26 أغسطس 2020

تقييم دور منظمة التجارة العالمية في أعقاب أزمة “كوفيد-19”

د. أحمد الصفتي

كانت فكرة إيجاد منظمة عالمية مكرَّسة لترويج التجارة العالمية الحرة موضع جدل على الدوام، كما أن مراجعة تاريخ إنشاء منظمة التجارة العالمية وجولات المفاوضات التي أجريت تحت مظلتها والتطورات التي شهدتها يشكل دليلاً لا لبس فيه على تضاؤل نفوذ المنظمة، ويفسر التحديات التي تواجهها خلال أزمة “كوفيد-19″، وحتى قبلها.

لقد تم إنشاء منظمة التجارة العالمية رسمياً عام 1995، لتحلّ محل الاتفاقية العامة للتعرفة الجمركية والتجارة (الجات) التي كانت قد تأسست عام 1948 كتمهيد لمنظمة متكاملة مكرسة للتجارة الحرة. وظهرت اتفاقية الجات في الساحة العالمية بعد فشل منظمة التجارة الدولية التي كان يُفترض أن تكون وكالة تابعة للأمم المتحدة ومتخصصة في التجارة الدولية، غير أن الولايات المتحدة وبعض الدول الأخرى لم توافق على المعاهدة، ونتيجةً لذلك لم يتم تفعيلها مطلقاً.

لقد استغرق المجتمع الدولي نحو نصف قرن لكي يحوّل اتفاقية الجات إلى منظمة التجارة العالمية؛ ورغم هذا ما تزال الخلافات الواضحة بين الأطراف الأساسيين (الدول الفاعلة)، والمجموعات الرئيسية حول القضايا التجارية الدولية المحورية تجعل عمل المنظمة العالمية صعباً ونجاحها محدوداً في كثير من الأحيان.

ومن المفارقات أن التحديات التي تواجه منظمة التجارة العالمية ازدادت تعقيداً عندما بدأ المجتمع الدولي يدرك أهمية التجارة الدولية والتخصص ودورهما في تحقيق الكفاءة الاقتصادية والازدهار عن طريق استخدام سلاسل القيمة العالمية؛ فوفقاً لمنظمة التجارة العالمية، فإن قيمة التجارة العالمية بالدولار الأمريكي قد تضاعفت أربع مرات تقريباً منذ عام 1995، في حين أن الحجم الحقيقي للتجارة العالمية قد قفز فقط بمقدار 2.7 مرة. ورغم انخفاض التعرفة الجمركية إلى نصف ما كانت عليه تقريباً، من نحو 10.5% إلى نحو 6.4%، فإن التجارة الدولية ضمن منظومة سلاسل القيمة أصبحت تشكل نحو 70% من إجمالي تجارة السلع في الوقت الراهن. كما حققت التجارة الدولية نمواً أكبر بكثير من نمو الناتج المحلي الإجمالي العالمي الذي ازداد ضعفين خلال الفترة ذاتها[1].

ورغم ازدياد حجم التجارة الدولية، فإن منظمة التجارة العالمية تواجه تحديات متزايدة ظهرت على السطح بعد تأسيسها عام 1995 مباشرةً، وبعد النجاح الذي حققته جولة مفاوضات الأوروغواي – التي كانت الجولة الثامنة والأخيرة تحت مظلة الجات – من عام 1986 إلى 1994. وقد حققت جولة الأوروغواي نجاحاً كبيراً في تأسيس منظمة التجارة العالمية، والتوصل إلى اتفاق متعدد الأطراف حول تجارة السلع، والاتفاقية متعددة الأطراف في شأن تجارة الخدمات، ووضع معايير وآليات لحماية حقوق الملكية الفكرية، وتسوية النزاعات، ومراجعة السياسات التجارية التي تتبناها الحكومات.

ولكن جولة المفاوضات اللاحقة، جولة الدوحة – التي بدأت عام 2001 ولم تنتهِ قط – فشلت وتوقفت بسبب خلافات بين الدول النامية والدول المتقدمة (وبين الدول المتقدمة ذاتها) حول التعريفات الجمركية الصناعية، والحواجز التجارية غير الجمركية، والدعم الحكومي للقطاع الزراعي.

