قبل حلول الألفية الجديدة، تم إعلان القرن الحادي والعشرين باعتباره قرن القارة الآسيوية، وكان هناك شبه إجماع على أنه إذا ما استمرت بعض المؤشرات الديموغرافية والاقتصادية على حالها، فإن الهيمنة الآسيوية كانت وشيكة، وستمتد للتأثير في مجالات السياسة والثقافة. كما ستنتقل بالقارة بسرعة من مُجرد مشارك في التجارة العالمية والابتكار إلى قوة فاعلة تُحدد شكلها واتجاهها.
تولدت هذه الفكرة بناءً على حقائق وأرقام وبيانات من جهات مختلفة؛ فآسيا التي يعيش فيها أكثر من نصف سكان العالم في طريقها بالفعل إلى إنتاج أكثر من 50% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي بحلول عام 2040، وفي طريقها إلى الاستحواذ على حصة تقدر بحوالي 40% من الاستهلاك العالمي، واحتضان نصف تعداد الطبقة المتوسطة في العالم. كما أنها في طريقها إلى التفوق على دول العالم من حيث مبدأ تعادل القوة الشرائية.
غير أن هذه المؤشرات – على غرار باقي دول العالم – قد اختلت مع تفشي وباء “كوفيد-19” الذي جعل الأمور تنقلب رأساً على عقب بالنسبة لدول هذه القارة التي من المرجح أن تكون فيها معالم الركود الاقتصادي واضحة أكثر نظراً لما عرفته من نمو سريع مقارنة ببقية دول العالم؛ وفي ظل هذه الظروف العصيبة تظل منهجية بعض هذه الدول في إدارة أزمة هذا الوباء مؤشراً إيجابياً أسهم على الأقل في التخفيف من آثاره على اقتصاداتها.
ويُشار في هذا الصدد إلى أن صندوق النقد الدولي قد أعلن في أبريل 2020، أنه للمرة الأولى منذ 60 عاماً لن تسجل منطقة آسيا أي نمو اقتصادي يذكر1، وأضاف المصدر نفسه2: “…في حين أن هناك شكوكاً كبيرة بشأن آفاق النمو الاقتصادي خلال عام 2020، وشكوك أكثر من ذلك بكثير بشأن توقعات عام 2021، فإن تأثير وباء كورونا المستجد على المنطقة سيكون شديداً وغير مسبوق”.
وبالرغم من أن المقومات الاقتصادية الأساسية تظل قوية بالنسبة للقارة الآسيوية، إلا أن بيئة الاقتصاد العالمي قد شهدت تغيراً جذرياً يجعلنا نتساءل عمَّا إذا كان حلم القرن الآسيوي قد تحول إلى كابوس؟ والجواب – مبدئياً – على هذا السؤال سيعتمد على مدى سرعة رجوع الحياة إلى طبيعتها، وعودة محركات النمو الاقتصادي. كما سيعتمد على كيفية تعافي النمو الاقتصادي في العالم خلال مرحلة ما بعد وباء “كوفيد-19”.
في هذا السياق، ستبحث هذه الدراسة في العوامل والمحددات التي أسهمت في صعود نجم آسيا إلى جانب تحليل مدى تأثير تفشي وباء كورونا المستجد على آفاق تطور نموها. كما ستحاول إلقاء الضوء على التحديات المستقبلية التي تواجه دول المنطقة، وإبراز أوجه القصور في منطقة كهذه تتميز بإمكانيات مهمة في ظل تناقضات ومفارقات عديدة.
وخدمة لهذه الأهداف البحثية، تم تقسيم هذه الدراسة إلى ثلاثة أجزاء: الأول – آسيا قبل فيروس كورونا المُستجد – يوجز منشأ صعود نجم آسيا في أعقاب الحرب العالمية الثانية، ورحلتها المذهلة على مدار العقود الثلاث الماضية. كما يُلقي هذا القسم الضوء على العوامل والنظريات العديدة التي تقف وراء التحول الواضح للقوة الاقتصادية نحو الشرق وما يُعرف عادةً باسم “أَسيَنَة آسيا”.
