مقدمة
إن أمن المياه يُعدّ ركيـزة أساسية في حياة البشرية
جمعاء، ومؤخرًا زاد الحديث حول خطورة إهمال هذا الموضوع؛ نظرًا للتداعيات الكارثية
التي قد تبـرز من انعدام الأمن المائي، فعلى سبيل المثال، يعيش اليوم 3 من كل 4
أشخاص في بلدان تعاني انعدام الأمن المائي، والعديد من البشر يموتون جراء نقص مياه
الشرب المأمونة وخدمات الصرف الصحي والنظافة الصـحية، مقارنة بالكوارث المتعلقة
بالمياه، وفقًا لتقييم الأمم المتحدة العالمي لأمن المياه[1]. بعبارة أخرى، يهدد التغيّـرُ المناخي الأمنَ المائي؛ فَتَقَلُّبُ
المناخ والظواهر الجوية القاسية، قد يؤديان إلى انخفاض كبير في كمية ونوعية
الموارد المائية. ووفقًا لتقرير الهيئة الحكومية الدولية المعنيّة بتغيّـر المناخ
(IPCC) الصادر في عام 2022، من المتوقَّع أن يؤدي
التغيّـر المناخي إلى تقليل موارد المياه السطحية والجوفية غيـر المتجددة بشكل كبيـر
في معظم المناطق شبه الاستوائية الجافة، وتكثيف المنافسة على المياه بين مختلف القطاعات.
بالإضافة إلى ذلك، مع الزيادة السريعة في متوسط درجات
الحرارة العالمية، سيصبح الأمن المائي في المستقبل أكثر عُرضةً للخطر في بقاع
متعددة من العالم؛ لذلك باتت إشكالية معالجة آثار التغيّـر المناخي على الأمن
المائي من خلال تنفيذ استراتيجيات التكيّف للتخفيف من الضرر، أولوية قصوى.
تأسيسًا على ما تقدّم، تناقش هذه الدراسة إشكالية
رئيسية تتمثل في مسألة آثار التغيّـر المناخي المهدِّدَة للأمن المائي، وتطرح
تساؤلًا حول ماهية التغييـر الذي يتعين على البشر اتباعه لتحسين سلوكياتهم في
التعامل مع البيئة، فإشكالية الأمن المائي تتطلّب إحداث تغييـر جوهري في أنماط
الحياة المُعاشة، لتكون المحصلة تراجع معدل انبعاثات غازات الدفيئة. كما تسلّط
الدراسة الضوء على تهديدات الأمن المائي، وتحدد مدى قدرة السكان على حماية الوصول
المستدام إلى كميات كافية مقبولة من الموارد المائية، ومدى تداعيات التغيّر
المناخي على سُبل العيش ورفاهية الإنسان، مع التطرق إلى التنمية الاجتماعية
والاقتصادية؛ بغية الوصول إلى الحماية ضد التلوث الناجم عن المياه والكوارث
المتعلقة بالمياه، والحفاظ على النُّظُم الإيكولوجية في مناخ يسوده السلام
والاستقرار السياسي.
أولًا: تأثير التغيّر المناخي على الأمن المائي
يشهد العالم في الوقت الراهن العديد من التهديدات
الناجمة عن التغيُّـر المناخي، فقد تأثرت دول عدة بزيادة الانبعاثات الكربونية،
كما أن مناطق كثيـرة لا تزال عُرضة للتأثر على نحوٍ يُنذر بحدوث عواقب وخيمة. جاء
ذلك في ظل الضغط الاقتصادي بسبب الزيادة الملحوظة في معدل النمو السكاني العالمي،
وما تَبع ذلك من تأثير على الموارد الطبيعية المتاحة؛ خصوصًا مع زيادة أنماط
الاستهلاك والإنتاج في المجال الاقتصادي على مستوى العالم.
