يمكن أن تُفهم الدولة الموازية التي سعى الإخوان المسلمون إلى تشكيلها في مصر على أنها نتاج لبنية من العلاقات المعقدة بين الدولة والمجتمع؛ مثلت صراعاً بين حركة براغماتية تُكيّف حراكها مع الحكومة وفق متغيراتها المختلفة، ودولة واجهت صعوبات في الإيفاء بالتزاماتها تجاه المجتمع، ما أفسح المجال لها – أي للحركة –لتصدّر التفاعلات المجتمعية والسياسية والاقتصادية داخل المجتمع بأكمله.
البنّا وإرث جماعة الإخوان:
ثمّة الكثير من الحديث الذي يمكن أن يُقال عن إرث جماعة الإخوان المسلمين الذي مكنّها من السلطة وبناء دولتها الموازية في مصر، فرغم توصيف حسن البنّا لجماعته عند تأسيسها بأنها حركة تسعى لإحداث التغيير الاجتماعي ولا شأن لها بالسياسة، فإنها بعد عقد من تأسيسها وتحديداً في مايو 1938 أعلنت عن دخول معترك العمل السياسي وتبني مواقف معادية للحكومة والنخب السياسية القائمة. وهو ما تجلى في تصريح البنّا الذي قال فيه:
“إلى الآن أيها الإخوان لم تخاصموا حزباً ولا هيئة كما أنكم لم تنضموا إليهم كذلك.. أما اليوم ستخاصمون هؤلاء جميعاً في الحكم وخارجه خصومة شديدة إن لم يستجيبوا لكم ويتخذوا مقاليد الإسلام منهاجاً يسيرون عليه ويعملون له.. فإما ولاء وإما عداء”[1].
وهذا التحوّل نحو العمل السياسي لم يولد فجأة بل كان حصيلة تحوّلات عدة؛ منها تنامي قدرات الجماعة وتوسع تأثيرها المجتمعي، وتموضعها في مجال التأقلم مع السياسات الحكومية، ومشاركتها في حرب فلسطين التي أفضت عليهم قبولاً ودعماً شعبيين. ونشير هنا إلى قيام الإخوان بتكوين مجموعات داخل الجيش، والشرطة، والقضاء، بالإضافة إلى تأسيس “النظام الخاص” في أواخر ثلاثينيات القرن الماضي وتحديداً في مايو 1938.
ويعد هذا “التنظيم الخاص” بمثابة جهاز أمني وعسكري واستخباري للجماعة شكلّ تهديداً للحكومة بعد وقوفه وراء سلسلة اغتيالات طالت آنذاك شخصيات سياسية وقضائية. ولعل السؤال الجدير بالطرح هنا هو مدى حاجة جماعة دعوية اجتماعية لتشكيل ذراع عسكري وجهاز مخابرات وفرق اغتيالات، إن لم يكن ذلك رغبة في تعزيز قدراتها وتمكينها من تغيير المعادلة السياسية الرامية إلى إسقاط نظام الحكم؟
لقد ظلت فكرة الوصول إلى الحكم تداعب البنّا، غير أنه ولتحقيق هذه الغاية آثر المقاربة الهادئة التدرجية، وتوظيف تراكم الضغوط الاقتصادية والسياسية لحشد التأييد الشعبي لصالحه؛ ففي سياق مواجهة الإخوان للحكومة المصرية، عبّأ البنّا الشرائح المتعلمة وتلك الأكثر فقراً وخاطبهم مباشرة وتعاطى مع همومهم ورغبتهم الجارفة في تحقيق شروط العيش الكريم وخوض غمار الإصلاح، والتحرر من الاستعمار.
وقد مكّن هذا الحراك البنّا من التأثير في المشاعر الشعبيّة، وحفزها على قبول حلول الجماعة في معالجة الأزمات، ليتم تحويل القوى الشعبية إلى قوة ضاربة يتم اللجوء إليها متى ما تطلب الأمر ذلك. ولم يكن انخراط الجماعة في هذا المسار إلا مرحلة في اتجاه بناء هياكل دولة الإخوان الموازية؛ إذ تضمنت رسائل البنّا الدعوة إلى ضرورة مرور هذا البناء الموازي عبر التحكم في مناهج ونظم التعليم والتربية ووسائل الإعلام، والمؤسسات الخيرية، وصولاً للسيطرة على الدولة واختراق المؤسسات الرسمية.