ويتناول الجزء الثاني – السيطرة على فيروس كورونا المستجد: الاستجابة الآسيوية – النجاح النسبي الذي أحرزته آسيا في استجابتها للجائحة ونشأة نموذج الممارسة المثلى الذي أمسى مُسلّماً به على نطاق واسع. أما الجزء الثالث – المستقبل لن يكون آسيوياً – فيطرح حجةً مضادة للأطروحة الأساسية، حيث يُفَصِّل الأخطاء التي وقعت فيها آسيا والأخطاء التي يمكن أن تقع في المستقبل.
آسيا قبل فيروس كورونا المستجد
استمرت التوقعات والتقديرات التي تميل إلى ترجيح كفة صعود نجم قارة آسيا بوصفها قوةً اقتصادية عاتية لسنوات. فقد كتب(3) المؤلف (باراغ خانا) Parag Khanna، مستشار الاستراتيجية العالمية في كتابه: “المستقبل آسيويّ” قائلاً: “اصطبغ العالم بصبغة أوروبية في القرن التاسع عشر، وأصبح أمريكياً في القرن العشرين، والآن هو في طريقه ليصبح آسيوياً بأسرع مما تعتقد”.
وقد وُضِعَت هذه التقديرات بناءً على بعض المعايير الاقتصادية القوية. فقد شكَّلَت قارة آسيا نحو ثُلث التجارة العالمية في السلع، حيث زادت من حوالي الربع منذ 10 سنوات. وارتفعت خلال هذه الفترة حصة المسافرين على خطوط الطيران العالمية في آسيا من 33% إلى 40%، بينما زادت التدفقات الرأسمالية من 13% إلى 23%.
كانت قصة صعود آسيا تحظى أيضاً بتأييد الأوساط الأكاديمية، إذ أفاد تقرير(4) لبنك التنمية الآسيوي عام 2011 أن القارة الآسيوية تشهد تحول تاريخي. وتوصل التقرير إلى أنه في حال واصلت آسيا انطلاقتها، فمن الممكن أن يتضاعف دخل الفرد عام 2050 ستة أضعاف على أساس تعادل القوة الشرائية ليصل إلى المستويات المشهودة في أوروبا الآن، ما يجعل 3 مليارات آسيوي آخرين أثرياء بالمعايير الحالية.
واستناداً إلى هذه الحسابات، فبحلول منتصف القرن الحالي، ستستعيد آسيا المكانة الاقتصادية المهيمنة التي حازتها منذ 300 عام، حيث استحوذت القارة على نحو 60% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي قبل اندلاع الثورة الصناعية(5) أواخر القرن الثامن عشر. ولو قُدِّرَ لآسيا إعادة احتلال قلب المشهد العالمي، فسيكون العالم قد أتم دورةً كاملة (جدول 1).
يوضح مسار النمو – رجوعاً إلى ثمانينيات القرن العشرين عندما انفتحت الصين لأول مرة – أن آسيا كان مُقدراً لها أن تصبح أكثر مركزيةً للاقتصاد العالمي خلال الأربعين عاماً التالية. واستندت هذه النظرة التفاؤلية على عامل آخر وثيق الصلة ألا وهو الترابط المتنامي – حيث تجاوزت حصة التجارة بين الأقاليم المختلفة في قارة آسيا 60% من إجمالي التجارة العالمية.
بيد أن هذه التقارير تنطوي دائماً على تحذيرات؛ وفي هذه الحالة، تعجلت في توقع أن صعود نجم آسيا “حتمي قطعاً”. ورغم توقعات النمو الواعدة، فقد كانت مبنية على استدامة اقتصادات آسيا الكبرى (جدول 2) لزخمها. والأهم من ذلك أن هذا لا يعني أن الطريق إلى الأمام مفروشاً بالورود أو يقتضي وحسب إنجاز المزيد مما تحقق.
لقد كان من الواضح أنه لكي يُكتب لآسيا النجاح، كان من المهم أن تحافظ على نمط معين للنمو وأن تحل مجموعة كبيرة من المشكلات، خاصةً التحديات السياسية، بما في ذلك معالجة التفاوتات المتزايدة التي يمكن أن تقوّض التماسك الاجتماعي والاستقرار، كما يتعين عليها أيضاً تعزيز مشاركتها تجاربها الناجحة مع بقية دول العالم، بينما تمضي قدماً لتحتل صدارة مشهد الاقتصاد العالمي. فمن مصلحة القارة الآسيوية أن تحقق بقية دول العالم أيضاً أداءً جيداً على الصعيدَيْن الاقتصادي والسياسي، فما من إقليم يستطيع أن ينمو بمعزل عن بقية العالم، وخاصة في عالمنا المعاصر المترابط.
