مقدمة:
في ظل ما يشهده العالم اليوم، من تحولات متسارعة وتطورات معقدة، نتج عنها تصاعد في حدة الكوارث الطبيعية والنزاعات المسلحة وتمدد الجماعات الإرهابية والجريمة المنظمة العابرة للحدود وانتشار الجوائح الوبائية، وما أسفرت عنه من تداعيات سلبية وأزمات قد تعرقل مسار التنمية وتهدد الاستقرار وحقوق المجتمعات في العيش بأمان وسلام، تطمح كل دول العالم، وإن بدرجات متفاوتة، إلى الحد من آثار المخاطر والوقاية منها.
وقد دفعت هذه التطورات المجتمع الدولي إلى ابتكار آليات عملية، تساعد الأطر البشرية على ضمان الأمن وحماية الأرواح والممتلكات بشكل استباقي ودرء الأخطار عنها. وعليه فقد ظهر ما سمي “نظام الإنذار المبكر Early Warning System “، بحيث يعد جزءًا لا يتجزأ من استراتيجية الوقاية، لا سيما التهديدات الأمنية ذات الصلة بالإرهاب والتطرف العنيف. فما المقصود بنظام الإنذار المبكر؟ وما المقصود بالإرهاب والمخاطر الإرهابية؟ وكيف يمكن بناء هذا النظام وتفعيله لمواجهة التهديدات المستقبلية؟ وما هي أهم الاقتراحات والتوصيات التي يمكن تقديمها للهيئات المختصة حتى تُفعِّل نظام الإنذار المبكر وفق منظور استراتيجي استباقي يحد من المخاطر على كافة المستويات؟
تروم هذه الورقة البحثية إلى مقاربة بعض الإجابات عن الأسئلة السالفة الذكر، كما تصف بعض الأدوات والأساليب الناشئة لجمع المعلومات الضرورية وتحليلها لبناء القدرة على مجابهة التهديدات الإرهابية، ومواجهة هيمنة التنظيمات الإرهابية على المشهد العالمي، وذلك من خلال مقاربة دور نظام الإنذار المبكر في التصدي لهذه التنظيمات وما تشكله من تهديدات.
أولًا: نظام الإنذار المبكر.. ماهيته وأهدافه وعناصره:
يحظى نظام الإنذار المبكر بأهمية كبيرة، بالنظر إلى الدور الكبير الذي يلعبه في الحد من التهديدات الإرهابية التي تشكلها جماعات التطرف والإرهاب، من خلال الفهم المشترك للأسباب الجذرية وما يقدمه من معلومات وبيانات لتحليل النقاط المحتمل أن تشكل بؤرًا ساخنة.
1-نظام الإنذار المبكر: ماهيته وأهدافه:
يمكن تعريف نظام الإنذار المبكر بأنه عبارة عن منظومة للاستكشاف والتحذير المسبق من احتمالية حدوث الكوارث والأزمات، تمهيدًا لاتخاذ القرارات والسياسات والإجراءات المناسبة لمواجهتها ومنع حدوثها بشكل كلي أو على الأقل الحد من حجم أضرارها ومخاطرها. كذلك يمكننا القول بأنه “نظام متكامل لرصد الأخطار وتوقع حدوثها وتقييمها والتأهب للتصدي لها، عبر النظم والعمليات التي تمكن الأفراد والمجتمعات والحكومات وغيرها من اتخاذ إجراءات للحد من آثار المخاطر بكل أشكالها في الوقت المناسب قبل حدوثها”[1]. كما تم تعريفه في سياق آخر بأنه عبارة عن عملية رصد وتسجيل وتحليل لإشارات توحي بعلامات أزمة مالية أو اقتصادية تلوح في الأفق أو تشير إلى اقتراب وقوع أزمة حقيقية شديدة، وهذا النظام مهمته الحقيقية تتمثل في التفرقة بين الإشارات التي تشير إلى قرب وقوع الأزمة، وبين الأحداث العَرَضية والضوضاء الناتجة عن مشكلات عادية تواجهها الدولة في عملياتها اليومية[2].