وتحقيقا لهذه الغاية أسهمت الشركات المملوكة لأعضاء جماعة الإخوان المسلمين في تمويل شبكة كبيرة من الجمعيات الخيرية والمستشفيات والخدمات الاجتماعية التي تساعد في بناء الدعم الشعبي. كما حرص الإخوان على بناء شبكة واسعة من مؤسسات المجتمع المدني التي أقامت رياض الأطفال، والمدارس والمعاهد والجامعات، والعيادات والمراكز الصحية، والصحف والقنوات الفضائية والمؤسسات الاقتصادية، تم استخدامها للتأثير في توجهات الناس وقراراتهم، وتعظيم حضور الجماعة السياسي والمجتمعي.
وبالمعنى نفسه، عملت الهياكل الإخوانية الموازية على تعزيز مكانة الجماعة السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية والثقافية من خلال مجموعة من المنظمات والمؤسسات التي تشبه مؤسسات الدولة في تنظيمها وإدارتها، ولكنها ليست جزءاً رسمياً منها أو من الحكومة الشرعية. ويعزز ما تقدم ادعاءاتهم بامتلاك الحقيقة في بيئة متخمة بالأزمات ترى الجماعة أن حل مشاكلها يمر عبر إخضاع المنتسبين إليها لعملية تنشئة تشكّل مداركهم وفهمهم للعالم من خلال منظومة أفكار ورموز وطقوس تفضي إلى إيجاد مجتمع مضاد داخل المجتمع المصري.
وسيكون لهذا المجتمع المضاد ذاكرته الخاصة ووعيه القائم على مزيج من الحقائق والأوهام التي تحكي قصة مقدسة من المعاناة التي يرسلها الله، “ليتحقق لهم الانتصار” في ما بعد، فهم وحدهم يمتلكون مشروعية الحكم.
ودولة البنّا الموازية – بهذا المعنى – تقوم على السمع والطاعة حيث يكون المنتمون إليها مجرد كم مطيع، لا حق له في إبداء رأي مخالف لرأي النخبة ومرشدها، والتنفيذ دون نقاش، لتلغي الجماعة بذلك حرية التعبير، وتصبح جماعة تمارس الأبوية السياسية، ما يعني استمرار الاستبداد في مصر تحت ستار ديني.
ويكشف ما قاله إسلام الكتاتني – القيادي السابق في جماعة الإخوان المسلمين لصحيفة الوطن في مقابلة معه بتاريخ ديسمبر 2015 – عن هذا الفكر المستبد وفلسفة الخضوع في طريقة عمل الإخوان بقوله: “تركتهم لعدة أسباب. فأنا أرفض القيود ومبدأ “السمع والطاعة” الذي يفرضونه. يكادون يقدسون قادتهم وليس فقط احترامهم. إنهم يعطون الأولوية لمصالح المجموعة على الدولة، ويؤمنون بوجود منظمة سرية. علاوة على هذا، تعمل جماعة الإخوان على القضاء على التيارات الأخرى، ولا تستمع إلى أي شيء آخر غير أفكارها”[2].
الدول الموازية الإخوانية… مشروع اختراق
وليس استدراج المجتمع عبر الخدمات الاجتماعيّة والاقتصاديّة المغلفة بالشعارات الأخلاقيّة والدينيّة، إلا سعي إخواني لكسب تعاطف الفئات الهشّة والطبقات الفقيرة، وترسيخ الشعور لديها بوقوف الجماعة إلى جانبها والتخفيف عن كاهلها؛ وهو ما سمح للإخوان بالتمدد المجتمعي وكسب الأصوات في الانتخابات البلدية والبرلمانية. ولذا، اتجهت خطة الإخوان للتغلغل في المجتمع والدولة عبر عدد من المقاربات، من أهمّها:
- أولاً – السيطرة على مناهج التربية والتعليم إما عن طريق إنشاء منظومة تربوية إخوانية خاصة لمختلف المستويات الدراسية، أو عن طريق اختراق المنظومة الرسميّة عبر البرامج والمناهج الدراسية واستقطاب المدرّسين قصد التدخل في تشكيل توجهات الأجيال الناشئة والتأثير في قناعاتهم.
- ثانياً – العمل مع النّاس وبالقرب منهم عبر تقديم الخدمات والعون لهم، وملء الفراغ الّذي تركته الدولة من خلال المؤسسات الخيرية والخدمية التي قاموا بتأسيسها، ومساعدة الأفراد مادياً على تكوين المشاريع الاقتصادية الصغيرة.
- ثالثاً – اختراق منظمات المجتمع المدني على اختلاف توجهاتها واهتماماتها بما فيها المؤسّسات الدينيّة الرسميّة مثل الأزهر وجمعيّات الأوقاف.
