تتصاعد أعمال الاحتجاجات في فرنسا بعد مقتل شاب مهاجر على يد شرطي، ما تسبب في اندلاع أعمال عنف هي الأكثر حدة منذ عام 2005. فعلى مدى الأيام الماضية، خرجت مظاهرات في مدن فرنسية عدة من بينها باريس ومونبيليه ومارسيليا، شارك فيها الآلاف من الشباب – وفق تقارير فرنسية – تسببت في أعمال نهب وحرق للممتلكات العامة والخاصة ومقار حكومية، ما أدى إلى اعتقال أكثر من 1300 متظاهر، يبلغ متوسط أعمارهم سن 17 عامًا [1].
حالة العنف في الشارع الفرنسي، دفعت الحكومة إلى اتخاذ إجراءات استثنائية لمواجهتها، تمثلت في نشر عربات مدرعة وطائرات هليكوبتر ونحو 45000 ضابط شرطة، بحسب وزير الداخلية جي أرالد دارمانين، وهي إجراءات تمايزت ردود الفعل السياسية حول جدواها، ما بين اليمين المتطرف بزعامة ماريان لوبان التي أكدت أنها “غير كافية”، مقابل جان لوك إمرلنشون السياسي اليساري الذي قال “إن العنف الذي ترتكبه الشرطة يجب أن ينتهي” [2].
التطورات في الشارع الفرنسي، وتصاعد أعمال العنف؛ خصوصًا من جانب الشباب، دفعت الرئيس إيمانويل ماكرون إلى توجيه أصابع الاتهام إلى مواقع التواصل الاجتماعي وألعاب الفيديو، إذ قال إنها “سممت عقول الشباب”.
وبرغم أن الاتهام لم يُشِر إلى أي دور خارجي في حشد المتظاهرين من الشباب وتعبئتهم عبر شبكة الإنترنت، فإن اتهام وزارة الخارجية الفرنسية لروسيا، في بداية يونيو الماضي، بتنظيم حملات إلكترونية ممنهجة مضللة حول ما يحدث في الحرب الروسية-الأوكرانية، يطرح تساؤلات حول تورطها في إشعال الأحداث، وتوجيه هذه الحملات إلى الداخل الفرنسي ردًّا على دعم باريس العسكري لأوكرانيا خلال الحرب الجارية.
من هنا؛ تحاول هذه الورقة قراءة الأحداث الراهنة، وما تعكسه من تشابك وتعقيدات المشهدين السياسي والاجتماعي في المجتمع الفرنسي المرتبطة بأزمات عدة؛ منها الهوية لدى المهاجرين، والمجتمعات المنعزلة، والاستقطاب السياسي.
ملاحظات عامة:
تنطوي الاحتجاجات العنيفة في فرنسا وأحداثها وردود الفعل المختلفة على العديد من الملاحظات التي يمكن أن تكون مدخلًا لفهم ما يجري وأسباب تصاعد الأحداث إلى مستوى العنف.
الملاحظة الأولى؛ تتمثل في قراءة النقاط الجغرافية التي شهدت أعمال عنف، إذ تضم ضواحٍ تتجمع فيها الأقليات والمهاجرين واللاجئين، وهو ما يكشف عن أسباب الأزمة الراهنة التي تتجاوز مسألة حقوق الإنسان بشكل عام، وتعامُل الشرطة مع المواطنين، إلى نطاق أضيق يرتبط بأزمة الهوية والاندماج في المجتمع الفرنسي.
أما الملاحظة الثانية؛ فتعبر عنها الفئة العمرية المشاركة في تلك الاحتجاجات العنيفة، إذ يبلغ سن معظم المحتجين 17 عامًا، وهو ما يطرح تساؤلات حول طبيعة هذا الجيل ونشأته في ضواحٍ منعزلة، ورؤيته للدولة والمجتمع الذي يعيش فيه، إضافة إلى التساؤل عن مدى نجاح عمليات إدماج المهاجرين غير الشرعيين أو اللاجئين في المجتمع الفرنسي ذاته.