وتشير خطة الأمم المتحدة للسلام عام 1995 إلى أن منظومة الإنذار المبكر عبارة عن شبكة نظم شاملة، تتناول الإنذار المبكر فيما يتعلق بالأخطار البيئية، وخطر وقوع حادثة نووية، والكوارث الطبيعية، وتحركات السكان الضخمة، وخطر حدوث المجاعات وانتشار الأمراض. وتؤكد على الحاجة إلى تعزيز الترتيبات بطريقة تجمع بين المعلومات الآتية من المصادر والمؤشرات السياسية، للوقوف على احتمال وجود خطر يهدد السلم، وتحليل ما يمكن للأمم المتحدة أن تتخذه من تدابير للتخفيف من هذا الخطر. ونذكر على سبيل المثال وحدة نظام الإنذار المبكر للشؤون الإنسانية The Humanitarian Early Warning Systemsالتابع لقسم الشؤون الإنسانية في منظمة الأمم المتحدة، والتي تختص بجمع المعلومات وتحليلها مع تبادل نتائج التحليل حول مناطق الأزمات، وذلك بهدف تطوير خيارات استراتيجية استباقية، أو المواجهة المحتملة للأزمات أو الصراعات[3].
ويمكن تطبيق نظم الإنذار المبكر على التهديدات التي تشكلها التنظيمات الإرهابية، حيث تبقى الغاية من وراء بناء هذا النظام وتفعيله هي تدعيم قدرة الأفراد والمؤسسات والمجتمعات وتمتينها بشكل عام، على مواجهة التهديدات والمخاطر الإرهابية المحتملة، في الوقت الكافي وبالأسلوب المناسب، وذلك لتقليل إمكانية وقوع خسائر مادية ومعنوية جراء تلك التهديدات. ويلعب نظام الإنذار المبكر دورًا حيويًا في تعزيز نظم المعلومات التي يتم تجميعها عن أنشطة الجماعات الإرهابية، والرفع من حالة التأهب في الوقت المناسب والاستجابة الفعَّالة باستخدام نظام تشغيلي يدمج مكونات المعرفة بالمخاطر الإرهابية، والرصد والتنبؤ، ونشر المعلومات والاستجابة للتحذيرات التعبوية لجميع الجهات ذات الصلة. وبذلك يمنح نظام الإنذار المبكر الفرصة والوقت الكافيَيْن لأجهزة إنفاذ القانون لاتخاذ الإجراءات الملائمة للتعامل مع المخاطر والتهديدات قبل وقوعها، على نحو يخفف من الأضرار المحتملة إلى أقصى حد ممكن، كما يعزز الثقة بالأجهزة الأمنية المعنية بالتعامل مع الأخطار الإرهابية والأمنية لدورها في الحد من المفاجآت وإتاحتها فرصة الوقاية منها، بالإضافة إلى ذلك يساعد هذا النظام في تحديد الأجندة الزمنية اللازمة للتعامل مع هذا النوع من المخاطر[4].
2- عناصر نظام الإنذار المبكر والعوامل المساعدة له:
تشير أرضية لتطوير الإنذار المبكر في الأمم المتحدة[5] إلى أن أي نظام كامل وفعَّال للإنذار المبكر يجب أن يحتوي أربعة عناصر أساسية، أجمعت عليها مختلف الفعاليات الدولية سواء تعلق الأمر بمؤتمرات مخصصة لدراسة الموضوع أو هيئات بحثية. وترتبط هذه العناصر ببعضها البعض، بشكل جدلي، حيث تبدأ من المعرفة بالخطر ونقاط الضعف (جمع البيانات وتحليلها والعمل على تقدير المخاطر)، ثم خدمة المراقبة والإنذار (مراقبة المؤشرات الصحيحة لعمليات التنبؤ والمراقبة المستدامة لمؤشرات الخطر)، مرورًا بنشر المعلومات (نشر بيانات ومعلومات الإنذار المبكر إلى كافة المعرضين للخطر واستخدام قنوات اتصال متعددة)، وتنتهي بالاستعداد والقدرة على المجابهة والرد (بناء قدرات وطنية ومجتمعية للرد المناسب حيال المخاطر. وتتضمن أفضل أنظمة الإنذار المبكر روابط قوية وقنوات اتصال فعَّالة بين مختلف تلك العناصر)[6].