لقد أخذت التحديات التي تواجه منظمة التجارة العالمية تشتد في الآونة الأخيرة، حتى قبل ظهور وباء “كوفيد-19”. وهناك حكومات فرضت قيوداً تجارية تشمل جزءاً كبيراً من التجارة العالمية، وقد بلغ تأثيرها على الواردات العالمية 747 مليار دولار في العام الماضي فقط (2019). كما تعرض نظام تسوية النزاعات لانتكاسة في نهاية 2019 عندما فشلت الدول الأعضاء في التوصل إلى اتفاق حول الإصلاحات المطلوبة[2].

منظمة التجارة العالمية والولايات المتحدة: مستقبل محفوف بالمصاعب

إن التحديات الحالية التي وضعتها الإدارة الأمريكية أمام منظمة التجارة العالمية يمكن النظر إليها في ضوء قضايا إشكالية عدة، مثل العولمة، والمواجهة مع الصين في ما يخص التجارة، والاستثمارات، والتدخل الحكومي. لقد أخذ الموقف الأمريكي العدائي تجاه منظمة التجارة العالمية أشكالاً عدة في الآونة الأخيرة، امتدت من محاولة خنق هيئة الاستئناف التابعة للمنظمة إلى التهديد بالانسحاب كلياً منها.

وتُعتبر هيئة الاستئناف الركن الأساسي في منظومة تسوية النزاعات داخل منظمة التجارة العالمية؛ وتستمع هذه الهيئة إلى الطعون القضائية المرفوعة ضد قرارات لجنة التحقيق التي تشكّلها هيئة تسوية النزاعات، وتعمل على تسوية النزاعات التجارية الدولية. وتتألف هيئة الاستئناف من سبعة أعضاء بما فيهم رئيس مجلس الإدارة، وقد تم تقليص عدد أعضاء هذه الهيئة بحلول عام 2019 إلى ثلاثة أعضاء – وهو الحد الأدنى المطلوب للإصغاء إلى قضية ما – حيث منعت الولايات المتحدة تعيين أعضاء جدد عندما انتهت فترات عمل الأعضاء القدامى. وتحول الموقف إلى أزمة بحلول ديسمبر 2019، حيث انتهت فترة عمل اثنين من الأعضاء المتبقين في الهيئة المحددة في أربع سنوات. وواصلت الولايات المتحدة منع تعيين أعضاء جدد، وهذا يعني أن هيئة الاستئناف تُركت من دون وجود العدد الكافي من الأعضاء، ومن ثم توقفت عملياً عن أداء وظيفتها[3].

لقد بلغ الإحباط الذي شكلته الولايات المتحدة بالنسبة لمنظمة التجارة العالمية ذروته بالدعوات والتهديدات بالانسحاب النهائي من المنظمة، لأن القانون يعطي الولايات المتحدة فرصة للتصويت كل خمسة أعوام بخصوص البقاء ضمن عضوية منظمة التجارة العالمية[4]. وتزامن هذا الموقف مع تقليل الإدارة الأمريكية من أهمية العولمة، والتركيز بشكل متزايد على تعزيز الاقتصاد المحلي من خلال ممارسة قواعد اللعبة الصفرية في التجارة؛ بمعنى أن مكاسب الولايات المتحدة لن تتحقق إلا بانتزاعها من دول أخرى مثل الصين، وهذا يعكس إحباط الإدارة الأمريكية ونظرتها إلى منظمة التجارة العالمية باعتبارها منظمة عفى عليها الزمن وأصبحت بالية منذ انهيار جولة مفاوضات الدوحة، والتأثيرات السلبية المتصورة على اقتصاد الولايات المتحدة منذ انضمام الصين إلى منظمة التجارة العالمية في ديسمبر عام 2001.