على هذا النحو، كان لزامًا على الاقتصادات العالمية
اعتماد نهـج بديل فيما يتعلق بالممارسات الاقتصادية المتَّبَعة بشكل عام، وذلك من
خلال ضرورة مراعاة الجوانب الاجتماعية والبيئية لِـمَا لها من تأثيرات مهمة في هذا
الصدد. ويتمحور هذا النهج حول دعم القطاع الخاص على نحوٍ يمكِّنه من العمل وفق
إطار التنمية المستدامة باعتبارها جزءًا محوريًّا ضمن خطة النمو الاقتصادي، التـي
تستهدف بالأساس التحول نحو الاقتصاد الأخضر.
ويتسبب النمو السكاني بوتيرة متسارعة وما يصـحبه من
تغيُّـر مناخي حادّ، بالعديد من التأثيرات السلبية على النمو الاقتصادي؛ وذلك لما
يمثّله من تهديد مباشر لقطاعات رئيسية، مثل: الصـحة البيئية، والرعاية الاجتماعية،
ويمكن لهذه الأزمات أن تتفاقم إذا لم تُتّخذ الإجراءات اللازمة والتدابير الكافية
لمواجهتها.
ووفقًا لـ “إدارة الشؤون الاقتصادية
والاجتماعية التابعة للأمم المتحدة” (UNDESA)، فمن المتوقَّع بحلول عام 2050 أن يبلغ عدد سكان العالم 9.7
مليارات نسمة، وبالتالي سنواجه معاناة عدم توافق بين النمو السكاني وكمية الموارد
المتاحة؛ حيث تؤدي الزيادة في عدد السكان إلى الارتفاع المُفرِط في الطلب على
الموارد الطبيعية، وتزداد الحاجة إلى التنمية الاقتصادية وزيادة الإنتاج؛ بهدف
تلبية الحاجات الأساسية للأفراد[2]. بَيْدَ أن زيادة معدل
الإنتاج مصـحوبًا بنقص الوعي البيئـي وتجاهُل أسس الاستدامة، تسبَّبت كلها في جعل البشرية
في نهاية المطاف عُرضةً بشكل خاص للتأثيرات السلبية الناجمة عن التغيُّـرات
البيئية، فضلًا عن الاستنزاف المتسارع لرأس المال الطبيعي[3].
وفي الوقت نفسه، فإن جميع المناطق لديها بلدان ذات
مستويات منخفضة من الأمن المائي؛ لذلك تواجه البلدان الأقل نموًّا والدول الجزرية
الصغيرة النامية، على وجه الخصوص، مستويات حرجة من الأمن المائي؛ بسبب مجموعة من
العوامل المركبة. وتعاني 23 دولة، منها 16 دولة من الدول الأقل نموًّا، و7 من
الدول الجزرية الصغيرة النامية- انعدام الأمن المائي بشكل خطيـر؛ من بينها: جزر
سليمان، وإريتريا، والسودان، وإثيوبيا، وأفغانستان، وجيبوتي، وهايتي، والصومال، وباكستان.
في حين تتمتع 33 دولة من ثلاث مناطق جغرافيّة، بالأمن المائي[4]، وتأتي السويد كأكثر الدول أمانًا
بالمياه، إلى جانب دول أوروبية أخرى، وبعض الدول في منطقة آسيا والمحيط الهادي،
ومن الأمريكتين تأتي كندا والولايات المتحدة الأمريكية اللتان انضمتا إلى مجموعة
الأمن المائي.
إن وفرة المياه لا تضمن بالضرورة
الأمنَ المائي؛ حيث تعاني بلدان عديدة في أفريقيا وآسيا والمحيط الهادي
والأمريكتين -ذات موارد المياه العذبة الوفيرة- معدلاتٍ عاليةً من الوَفَيَات
الناجمة عن المياه والصرف الصحي والنظافة الصـحية؛ بسبب محدودية الوصول إلى المياه
والصرف الصحي الآمن، وضعف جودة المياه ذات القيمة الاقتصادية المنخفضة، إلى جانب الخسائر
الاقتصادية المرتفعة المحتمَلة جرّاء الفيضانات أو الجفاف[5].