ويستطيع نظام الإنذار المبكر أن يكون متعدد الوظائف والأدوار، بحيث يمكنه تناول العديد من الأخطار والآثار المتماثلة أو المختلفة في سياقات قد تحدث فيها ظواهر خطرة بشكل منفرد، أو بشكل متتابع، أو تراكمي، مع مراعاة الآثار المترابطة المحتملة. ويعزز نظام الإنذار المبكر، القادر على التحذير من واحد أو أكثر من الأخطار، كفاءة التحذيرات واتساقها من خلال آليات وقدرات منسّقة ومتوافقة، تشمل تخصصات متعددة من أجل تحديد الأخطار المحدثة والدقيقة ومراقبتها.
وهناك مجموعة من العوامل التي تساعد نظام الإنذار المبكر على أداء مهامه وتحقيق أهدافه، فضلًا عن أنها تؤثر في زيادة فاعليته، وقد ينعكس غيابها بشكل سلبي على أداء النظام، بما يؤدي إلى التقليل من فاعليته والحد من نشاطه، ومن هذه العوامل نذكر على سبيل المثال لا الحصر[7]:
- فاعلية نظام المعلومات: يشترط في نظام الإنذار المبكر وجود منسوب مرتفع ومتنوع من المعلومات، ومتابعة تطورها وسلوكيات مصادرها وخلفيتها.
- فاعلية نظام الاتصال: كلما كان الاتصال بين مكونات النظام فعَّالًا ومباشرًا وسريعًا، ساعد ذلك في كفاءة نظام الإنذار المبكر.
- خبرة فريق إدارة الأزمة وكفاءته: وجود فريق مكون من أشخاص مهنيين مؤهلين وذوي خبرة عالية يضفي على نظام الإنذار المبكر السرعة في حل المشكلات، قبل خروجها عن السيطرة. والعكس صحيح في حال وجود فريق ذي خبرة محدودة وكفاءة متدنية.
- فاعلية القيادة في اتخاذ القرارات الحاسمة: ولهذا العامل علاقة مباشرة بالعامل السابق، إذ إن قوة فريق إدارة الأزمة مرهون باختيار القائد، حيث إن سلوكيات هذا الأخير الفطرية أو المكتسبة تمكنه من استشعار المخاطر وتحفزه على إيجاد الحلول المبكرة.
ثانيًا: نظام الإنذار المبكر والتصدي للإرهاب.. الفاعلية والحدود:
لا شك أن النجاح في بناء نظام إنذار مبكر فعّال وكفء يشكل خطوة مهمة في مواجهة المخاطر التي تترتب عن الإرهاب، بما يوفره من أداة تساعد في مواجهة التهديدات التي تشكلها الجماعات الإرهابية، والحد منها وربما الحد من وقوعها.
1- الإرهاب والسياق العالمي:
هناك تعريفات عديدة لمفهوم الإرهاب، ومن بينها أنه “استخدام العنف أو التهديد باستخدامه، بقصد إثارة الفزع ونشر الرعب، باستخدام الوسائل التي تتراوح بين الاغتيالات وتفجير القنابل في الأماكن العامة، والهجوم المسلح على المنشآت والأفراد، والممتلكات واختطاف الأشخاص، وأعمال القرصنة الجوية واحتجاز الرهائن، وإشعال الحرائق، وغير ذلك من الأعمال التي تتضمن المساس بمصالح الدول الأجنبية؛ مما يترتب عليه إثارة المنازعات الدولية وتبرير التدخل العسكري”[8].