الملاحظة الثالثة؛ تعبر عنها إجراءات الشرطة الفرنسية ذاتها لمواجهة هذه الاحتجاجات العنيفة؛ خصوصًا ما يتعلق بأعداد أفراد الشرطة ونوعية العتاد المستخدم، ما يشير إلى تفاقم الأوضاع ميدانيًّا من ناحية، وإجهاض أي محاولة منظمة أو شبه منظمة من المتظاهرين لتوسيع دائرة الاحتجاجات أو تصعيدها بالشكل الذي قد يدفع الحكومة نحو إعلان الطوارئ كما حدث عام 2005 من ناحية أخرى.
الملاحظة الرابعة؛ تتمثل في مواقف القوى السياسية تجاه أعمال العنف، وردّ فعل الشرطة، فهما يرسمان موقفهما من قضية المهاجرين غير الشرعيين أو اللاجئين، وهو ما يمكن معه تفهم تأجيل طرح مشروع تعديل قانون الهجرة الفرنسي الذي يمكن اعتباره أحد أسباب استمرار الأزمة سياسيًّا واجتماعيًّا واقتصاديًّا.
وأخيرًا تأتي الملاحظة الخامسة؛ لتكشف عن عدم تسجيل أي تقارير رسمية أو غير رسمية لمشاركة المحتجين ضد قانون المعاشات وسن التقاعد حتى الآن في الاحتجاجات العنيفة الراهنة، ما يحمل دلالات فاصلة حول الفجوة المجتمعية وحالة الاستقطاب في المجتمع الفرنسي. ومع الإقرار بالتباين والاختلاف في أسباب التظاهر بين الحدثَين، فإنهما يعبران عن أن هناك أزمة داخل المجتمع ذاته، وهو ما يمكن معه القول إن كل طرف يرى أن قضيته فئوية، برغم انعكاساتها على المجتمع كله.
الملاحظات السابقة، وما تتضمنه من حالة تشابك وتعقيدات للمشهد الداخلي، تفرض الأخذ في الحسبان تحذيرات الحكومة الفرنسية في أكتوبر 2020 مما سمّته “الانفصالية أو الانعزالية الإسلامية”، وخلق جماعات موازية في الضواحي، وما تبعها من تحذيرات حكيم القروي مستشار الرئيس الفرنسي في نوفمبر 2021 من تغلغل جماعة الإخوان في المجتمع الفرنسي [3].
على ضوء ما سبق، يمكن قراءة الأحداث في فرنسا عبر محاور عدة: الأول؛ أزمة الهوية وقضايا دمج اللاجئين وأزمة الضواحي، أما المحور الثاني؛ فيشير إلى دور الإسلام السياسي في الأزمة الراهنة؛ في حين يركز المحور الثالث على حدود الدور الخارجي في إشعال الأحداث، وأخيرًا؛ التوظيف السياسي للأحداث بين اليمين المتطرف واليسار الفرنسيَين.
أولًا: ثلاثية الهوية والمهاجرين والضواحي:
كشفت موجة العنف والشغب التي شهدها الشارع الفرنسي عن “أزمة هوية” متجذرة في الضواحي التي يقطنها المهاجرون واللاجئون أسهمت في بناء حالة من التحفز تجاه الدولة أو ما يمثلها[4]، فقد بدا واضحًا أن البرامج الفكرية والممارسات الخاصة بدمج المهاجرين واحتوائهم لم تعالج هذه المسألة، بل أدت إلى تفاقمها نتيجة استمرار تدفق موجات الهجرة واللجوء، من دون ضبط لأعدادهم أو مؤهلاتهم أو أماكن إقامتهم وبرامج دمجهم.
فعلى سبيل المثال، عانى المهاجرون غير الشرعيين واللاجئون خلال أزمة تفشي وباء كورونا ضعفَ الخدمات الصحية المقدمة لهم، بالإضافة إلى تفشي البطالة بينهم، وسوء حالة المناطق التي يقطنونها.
