سياستها الجيوسياسية أحيانًا مصدرًا للتخوف والقلق بين هذه الدول. ويُنظر إلى السياسات الأمريكية المختلفة في إطار استراتيجيتها في منطقة الإندوباسيفيك- من الترويج لتحالف أوكوس (Aukus) وتجمُّع كواد (Quad)، والقيام بزيارات رفيعة المستوى إلى تايوان، إلى متابعة سياسة فك الارتباط الاقتصادي والتكنولوجي مع بكين[36]– على أنها مدفوعة برغبتها في الحفاظ على تفوقها العالمي أكثر من تعزيز الاستقرار الإقليمي.
وصحيح أنّ دول جنوب شرقي آسيا تريد الاستفادة من توازن القوى المستقر في الإقليم لتقييد تصرفات الصين، ولكن في مواجهة التنافس المتزايد بين القوى الكبرى في منطقة الإندوباسيفيك نجدها متخوفة من أن “القيود” على الصين قد تتصاعد إلى احتواء، ومن ثم فإنّ هذه الدول قلقة بشكلٍ متزايد بشأن مخاطر نبوءة تتحقق ذاتيًّا؛ بمعنى أن تحديد بعض هذه الدول للصين كخصم والتجمُّع مع الدول “ذات التفكير المماثل” يمكن أن يحوِّل الخطر المحتمل إلى تهديد وشيك أو مؤكد.
كما أنّ بعض دول الآسيان قلقة بشأن تحالف أوكوس (بين الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا) بسبب تأثيره السلبي على سياسة منع الانتشار النووي، وإمكانية إثارته سباق تسلح محتمل وتصعيده للتوترات في الإقليم. ومع تزايد زخم الترتيبات الأمنية غير التابعة لرابطة “الآسيان”، مثل تجمع كواد الأمني (بين الولايات المتحدة واليابان والهند وأستراليا) وتحالف أوكوس، تشعر دول الآسيان بالقلق أيضًا من احتمال تهميش مركزية الرابطة. ثم إنّ هناك مخاوف متزايدة من أن سياسة فك الارتباط الاقتصادي ستؤدي في نهاية المطاف إلى انقسام اقتصادي بين الولايات المتحدة والصين، وإلى استقطاب شامل في المنطقة. ويمكن أن تؤدي الدورات الحالية من الفعل ورد الفعل إلى التصعيد والاحتواء الصريح والمواجهة والصراع ووقوع دول الإقليم في الشرك. والواقع أنّ دول جنوب شرقي آسيا لا تريد احتواء الصين، وإذا حدث ذلك فإن الدول الأضعف في الإقليم ستكون أول من سيتأثر به، ويرجع ذلك جزئيًّا إلى أن قربها من بحر الصين الجنوبي ومضيق تايوان سيوقع بعضها بالتأكيد في شرك الصراع بين القوى الكبرى.
وتشير حالة عدم اليقين في جنوب شرقي آسيا، وهي متفرعة عن حالة عدم اليقين التي باتت تُغلف السياسة العالمية منذ سنوات، إلى أنّ العديد من دول الإقليم غير متيقنة من صيرورة توازن القوى أو الصراع بين الصين والولايات المتحدة، أو من إمكانية تحوُّل الصين إلى اتّباع سياسة أكثر إكراهية وتوسعية، أو من احتمالية عودة دونالد ترامب للرئاسة الأمريكية، أو احتمالات تغيُّر هيكل النظام الدولي الراهن. وفي مواجهة هذه الحالة من عدم اليقين، وما قد تتمخض عنه من سيناريوهات متباينة، تستمسك دول جنوب شرقي آسيا باستراتيجياتها التحوّطية، بل وتعمل على تعميقها، كشكل من أشكال الدعم الأمني. ومن الناحية العملية، يؤشر ذلك إلى حالةٍ من الغموض فيما يتعلق بقربهما الفعلي من أيّ من القوتين المتصارعتين في الإقليم[37].
خاتمة:
تعدُّ دول جنوب شرقي آسيا أبرز الدول التي تتبع التحوّط الاستراتيجي في سياساتها الخارجية تجاه الصين والولايات المتحدة. وقد ركزت هذه الورقة على تحليل وتفسير السياسات التحوّطية التي تتّبعها معظم دول الإقليم.