في هذا الإطار يعد الإرهاب ظاهرة عالمية تأتي في مقدمة أخطر المشكلات التي يعيشها العالم اليوم، والتي تواجه الإنسان المعاصر، وذلك لما يترتب عليها من دمار وخراب، وإفساد وتخريب للعقول، وإزهاق للأرواح وقتل للأبرياء. وقد تضاعفت مخاطر هذه الظاهرة الدموية في الوطن العربي في السنوات الأخيرة، خاصة مع ظهور تنظيم “القاعدة”، وبعده ما يسمى بـ “الدولة الإسلامية في العراق والشام”، المعروفة اختصارًا بـ “داعش”.
وبسبب انتشار الإرهاب، صار العنف واجهة رئيسية تتصدر عالمنا المعاصر وتهدد الأمن والسلم الدوليين، حيث أصابت لعنة التطرف والإرهاب العديد من الدول التي كانت تنعم دائمًا بالأمن والاستقرار؛ الأمر الذي ترتبت عنه آثار خطيرة، منها ما يتصل بالجانب الأمني المتمثل في تهديد سلطة الدولة، وقدرة مؤسساتها الأمنية على حفظ الأمن والاستقرار، ومنها ما يتصل بتهديد السلم المجتمعي وإشاعة مناخ من الخوف بين الأفراد نتيجة ما تمارسه الجماعات المتطرفة من أعمال عنف وقتل للعديد من الأبرياء، وما يترتب عليه من شعور بالقلق والضيق والاكتئاب، والرغبة في العزلة وعدم الاندماج، ومنها ما يتصل بالجانب الاقتصادي، إذ تتأثر عملية التنمية الاقتصادية سلبًا بالأعمال الإرهابية، بما في ذلك قطاع السياحة والاستثمار.
كما يؤدي تغلغل الفكر المتطرف المصاحب لأعمال التطرف والإرهاب وسط المجتمع إلى شيوع الجمود والانغلاق الفكري، وعدم القدرة على تقبل الفكر المغاير، انطلاقًا من أن “الفكر الجهادي هو الفكر الحقيقي الذي لا يقبل الجدل والمناقشة والنقد، واستبدال قواعد التصنيف الاجتماعي القائمة على تمييز الأفراد بحسب كفاءاتهم وعملهم، بقواعد جديدة قائمة على انتمائه ومدى إيمانه والتزامه بالفكر المتطرف”[9]، وهو أمر ينفي مبدأ المواطنة، ويكرس تقسيم المجتمع ويفككه ويهدد الهوية الوطنية.
ومن المرجح أن تكون التهديدات المستقبلية للأمن الدولي مزيجًا من التهديدات القائمة، أو طفراتها أو تداعياتها، والتهديدات الناشئة وغير المتوقعة. وهذه الأخيرة تتعلق بالتهديدات ذات الاهتمام الخاص بمجال الإنذار المبكر للنزاع، وتداعيات الحرب في العراق / أفغانستان والحرب على الإرهاب، وتصاعد العنف المسلح المُجرَّم[10].
2 -نظام الإنذار المبكر وفاعليته في التصدي للإرهاب:
تستغل الكيانات الإرهابية العابرة للحدود الوطنية أوجه قصور رئيسية في التدخلات الحكومية، وإخفاق المقاربات التقليدية لأجهزة إنفاذ القانون والاستخبارات في التنبؤ بالأنشطة الإرهابية المستقبلية، الذي يكون مرتبطًا بضعف المعلومات أحيانًا، أو بضعف تحليل المعلومات المتحصل عليها في أحيان أخرى، لهذا فإن التحليل هو الطريقة الأكثر فاعلية لتحسين استخدام المعلومات، وتوظيفها بالشكل السليم في التحذير من وقوع عمليات إرهابية، وفيما قد لا يؤدي توظيف الأشخاص الأذكياء بالضرورة إلى تحليل جيد، فإن العملية المنهجية هي الطريقة الأكثر فاعلية لتسهيل التحليل الجيد والفعَّال[11].