إن التقدُّم المستدام على مستوى العالم حيوي لازدهار آسيا على المدى البعيد، ولكن هذا السيناريو شوَّهته الجائحة إلى حد ما. ولكن، حتى قبل ظهور فيروس كورونا المستجد، قيل أن آسيا – في سياق أوسع – ما زال أمامها الكثير لتنجزه قبل أن تصل إلى مكانة تقرِّبها من العالم الغربي الصناعي. فقد أوضح معهد القرن الآسيوي(6) الذي ينشر إصداراته الإلكترونية الداعمة لنهضة آسيا في القرن الحادي والعشرين، أن حصة آسيا من الاقتصاد العالمي ما زالت تمثل نحو 30%، رغم أن المنطقة تُعدُّ موطناً لـ 60% من سكان العالم.
ومما لا شك فيه أن آسيا تمتلك إمكانات الوصول إلى مستويات التنمية التي حققتها الاقتصادات المتقدمة. وتتوقع بعض المؤسسات، مثل معهد القرن الآسيوي، أن يحدث ذلك خلال هذا القرن، ما يعني أساساً أن تستعيد آسيا حصة من الاقتصاد العالمي تضارع حصتها من سكان العالم.
وبحسب إحدى الأطروحات(7)، “فقد صعد نجم آسيا بوصفها منطقة اقتصادية متكاملة مثل الاتحاد الأوروبي” و”معزولة بشكل متزايد عن الصدمات الاقتصادية النابعة من الولايات المتحدة أو أوروبا”. ورغم بعض الاستثناءات، يستند هذا التحليل على نزوع قارة آسيا المتزايد إلى النظر إلى الداخل لأغراض تجارية. فنحو 60% من حجم تجارة آسيا ينحصر داخل القارة، وهي النسبة نفسها الموجودة في الاتحاد الأوروبي.
كما حققت آسيا أداءً جيداً في العديد من المجالات الأخرى، حيث تفيد دراسة أخرى(8) بأن 44% من الطلاب الدوليين آسيويون، وأن هناك نحو 119 شركة دولية كبرى (شركة صاعدة يتجاوز رأسمالها المليار دولار) من بين 235 شركة مثيلة على مستوى العالم، تقع في آسيا. فضلاً عن ذلك، فإن نحو 50% من النمو في الطلب الاستهلاكي وحجم الاستهلاك على مدار العقد المقبل سيأتي إلى آسيا.
لقد بدأت عملية التكامل – المُسماة “أسينة آسيا” – تؤتي ثمارها، حيث تجاوز النمو في ما بين البلدان الآسيوية حجم تجارة القارة مع بقية دول العالم. وبحسب إحدى دراسات شركة ماكنزي: “كُللت هذه العملية الداخلية بالنجاح في تعزيز المرونة الاقتصادية الآسيوية، وستواصل إنجاز المزيد بينما تتكشف الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة”.
جدول 1: الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي لاقتصادات آسيا والمحيط الهادئ
الاقتصادات الآسيوية واقتصادات المحيط الهادئ: الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي وأسعار الاستهلاك وميزان الحساب الجاري والبطالة (التغير المئوي السنوي، ما لم يُذكر خلاف ذلك)
الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي | أسعار المستهلك1 | ميزان الحساب الجاري2 | البطالة3 | |||||||||
التوقعات | التوقعات | التوقعات | التوقعات | |||||||||
2019 | 2020 | 2021 | 2019 | 2020 | 2021 | 2019 | 2020 | 2021 | 2019 | 2020 | 2021 | |
