أطلق مسلح النار على مدنيين في وسط مدينة فيينا مساء الثاني من نوفمبر الماضي، مخلفاً أربعة قتلى و23 جريحاً، من بينهم ضابط شرطة حاول التدخل لوقف إطلاق النار. وبعدما تدخلت الشرطة وأطلقت النار، اتضح أن المهاجم الذي لقي مصرعه، شاب يبلغ من العمر 20 عاماً ويدعى كوجتيم فيجزولاي.
وقد أظهر الهجوم وتبعاته مدى الخطر الذي يشكله فرد واحد مهمَّش متأثر بالأيديولوجيات المتطرفة. فعلى الرغم من أن السلطات المدنية وقوات الأمن تمكّنت بسرعة من تعطيل المهاجم، فإن الحادث يثير مجموعة من الأسئلة المزعجة حول الأساليب والاحتياطات اللازمة لدرء خطر أي “ذئب منفرد” يشن هجوماً عشوائياً على المدنيين في منطقة حضرية كبرى.
فقد كانت قوات الأمن المحلية تخشى في البداية وجود العديد من المسلحين المتورطين في إطلاق النار، ولكن سرعان ما اتضح أنه شخص واحد فقط. ورغم أن الهجوم بدأ بالقرب من كنيس ستادتمبل اليهودي (وهو أهم كنيس في فيينا)، فإن المهاجم لم يستهدف المبنى، بل ولم يُصَب أي شخص يهودي بأذى، إذ قُتلت امرأتان، الأولى ألمانية عمرها 24 عاماً، والثانية نمساوية عمرها 44 عاماً، كما قُتل رجلان، الأول نمساوي عمره 39 عاماً، والثاني مقدوني عمره 21 عاماً. وجُرح مواطنون من سلوفاكيا، ولكسمبورغ، وألمانيا والبوسنة والهرسك، والصين، وأفغانستان، الأمر الذي أثار تساؤلات حول دوافع الهجوم.
ولد فيجزولاي في النمسا وترعرع في بلدة سانكت بولتين التي تبعد 53 كيلومتراً (33 ميلاً) إلى الغرب من فيينا، وهو ينحدر من أصل ألباني ويحمل جنسية كل من النمسا ومقدونيا الشمالية، وقد أعلن ولاءه لتنظيم داعش، وكان محل اهتمام لدى مكتب حماية الدستور ومكافحة الإرهاب في النمسا. وقد حُكِم عليه في إبريل 2019 بالسجن 22 شهراً بعد محاولته العبور من تركيا إلى سوريا لينضم إلى “داعش”. وبعد أن خضع للتدريب مع منظمة “ديراد” (وهي جمعية مقرها فيينا وتتعامل مع الأفراد المشتبه في أنهم إما أصبحوا متطرفين وإما ثبت أن لديهم علاقات بجماعات إرهابية)، أُطلق سراحه من السجن في ديسمبر 2019.
وبرغم أن تنظيم داعش قد أعلن لاحقاً مسؤوليته عن الهجوم، فإن من المحتمل للغاية أن يكون فيجزولاي قد تصرّف من تلقاء نفسه. وقد أجرت الشرطة تحقيقات أولية أدت إلى تفتيش 18 منزلاً واعتقال 14 شخصاً على صلة بالهجوم. وأدت التحقيقات اللاحقة التي أجرتها الشرطة النمساوية وأجهزة مكافحة الإرهاب إلى الاعتراف بأن النمسا تلقّت إخطاراً من السلطات الألمانية باجتماع عُقِد في يوليو 2020 بين فيجزولاي ومتطرفين مقيمين في ألمانيا. وجرت مداهمات شُرطية أخرى في ألمانيا في الأيام التالية للهجوم وألقي القبض على رجلين أيضاً في سويسرا.
في تعليقه على الهجوم، قال المستشار النمساوي سيباستيان كورتس، إن هذا القتل الوحشي استهدف البلاد بأكملها، وتعهَّد ببذل الجهود كلها لتحديد المسؤولين وتقديمهم للعدالة. وصرّح بأن “العدو، الإرهاب الإسلاموي، يريد شق مجتمعنا، ولكننا لن نعطيه مساحة لبث هذه الكراهية، … فهذه ليست حرباً بين المسيحيين والمسلمين، ولا بين النمساويين والمهاجرين. إنها حربٌ بين الحضارة والهمجية”.
وتوضح حادثة فيجزولاي صعوبة اعتراض شخص متطرف ومنعه من شن هجوم قاتل في مجتمع مفتوح. ويمكن استقاء الكثير من الدروس من هذا الحدث المأساوي، من بينها ما يلي:-
أولاً: يبدو أن فشلاً قد حدث في التعامل مع المعلومات الاستخبارية التي توافرت بشأن تحركات المهاجم وأنشطته قبل أن ينفِّذ هجومه. فقد حذّرت السلطات السلوفاكية، قبل الهجوم، نظيرتها النمساوية وأخبرتها بأن فيجزولاي حاول أن يشتري ذخيرة في سلوفاكيا. واعترفت السلطات النمساوية بأنها لم تتحرّك بناءً على هذه المعلومات وأن ذلك كان إخفاقاً خطيراً في التواصل، حيث قال وزير الداخلية النمساوي، كارل نيهامر “وقعت أخطاء واضحة، ولا تُحتَمل، من وجهة نظرنا” في الطريقة التي فشلت بها الأجهزة الأمنية في توقُّع الهجوم والرد عليه.