ويعد نظام الإنذار المبكر من أهم ما توصل إليه المجتمع الدولي من تطور في مواجهة المخاطر والحد من آثارها. لكن يبقى الاستخدام الفعَّال لهذا النظام عنصرًا رئيسيًا لأجهزة إنفاذ القانون، في الوقاية من المخاطر الأمنية والهجمات الإرهابية، إذ يمكن أن يحول دون وقوع خسائر في الأرواح والممتلكات العامة، ويحد من الآثار الاقتصادية والمادية التي تسفر عنها الأحداث الإرهابية، حيث تُسهِّل هذه الأنظمة على الجهات المعنية رصد البيانات وتحليلها على أساس مؤشرات قياس المخاطر.
وتعمل الآليات التشغيلية لأنظمة الإنذار المبكر من خلال تأسيس مركز مراقبة ورصد يعرف بـ “غرفة الأوضاع”، ويكون موقعه في الإدارة المعنية بإدارة المخاطر، ويكون مسؤولًا عن جمع البيانات والمعلومات وتحليلها على أساس وحدة قياس ملائمة لمؤشرات الإنذار المبكر – سياسية واقتصادية واجتماعية وعسكرية وإنسانية – ويقوم بتحليل التطورات ووضع أفضل المسارات للتصدي لها. وبالإضافة إلى هذا المركز، توجد وحدات للمراقبة والرصد تابعة لأجهزة إنفاذ القانون والمؤسسات المعنية في الدولة، يتم ربطها بصورة مباشرة من خلال وسائل الاتصالات المناسبة بـ “غرفة الأوضاع”، وتعمل هذه الوحدات على جمع البيانات ومعالجتها على مستواها ونقلها إلى غرفة الأوضاع[12].
وقد أثبتت أجهزة الإنذار المبكر فاعليتها في الحد من المخاطر التي تترتب على الكوارث عمومًا، لذلك تعالت المطالبات بالاعتماد على هذه الآلية في الحد من المخاطر التي تترتب على العمليات الإرهابية. وفي هذا السياق يمكن الإشارة إلى التجربة البريطانية، حيث أطلقت المملكة المتحدة في يونيو 2018 استراتيجية جديدة لمكافحة الإرهاب، حملت اسم “كونتست” والتي قدمت إطارًا عامًّا لتبادل المعلومات ما بين الأجهزة الأمنية وسلطات السجون، وصولًا إلى اللجان الخيرية والحكومة المحلية، بما يمكن اعتباره نظامًا للإنذار المبكر[13].
من جهة أخرى، أكد السفير الممثل الدائم للمغرب لدى الاتحاد الأفريقي واللجنة الاقتصادية لأفريقيا التابعة للأمم المتحدة، خلال اجتماع مجلس السلم والأمن الأفريقي يوم 7 إبريل 2022 حول موضوع “الإنذار المبكر القاري وآفاق الأمن بالقارة”، أن “تعزيز منظومات الإنذار المبكر، من خلال تعبئة الموارد المالية والتقنية الكافية وإنتاج معطيات ذات مصداقية، يفرض نفسه حاليًا كوسيلة فعَّالة لسد الفجوة بين الإنذار والاستجابة الفورية؛ لكي نجنّب القارة مآسيَ بشرية، بل ونجنبها أيضًا تدخلات عسكرية طويلة الأمد ومكلفة”[14]. وسبق أن دعا وزير الداخلية المغربي في نوفمبر 2013 دول منطقة شمال أفريقيا وفضاء الساحل والصحراء إلى تشكيل آلية للتشاور وتبادل المعلومات، مع العمل على إنشاء منظومة للإنذار المبكر، وتحقيق تناغم في النظم القانونية المتعلقة بمراقبة الحدود وتفعيل المواثيق والاتفاقيات الثنائية والمتعددة الأطراف ذات الصلة بقضايا مكافحة الإرهاب[15].