- رابعاً – اختراق وسائل الإعلام والقنوات الفضائية والهيئات الثقافيّة ذات التأثير الواسع في المجتمع لبث مشروعهم الفكري والسياسي أو تأسيس وسائل إعلامهم الخاصة والاهتمام بالإعلام الرقمي وتحديداً المواقع الإلكترونية لما تتيحه من إمكانات التعبير غير المحدودة دون التعرض لمخاطر التتبع من الحكومات.
كراهية الدولة.. أهم مرتكزات المشروع الإخواني
تربى أعضاء جماعة الإخوان المسلمين على كراهية الدولة باعتبارها دولة جاهلية ولابد من تغييرها بكل الوسائل، فهذه الجاهلية من وجهة نظر صاحب كتاب المعالم سيد قطب: “تقوم على أساس الاعتداء على سلطان الله في الأرض، وعلى أخص خصائص الألوهية وهي الحاكمية”. وبحسب قطب: “إن مهمتنا الأولى هي تغيير واقع هذا المجتمع. هذا الواقع الجاهلي من أساسه، والذي يصطدم اصطداماً أساسياً بالمنهج الإسلامي”[3].
ولعل أولى الخطوات التي دعا لها قطب هي الاستعلاء على المجتمع “الجاهلي” وقيمه وتصوراته، وبحسب ما قاله: “علينا ألا نُعدل في قيمنا وتصوراتنا قليلاً أو كثيراً لنلتقي معه في منتصف الطريق. كَلا! إننا وإياه على مفترق الطريق، وحين نسايره خطوة واحدة فإننا نفقد المنهج كله ونفقد الطريق”[4].
وتأسيساً على ما تقدم، قد سيطر حلم الدولة الإخوانية على فكر جماعة منذ مراحل تأسيسها الأولى، بل لعل هذا الحلم ولد مع الجماعة وعبرت عنه بصيغ كثيرة، كان من أوضحها شعار “الإسلام دين ودولة”، الذي أطلقته وتبنته عبر كل مراحل تاريخها المختلفة، وأوجدت له مبررات كثيرة تحت ذريعة استعادة “دولة الإسلام”.
هيكل تنظيمي يحاكي مؤسسات الدولة
يعبر الهيكل التنظيمي للإخوان المسلمين، عن جماعة سياسية ذات تشكيل هرمي يقف المرشد على رأسها متحكماً في عملية صنع السياسة واتخاذ القرارات، ويتبعه قيادات وأنصار، يقدمون له فروض السمع والطاعة. ويكاد هيكلهم التنظيمي يضمن للمرشد في مصر أو المراقب العام في الدول الأخرى صلاحيات وسلطات واسعة شبه مطلقة، مع إضافة مسحة من القدسية عليهما. ويمكن القول هنا إنها سلطات بلا حدود، تمكنه من إحكام قبضته على صنع السياسة واتخاذ القرارات داخل الجماعة دون اعتراض.
ويتولى مكتب الإرشاد مهام الوزارة التنفيذية، بينما يقوم مجلس الشورى بدور مجلس النواب، وتلعب الشُعب في سائر المناطق دور السلطات المحلية، وتتشابه أقسام الإخوان المسلمين في مهامها مع وزارات الدولة. فهناك أقسام للطلبة، والمعلمين، والعمال، والعسكريين، والسياسيين، والشؤون الاجتماعية، بحيث لا تكاد تكون هناك وزارة من وزارات الدولة الطبيعية إلا ولدى دولة الإخوان الموازية ما يماثلها.
وعندما نتحدث عن الدولة الموازية لابد من الإشارة إلى “أستاذية العالم” وهو منهج ترجع جذوره إلى مؤسس الجماعة حسن البنّا الذي قال: “يجب أن نصل إلى أستاذية العالم، والوطن وسيلة وليس غاية”. ومقولة مهدي عاكف المرشد العام السابق لجماعة الإخوان المسلمين: “طز في مصر، والإخوان فوق الجميع”[5] تثبت بما لا يقبل الشك أن الدولة الوطنية لا تشكل لهم أية أهمية قياساً بتحقيق حلم “أستاذية العالم”، لذلك فهم يسعون إلى ما يعتقدون أنه الشكل الشرعي الوحيد للمجتمع في الإسلام بوصفه خلافة عابرة للحدود.