آسيا | 4.6 | 0.0 | 7.6 | 2.7 | 2.5 | 2.5 | 1.8 | 1.0 | 1.2 | … | … | … |
بلدان آسيا المتقدمة | 1.2 | -4.5 | 3.8 | 0.7 | 0.5 | 0.8 | 4.3 | 2.9 | 3.0 | 3.1 | 4.1 | 3.7 |
اليابان | 0.7 | -5.2 | 3.0 | 0.5 | 0.2 | 0.4 | 3.6 | 1.7 | 1.9 | 2.4 | 3.0 | 2.3 |
كوريا | 2.0 | -1.2 | 3.4 | 0.4 | 0.3 | 0.4 | 3.7 | 4.9 | 4.8 | 3.8 | 4.5 | 4.5 |
أستراليا | 1.8 | -6.7 | 6.1 | 1.6 | 1.4 | 1.8 | 0.5 | -0.6 | -1.8 | 5.2 | 7.6 | 8.9 |
إقليم تايوان الصيني | 2.7 | -4.0 | 3.5 | 0.5 | 0.5 | 1.5 | 10.5 | 8.2 | 8.3 | 3.8 | 4.4 | 4.0 |
سينغافورة | 0.7 | -3.5 | 3.0 | 0.6 | -0.2 | 0.5 | 17.0 | 14.8 | 15.7 | 2.3 | 2.5 | 2.4 |
هونغ كونغ (منطقة إدارية خاصة) | -1.2 | -4.8 | 3.9 | 2.9 | 2.0 | 2.5 | 6.2 | 6.0 | 5.0 | 3.0 | 4.5 | 3.9 |
نيوزيلندا | 2.2 | -7.2 | 5.9 | 1.6 | 1.2 | 1.4 | -3.0 | -4.5 | -3.2 | 4.1 | 9.2 | 6.8 |
ماكاو (منطقة إدارية خاصة) | -4.7 | -29.6 | 32.0 | 2.8 | 2.0 | 2.3 | 34.8 | 13.1 | 30.0 | 1.7 | 2.0 | 1.8 |
بلدان آسيا الناشئة والنامية | 5.5 | 1.0 | 8.5 | 3.2 | 3.0 | 2.9 | 0.6 | 0.1 | 0.5 | … | … | … |
الصين | 6.1 | 1.2 | 9.2 | 2.9 | 3.0 | 2.6 | 1.0 | 0.5 | 1.0 | 3.6 | 4.3 | 3.8 |
الهند4 | 4.2 | 1.9 | 7.4 | 4.5 | 3.3 | 3.6 | -1.1 | -0.6 | -1.4 | … | … | … |
رابطة دول جنوب شرق آسيا-5 | 4.8 | -0.6 | 7.8 | 2.1 | 1.8 | 2.7 | 1.2 | -0.5 | 0.1 | … | … | … |
إندونيسيا | 5.0 | 0.5 | 8.2 | 2.8 | 2.9 | 2.9 | -2.7 | -3.2 | -2.7 | 5.3 | 7.5 | 6.0 |
تايلاند | 2.4 | -6.7 | 6.1 | 0.7 | -1.1 | 0.6 | 6.9 | 5.2 | 5.6 | 1.1 | 1.1 | 1.1 |
ماليزيا | 4.3 | -1.7 | 9.0 | 0.7 | 0.1 | 2.8 | 3.3 | -0.1 | 1.7 | 3.3 | 4.9 | 3.4 |
الفلبين | 5.9 | 0.6 | 7.6 | 2.5 | 1.7 | 2.9 | -0.1 | -2.3 | -2.2 | 5.1 | 6.2 | 5.3 |
فيتنام | 7.0 | 2.7 | 7.0 | 2.8 | 3.2 | 3.9 | 4.0 | 0.7 | 1.0 | 2.2 | … | … |
بلدان آسيا الناشئة والنامية أخرى5 | 6.3 | 1.2 | 7.5 | 5.6 | 5.3 | 5.3 | -2.6 | -3.7 | -2.3 | … | … | … |
مُذكرة | ||||||||||||
آسيا الناشئة6 | 5.4 | 1.0 | 8.5 | 3.2 | 2.9 | 2.8 | 0.7 | 0.3 | 0.6 | … | … | … |
المصدر: تقرير آفاق الاقتصاد العالمي، صندوق النقد الدولي
أبواق آسيا وتحول ميزان القوى نحو الشرق
إن الدعوة إلى أن تحتل آسيا مكانتها المُستحقة في النظام الهرمي، الاقتصادي والسياسي أيضاً، هي تعبير عن الرغبة في محو “مظالم” الماضي. والذين يطالبون بلا هوادة بأن تكون الهيئات الدولية، كالأمم المتحدة، أكثر تمثيلاً للدول ذات أعداد السكان الأكبر والأسواق المنتعشة، يشيرون إلى دولٍ في آسيا لم تنل حقها.