احتجّت الولايات المتحدة على أن الصين تجني فوائد ومزايا غير عادلة من خلال عضويتها في منظمة التجارة العالمية وأنها حققت مكاسب كبيرة على حساب الوظائف والصناعات في الولايات المتحدة، بسبب المنافسة الناجمة عن ضآلة أجور اليد العاملة الصينية. كما أن انتقال الشركات الأمريكية السريع إلى العمل خارج الولايات المتحدة ألحق بالطبقة الوسطى الأمريكية ضرراً أكبر بكثير من المتوقع[5].

وتتهم الولايات المتحدة الصين بأنها تستفيد بصورة غير عادلة من قدرتها على تحقيق مكاسب وامتيازات خاصة داخل منظمة التجارة العالمية بوصفها دولة نامية، مع أنها تفاخر بكونها صاحبة ثاني أضخم اقتصاد في العالم[6]. كما تشعر الولايات المتحدة بالغضب لأنها عندما انضمت الصين لمنظمة التجارة العالمية قدمت لها تنازلات هائلة على أمل أن تتقيد الصين بمعايير التجارة العالمية، غير أن الصين لم تتعامل بالمثل، بل سارت في الاتجاه المعاكس حيث سمحت للدولة بأن تضطلع بدور أكبر في الاقتصاد الصيني.

كما تتذمر الولايات المتحدة بشأن إساءة استغلال الدعم الحكومي الذي تقدمه بكين للشركات الموجودة في الصين، وهذا الدعم أعطى تلك الشركات ميزة تنافسية غير عادلة. كما تتذمر من فشل منظمة التجارة العالمية في التعامل مع كل هذه الممارسات الخاطئة من وجهة نظرها.

والولايات المتحدة ليست وحيدة في تبني هذا الموقف، فمعها دول أخرى تتخوف وتشعر بالقلق في ما يخص انتهاك نظام ومعايير التجارة العالمية، وهي تسعى بشكل حثيث للتوصل إلى حلول من خارج القواعد الحالية لمنظمة التجارة العالمية؛ فعلى سبيل المثال، في عام 2017، تحركت اليابان إلى جانب الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في محاولة مشتركة لوضع قواعد عالمية جديدة تخص الدعم والإعانات التي تقدمها الدول للشركات والنقل الإجباري للتكنولوجيا. وبمساعدة دول أخرى، حاولت الولايات المتحدة أن تحدّ من قدرة أعضاء منظمة التجارة العالمية على منح أنفسهم مكانة دول نامية، لأن هذه الميزة تعطي دولاً مثل الصين وسنغافورة مهلة طويلة لتطبيق اتفاقيات منظمة التجارة العالمية[7].

يُتوقع من الموقف الحالي الذي تتبناه الولايات المتحدة أن يتزايد الضغط على منظمة التجارة العالمية، وهذا يمكن أن يؤدي إلى إفشال المنظمة؛ لأنها تركز على المساواة في التعامل مع الأعضاء بصرف النظر عن حجم اقتصاد بعض الدول وقدرتها على أن تكون من صانعي السوق؛ وهذه المبادئ التي تتبناها المنظمة لا تنسجم مع نظرة الإدارة الأمريكية التي تتجسد في شعار “أمريكا أولاً” الذي يجعل أولوية الولايات المتحدة أن تمتلك القدرة على صياغة سياستها التجارية، والاستفادة من وزنها النسبي في الاقتصاد العالمي والتجارة الدولية عندما تجري مفاوضات تجارية ثنائية أو متعددة الأطراف خارج إطار منظمة التجارة العالمية.

توزيع مكاسب التجارة الحرة وإحباطاته

هناك العديد من الدول النامية تشعر – من وجهة نظرها – بإحباط تجاه النتائج التي أسفرت عنها جولة الأوروغواي، وهذه الدول تشعر أنها قد قدّمت تنازلات وتسهيلات معتبرة، وفتحت حدودها لتدفقات التجارة التي تعود بالفائدة على الدول المتقدمة؛ كما أدخلت إصلاحات جوهرية على سياستها التجارية، وتوقعت أن تواجه عدداً أقل من العراقيل أمام تدفقاتها التجارية، غير أن المكاسب التي حققتها الدول النامية لا تشابه المكاسب التي حققتها الدول المتقدمة.