وتشترك “دولة الإخوان المسلمين الموازية” مع الدولة الطبيعية في اعتماد المعايير البراغماتية، إذ أضحت المرونة في التكيف متغيراً يؤطر أنشطتها، ويحملها على تقديم التنازلات الضرورية، والقبول بالسياسات الحكومية والتعاطي معها. نذكر هنا اعتناقهم لفكرة الحاكمية التي لا تقبل بالنظم الوضعية، فالسلطة تحكمها العقيدة الدينية، وبالتالي ما يطرحه الإخوان عن تبنيهم للديمقراطية التداولية يكشف عن براغماتية عقائدية، من شأنها أن تسمح لهم بالانخراط في العملية السياسية ولكنها لا تكشف توجههم الحقيقي.
ولهذا، نجحت جماعة الإخوان في استغلال الزخم الشعبي الذي أوصلها للحكم بعد ثورة 25 يناير 2011، واستعجلت الكشف عن استبدادها عندما استبعدت الأحزاب المعارضة الأخرى، في محاولة منها للانفراد بالعملية السياسية وفرض توازنات جديدة في النظام السياسي. ولعل سعي الجماعة لـ”أخونة الدولة”، من خلال تمكين عناصرها في المؤسسات والوزارات، أعاد إلى الأذهان الوثيقة السرية التي أعدها القيادي الإخواني خيرت الشاطر عام 1992.
وقد شكلت هذه الوثيقة خطة متكاملة توجه الإخوان للاستعداد لتحمل المهام الإدارية والسياسية في المستقبل الأمر الذي لن يتأتّى إلا بخطة شاملة تضع في حسبانها ضرورة التغلغل في المؤسسات الفاعلة مع الالتزام باستراتيجية محددة للتعامل داخلياً وخارجياً. كما تضع الوثيقة في الحسبان ضرورة التغلغل في القطاعات الطلابية، وبين العمال، والمهنيين وقطاع رجال الأعمال، والفئات الشعبية الفقيرة؛ الأمر الذي يجعل مواجهة الجماعة أكثر صعوبة ويفرض على الدولة حسابات أكثر تعقيداً، ويعزز – في الوقت نفسه – فرص الجماعة وقدرتها على تحقيق “التمكين”.
وتعد خطة التمكين هذه التي وضعها خيرت الشاطر بمنزلة استراتيجية مستقبلية لحراك الجماعة السياسي آخذة في عين الاعتبار تحقيق “أخونة الدولة” بعد ثورة 25 يناير 2011، وكانت سبباً وراء سقوط الجماعة، لأنها حاولت التأسيس لشرعية جديدة خلافاً للشرعية الحكومية القائمة على التنوع والتعددية في سياسات التوظيف والعمل الحكومي.
ولعل الإجابة على سؤال “لماذا اتجهت جماعة الإخوان المسلمين في مصر إلى تشكيل دولة موازية”؟ يضع في اعتبارنا ملاحظة مسارها السياسي وصولاً لفوزها في الانتخابات التي أجريت في مايو 2012 وحصلت بموجبها على كرسي الرئاسة، إذ يعود الفضل في ذلك إلى الجذور الاجتماعية العميقة للإخوان المسلمين وقدراتهم في التعبئة وتحقيق التمدد المجتمعي بفعل البرامج الخيرية والتنموية.
ونخلص إلى القول، أن كلاً من البراغماتية والمراوغة وتقديم الخدمات للفئات المحتاجة، واختراق المجتمع بهياكله المتنوعة، وحشد الناس باستخدام الدين، أثمر دولة إخوانية موازية. ولهذا فإن التحدي الرئيس لمرحلة ما بعد الإخوان يتطلّب تنمية اقتصادية، وإصلاحاً دينيّاً جديّاً، وتعزيزاً للمناخ الديمقراطي التشاركي.
المراجع
[1] . حسن البنّا، مذكرات الدعوة والداعية، ويكيبيديا الإخوان المسلمين، متاح على الموقع: https://bit.ly/3eKqqBO
[2] Aya Samir, MB’s hard lesson since 2011: blind obedience does not work, Egypt Today, 24 Jan 2018, https://bit.ly/2J1NrED
[3] . نقلاً عن سيد قطب، معالم في الطريق (القاهرة: مكتبة وهبة، دون تاريخ نشر)، ص 19.
[4] . المصدر السابق.
[5] . خالد محمد علي، الصحافي سعيد شعيب: حوار «طز في مصر» كشف العداء للدولة المدنية، الإمارات اليوم، 03 يوليو 2010، متاح على الرابط: https://bit.ly/3mrxtC8
التعليقات