وليس من المستغرب أن الاستجابة القاصرة لأزمة فيروس كورونا المستجد من قِبل بعض البلدان أعطت المؤيدين لقارة آسيا الفرصة للقول بأن الغرب ارتبك واختلط لديه الحابل بالنابل. والبعض يرى أيضاً أن “استجابة الغرب العقيمة للجائحة ستُعجِّل بتحول القوى نحو الشرق”.
كتب الدبلوماسي السنغافوري السابق ومؤلف كتاب “هل انتصرت الصين؟” Has China Won? كيشور مهبوباني في مجلة “ذي إيكونوميست”(9) البريطانية مؤخراً أن “صعود نجم آسيا مجدداً في الشؤون العالمية والاقتصاد العالمي الذي بدأ قبل ظهور فيروس كورونا المستجد ستُدْعَم أركانه في نظام عالمي جديد بعد انقضاء الأزمة”.
-
احتواء فيروس كورونا المستجد: الاستجابة الآسيوية
أصبحت المستويات المتباينة للاستجابة لفيروس كورونا المستجد عاملاً آخر من عوامل الحكم على أداء البلدان والأقاليم. وخلال مايو 2020، ذكرت بيانات شركة جوجل اليومية المتعلقة بالتنقلات من وإلى محل العمل أنه عندما عادت غالبية الاقتصادات الآسيوية إلى العمل بدوام كامل، رزح الغرب تحت وطأة الإغلاق بسبب فيروس كورونا المستجد.
قد لا يبدو هذا الأمر جيداً بالنسبة للدول التي ضربتها الأزمة، لكنها ليست ببعيدة عن الواقع. فاستجابة قارة آسيا لفيروس كورونا المستجد كانت سريعة ووافية إلى حد كبير. وفي بداية يونيو، أعلنت غالبية الدول في المنطقة عن خططها لإعادة فتح أعمالها، مع التركيز على إعادة إطلاق الاقتصادات التي اضطرتها الجائحة.
وأفاد إحصاء لأعداد الوفيات(10) في شهر مايو أنه رغم ارتفاع عدد حالات الوفاة إلى ربع مليون نسمة، فقد بلغت حالات قارة آسيا 7% من إجمالي الحالات العالمية، مقارنةً بـ 40% لأوروبا و34% لأمريكا الشمالية. وبتعبير آخر، فإن المنطقة التي بدأ فيها الوباء أفضل حالاً في العموم من أمريكا الشمالية وأوروبا.
شكل 2: تنقل العمالة من وإلى محل العمل بحسب الدولة (تقديرات جوجل)
المصدر: صحيفة آسيا تايمز
وتعدُّ حالة فيتنام(11) جديرة بالذكر بشكل خاص؛ فالدولة التي يبلغ عدد سكانها 97 مليون نسمة لم تُعلن عن حالة وفاة واحدة تأثراً بفيروس كورونا المستجد، وفي 30 مايو، لم يكن لديها سوى 328 حالة إصابة مؤكدة. وتشترك فيتنام في حدود طويلة مع الصين، وتستقبل ملايين الزائرين الصينيين سنوياً.
وقد أُشيدَ بكوريا الجنوبية لاتخاذها بعض الممارسات المثلى(12) في تعاطيها مع الجائحة والتعلم من أزمات الصحة العامة السابقة لديها، كتفشي فيروس سارس عام 2002 الذي راح ضحيته المئات من البشر في شرق آسيا.
ودُعمَّتْ أرقام تنقل العمالة من وإلى محل العمل (جدول 3)، الواردة في تقرير صحيفة “آسيا تايمز”، ببيانات التجارة الصينية لشهر أبريل التي تكشف أن التجارة ما بين البلدان الآسيوية ارتفعت عاماً بعد عام، بينما أصاب الكساد والركود التجارة مع الولايات المتحدة.
قارة انعدام المساواة
رغم مطالب ودعوات التجانس، ما برحت آسيا تشكل عالَماً يفتقر للمساواة إلى حد كبير لدرجة أن العديد من التصنيفات تنطبق على مجموعة مختلفة من البلدان داخل القارة.
