يواجه العالم، منذ أوائل عام 2020، أزمة غير مسبوقة متمثلة في وباء “كوفيد-19” الذي تسبب في كثير من الخسائر البشرية، وفرض ضغوطات كبيرة على منظومات الرعاية الصحية، وأدى إلى تعطيل الأنشطة الاقتصادية على المستويين المحلي والعالمي بسبب سياسات الإغلاق التي انتهجتها دول العالم المختلفة. كما أن مستوى عدم اليقين الناجم عن الوباء ما يزال مرتفع جداً، وما زالت العودة إلى حياة طبيعية “جديدة” في المستقبل القريب أمراً مشكوكاً فيه.
وقد أخذ العالم يتسابق في تطبيق العديد من سياسات الإغلاق لكي يحقق أربع نتائج أساسية يمكن أن تُعيد حياة المليارات من الناس في العالم إلى طبيعتها: أولها، تحديث منظومات الرعاية الصحية؛ وثانيها التوصل إلى عمليات فحص للفيروس بطريقة فعالة وسريعة ومجدية اقتصادياً؛ وثالثها تطوير لقاح للفيروس وإنتاجه بكميات كبيرة؛ ورابعها اكتشاف علاج للفيروس، إلى أن يحقق العالم هذه النتائج للتعامل مع “كوفيد-19″، سيظل الاقتصاد العالمي محفوفاً بدرجة عالية من الغموض وعدم اليقين.
وقد يصبح الوضع أكثر حدة في العالم العربي، في ما يبدو، لأن الوباء صاحبه انخفاض كبير في أسعار النفط العالمية نتيجة للخلاف بين أعضاء مجموعة أوبك+ الذي أشعلته روسيا بقرارها الانسحاب من اتفاق تخفيض الإنتاج، ما دفع المملكة العربية السعودية إلى الرد بزيادة الإنتاج؛ ومن المعلوم أن النفط يشكل عصب الصادرات بالنسبة للعديد من دول العالم العربي، ومصدر إيراداتها الحكومية ومساهم رئيسي في نموها.
وستحاول هذه الورقة، في ظل هذه الأحداث، تقديم بعض الرؤى والتصورات حول آفاق الاقتصادات العربية في عامي 2020 و2021، مع الأخذ في الاعتبار السيناريو الأساسي الذي صاغه صندوق النقد الدولي للاقتصاد العالمي في تقريره “آفاق الاقتصاد العالمي” الصادرة في أبريل 2020، والذي يرى أنه إذا تلاشى الوباء في النصف الثاني من عام 2020، فمن الممكن أن تتباطأ جهود احتوائه وتتفكك تدريجياً.
كما يمكن أن تصبح النتائج المقدمة في ضوء هذا السيناريو أسوأ بكثير في ظل سيناريوهات أكثر تشاؤماً، لأن صندوق النقد الدولي يضع ثلاثة سيناريوهات أخرى أسوأ، وهي: إغلاق لفترة أطول في عام 2020 أو تفشي جديد للفيروس في عام 2021 أو حدوث الاثنين معاً عام 2021، وكل هذه السيناريوهات تقود إلى نتائج أسوأ من السيناريوهات المقدمة في هذه الورقة بكثير.
2- الصدمة المزدوجة: “كوفيد-19” وانخفاض أسعار النفط
واجهت الاقتصادات العربية في بداية مارس 2020 صدمة مزدوجة أثرت سلباً في موازينها الاقتصادية الداخلية والخارجية تمثلت في أزمة “كوفيد-19” والتراجع الكبير في أسعار النفط الخام. فقد أعلن كثير من الدول عن عمليات إغلاق في مواجهة التفشي العالمي لوباء “كوفيد-19″، وواجهت أسواق النفط العالمية اضطراباً مع انهيار اتفاق أوبك+ الخاص بتحديد سقف الإنتاج، وذلك بسبب قرار روسيا الانسحاب من الاتفاق وردّ المملكة العربية السعودية عليها بزيادة الإنتاج وتخفيض أسعار نفطها.
المصدر: صندوق النقد الدولي، آفاق الاقتصاد العالمي، 2020
وقد صاحب الزيادة في إنتاج النفط انخفاضاً كبيراً في الطلب عليه نتيجة لإغلاق الاقتصاد العالمي، والقدرة التخزينية العالمية المحدودة للغاية، والتكلفة الباهظة لإيقاف الإنتاج بالنسبة لبعض الدول، وأد المزيج من هذه العوامل إلى انهيار أسعار النفط العالمية لتبلغ نحو 30% تقريباً من مستواها في بداية عام 2020.