وتشير تقديرات المنظمة العالمية للأرصاد الجوية (WMO) إلى أن 3.6 مليارات شخص في جميع أنحاء العالم يعيشون في مناطق تَنْدُر فيها المياه لمدة شهر واحد على الأقل في السنة، لكن هذا الرقم قد يصل إلى 4.8 أو 5.7 مليارات بحلول عام 2050، وفقًا لتقرير الأمم المتحدة حول تنمية المياه في العالم. وبالتالي فإن المياه مورد نادر يتأثر بتغيّـر المناخ بشكل جارف [6]. ووفقًا لتصريحات “اليونيسف”، فإن ارتفاع درجات الحرارة يمكن أن يجذب أيضًا مسبِّبات الأمراض الفتاكة، مثل الكوليرا أو حمى التيفويد، إلى مصادر المياه العذبة؛ الأمر الذي يجعل استهلاك المياه يشكّل خطرًا على الأفراد. ويوضح الشكل رقم (1) والشكل رقم (2) آثار التغيُّر المناخي في العديد من النُّظُم البيئية والبشرية عالميًّا.
الشكل
(1) آثار التغيُّر المناخي في العديد من النُّظُم البيئية
Source: Intergovernmental Panel on
Climate Change, Climate Change 2022: Impacts, Adaptation and Vulnerability,
Working Group II contribution to the Sixth Assessment Report of the
Intergovernmental Panel on Climate Change, 2022, p. 46.
الشكل (2) أثر التغيُّر المناخي على النُّظُم البشرية
Source: Intergovernmental
Panel on Climate Change, Climate Change 2022: Impacts, Adaptation and
Vulnerability, Working Group II contribution to the Sixth Assessment Report of
the Intergovernmental Panel on Climate Change, 2022, p. 46.
لا يزال الوصول إلى مياه الشرب والصرف الصحي، المُدارة
بأمان، حلمًا بعيد المنال لأكثـر من نصف سكان العالم. وإن أكثـر من 70% (ما يقرب
من 5.5 مليارات) إنسان لا يحصلون على مياه صالحة للشرب، وتستحوذ القارة الأفريقية
على أدنى مستويات الوصول؛ حيث تصل نسبة السكان الذين يحصلون على مياه صالحة للشرب
إلى 15% فقط من سكان المنطقة (EPA, 2023)[7].
وتعاني أفريقيا أدنى مستويات خدمات المياه والصرف
الصحي والنظافة الصـحية على مستوى العالم، الأمر الذي يسهم في انخفاض مستويات
الأمن المائي في المنطقة. وهناك نحو 31% (أكثـر من 411 مليون نسمة) من السكان في
54 دولة أفريقية، بما في ذلك 33 من الدول الأقل نموًّا، و6 من الدول الجزرية
الصغيرة النامية، لا يحصلون على خدمات مياه الشرب الأساسية. فقط 201 مليون نسمة (15%)
يحصلون على مياه الشرب المدارة بأمان. وفي حالة خدمات الصرف الصحي، لا يزال 1.1
مليار نسمة (82%) يعيشون دون الوصول إلى خدمات الصرف الصحي المدارة بأمان[8].
ونتيجة لذلك، يموت عدد أكبـر من السكان جرّاء نقص
وتردّي خدمات المياه والصرف الصحي والنظافة الصحية على مستوى العالم، وهم أكثـر من
أولئك الذين لَقوا حتفهم في الكوارث المتعلقة بالمياه (كما يوضـح الشكل رقم 3). وما
يزيد الأمر سوءًا، هو عدم وجود تحسُّن ملحوظ في هذا المجال، فقد شهد عام 2019
زيادة في معدلات الوفيات المرتبطة بالمياه والصرف الصحي والنظافة الصـحية في 164
دولة، مقارنة بتقديرات منظمة الصـحة العالمية لعام 2016.
الشكل
(3) الدرجات الوطنية للصحة الجيدة مشار إليها بالوَفَيات الناجمة عن المياه والصرف
الصحي والنظافة الصحية
Source: United
Nations University Institute for Water, Environment, and Health, Hamilton, ON, Canada, “Global Water
Security 2023 Assessment.”, 2023.