يصنف تقرير آفاق الاقتصاد العالمي الصادر عن صندوق النقد الدولي في أبريل 2020 البلدان الآسيوية ضمن فئات فرعية مختلفة. فاليابان وكوريا وأستراليا وتايوان وسنغافورة تُصنف على أنها “آسيا المتقدمة”، بينما الصين والهند تُصنفان باعتبارهما “آسيا الناشئة والنامية”. وتُصنف إندونيسيا وتايلاند وماليزيا والفلبين وفيتنام ضمن فئة رابطة دول جنوب شرق آسيا. وبقية دول آسيا تُصنف على أنها “آسيا الناشئة والنامية الأخرى”.
وما يوصف غالباً بالتنوع الآسيوي يعده أيضاً كثيرون، ولسبب وجيه جداً، مكمن تعقيدها. وبالتالي، فلا يجوز قياس أقاليم آسيا الأربع، في مراحل متباينة من النمو الاقتصادي، بالمقياس ذاته حتى لو قال المتفائلون بأن هذه الفروق تكميلية وتجعل التكامل قوةً للتقدم.
شكل 3 – منحنى فيروس كورونا المستجد في قارة آسيا
المصدر: منظمة الصحة العالمية
-
المستقبل لن يكون آسيويّاً
رغم كل الإمكانات التي تتمتع بها آسيا ومسارها الصاعد، ما زالت القارة تضم نحو ملياريْ فقير، السواد الأعظم منهم يسكن جنوب آسيا أو جنوب شرق آسيا (13). يوازي هذا الرقم 35% من أكثر الدول فقراً في العالم أجمع، بحسب تقديرات البنك الدولي. وبالنظر إلى الأثر الاقتصادي الجسيم لأزمة فيروس كورونا المستجد على الاقتصادات، سيستغرق صراع آسيا من أجل التخفيف من حدة الفقر وقتاً طويلاً.
ومن المتوقع أن تمثل أوجه قصور وتناقضات أخرى تحديّاً. فنجاح الاقتصادات الآسيوية على مر السنين حفزه إلى حد كبير التصدير واعتمد على العمالة الرخيصة. فقد مدت آسيا يد العون للصناعات الكثيفة، وعجَّلَت من عملية التنمية. ومع ذلك، يستحيل أن تكون هذه وصفتها السحرية للمرحلة التالية للنمو، حيث إن سلاسل القيمة العالمية باتت تميل بشكل متزايد إلى القطاعَيْن الخدميّ والرقميّ.
يشدد المؤرِّخ والبروفيسور في جامعة ستانفورد مايكل ر. أوسلين(14) على أن أولئك الذين لديهم يقين في هيمنة الصين على العالم تجاهلوا مَوَاطن ضعف قارة آسيا. وهو يرى بأن آسيا، على المدى البعيد، ستشهد تقلبات في النمو وفترات التعاون ستدخلها فترات أزمات، شأنها شأن غيرها من القارات.
كما كتب أوسلين يقول: “على العكس من الرأي الشائع، لن يكون المستقبل آسيوياً”؛ ووفقاً له، فإن عدداً أكبر من اللازم من المؤشرات الرئيسة للمنطقة تميل إلى الاتجاه الخاطئ، وآسيا ستسعى لخلق حياة أفضل، والحكومات ستكتشف أن قدراتها مُقيَّدَة بمواطن الضعف الهيكلية والنزاعات الدبلوماسية.
ولا يرسم تقرير صندوق النقد الدولي الصادر في أبريل 2020 صورة كئيبة جداً لآسيا(15)، بينما يصور آسيا الناشئة بوصفها المنطقة الوحيدة التي تتمتع بمعدل نمو إيجابي عام 2020 (1%). لكن، المشكلة تكمن في أنها ستستقر عند 5 نقاط مئوية دون متوسطها في العقد الماضي.
التجارة بين البلدان الآسيوية
اتسمت حركات التجارة الآسيوية بمجموعة من الاختصارات مثل RCEP (الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة) و BRI (مبادرة الحزام والطريق). وتهدف مجموعة قوامها 15 دولة من دول آسيا الباسيفيكية إلى التوقيع على الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة بنهاية العام الجاري، وفور إقرار ذلك التكتل التجاري سيصبح أكبر من الاتحاد الأوروبي، وسينصب تركيزه على سمات، مثل التعريفات المُخفّضَة وقواعد وإجراءات الجمارك المعيارية والوصول الواسع إلى السوق.