هذه الصورة رسمت معاناة فرنسا مما سمّته بعض الدوائر الفكرية “الهجرة غير المتكاملة”، التي تشير إلى عدم انتقاء المهاجرين، وذلك عبر فرض حد أدنى من الشروط التي تتوافق مع طبيعة المجتمع الفرنسي [5]، وهو ما أدى في النهاية إلى تحرك الحكومة الفرنسية نحو إصدار قانون جديد للهجرة، لكنه أثار جدلًا في الأوساط السياسية وبين المهاجرين وطالبي اللجوء على السواء، ما تسبب في تأجيل عرضه على البرلمان، إلى حين تأمين الأغلبية اللازمة لتمريره [6].
فعلى سبيل المثال؛ تضمّن القانون الجديد مادة خاصة بإصدار تصاريح إقامة مهنية لمدة 3 سنوات للمهاجرين أو اللاجئين ممن عملوا فعليًّا على الأراضي الفرنسية لمدة 8 أشهر، لكنه لا يتضمن “حق لمّ الشمل لعائلاتهم” [7].
هذا البند واجه معارضة من قوى اليمين المتطرف، بزعم أنه سيسمح بموجات هجرة عمالية، قد تؤثر على معدلات البطالة بين الفرنسيين.
أزمة الهوية الخاصة بالمهاجرين واللاجئين، وما تبعها من تصاعد للعنف، كشفت عن أطروحات سابقة لعلاج أزمة الهجرة في فرنسا، وتحديدًا بعد أحداث عام 2005، التي تسببت في إعلان حالة الطوارئ لأول مرة منذ الحرب في الجزائر.
فقد ركزت هذه المطالب على ضرورة وقف استقبال المهاجرين الجدد، مع توجيه الموارد لتطوير قدرات المهاجرين واللاجئين المقيمين فعليًّا في الضواحي، لتعزيز برامج دمجهم اجتماعيًّا وثقافيًّا، الأمر الذي كان سيخفف من وطأة الطائفية والشعور بالعنصرية، التي كانت مدخلًا للتطرف وانتهاج العنف ضد الدولة وأجهزتها.
ثانيًا: “الانعزالية الإسلامية” ومخاوف الجمهورية:
تعدّ الضواحي وما تعانيه من أزمات؛ سواء في البنية التحتية أو محاولات دمج قاطنيها من المهاجرين واللاجئين، بالإضافة إلى فشل الحكومات الفرنسية في علاجها على مدى 4 عقود، بيئةً مناسبة للاختراق من جانب الجماعات المتطرفة وتيارات الإسلام السياسي، وسببًا رئيسيًّا في تصاعد أعمال العنف الأخيرة.
إذ تعمل هذه التيارات، وتحديدًا جماعة الإخوان، على اختراق المجتمعات الأكثر فقرًا لحشد أعضاء جدد وتعبئتهم وتجنيدهم، الأمر الذي يساعدها في مسألة الضغط على الحكومات والأنظمة.
هذه الاختراق يحقق أهدافه المرجوة، في حالة عزله عن بيئته الكبرى، ويساعد في بناء منظومة فكرية متطرفة ترفض الآخر وتعلي شأن الطائفية والجماعة أو التنظيم مقابل الوطن.
وقد أسهمت حالة الانعزال التي تعيشها هذه المجتمعات في تلك الضواحي في تعزيز هذا التطرف الفكري والسلوكي تجاه الدولة الفرنسية، لتتجاوز مسألة الاختراق من جانب الإسلام السياسي؛ وتحديدًا الإخوان إلى “التفكيك”، وهو ما عبر عنه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، عندما طرح ما أطلق عليه “استراتيجية مواجهة الانعزالية أو الانفصالية الإسلامية”.
ففي أكتوبر2020، أعلن ماكرون خططًا لتمرير تشريعات أكثر صرامة للتصدي لمواجهة “الانفصالية الإسلامية”، وذلك دفاعًا عن القيم العلمانية. وشدد على أن نحو 6 ملايين من مسلمي فرنسا يواجهون خطر تشكيل “مجتمع موازٍ” معادٍ لمبادئ الجمهورية الفرنسية العلمانية [8].