وبموجب قرارات جولة الأوروغواي، وافقت الدول النامية على تخفيضات التعرفة الجمركية إلى مستويات أدنى من المستويات التي وافقت عليها الدول المتقدمة، حيث تقيدت بالنسبة المئوية ذاتها تقريباً للتعرفة الجمركية المطبقة في الدول المتقدمة، والمشكلة في نظر هذه الدول النامية هي استمرار السياسة الحمائية التجارية الواسعة الانتشار ضد منتجاتها، وهذه السياسة تأخذ أشكالاً غير متصورة وفق القواعد المعيارية لمنظمة التجارة العالمية.

هناك دول نامية عديدة ترى أن الدول المتقدمة تتبع سياسات وتشريعات لحماية اقتصاداتها وفرص العمل فيها من المنافسة الأجنبية، وذلك باستخدام مستويات عالية من الدعم والتعريفات الجمركية على المنتجات الزراعية، وإساءة استخدام إجراءات مكافحة إغراق السوق بالبضائع الأجنبية، وإجراءات السلامة.

كما أن الدول النامية تتهم الدول المتقدمة بأنها وضعت معايير صارمة للعمالة وحماية البيئة، مع أهداف معلنة لضمان “مساواة ظروف العمل” بين الدول المتقدمة والدول النامية، وتجنّب “الإغراق الاجتماعي” من قبل الدول النامية، فيما تثير فكرة ممارسة الدول النامية للمنافسة غير العادلة من خلال حرمان عمالها من الحقوق الأساسية والأجور اللائقة وظروف العمل المقبولة، المخاطر والمخاوف من توجه الدول المتقدمة نحو وضع معايير للعمالة وحماية البيئة يمكن إساءة استخدامها بسهولة من قبل مؤيدي السياسة الحمائية[8].

لقد كان تأثير هذه المخاوف واضحاً في جولة مفاوضات الدوحة وقد أسهم في إفشال هذه الجولة. ومنذ البداية، كانت الدول النامية مترددة في تقديم تنازلات وتسهيلات لأنها شعرت أن جولة الأوروغواي فشلت في تحقيق جزء كبير مما وعدت به، وأصرت هذه الدول على أن تكون جولة الدوحة جولة حقيقية للتنمية. ولكن جولة الدوحة انهارت جزئياً بسبب الخلافات بشأن الدعم الحكومي للمنتجات الزراعية بين الدول المتقدمة والدول النامية، وبين الدول المتقدمة ذاتها[9].

وباء “كوفيد-19”: تحديات متزايدة

في الوقت الذي تواجه فيه منظمة التجارة العالمية تحديات متصاعدة، جاء اندلاع أزمة وباء “كوفيد-19” في بداية عام 2020 ليفاقم هذه التحديات، حيث أغلقت الدول حدودها وبدأت الأجندات القومية تعطي الأولوية للتجارة الحرة من أجل إنقاذ الوظائف وضمان النمو الاقتصادي، كما فرض العديد من الدول قيود تجارية على الواردات والصادرات بذريعة الأمن الوطني.

ونتيجة لذلك، من المتوقع أن تتراجع التجارة العالمية في عام 2020 بنسبة تتراوح بين 13% و32%، وستشهد كل مناطق العالم تقريباً هبوطاً بنسبة خانتين عشريتين في حجم التجارة العالمية في هذا العام، وستكون صادرات أمريكا الشمالية وآسيا الأكثر تضرراً من غيرها، ومن المرجح أن تنخفض التجارة بشدة في القطاعات التي لديها سلاسل قيمة معقّدة، خصوصاً الإلكترونيات ومنتجات السيارات[10].