والواقع أنّ تحوّط دول جنوب شرقي آسيا أمر مفيد لجميع القوى الكبرى في المنطقة؛ حيث يعني عدم انحياز أية دولة إلى جانب قوة ضد أخرى. ويساعد هذا في ضمان حياد رابطة الآسيان، والحفاظ على الاستقلال الاستراتيجي النسبي لدول الرابطة، ومنع الاستقطاب الإقليمي، وإفساح المجال أمام الدول ذات المصالح المتنوعة لمواصلة الانخراط في تعاون شامل على مستوى المنطقة.
وفي الوقت الذي ما تزال فيه العوامل الواقعية الهيكلية، مثل التهديدات الأمنية الخارجية والمكافآت الاقتصادية وحالة السيولة في النظام الدولي، تمثّل محددات مهمة لقرارات الدولة في اختيار استراتيجية التحوّط، فإنّ التهديدات الداخلية يمكن أن تضطر الدول أيضًا إلى التخلي عن التحوُّط لمصلحة استراتيجية مسايرة الركب. فمثلًا، اختارت كلٌّ من كمبوديا وميانمار التخلي عن التحوُّط، وفضّلتا تحالفًا أوثق مع بكين من أجل تعزيز أمن نظاميهما الحاكمَين. وفي كلتا الحالتين، أعطى القادة السياسيون الأولوية للمصالح الشخصية وبقاء النظام على حساب المصالح الوطنية[38].
[1] Evan S. Medeiros, “Strategic Hedging and The Future of Asia Pacific Stability,” The Washington Quarterly, vol. 29, issue 1 (Feb. 2005), p. 154.
[1] المنطقة الرمادية هي جزء من قواعد اللعبة التي تمارسها الصين مع تايوان وغيرها من دول الجوار التي لديها نزاعات إقليمية معها، وتُشير إلى أنشطة أو تكتيكات قسرية جيوسياسية واقتصادية وعسكرية، وعمليات سيبرانية ومعلوماتية، تستخدمها الحكومة الصينية لتحقيق أهدافها الخارجية، وتتجاوز الأنشطة الدبلوماسية والاقتصادية المعتادة، ولكنها لا تصل إلى حد استخدام القوة العسكرية. انظر:
Bonny Lin, et al., A New Framework for Understanding and Countering China’s Gray Zone Tactics. Santa Monica, CA: RAND Corporation, 2022. https://www.rand.org/pubs/research_briefs/RBA594-1.html.
[2] أيمن إبراهيم الدسوقي، “التحوّط الاستراتيجي في الشرق الأوسط”، السياسة الدولية، مج 54، العدد 215 (يناير 2019)، ص ص 33 – 34.
[3] Mohammad Salman, “Strategic Hedging and Unipolarity’s Demise: The Case of China’s Strategic Hedging,” Asian Politics and Police, vol. 9, issue 3 (July 2017), pp. 357-360.
[4] علا رفيق منصور وأيمن إبراهيم الدسوقي، التحوّط الاستراتيجي في السياسة الإيرانية تجاه الولايات المتحدة (الدوحة: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2022)، ص ص 45-46، 56-57.
[5] Fabio Figiaconi, Southeast Asia’s Hedging: A Strategic Opportunity for the European Union?, EGMONT Policy Brief 314, September 2023, https://2u.pw/z8Hd6Hh.
[6] أيمن الدسوقي، “التحوّط الاستراتيجي: النظرية والتطبيق”، اتجاهات الأحداث، العدد 18 (نوفمبر-ديسمبر 2016)، ص ص 17-21.
[7] منصور والدسوقي، التحوّط الاستراتيجي في السياسة الإيرانية، ص ص 64-65.
[8] الدسوقي، التحوّط الاستراتيجي في الشرق الأوسط، ص ص 33 – 39.
[9] Cheng-Chwee Kuik, Southeast Asia hedges between feasibility and desirability, East Asia Forum, 4 July 2023, https://2u.pw/DaSLhNa.
[10] Chwee, Southeast Asia hedges, pp. 164-65.