وتعتقد الدول المشاركة في هذه الشراكة – في ما عدا الهند(16) التي انسحبت من المفاوضات في نوفمبر 2019 – أن الشراكة الاقتصادية الإقليمية الشاملة كمنطقة تجارة حرة على اتساع الإقليم كله ستكفل بيئة اقتصادية أكثر استقراراً وتوقعاً لدعم التعافي الضروري للتجارة والاستثمار في المنطقة.
ويعتقد بعض المراقبين أنه من بين التبعات الإيجابية بعيدة المدى لأزمة فيروس كورونا المستجد ستكون حدوث تكاتف وائتلاف بين الدول الآسيوية التي تحتاج قدرات صحة عامة مُحسَّنَة، على غرار التوافق على مبادرة الحزام والطريق. وقد يكون نهج التفكير هذا وجيهاً، غير أنه ما زال أضغاث أحلام في الوقت الراهن.
ويُعتقد أيضاً أن الصين تريد أن يصعد نجمها في عالم ما بعد فيروس كورونا المستجد اعتماداً على رواية لا تصورها في صورة الطرف المهمِل في المجتمع الدولي، وإنما في صورة الدولة الرائدة في مجال الصحة العالمية. وبحسب(17) تقرير صادر عن مؤسسة كارنيغي تناول قارة آسيا، فإن الصين «تريد أن تحشد دعماً أكبر لإعادة تنظيم بنية النظم المؤسسية الدولية، وتريد أسواقاً أحدث لمنتجات وخدمات الرعاية الصحية الخاصة بها، التقليدية منها والحديثة». كما يرى المتابعون لأوضاع الصين أيضاً أن تتابع الأحداث في أعقاب جائحة فيروس كورونا المستجد، ربما يحثَّ بكين على المضي قدماً لتحقيق واحد من أهداف مبادرة الحزام والطريق الأساسية المعنية بإعادة رسم الآليات المؤسسية الدولية، ولكن هذه المرة في قطاع الصحة العامة.
ما الأمور الأخرى التي قد تعرقل حلم “القرن الآسيوي”؟
بينما سيكون الخوف من المجهول المرتبط بفيروس كورونا المستجد جزءاً من المعادلة لفترة من الوقت، هناك العديد من العوامل الأخرى التي يمكن أن تقلب الأمور ضد آسيا. فهناك دوماً إمكانات نشوب العديد من الصراعات التي جعلت القارة دوماً على صفيح ساخن. فعلى سبيل المثال تعد كوريا الشمالية – التي تمثل أكبر تهديد أمني في شرق آسيا – قنبلة موقوتة لا تُخطئها العين. وسيقتضي الأمر تجييش الجيوش في المنطقة وما وراءها لكبح جماح بيونغ يانغ.
غير أن هذه ليست البقعة المضطربة الوحيدة في المنطقة. إن النزاعات في شتى أرجاء آسيا جديرة بالاهتمام، بدايةً من المعارك الضارية المُتجددة في شوارع هونغ كونغ ووصولاً إلى الملحمة التي لا تنتهي للاجئي الروهينجا في ميانمار.
وهناك نزاع سياسي قائم بين كوريا الجنوبية واليابان، يضرب بجذوره في احتلال الأخيرة لكوريا الجنوبية في القرن الماضي، تحوَّلَ إلى صراع تجاري في القرن الحادي والعشرين.
كما تُصاب اليابان بالقلق حيال الأنشطة العسكرية للصين في بحر الصين الشرقي، حيث اتهمت بكين باستخدام قواتها البحرية لممارسة ضغوط على الدول الساحلية، وخاصةً فيتنام والفلبين. وبدأ هذا القلق إثر “احتواء الصين الناجح نسبياً لفيروس كورونا المستجد وتحركاتها السريعة لإعادة فتح اقتصادها”.
ولحسن حظ بلدان المنطقة، يبدو أن الصين مستعدة لمشاركة مواردها وخبرتها التي اكتسبتها أثناء فترة الجائحة مع جيرانها. ووفقاً لتقرير أوردته صحيفة “نيكاي آيجان ريفيو”(18) اليابانية، فإن الصينيين في موقف يكفل لهم تقديم محفزات اقتصادية ومحفزات القوة الناعمة للدول المحيطة ببحر الصين الجنوبي.