3- نظام الإنذار المبكر وفاعلية أجهزة الاستخبارات:
على الرغم من أن القوات العسكرية قد تمكنت من تنفيذ عمليات ناجحة في مجال مكافحة الإرهاب، فإنها تواجه عدة تحديات، أبرزها افتقار هذه القوات إلى المعلومات الدقيقة، وهنا تكمن أهمية توفير تلك المعلومات من الميدان، واستغلالها وتقييمها، لتعزيز الوعي الشامل بالوضع والحفاظ على منظومة مؤشرات وإنذارات، لتسهيل الإنذار المبكر عن التهديدات الوشيكة، وهو الدور الذي يمكن أن تقوم به أجهزة الاستخبارات [16].
وينطوي دور هذه الأجهزة على تقديم الدعم لصانعي القرار فيما يتعلق بتخطيط استراتيجية مكافحة الإرهاب وتنفيذها، حيث تستطيع على سبيل المثال، تقديم المعلومات الدقيقة التي تتعلق بالتنظيمات الإرهابية وبنيتها، بما يساعد على تتبع هذه التنظيمات وتفكيكها، إذ تساعد المعلومات الاستخباراتية الدقيقة في تحديد هوية أعضاء التنظيمات الإرهابية، وأنواع الدعم الداخلي والخارجي الذي تتلقاه، ومركز الثقل الذي يمكن التركيز عليه لاستهدافها[17].
وتزداد أهمية أنظمة الإنذار المبكر في رفع فاعلية أجهزة الاستخبارات في الحد من التهديدات الإرهابية، بالنظر إلى نجاح التنظيمات الإرهابية في تطوير الآليات التي تعمل بها، لا سيما فيما يتعلق بتوظيف التطور التكنولوجي، خاصة فضاء شبكات التواصل الاجتماعي لخدمة أهدافها. وفي هذا الصدد حذرت روزماري ديكارلو، وكيلة أمين عام الأمم المتحدة للشؤون السياسية، من أن “الجهات الفاعلة غير الحكومية أصبحت أكثر مهارة في استخدام التقنيات الرقمية منخفضة التكلفة والمتاحة على نطاق واسع لمتابعة أجنداتها”، مشيرة إلى أن الجماعات الإرهابية، مثل القاعدة، تستخدم بنشاط منصات وسائل التواصل الاجتماعي للتجنيد والتخطيط وجمع الأموال[18].
وتُعتبر أجهزة الاستخبارات من الأجهزة المهمة التي يمكنها توظيف نظام الإنذار المبكر بشكل فعَّال في التصدي الإرهاب والوقاية من مخاطره، إذ تستطيع من خلال هذا النظام التحذير من وقوع عمليات إرهابية، والكشف السريع عن الخلايا الإرهابية أو الأشخاص الذين يحاولون تجنيد عناصر جديدة أو استقطابهم لينضموا إلى التنظيمات الإرهابية العابرة للحدود لاسيما تنظيم “داعش”، ووأد مخططاتها والكشف عن الأماكن التي تتمركز فيها، وعن مناطق نفوذها والصلات التي تربطها بجماعات أخرى[19].
وتستخدم أجهزة الاستخبارات نظام الإنذار المبكر، وفق آلية يتم بمقتضاها جمع المعلومات المرتبطة بشكل عام بالتنظيمات الإرهابية وتهديداتها، ووضع فئات لتصنيف المعلومات التي تم جمعها حسب درجة خطورتها مع وضع معايير لتقييم مصداقية المعلومات وتحليلها، إلى جانب محاولة استنتاج رؤية هذه التنظيمات وأهدافها، وبعدها تأتي مرحلة تحديد طبيعة الخطر وترجيح مكان وقوعه وزمانه، لتخلص في الأخير إلى رفع الإنذار إلى صناع القرار مع ضمان السرية، لاتخاذ الإجراءات اللازمة ضد التهديد الإرهابي المحتمل [20].