خطط المواجهة، بحسب خطاب ماكرون الذي ألقاه في ليه موروه- أحد أحياء ضاحية باريس- تضمنت تشديد الرقابة على مناهج التعليم في المدارس الخاصة بالمسلمين، وضبط التمويل الأجنبي للمساجد ومراقبته، اللذين يُعدان من أدوات اختراق الإخوان للمجتمعات الأوروبية. [9]
وبالفعل في يوليو 2021،[10] أُقرّ قانون “مكافحة النزعات الانفصالية” الذي تضمّن خططًا للحكومة لجعل التعليم إلزاميًّا للأطفال من سن الثالثة، وحظر التعليم في المنزل، باستثناء الأسباب الطبية، وذلك للحد من انتشار ما سمّاه “المدارس المتطرفة”.
كما عدّ القانون نشر المعلومات حول الحياة الخاصة أو العائلية أو المهنية لشخص ما بهدف تعريض حياته للخطر، جريمةٌ عقوبتها السجن لمدة ثلاث سنوات، وغرامة تصل إلى 45000 دولار.
وفيما يتعلق بضبط مصادر التمويل الأجنبية للجماعات الدينية، ألزم القانون الإعلان عن أي تبرعات من الخارج تزيد قيمتها على 10 آلاف دولار، كما توقع مراقبون منح السلطات المحلية سلطة إغلاق أي مكان للعبادة مؤقتًا؛ إذا ما حرض على التمييز أو الكراهية أو العنف ضد شخص أو مجموعات بسبب العرق أو المجموعة العرقية أو المعتقدات الدينية أو الميول الجنسية أو الجنس.
وبالرغم من أنه لا توجد اتهامات مباشرة للإخوان في التورط بأحداث العنف الأخيرة، فإنه يمكن القول إن السلوك العنيف للمتظاهرين يُعد نتاجًا لتغلغل هذه الجماعة في “الضواحي”، وذلك عبر بناء مجتمع رافض لمسألة الاندماج مع المجتمع الأم، باستخدام التمويلات الأجنبية لتكريس هذه السمة الانعزالية، وهو ما كشفته مؤخرًا التحقيقات الأمنية الخاصة بتمويل هذه الجماعة، وانتهت إلى تجميد 25 مليون يورو من أموالها [11].
هذه التحقيقات التي بدأت بموجب قانون “مكافحة النزعات الانفصالية”، كشفت عن وجود 20 صندوق هباتٍ خاص، يمول أنشطة مشبوهة لتيارات الإسلام السياسي. هذه الصناديق ترتبط بمجموعة من الجمعيات المدنية المنشأة وفقًا لقانون 1901، أي أنها جمعيات غير ربحية تنشط في مجالات الخدمات الثقافية والاجتماعية، عبر 10 شبكات تسيطر عليها جماعة “الإخوان” تمتد من مدينة ليل وحتى مدينة مارسيليا، واللافت للنظر أن الأخيرة شهدت أكثر الموجات عنفًا خلال الاحتجاجات الراهنة، بلغت حد وصفها بـ “أحداث حرب”.
فقد كشفت مقاطع مصورة مرفقة بأحد التقارير الميدانية، عن النزعة الدينية في بعض أعمال العنف التي شهدتها فرنسا، ما يشير إلى دور جماعات الإسلام السياسي في الأحداث، إذ بدا واضحًا أن الصدام انتقل من التعبير عن الغضب لقتل شاب مهاجر على يد شرطي، إلى مواجهة الدولة الفرنسية [12].
هذا الأمر يشير إلى أسباب اختيار مصطلح “الانعزالية” أو “الانفصالية الإسلامية”، الذي يكشف بوضوح عن خطر التفكيك الذي يهدد كيان الدولة الفرنسية ووجودها.
ثالثًا: روسيا.. وحدود الدور الخارجي:
هناك اتهامات غير رسمية بتورط روسيا في تأجيج أحداث العنف الأخيرة، استندت إلى رؤى تشير إلى مساعي موسكو للرد على الدعم العسكري الفرنسي لأوكرانيا، إذ تعهدت باريس في 13 مايو الماضي، بتقديم مساعدات عسكرية إضافية لأوكرانيا، بما في ذلك دبابات خفيفة وعربات مدرعة وتدريب للجنود ومساعدات أخرى، وذلك قبل شنّ أوكرانيا هجومًا مضادًّا على القوات الروسية [13].