كما كان تأثير وباء “كوفيد-19″، في الوقت نفسه، محسوساً بشدة في الأسواق المالية العالمية، حيث انهارت أسواق الأسهم في الاقتصادات المتقدمة والناشئة على حدٍّ سواء، واتسع فارق الائتمان لكل من سندات الشركات وسندات الأسواق الناشئة السيادية، وكان التأثير في الدول العربية ملحوظاً لأن صناديق الثروة السيادية في الدول المصدرة للنفط أصبحت معرضة لخسائر كبيرة محتملة، وإلى هذا عانت بعض الدول، مثل مصر، تدفقات عكسية لرؤوس الأموال حيث قام العديد من الأجانب المستثمرين في المحافظ الاستثمارية بإخراج استثماراتهم من البلاد في ضوء ارتفاع مخاطر الائتمان، وذلك حتى يتمكنوا من الحفاظ على مراكزهم في الأسواق الأخرى التعويض عن الخسائر المرتبطة بانهيار الأسواق.
إن فقدان إيرادات النفط، والتدفقات العكسية لرؤوس الأموال، والتأثير السلبي في تحويلات العمال، وتباطؤ الاقتصاد العالمي، وانهيار أنشطة السياحة والتجارة الدولية؛ قد تكون جميعها مصادر ضعف محتملة لغالبية الاقتصادات العربية على المدى القصير وربما المتوسط.
3- آفاق الاقتصادات العربية
وفقاً لتوقعات صندوق النقد الدولي بشأن الاقتصاد العالمي ومجموعات الدول الكبرى والاقتصادات العربية الرئيسية، يرى سيناريو خط الأساس احتمال تلاشي الوباء في النصف الثاني من عام 2020 وتفكك جهود احتوائه تدريجياً ويشير إلى السيناريوهات التالية:
معدلات النمو الاقتصادي الحقيقي
المصدر: صندوق النقد الدولي، آفاق الاقتصاد العالمي، أبريل 2020
يتوقع صندوق النقد الدولي أن أي سيناريو يكون فيه تأثير “كوفيد-19” معتدلاً، ينتهي عام 2020، سينجم عنه انكماشٌ في الاقتصاد العالمي بنسبة سالب 3% عام 2020، ثم ينتعش عام 2021 ليحقق نمواً بمعدل 5.8%. كما يتوقع صندوق النقد الدولي بالنسبة لمجموعات مختلفة من الدول أن تعاني كلٌّ من الاقتصادات المتقدمة، والدول المنتجة للنفط في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من أكبر انخفاض جراء وباء “كوفيد-19” وأضعف انتعاش، فيما ستشهد كل من الأسواق الناشئة والدول النامية، والاقتصادات النامية منخفضة الدخل، تأثيراً سلبياً أخفّ في عام 2020 يعقبه انتعاش قوي عام 2021.
المصدر: صندوق النقد الدولي، آفاق الاقتصاد العالمي، أبريل 2020
ومن المتوقع أن يكون التأثير في العالم العربي حاداً بالنسبة إلى الدول المصدرة للنفط، خصوصاً الدول ذات الاقتصادات الأقل تنوعاً، مثل الجزائر والعراق، في حين أن الدول ذات الاقتصادات الأكثر تنوعاً، مثل المملكة العربية السعودية، ودولة الإمارات العربية المتحدة فستشهد انكماشاً أقل عام 2020 وانتعاشاً معتدلاً عام 2021.
كما سيعاني بعض الدول العربية الأخرى، إما بسبب اعتمادها على سلعة تصديرية رئيسية (مثل المغرب وموريتانيا)، أو بسبب انعدام الإصلاحات الاقتصادية (مثل الأردن وتونس)، في حين يتوقع صندوق النقد الدولي أن مصر وحدها ستكون قادرة على الحفاظ على نمو إيجابي عام 2020، وتحقيق نمو معتدل عام 2021، وذلك بفضل نجاح برنامج الإصلاح الاقتصادي الشامل الذي اعتمدته عام 2016 وانتهى في أواخر عام 2019.
المصدر: صندوق النقد الدولي، آفاق الاقتصاد العالمي، أبريل 2020
ومن المتوقع أن تعكس معدلات التضخم تباطؤ الاقتصاد العالمي إلى حدٍّ ما، وأن تشهد انخفاضاً طفيفاً عام 2020 بالنسبة للاقتصادات المتقدمة، والاقتصادات الناشئة، والدول النامية، ودول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، في حين سترتفع قليلاً بالنسبة للدول النامية منخفضة الدخل بحيث تتوافق مع التوقعات التي ترى أن هذه المجموعة من الدول ستحقق معدلات نمو اقتصادي حقيقي إيجابية ومعتدلة.