وقد أثارت المناوشات الأخيرة على الحدود الهندية-الصينية القلق حيال حدوث اختلال توازن قوى في وقتٍ آخر ما تحتاج فيه المنطقة إلى حدوث تصعيد ونشوب صراع بين عملاقيْن. ولم تخفف حالة التوتر على الحدود الهندية-الصينية الأمور على الجانب الآخر في جنوب آسيا، حيث ما برحت دولتان مسلحتان تسليحاً نووياً، وهما الهند وباكستان، تتناطحان وجهاً لوجه على خلفية صراعات قديمة جداً.
خاتمة
حوَّلَ فيروس كورونا المستجد فترة النمو المستدام في آسيا إلى حالة من الشكوك العاصفة. وربما أن بعض التحديات التي تواجهها القارة نشأت بغض النظر عن الجائحة التي ضربت العالم، لكن يبدو الآن أنها أطلت بوجهها القبيح في المكان الخاطئ والزمان الخاطئ.
وتشير الاستجابة متعددة الأطراف التي تكاد تكون معدومة لوباء فيروس كورونا المستجد، إلى نزاع مُطوَّل على الهيمنة العالمية والسيطرة على المؤسسات الدولية. وأي إصلاح من المستبعد أن يتجسّد في غياب قيادة عالمية جماعيّة وحاسمة عصفت بها الجائحة القاتلة. وهذا يعني أن آسيا ستظل في موقف ضعيف في المحافل متعددة الأطراف.
لو كان العلاج الذي ستوفره منظمة الصحة العالمية إثر الجائحة يُعوَّل عليه بأي حال من الأحوال، فإن دور المؤسسات العالمية في تحديد شكل النظام العالمي الجديد سيزداد غموضاً. ويستطيع المرء أن يتنبأ بالمزيد من النزاعات على السيطرة على هيئات عالمية محورية أخرى كالأمم المتحدة ومنظمة التجارة العالمية وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي، إلخ.
لقد أوجبت جائحة فيروس كورونا المستجد إعادة توجيه مهولة للموارد، وإعادة نظر كبيرة في السياسات الاقتصادية وتعبئة ضخمة للغرائز البشرية. وبعد تراجع حماس آسيا وتزعزع ثقتها، قد يكون من الصعب عليها التحرك في تلك المياه المتلاطمة المحفوفة بالمخاطر.
وسيحدد مدى كفاءة قارة آسيا في التعامل مع الأزمة والانطلاق، بينما يفتح العالم ذراعيه مجدداً للأعمال، سباق القرن الحالي. وستُعدُّ جائحة فيروس كورونا المستجد، بغرض النظر عن الطريقة التي ننظر بها إليها، نقطة تحول لقارة آسيا وما وراءها.
المراجع:
[i] Asia’s growth to grind to halt for first time in 60 years, warns IMF – Financial Times, April 16, 2020
[ii] COVID-19 Pandemic and the Asia-Pacific Region: Lowest Growth Since the 1960s – April 15, 2020
[iii] We’ve entered the Asian Century and there is no turning back – World Economic Forum, October 2019
[iv] Asia 2050: Realizing the Asian Century – August 2011
[v] Asian Economy: Past, Present, and Future – Keynote Address at the Securities Analysts Association of Japan International Seminar, by Hiroshi Nakaso, Deputy Governor of the Bank of Japan, April 24, 2015
[vi] Asia and the World in the Asian Century
[vii] Asian century began in May 2020 – David P. Goldman MAY 21, 2020
[viii] The Asian Century has arrived – McKinsey & Company – November 2019
[ix] The world after Covid-19: Kishore Mahbubani on the dawn of the Asian century – April 2020
[x] Asia coronavirus cases hit quarter million but pace much slower than U.S., Europe – Khaleej Times, May 5, 2020
[xi] How Vietnam managed to keep its coronavirus death toll at zero – CNN, May 30, 2020
[xii] Tackling Covid-19: International Best Practices and Paths to the Future – TRENDS Research & Advisory, May 12, 2020
[xiii] Year in Review: 2019 in 14 Charts – The World Bank, December 20, 2019
[xiv] The “Asian Century”—Over So Soon? – Michael R. Auslin, January 20, 2020
[xv] World Economic Outlook – International Monetary Fund (IMF) – April 2020
[xvi] Why India pulled out of the RCEP free trade deal – DW Akademie, November 6, 2020
[xvii] The BRI in Post-Coronavirus South Asia – May 26, 2020
[xviii] World cannot ignore Chinese aggression in South China Sea – Nikkei Asian Review May 30, 2020
التعليقات