وهذه الاتهامات استندت أيضًا إلى تصريحات الرئيس ماكرون بأن منصات التواصل الاجتماعي تلعب دورًا مهمًّا في أحداث الأيام القليلة الماضية، وشدد على أنها تساعد مثيري الشغب في تنظيم أنفسهم.
تلك الادعاءات ربطت بين تصريحات ماكرون السابقة، واتهام وزارة الخارجية الفرنسية في 13 يونيو الماضي، لكيانات حكومية وأخرى غير حكومية تابعة لموسكو بتنظيم حملة إلكترونية ضد باريس.
فقد أورد بيان الخارجية الفرنسية حينها، أن هذه الحملة التي تشنها موسكو ضد باريس، تتضمن التلاعب بالمعلومات وإثارة معلومات غير صحيحة ونشرها، وذلك عبر إنشاء حسابات مزيفة على مواقع التواصل الاجتماعي، إضافة إلى تدشين مواقع مزيفة تحمل اسم وسائل إعلام وكيانات حكومية فرنسية [14].
وتشير التجربة العملية إلى الدور الملحوظ لوسائل التواصل في أحداث العنف خلال المظاهرات والاحتجاجات، مثلما حدث في مصر وسوريا وليبيا، خلال أحداث ما يسمى “الربيع العربي”. إذ كانت تُنشر شائعات ومعلومات مضللة، بهدف إثارة الرأي العام والمتظاهرين، للتحول إلى العنف وذلك عبر مساعدات على الأرض من أفراد يقودون هذه التحركات عبر ما يعرف بـ “العقل الجمعي”.
وهنا تجدر الإشارة إلى أنه إذا ما تم التحقق فعليًّا من دور موسكو في التحريض الإلكتروني خلال الاحتجاجات، فإنه يتوقع أن يتأثر الدعم الفرنسي لأوكرانيا في إطار صفقة تجري على أساس “التهدئة مقابل التخلي عن دعم كييف”. بَيد أن هذا الأمر مرهون بقدرة الأمن الفرنسي على احتواء الاحتجاجات والمظاهرات العنيفة، وتجاهل مواقف القوى السياسية المتناقضة والناقدة في ذات الوقت لسلوك الشرطة، التي تحاول الاستفادة من الأوضاع الراهنة لمصلحتها شعبيًّا.
رابعًا: التوظيف السياسي.. بين اليمين واليسار:
بداية، تواجه الشرطة الفرنسية اتهامات بـ “العنصرية” خلال مواجهتها الاحتجاجات العنيفة الراهنة، بلغت حدّ تشبيهها بأنها تنتهج مسار الشرطة الأمريكية في التعامل مع الأقليات. هذه الاتهامات لم تصدر فقط من القوى الداخلية بل صدرت أيضًا من الأمم المتحدة[15]، وهو ما رفضته وزارة الخارجية الفرنسية وأكدت أنه غير صحيح تمامًا [16].
وإذا أُخذت في الحسبان طبيعة الأغلبية المشاركة في الاحتجاجات (من المهاجرين واللاجئين)، يتضح أن علاقاتها مع الشرطة الفرنسية متوترة، نتيجة رفضها أيَّ سلطة من الدولة الفرنسية، ومعاناتها من التهميش والفقر والبطالة، وذلك في انعكاس مباشر لفشل الجهود الحكومية.
من ناحية أخرى، كشفت ردود أفعال قادة التيارين اليمني واليساري في فرنسا تجاه الأحداث الراهنة عن تمايز شديد في المواقف، لكنه يعكس في النهاية محاولة كل طرف توظيف الأحداث لمصلحته [17].