المصدر: صندوق النقد الدولي، آفاق الاقتصاد العالمي، أبريل 2020
ومن المتوقع كذلك أن يحقق معظم الدول المصدّرة للطاقة في العالم العربي التي تعمل بنظام أسعار الصرف الثابتة، معدلات تضخم سالبة أو إيجابية أقل من 1% أو تساويه (المملكة العربية السعودية، وقطر، والكويت، والعراق)، ويمكن لمعدلات التضخم السلبية هذه والمنخفضة للغاية أن تشكل مشكلة لأنها قد تؤدى إلى تباطؤ كبير في الطلب المحلي. أما بالنسبة لبعض الدول المصدرة للنفط وتعمل بنظام أسعار الصرف الثابتة (دولة الإمارات العربية المتحدة والبحرين)، فمن المتوقع أن تحقق عام 2020 معدلات تضخم معتدلة؛ ليست عالية بما يثير القلق ولا منخفضة جداً لتبطئ الطلب المحلي، ما يعني أن لديها فرصة أفضل للتعافي الاقتصادي بوتيرة أسرع.
وفي ما يتعلق بالدول العربية غير المنتجة للنفط، فمن المتوقع أن تحقق تونس، والمغرب، والأردن معدلات تضخم سلبية أو منخفضة جداً من شأنها أن تُطيل عملية التعافي الاقتصادي في حين من المتوقع أن تحقق مصر معدلاً للتضخم يبلغ 5.9% عام 2020، ومعدلاً أعلى يبلغ 8.2% عام 2021؛ وعلى الرغم من أن هذه المعدلات أعلى بكثير من نظيراتها في جميع الاقتصادات العربية الكبرى تقريباً، فإنها تظل داخل نطاق معدل التضخم المستهدف الذي وضعه البنك المركزي المصري عند مستوى أحادي الرقم على المدى المتوسط.
المصدر: صندوق النقد الدولي، آفاق الاقتصاد العالمي، أبريل 2020
وتعمل الحكومات في جميع أنحاء العالم على تقديم حزم تحفيز مالي من خلال زيادة الإنفاق الاجتماعي، والإعانات، والتخفيضات الضريبية لمواجهة تأثير “كوفيد-19” السلبي على الشركات الصغيرة والبطالة، لذا من المتوقع أن يكون التأثير في الميزانية الحكومية كبيراً، ومن المتوقع أن يحدث ارتفاع حاد في عجز الميزانية، كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي، في الاقتصادات المتقدمة في المتوسط، من سالب 3 فقط من الناتج المحلي الإجمالي عام 2019 إلى سالب 10.6% من الناتج المحلي الإجمالي عام 2020؛ وعلى نحو مماثل، من المتوقع أن يرتفع عجز الميزانية في المتوسط بالنسبة للأسواق الناشئة، والدول النامية من سالب 4.7% من الناتج المحلي الإجمالي عام 2019 إلى سالب 8.9% من الناتج المحلي الإجمالي عام 2020؛ وفي ما يتعلق بدول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، فمن المتوقع أن يرتفع عجز الميزانية الحكومية في المتوسط من سالب 3.4% من الناتج المحلي الإجمالي عام 2019 إلى سالب 10.7% من الناتج المحلي الإجمالي عام 2020، ومع هذا، ينبغي ملاحظة أن أحد الأسباب الرئيسية لتدهور توازن الميزانية في هذه المجموعة من الدول هو الانخفاض الكبير في أسعار النفط العالمية.
المصدر: صندوق النقد الدولي، آفاق الاقتصاد العالمي، أبريل 2020
إن تأثير انخفاض أسعار النفط بين الدول العربية واضح بالنسبة إلى توقعات عام 2020، ومن المتوقع أن يكون توازن الميزانية الحكومية سالباً وبنسبة عالية من الناتج المحلي الإجمالي في حالات الدول المصدرة للنفط مثل العراق (سالب 22.3% من الناتج المحلي الإجمالي)، وسلطنة عمان (سالب 16.9%)، والجزائر (سالب 15%)، والمملكة العربية السعودية (سالب 12.6%)، ودولة الإمارات العربية المتحدة (سالب 11.1%).
ستشهد، في الوقت نفسه، الدول العربية غير المصدرة للنفط عجزاً مرتفعاً في الميزانية عام 2020 نتيجةً للإنفاق الاجتماعي والإعانات والانخفاض المحتمل في الإيرادات الضريبية بحيث سيبلغ العجز في مصر سالب 7.7% وفي الأردن سالب 6.7% وفي المغرب سالب 7.1%. كما أنه من المتوقع أن يكون سد العجز المتزايد في الميزانيات الحكومية في المستقبل تحدياً كبيراً أمام الدول العربية على المدى المتوسط.