فوفقاً لمنظمة التجارة الدولية، بدأت حركة التجارة تتباطأ فعلاً في عام 2019 بسبب التوترات التجارية وتباطؤ وتيرة النمو الاقتصادي، وذلك قبل اندلاع وباء “كوفيد-19″، وحتى التجارة السلعية العالمية شهدت خلال عام 2019 تراجعاً طفيفاً بنسبة 0.1% من حيث حجمها بعد ارتفاع بلغ 2.9% في العام السابق، في حين انخفضت القيمة الدولارية للصادرات السلعية في عام 2019 بنسبة 3%؛ متراجعةً إلى 18.89 تريليون دولار[11].

ومن بين مكونات التجارة العالمية، تتوقع منظمة التجارة العالمية أن تكون تجارة الخدمات هي الأكثر تأثراً بوباء “كوفيد-19″، وبطريقة مباشرة جرّاء القيود المفروضة على النقل والسفر وإغلاق العديد من مؤسسات بيع التجزئة ومؤسسات الضيافة. وربما تستفيد، مع هذا، بعض الخدمات من الأزمة، مثل تكنولوجيا المعلومات التي اشتد الطلب عليها نتيجةً لمحاولة الشركات تمكين موظفيها من العمل من منازلهم وحاجة الناس إلى التواصل الاجتماعي عن بُعد[12].

ومع انكماش التجارة الدولية نتيجةً لوباء “كوفيد-19″، بدأت الدول الأقل نمواً تواجه أصعب التحديات في وقت أصبحت فيه منظمة التجارة العالمية أقل كفاءة وفعالية من ذي قبل. كما أن انعدام الموارد اللازمة لدعم أي نوع من الانتعاش الاقتصادي يزداد سوءاً بسبب اعتماد الدول الأقل نمواً على مجموعة محدودة من المنتجات التي تصدّرها إلى القليل من الأسواق التي كان بعضها أكثر المتضررين من وباء “كوفيد-19”[13]. فقد تراجعت قيمة السلع والخدمات المصدَّرة من الدول الأقل نمواً بنسبة 1.6% في عام 2019؛ أيْ تراجعت بنسبة أكبر من تراجع الصادرات العالمية، كما أن حصة الدول الأقل نمواً في الصادرات الدولية سجلت انخفاضاً هامشيا بنسبة 0.91% في عام 2019، ومن المتوقع أن يكون مستوى التراجع في التجارة عام 2020 أسوأ بكثير في الدول الأقل نمواً مقارنةً بالمستوى العالمي[14].

كيفية إحياء منظمة التجارة الدولية

إن منظمة التجارة الدولية في وضعها الراهن ليست إطاراً مناسباً لمعالجة التحديات التي تواجه التجارة الدولية، ولا بد من إعادة تأهيلها لتكون مستعدة لتنفيذ استجابة أكثر فعالية للأزمات الصحية والاقتصادية الحالية الناجمة عن وباء كوفيد-19.

ويقول نائب المدير العام لمنظمة التجارة الدولية، ألن وولف، إن هذه المنظمة في حاجة إلى معالجة القضايا التالية لكي تبقى وتكون أقوى حضوراً وفعالية في التجارة الدولية[15]:

  • ضمان المساواة: بما يضمن تمتع جميع أعضاء المنظمة بحقوق متساوية داخل إطارها. ومن المعلوم أن مستوى قدرة أعضاء المنظمة يختلف من دولة إلى أخرى، وأن درجة التناغم بين الدول الأعضاء تعتمد على مدى قدرة هذه الدول على تحمُّل مسؤوليات أكبر تتناسب مع مكانتها من أجل إنجاح الجهد الجماعي؛ ولذا ينبغي التأكيد على مسألة تحمُّل الأعضاء الأقدر لمسؤولية أكبر لكي تستطيع منظمة التجارة العالمية الحفاظ على المنافع المكتسبة من التجارة الدولية وتعظيمها إلى مستويات أعلى.
  • التركيز على عدم التمييز: بموجب التجارة الدولية وقواعد منظمة التجارة العالمية، يمكن أن يتخذ مبدأ عدم التمييز أشكالاً عديدة:
  • أولاً، تروِّج منظمة التجارة العالمية لمفهوم الدولة الأوْلى بالرعاية الذي يطلب من الدولة العضو في المنظمة تقديم أي تنازل أو امتياز أو حصانة لدولة أخرى في أي اتفاق تجاري[16]، غير أن العديد من الترتيبات التجارية الثنائية وبعض الترتيبات التجارية الإقليمية مصمَّمة لمعاملة الواردات القادمة من الدول الأعضاء بطريقة أفضل من تلك القادمة من الدول الأخرى.
  • ثانياً، تروّج منظمة التجارة العالمية لمبدأ المعاملة الوطنية الذي يشترط عدم التمييز بين المنتجات المحلية والمنتجات الأجنبية لأغراض داخلية، مثل الضرائب، غير أن العديد من الدول الأعضاء لا تلتزم بهذا المبدأ وتلجأ إلى تصعيد الحروب التجارية بحجة الأمن الوطني ومكافحة سياسات الإغراق، ولا بد من إعادة النظر في هذه الممارسات ووضع قواعد أكثر صرامة للحد منها وضمان وجود تجارة عادلة وحرة للدول الأعضاء في منظمة التجارة العالمية.
  • إعادة التفكير في مفهوم السيادة: ترتبط السيادة أساساً بقدرة الدول الأعضاء على امتلاك “حيِّز سياساتي” عندما تُلزم نفسها بتطبيق قواعد منظمة التجارة العالمية، ولكن استخدام “الحيز السياساتي” من جانب أي دولة يمكن أن يجعل تصرفاتها تفرز نتائج عكسية بالنسبة للدول الأخرى. إن قيمة منظمة التجارة العالمية فيما يتعلق بممارسة الدول الأعضاء لسيادتها الوطنية تتجسّد في الحيِّز الذي تتركه اتفاقات المنظمة لتحقيق الأهداف الوطنية. ولكن مفهوم السيادة في إطار منظمة التجارة العالمية يحتاج إلى توضيح، لأنه في ظل انعدام القيود يمكن لتصرُّف أي دولة بموجب مفهوم “الحيّز السياساتي” أن يؤدي إلى معاملة بالمثل من جانب الدول الأخرى الأعضاء، الأمر الذي يمكن أن يقوِّض حرية التجارة الدولية.
  • التركيز على التنمية: ينبغي على منظمة التجارة العالمية أن تعيد التفكير في سياساتها وتسهيلاتها ومساعداتها الفنية التي تقدمها لأعضائها من الدول النامية. فأساس التجارة الدولية يقوم على افتراض أن التخصص سيؤدي إلى مكاسب ناتجة عن زيادة الكفاءة، غير أن افتقار العديد من الدول النامية إلى السوق والقوة السياسية كثيراً ما يقود إلى تصوُّر عدم عدالة نظام التجارة العالمية ومنظمة التجارة العالمية التي تديره. كما ينبغي وضع توصيف أكثر واقعية للدول الأعضاء لتُحدّد بموجبه الدول النامية من غيرها، وذلك لضمان المعاملة العادلة لجميع الدول الأعضاء، ولا شك في أن هذا سيقلل من المقاومة والإجراءات المضادة من جانب الدول المتقدمة التي ترى بعض الثغرات في تطبيق هذه المزايا.
  • تعزيز الشفافية: رغم أن قواعد منظمة التجارة العالمية وطرق عملها تتطلب أن تكون المعلومات الخاصة بالتدابير الوطنية مجدَّدة وشاملة، فإن العديد من الدول لا توفر هذا المستوى من الشفافية، ولا بد من اتخاذ إجراءات في هذا الجانب لأن زيادة الشفافية في الممارسات التجارية وفي السياسات من شأنها أن توسِّع دائرة الفوائد لجميع الدول الأعضاء في منظمة التجارة العالمية.
  • المعاملة بالمثل: غالباً ما تُبرَّر مفاوضات التجارة الدولية تحت مظلة منظمة التجارة العالمية المرونة والحيز السياساتي والقيود المؤقتة على السيادة بالحصول على معاملة بالمثل من جانب الدول الأخرى. وهذا يعني إعطاء امتيازات مقبل تلقي امتيازات، ولكن هذه المعاملة ليست مرتبطة دائماً بالقرارات الخاصة بالسياسات التجارية، ويجب على أعضاء منظمة التجارة العالمية أن يفكروا في هذا الأمر ضمن مسألة العدل والحاجة إلى تقديم إسهام إيجابي صافٍ؛ أيْ إعطاء أكثر مما يتلقونه مباشرةً، لأن الآثار الخارجية الإيجابية الناجمة عن التجارة الأكثر حرية وعدالة سوف تعود فعلياً بالفائدة على جميع الدول الأعضاء.