فقد عدّت ماري لوبان زعيمة اليمين المتطرف تعاملَ الشرطة مع أحداث العنف غير كافٍ، وهو موقف يمكن تفهُّمه في سياق موقف اليمين الأوروبي بشكل عام الرافض للهجرة واللجوء، ما يعني أن استمرار العنف مع استمرار الترويج بأن الأقليات من المهاجرين واللاجئين المتسبب الرئيسي فيه، يساعد في ارتفاع شعبية هذا اليمين المتطرف، وخصوصًا أنه يهدد أمن الجمهورية الفرنسية.
وعلى النهج الخاص باستغلال الأحداث ذاته؛ اتهم التيار المعارض اليساري، بقيادة المتشدد جان لوك إرملنشون الشرطةَ الفرنسية باستخدام قوة غير مبررة في مواجهة المتظاهرين، وقال إن ما حدث هو نتيجة عقود من الإهمال في الضواحي الفقيرة والمتعددة الأعراق والعالية الكثافة حول المدن الكبرى.
بَيد أن المتتبع لردود الأفعال الشعبية؛ وتحديدًا من أصحاب المطالب العمالية الفئوية، وخاصة رافضي قانون التقاعد الأخير الذي خرجت على أثره مظاهرات شهدت احتجاجات عنيفة، يتضح أن مسار الأحداث الراهن يأتي في مصلحة تيار اليمين المتطرف؛ إذ بات يعبّر عما يُعرف بـ “تراجع دولة الرفاه الفرنسية” [18].
وبالرغم من أن كتلة الشباب التصويتية دائمًا ما تتدخل في المراحل الأخيرة لضرب تقدم اليمين المتطرف خلال الاستحقاقات الانتخابية الأخيرة للحفاظ على وسطية الدولة، فإنه لا يمكن الرهان على هذا الأمر خلال المرحلة المقبلة؛ وخصوصًا مع انعكاسات ضعف الموقف الفرنسي خلال حرب أوكرانيا وعدم قدرته على ردع روسيا، إلى جانب تأثير التغير الديمغرافي وتغلغل تيار الإسلام السياسي؛ وتحديدًا الإخواني على مستقبل الجمهورية الفرنسية العلمانية.
ولعل عدم تسجيل أي مشاركة من جانب رافضي قانون المعاشات أو التقاعد الأخير، يعد مؤشرًا إلى أن ثمة رؤية تتبلور تجاه الأحداث الأخيرة، تتمثل في أن هذه الأحداث تمسّ الأمن القومي وليس لها علاقة بالعدالة أو دولة الرفاه في فرنسا؛ إذ إن مسألة قانون التقاعد، تحمل أزمة اجتماعية واقتصادية محددة الملامح، تتطلب وضع استراتيجية لـ”استعادة التوازن المالي”، عبر زيادة الموارد التي تغطي الالتزامات في فترة ما بعد التقاعد، بالإضافة إلى إيجاد توازن في توفير فرص العمل المناسبة في ظل رفع سن التقاعد إلى 64 عامًا، لمواجهة نسبة معدل البطالة برغم استقرارها عند 7.1%.
في النهاية، بالرغم من احتمالية اتجاه الأوضاع نحو التهدئة، فإن الأمور تظل مرشحة للتصاعد مرة أخرى؛ وخصوصًا مع استيلاء عدد من المحتجين على أسلحة بعد نهب متجر سلاح في مرسيليا، وهو ما يؤشر إلى إمكانية تكرار سيناريو عام 2005 عبر فرض حالة طوارئ في البلاد.
في المقابل؛ ستظل تداعيات هذه الأحداث مرتبطة بتمرير تشريعات أكثر صرامة تستهدف المهاجرين واللاجئين تحت بند الحفاظ على مبادئ الجمهورية الفرنسية وأمنها، وهو ما سيواجه التيار اليساري صعوبة في رفضه، مقابل ارتفاع شعبية اليمين المتطرف مؤقتًا، حتى موعد أقرب انتخابات.