وبالانتقال
إلى تأثير آخر للتغيّـر المناخي على الأمن المائي، نجد الفيضانات، التي ضاعفت عدد
البلدان المُعرَّضة لخطر الفيضانات والجفاف، وهذا من التحديات التـي تهدد سلامتها
الاقتصادية. وبحسب المنطقة، يوجد في أفريقيا أكبـر عدد من البلدان المعرَّضة بشدة
لخطر الفيضانات والجفاف، بينما تشهد أيضًا نموًّا سكانيًّا متسارعًا وتحضُّرًا
وتصنيعًا، إلى جانب ضعف البنية التحتية والقدرة على إدارة تأثير الكوارث المتعلقة
بالمياه، الأمر الذي يزيد من انعدام الأمن المائي، ويوضح الشكل رقم (4) التغيّرات
المتوقَّعة خلال الفترة 2071-2100.
وعليه، يمكن
أن يؤدي التغيّر المناخي إلى تفاقم الاتجاهات المُقلِقة، مثل أزمات المهاجرين[9]؛ حيث يَفرُّ الأفراد من
المناطق التي تتعرض بشكل متزايد للكوارث الطبيعية التي تتفاقم بسبب التغير المناخي
وارتفاع مستويات سطح البحر، وتكرار الأعاصير القوية، والجفاف الذي يهدد إمدادات
المياه العذبة؛ لذا فمن المتوقَّع أن يهاجر نحو 20 مليون شخص من منازلهم إلى مناطق
جديدة، جرّاء محدودية الموارد الطبيعية، مثل مياه الشرب، والندرة المائية التي تَعُمّ
مناطق عديدة من العالم، والتهديدات المتوقَّعة للمحاصيل الزراعية والماشية[10].
الشكل (4) التغيّرات المتوقَّعة في فيضانات الأنهار في الفترة 2071-2100 مقارنة بالفترة 1970-2000
Source: IPCC,
2022: Climate Change 2022: Impacts, Adaptation and Vulnerability. Contribution
of Working Group II to the Sixth Assessment Report of the Intergovernmental
Panel on Climate Change [H.-O. Pörtner, D.C. Roberts, M. Tignor, E.S.
Poloczanska, K. Mintenbeck, A. Alegría, M. Craig, S. Langsdorf, S. Löschke, V. Möller, A. Okem, B. Rama
(eds.)]. Cambridge University Press. Cambridge University Press, Cambridge, UK
and New York, NY, USA, 3056 pp., doi:10.1017/9781009325844.
في هذا الصدد، أدرج التقرير الصادر عن جمعية
“كريستيان إيد” بالمملكة المتحدة، والمعنون بـ “حساب التكلفة
لعام 2022: عام من انهيار المناخ”، لأول مرة أكثـر 10 كوارث مناخية بالغة
التكلفة في عام 2022. ووفقًا للتقرير، يمثّل الحد الأدنى البالغ 3 مليارات دولار
أمريكي[11] تصاعدًا واضـحًا عن تقرير
عام 2021، الذي ذكر 10 كوارث بلغت تكلفتها نحو 1.5 مليار دولار أمريكي أو أكثر[12].
وأشار التقرير إلى أن طريقة تصنيف الكوارث -التي
تركز عادةً على خسائر التأمين- تميل بشكل غيـر متناسب إلى تسليط الضوء على الأحداث
في البلدان الأكثـر ثراءً؛ حيث دائمًا ما تكون التأثيرات الاقتصادية أعلى من حيث
القيمة المطلقَة في البلدان ذات الدخل المرتفع، فالقيمة الاقتصادية للبنية التحتية
والمنازل تميل إلى الارتفاع، وتكاليف المعيشة أكبـر وتتم تغطية المزيد من خلال
التأمين، وعادة ما يكون عدد الوفيات أعلى في البلدان الفقيرة.
على سبيل المثال، كانت فيضانات باكستان سادس أعلى
حدث في الخسائر “ماليًّا” في القائمة، وكانت أيضًا الكارثة ذات التكلفة
البشرية الأعلى، وذلك بحسب ما أشارت إليه صـحيفة الجارديان البريطانية، فقد أسفرت
الفيضانات عن مقتل 1739 شخصًا وتشريد 7 ملايين[13].
أكثر 10 كوارث مناخية تكلفةً في عام 2022