ختاماً، ينبغي استكشاف توجهات وقواعد جديدة لمجابهة التحديات المتزايدة التي تواجه منظمة التجارة العالمية قبل أزمة “كوفيد-19” وبعدها، وينبغي على الدول الأعضاء أن تعيد التفكير في ممارساتها وسياساتها التجارية من أجل ضمان استمرارية المكاسب التي تحققها التجارة الدولية الحرة. وفي الوقت نفسه، لا بد من صياغة فهم جديد لكيفية تسوية المظالم بين الدول المتقدمة والدول النامية من أجل منع الممارسات المضرة والمريبة من عرقلة حركة التجارة الدولية وضمان استقرار سلاسل القيمة العالمية وسهولة عملها.

المراجع

[1] World Trade Organization, “The WTO’s 25 years of achievement and challenges”, January 1, 2020,

https://www.wto.org/english/news_e/news20_e/dgra_01jan20_e.htm

[2] Ibid

[3] Aditya Rathore and Ashutosh Bajpai, “The WTO Appellate Body Crisis: How We Got Here and What Lies Ahead?”, Jurist, April 14, 2020, https://www.jurist.org/commentary/2020/04/rathore-bajpai-wto-appellate-body-crisis/

[4] Keith Johnson, “U.S. Effort to Depart WTO Gathers Momentum”, Foreign Policy Magazine, May 27, 2020, https://foreignpolicy.com/2020/05/27/world-trade-organization-united-states-departure-china/

[5] Ibid

[6] Keith Johnson, “How Trump May Finally Kill the WTO”, Foreign Policy Magazine, December 9, 2019. https://foreignpolicy.com/2019/12/09/trump-may-kill-wto-finally-appellate-body-world-trade-organization/

[7] Philip Blenkinsop, “U.S. trade offensive takes out WTO as global arbiter”, Reuters, December 10, 2019,  https://www.reuters.com/article/us-trade-wto/us-trade-offensive-takes-out-wto-as-global-arbiter-idUSKBN1YE0YE

[8] Dominic Salvatore, “International Economics”, 11th edition, John Wiley & Sons, 2013.

[9] Ibid

[10] World Trade Organization, “Trade set to plunge as COVID-19 pandemic upends global economy”, April 8, 2020,

https://www.wto.org/english/news_e/pres20_e/pr855_e.htm

[11] Ibid.

[12] Ibid.

[13] World Trade Organization, “WTO report looks at trade developments in poorest countries in wake of COVID-19”, June 10, 2020,

https://www.wto.org/english/news_e/news20_e/covid_10jun20_e.htm

[14] Ibid.

[15] Alan Wm. Wolff, “COVID-19 and the future of world trade”, VOXEU, June 1, 2020, https://voxeu.org/content/covid-19-and-future-world-trade

[16] Will Kenton, “Most-Favored-Nation Clause”, Investopedia, June 12, 2019,

https://www.investopedia.com/terms/m/mostfavorednation.asp#:~:text=A%20most%2Dfavored%2Dnation%20(,equal%20treatment%20of%20all%20countries.

How useful was this post?

Click on a star to rate it!

Average rating 2 / 5. Vote count: 1

No votes so far! Be the first to rate this post.

كوفيد منظمة_التجارة_العالمية

التعليقات

البريد الالكتروني الخاص بك لن يتم كشفه.