المراجع
[1] – Leila Abboud, France endures fourth night of violence and looting after police shooting, Financial Times, 02/07/2003, Link:
https://www.ft.com/content/e91356cd-18f2-4cf1-be27-b7daaa5c3fe4
[2] – Fourth night of violence in France after deadly police shooting of teen, FRANCE 24, 01/07/2023, Link:
https://www.france24.com/en/europe/20230630-%F0%9F%94%B4-live-third-night-of-violent-clashes-between-police-and-protesters-in-france-hundreds-arrested
[3] – الإخوان في فرنسا واقع اليوم ومآلات الغد، تريندز للبحوث والاستشارات، 16 نوفمبر 2021، انظر:
[4] – MARION SOLLETTY, “In French town under curfew, wave of violence leaves locals dazed and angry”, Politico, JULY 2, 2023, link:
https://www.politico.eu/article/france-town-colombes-curfew-wave-violence-locals-dazed-angry/
– JACOPO BARIGAZZI, SUZANNE LYNCH, HANS VON DER BURCHARD, BARBARA MOENS, CLEA CAULCUTT AND CORY BENNETT, “Migration mutiny: EU summit deadlocks”, Politico, JUNE 30, 2023, Link:
https://www.politico.eu/article/euco-council-eu-viktor-orban-charles-michel-hungary-poland-migration-mutiny-eu-summit-deadlocks/
[5] – حول المناقشات فيما يتعلق بأزمة الضواحي والمهاجرين والهوية في فرنسا؛ انظر:
– Jean-loup Bonnamy, “«Banlieues, “gilets jaunes”, Covid… nous ne tirons les leçons d’aucune crise»”, le figaro, 30/06/2023, Link:
https://www.lefigaro.fr/vox/politique/banlieues-gilets-jaunes-covid-nous-ne-tirons-les-lecons-d-aucune-crise-20230630
– Yves Thréard, “Crise migratoire: «La France débordée»”, le figaro, 14/02/2023, Link:
https://www.lefigaro.fr/vox/societe/crise-migratoire-la-france-debordee-20230214
– Guillaume Tabard, “Identité, incarnation, alliances: les nouveaux défis de la social-démocratie”, le figaro, 04/06/2023 Link:
https://www.lefigaro.fr/politique/identite-incarnation-alliances-les-nouveaux-defis-de-la-social-democratie-20230604
[6] – Lily Radziemski, “‘It’s purely political’: Why France’s newest immigration bill is so controversial”, Euro News, 2/7/2023, Link:
https://www.euronews.com/my-europe/2023/07/02/its-purely-political-why-frances-newest-immigration-bill-is-so-controversial
[7] – قانون الهجرة الفرنسي الجديد.. اشتراط التمكن من اللغة الفرنسية لتصريح الإقامة “المتعدد السنوات”، مهاجر نيوز، 14/03/2023، انظر:
https://www.infomigrants.net/ar/post/47480/%D9%82%D8%A7%D9%86%D9%88%D9%86-%D8%A7%D9%84%D9%87%D8%AC%D8%B1%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%81%D8%B1%D9%86%D8%B3%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%AF%D9%8A%D8%AF-%D8%A7%D8%B4%D8%AA%D8%B1%D8%A7%D8%B7-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%85%D9%83%D9%86-%D9%85%D9%86-%D8%A7%D9%84%D9%84%D8%BA%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%81%D8%B1%D9%86%D8%B3%D9%8A%D8%A9-%D9%84%D8%AA%D8%B5%D8%B1%D9%8A%D8%AD-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D9%82%D8%A7%D9%85%D8%A9-%D9%85%D8%AA%D8%B9%D8%AF%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%86%D9%88%D8%A7%D8%AA
[8] – عبد الحفيظ العبدلي، “فرنسا قلقة بسبب “الانعزالية الإسلامية”.. فما هو الوضع في سويسرا؟”، سويس إنفو، 17 أكتوبر 2020، انظر:
https://www.swissinfo.ch/ara/business/%D9%81%D8%B1%D9%86%D8%B3%D8%A7-%D9%82%D9%84%D9%82%D8%A9-%D8%A8%D8%B3%D8%A8%D8%A8–%D8%A7%D9%84%D8%A5%D9%86%D8%B9%D8%B2%D8%A7%D9%84%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A5%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A%D8%A9—-%D9%81%D9%85%D8%A7-%D9%87%D9%88-%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%B6%D8%B9-%D9%81%D9%8A-%D8%B3%D9%88%D9%8A%D8%B3%D8%B1%D8%A7-/46098918
[9] – وسيم الأحمر، “ماهي خطة ماكرون لمواجهة “الانعزالية الإسلامية”؟”، فرانس 24، 02/10/2020، انظر:
https://www.france24.com/ar/20201002-%D9%85%D8%A7%D9%87%D9%8A-%D8%AE%D8%B7%D8%A9-%D9%85%D8%A7%D9%83%D8%B1%D9%88%D9%86-%D9%84%D9%85%D9%88%D8%A7%D8%AC%D9%87-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D9%86%D8%B9%D8%B2%D8%A7%D9%84%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%B3%D9%84%D8%A7%D9%85%D9%8A%D8%A9
[10] – Jan van der Made, “France’s parliament approves anti-separatism bill against Islamist extremism”, RFI, 24/07/2021, Link:
https://www.rfi.fr/en/france/20210724-france-s-parliament-approves-anti-separatism-bill-against-islamist-extremism
[11] – السلطات الفرنسية تلاحق تمويلات “الإخوان المسلمون” في فرنسا… وتجمد 25 مليون يورو من أموالها، مونت كارلو الدولية، 18/05/2023، انظر:
[12] – Amy Mek, “Islamic Rioters Hunt Police in France, Issue Death Threat: ‘We Are Muslims, We Have The Right to Kill You’ (Video)”, RAIR Foundation USA, July 1, 2023, Link:
[13] – لمزيد من التفاصيل حول الدعم العسكري الفرنسي لأوكرانيا، انظر:
– France pledges further military support to Ukraine, AMBASSADE DE FRANCE AU ROYAUME-UNI, May 2023, Link:
https://uk.ambafrance.org/France-s-Assistance-to-Ukraine
– JOHN LEICESTER AND FRANK JORDANS, “France pledges more military aid as Ukraine’s Zelenskyy makes surprise Paris visit to meet Macron”, Associated Press, 15 May 2023, Link:
https://apnews.com/article/ukraine-zelenskyy-france-macron-russia-f88abdcc52a92480454b3fe4b40fa75d
– – Elise Vincent, “France organizes long-term military support for Ukraine”, le monde, February 1, 2023, Link:
https://www.lemonde.fr/en/international/article/2023/02/01/france-organizes-long-term-military-support-for-ukraine_6013985_4.html
[14] – الخارجية الفرنسية تتهم روسيا بشن “حملة تضليل واسعة”، سكاي نيوز عربية، 13 يونيو 2023، انظر:
https://www.skynewsarabia.com/world/1629194-%D8%A7%D9%84%D8%AE%D8%A7%D8%B1%D8%AC%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D9%81%D8%B1%D9%86%D8%B3%D9%8A%D8%A9-%D8%AA%D8%AA%D9%87%D9%85-%D8%B1%D9%88%D8%B3%D9%8A%D8%A7-%D8%A8%D8%B4%D9%86-%D8%AD%D9%85%D9%84%D8%A9-%D8%AA%D8%B6%D9%84%D9%8A%D9%84-%D9%88%D8%A7%D8%B3%D8%B9%D8%A9
[15] – UN rights office calls on France to address ‘deep issues’ of racism in policing, UN, 30 June 2023, Link:
https://news.un.org/en/story/2023/06/1138247
[16] – United Nations: France must ‘seriously address’ police racism, Le Mode, June 30, 2023, Link:
https://www.lemonde.fr/en/france/article/2023/06/30/united-nations-france-must-seriously-address-police-racism_6040123_7.html
[17] – By Leo Cendrowicz, “Race riots in France could give far-right the edge Marine Le Pen needs to win in 2027”, Inews, 2/7/2023, Link:
https://inews.co.uk/news/world/race-riots-france-far-right-edge-marine-le-pen-win-2027-2448864
[18] – د. توفيق إكليمندوس، بعض الملاحظات حول دولة الرفاه الفرنسية، “ورقة غير منشورة”، 2023.