[11] Kei Koga, “The Concept of Hedging Revisited: The Case of Japan’s Foreign Policy Strategy in East Asia’s Power Shift,” International Studies Review, vol. 20, issue 4 (Dec. 2017), p. 639.
[12] Brock F. Tessman, “System Structure and State Strategy: Adding Hedging to the Menu,” Security Studies, vol. 21, issue 2 (May 2012), pp. 195-200, 208.
[13] منصور والدسوقي، التحوّط الاستراتيجي في السياسة الإيرانية، ص 52.
[14] Tessman, System Structure and State Strategy, p. 205.
[15] Sherwood, “Small States’ Strategic Hedging for Security and Influence.”
[16] Hunter Marston, Southeast Asian Maritime States are Hedging to Stay Afloat amidst Us-China Rivalry, 9DASHLINE, September 19, 2023, https://2u.pw/4gfsySc.
[17] سوي ليان كولين كوه، التنافس الصيني الأمريكي في جنوب شرق آسيا: الدروس المستفادة في حقبة ما بعد الكوفيد لدول الخليج، أكاديمية الإمارات الدبلوماسية، أكتوبر 2020، https://2u.pw/0MeOMtO.
[18] Medeiros, Strategic Hedging and the Future of Asia Pacific Stability, 165-6.
[19] CIA Factbook, Thailand, https://www.cia.gov/the-world-factbook/countries/thailand/#military-and-security.
[20] كوه، التنافس الصيني الأمريكي.
[21] كوه، التنافس الصيني الأمريكي.
[22]Van Jackson, “The Rise and Persistence of Strategic Hedging across Asia: A System-Level Analysis Strategic Asia,“ The National Bureau of Asian Research, Dec. 2014, pp. 320-322.
[23] Ryan Yu-Lin Liou & Philip Szue-Chin Hsu, “The Effectiveness of Minor Powers’ Hedging Strategy: Comparing Singapore and the Philippines.“ Ph.D. Research Paper, University of Georgia, Athens, GA, 2017, pp. 3-4.
[24] Genta Permata Sari, “Hedging: understanding Indonesia’s foreign policy towards China’s belt and road initiative,” Master’s Thesis, European Studies with the Specialization of Chinese Areas Studies, Aalborg University Danmark, 2018, p. 28.
[25]Iis Gindarsah, “Strategic Hedging in Indonesia’s Defense Diplomacy,” Defense and Security Analysis, vol. 32, no. 4 )27 Sep. 2016(, pp. 181-186.
[26] Sari, Hedging: Understanding Indonesia’s Foreign Policy, p. 28.
[27] CIA Factbook, Thailand, https://www.cia.gov/the-world-factbook/countries/thailand/#military-and-security.
[28] CIA Factbook, Singapore, https://www.cia.gov/the-world-factbook/countries/singapore/#military-and-security.
[29] Chwee, The Essence of Hedging, 176-177
[30] سارة النيادي، الفلبين: هل أصبحت جزءًا من استراتيجية الردع الأمريكية ضد بكين؟، مركز تريندز للبحوث والاستشارات، 31 مايو 2023، https://2u.pw/UtCmReW.
[31] Evelyn Goh, Meeting the China Challenge: The US in Southeast Asian Regional Security Strategies, Policy Studies Monograph 16 (Washington DC: East-West Center, 2005): 23.
[32] Le Hong Hiep, “Vietnam’s Hedging Strategy against China since Normalization,” Contemporary Southeast Asia, vol. 35, no. 3 (Dec. 2013), pp. 342-353.
[33] CIA Factbook, Vietnam, https://www.cia.gov/the-world-factbook/countries/vietnam/.
[34] Hiep, Vietnam’s Hedging Strategy, pp. 342-353.
[35] Kuik, Southeast Asia hedges.
[36] بشير عبد الفتاح، “حرب التكنولوجيا بين الصين وأمريكا،” الشروق، 4 سبتمبر 2023، https://2u.pw/rGrvxfO.
[37] Figiaconi, Southeast Asia’s Hedging.
[38] Marston, Hunter S. “Abandoning Hedging: Reconsidering Southeast Asian Alignment Choices.” Contemporary Southeast Asia: A Journal of International and Strategic Affairs 45, no. 1 (2023): 55-81. muse.jhu.edu/article/895934.