المصدر: صندوق النقد الدولي، آفاق الاقتصاد العالمي، أبريل 2020
ومن غير المتوقع أن تشهد الدول المتقدمة والأسواق الناشئة والدول النامية اتجاهاً عكسياً كبيراً في الحساب الجاري لميزان المدفوعات، ولكن دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا هي المجموعة الوحيدة التي يُتوقَّع أن تعاني اتجاهاً عكسياً قوياً في الحساب الجاري لميزان المدفوعات بسبب انهيار أسعار النفط ومشاكل القطاع السياحي؛ ففي المتوسط، من المتوقع أن تشهد منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا اتجاهاً عكسياً من فائضٍ في الحساب الجاري لميزان المدفوعات يبلغ 1% من الناتج المحلي الإجمالي عام 2019 إلى عجز كبير في الحساب الجاري بنسبة سالب 6% من الناتج المحلي الإجمالي عام 2020، ومن المتوقع أن يستمر هذا العجز عام 2021 ولكن بنسبة أقل من الناتج المحلي الإجمالي (سالب 4.8%).
المصدر: صندوق النقد الدولي، آفاق الاقتصاد العالمي، أبريل 2020
يَتَوقع أن تسجل جميع الدول العربية الكبرى تقريباً عجزاً في الحساب الجاري لميزان المدفوعات بنسبة أكبر من المعتاد أو اتجاهاً عكسياً، ويتجلى هذا في حالات العراق (سالب 21.7%)، والجزائر (سالب 18.3%)، والمملكة العربية السعودية (سالب 3.1%)، والكويت (سالب 10.2%)، وقطر (سالب 1.9%) ويستثنى من هذا الاتجاه دولة الإمارات العربية المتحدة التي يُتوقَّع أن تكون الدولة الوحيدة التي تحتفظ بفائض في حسابها الجاري لميزان المدفوعات، وذلك بفضل نجاح سياسات تنويع الاقتصاد، أما مصر التي يتوقع أن تسجل (سالب 4.3%)، فستشهد هي الأخرى عجزاً معتدلاً أقرب إلى مستويات العجز الذي شهدتها قبل أزمة “كوفيد-19″، وذلك بفضل برنامج الإصلاح الاقتصادي الصارم الذي جرى تنفيذه خلال الفترة 2016-2019.
خاتمة
في ظل تفشي وباء كوفيد-19 وتهديده الماثل للاقتصاد العالمي، تواجه الدول العربية وضعاً فريداً يتمثل في صدمة سلبية مزدوجة؛ لأن أسعار النفط أخذت تهبط إلى مستويات دنيا نتيجة لفرط العرض وتباطؤ الطلب وانعدام القدرة التخزينية. وجدير بالذكر، في هذا السياق، أن الدول العربية المصدرة للنفط عموماً، مع بعض الاستثناءات، تواجه انتكاسة كبيرة في النمو الاقتصادي، واتجاهاً عكسياً في توازن الحساب الجاري من فائضٍ إلى عجز، وخسائر محتملة لصناديق الثروة السيادية، وزيادة العجز في المركز المالي الحكومي العام.
وبالنسبة للدول غير المصدرة للنفط، فمن المتوقع أن يحدث تأثير كبير بسبب انخفاض السياحة، وتحويلات العمال، وخروج الاستثمارات الأجنبية من محافَظ الأوراق المالية على غرار ما حدث في مصر على وجه الخصوص. كما أخذ التباطؤ الاقتصادي الناجم عن ذلك، ومعدلات البطالة المرتفعة في فرض ضغوطات على الحكومات تدفعها إلى تقديم حزم تحفيز نقدية ومالية تؤدي إلى ارتفاع عجز الميزانية الحكومية وإلى فجوة كبيرة في التمويل بالنسبة إلى كل من الحكومة والاقتصاد بأكمله.
يمكن تغيير اتجاه هذا التأثير السلبي إلى العكس على المستويين القصير والمتوسط إذا بدأت مكافحة انتشار “كوفيد-19” تؤتي ثمارها قريباً، غير أن التعافي ومعالجة الاختلالات الداخلية والخارجية قد يستغرق وقتاً طويلاً إذا استمر الوباء أو عاد مرة أخرى في المستقبل القريب.
- المرجع
صندوق النقد الدولي، آفاق الاقتصاد العالمي، أبريل 2020، واشنطن دي سي، الولايات المتحدة الأمريكية.
التعليقات