ومن الواضح أن الأجهزة الأمنية قد أخفقت في التحرك الفوري بشأن المعلومات الاستخبارية التي قدمتها دولة أخرى، ما يدل على وجود عيوب في الإجراءات النمساوية الخاصة بمراقبة الأشخاص محل الاهتمام ومنعهم من شن هجمات عنيفة.
وتثير مثل هذه الهجمات أسئلة بشأن آليات تبادل المعلومات بين دول الاتحاد الأوروبي وإذا ما كانت تعاني خللاً وظيفياً، ففي ظل وجود أجهزة مثل الـ “يوروبول” وغيرها، تمتلك الدول الأعضاء في “الاتحاد” آليات قوية وراسخة لتبادل المعلومات الاستخبارية عبر الحدود وتعقُّب الأشخاص المشتبه في تورطهم في الإرهاب أو الجريمة المنظمة. ولا شك أن إغفال السلطات النمساوية المعلومات الاستخبارية السلوفاكية التي وردت إليها عن تحركات فيجزولاي قبل الهجوم، يكشف أن النظام أصابه خلل وظيفي في هذه الحالة.
ثانياً: ساعد الفشل في رصد الفرص التي أتيحت للمهاجم للخضوع لتلقين عقائدي متطرف، في تمهيد الطريق له للقيام بالهجوم، إذ إنه كان يتردد بانتظام على مركزين إسلاميين أغلقتهما وزارتا الاندماج والداخلية النمساويتان بعد الهجوم. وقد اتُّخِذت إجراءات الإغلاق بالتعاون الكامل مع رئيس “جماعة العقيدة الإسلامية في النمسا”، أوميت فورال، الأمر الذي يدل على عمق القلق داخل المجتمع المسلم نفسه بشأن وجود عناصر متطرفة وسط مكوناته.
وتجدر الإشارة إلى أن أحد المركزين الإسلاميين اللذيْن أُغلِقا كان مسجَّلاً بموجب القانون النمساوي، في حين ادّعى الآخر أنه “جمعية إسلامية”، اتُخذت في الواقع مكاناً غير مرخص للعبادة. وقد لعب هذان المركزان دوراً في تطرف فيجزولاي، الأمر الذي يكشف عن ضرورة إيجاد منظومة رقابية قوية لضمان تنظيم المساجد والأئمة من أجل تقليل فرصة استيلاء المتطرفين على هذه المساجد والمراكز وتسخيرها لأنشطتهم التخريبية.
ثالثاً: فشلت مساعي إعادة تأهيل فيجزولاي فشلاً واضحاً بعد محاولته السابقة للانضمام إلى تنظيم داعش. وقد اعترف وزير الداخلية، كارل نيهامر، بذلك حين قال “الحقيقة أن الإرهابي نجح في خداع برنامج النظام القضائي الخاص بنزع التطرف” لكي يقصِّر مدة سجنه. وكشف الوزير أيضاً عن رفض محاولة سابقة لسحب الجنسية النمساوية من فيجزولاي بسبب عدم وجود أدلة على أنشطة متطرفة تجرِّمه. ويكشف نجاح فيجزولاي في خداع مرشديه في برنامج نزع التطرف بشأن معتقداته المتطرفة، عن الصعوبات الجوهرية في إقناع الأفراد المصممين بعدم اعتناق معتقدات متطرفة سراً وتنفيذ هجمات قاتلة.
ومع ذلك، تجدر الإشارة إلى أن العديد من برامج نزع التطرف أثبتت نجاحها في إعادة تأهيل أفراد كانوا في السابق عرضةً للأيديولوجيات المتطرفة. وتشير الظروف المحيطة بهجوم فيينا وجوب استمرار السياسة المستقبلية في دعم مثل هذه البرامج، وإعطاء الحكومة والأجهزة الأمنية سلطات تقديرية أقوى لاعتقال الأفراد الخطرين والحد من حقوقهم إذا كانوا يشكّلون تهديداً وشيكاً.
ويُؤكد هجوم فيينا استمرار الخطر الذي تشكِّله “الذئاب المنفردة” المتطرفة العازمة على قتل الأبرياء باسم أيديولوجيا منحرفة. كما تؤكد أوجه الخلل في تعامل السلطات النمساوية مع فرد متطرف، أهمية التعاون الاستخباري الفعال العابر للحدود الوطنية، والرقابة اللصيقة على المؤسسات المعرَّضة لتسلل الأفكار المتطرفة، وتطبيق برامج شاملة تُعنى بنزع التطرف مصحوبةً بمنح الحكومة سلطات تقديرية قوية إذا لزم الأمر.
في الختام يمكن القول إن خطر الهجمات الإرهابية مثل التي نفذها فيجزولاي، سيظل موجوداً دائماً، لكن ما زال بمقدور الحكومات وقوات الأمن فعل الكثير لتقليل فرص وقوع هذه الهجمات.
التعليقات