وقد حققت الثورة التكنولوجية الكثير من التحولات على الوسائل التي تستخدمها منظومات الإنذار المبكر في ميدان جمع البيانات والمعلومات، ونسترشد هنا بالممارسة الجيدة للمملكة المغربية في تطوير منظومتها في الاستجابة المبكرة للتهديدات الإرهابية، حيث أطلقت أقمارًا صناعية من بين مهامها توفير المعلومات وتحليلها، ورصد الصور الميدانية عن تحركات الجماعات الإرهابية خصوصًا في المناطق غير المأهولة. وإضافة إلى دور التقنية الحديثة في مجال جمع المعلومات وتحليلها، بادر المغرب إلى إطلاق آلية للاستجابة الفورية في مواجهة التهديدات الإرهابية، تحت مسمى “حذر”[21] وذلك في إطار مبادرة “استباقية واحتياطية” للتصدي للأخطار[22]. وبفضل هذه الجهود تبادر السلطات المغربية إلى إطلاق تحذيرات بين الفينة والأخرى، بناء على المعلومات الاستخباراتية المتوافرة عن احتمال وجود تهديدات إرهابية جدية ضد المملكة، وذلك ارتباطًا بتزايد عدد المغاربة المنتمين إلى التنظيمات المسلحة في سوريا والعراق[23].
4- محدودية نظام الإنذار المبكر:
يبقى لكل نظام وقائي حدود ونقاط ضعف تحِدُّ من فاعليته. فبالرغم من أهمية أنظمة الإنذار المبكر للوقاية من المخاطر والتهديدات الإرهابية، فإن هناك بعض المعوقات التي قد تحد من فاعليتها.
وتتمثل أبرز هذه التحديات في دقة المعلومات المتأتية من المصادر المفتوحة ومصداقيتها؛ إذ إن عدم دقة هذه المعلومات يؤدي إلى اتخاذ قرارات غير سليمة، كما أن ثمة صعوبة في المتابعة الدورية للمؤشرات المستقاة من المعلومات والبيانات، وتحديثها بشكل دوري، بما يصعب معه إعطاء مخرجات سليمة في مجال توقع الأزمات والتهديدات. من جهة أخرى تتجلى حدود هذه الأنظمة في مدى قدرتها على إقناع صانع القرار بقرب وقوع الأزمات أو التهديدات، وضرورة اتخاذ استجابة عاجلة. وفي هذا الصدد يقول كولن باول، وزير خارجية الولايات المتحدة الأسبق – الذي يعد من أبرز الخبراء في هذا المجال – إن “من مهام خبير الإنذار المبكر، إقناع متخذ القرار، ومن ثم يجب أن يكون لديه مهارات الإقناع، وأن يكرر تردده على متخذ القرار لإقناعه بضرورة اتخاذ استجابة مبكرة قبل وقوع الأزمة”[24].
إضافة إلى ذلك، هناك التحدي المرتبط بضعف الاهتمام الدولي والإقليمي وحتى الوطني بأنظمة الإنذار المبكر؛ وذلك لكونها تتعلق دائمًا بحدث افتراضي يطغى عليه الطابع المستقبلي، وهو ما قد يخالف توجهات الأجهزة الأمنية، التي تميل أكثر إلى الافتراض التفاؤلي بأن الخطر لن يحدث في المستقبل المنظور[25].
من جهة أخرى هناك التحدي الذي يرتبط بالجهات التي تقوم على تقييم المؤشرات التي تنبئ بالاقتراب من مرحلة الخطر المحتمل، حيث قد تتعامل هذه الجهات بنوع من عدم الحيادية مع هذه المؤشرات، مما يجعلها تتجاهل تلك المؤشرات أو لا تعطيها الأهمية الكافية. وفي الاتجاه نفسه، يمكن اعتبار عدم تكامل خطط مواجهة الأزمات من بين التحديات التي تواجه استخدام نظم الإنذار المبكر، إذ إن بعض الجهات القائمة على هذه النظم ليس لديها خطط مسبقة لإدارة الأزمات. وتبقى مسألة سيادة الدول من أهم معوقات استخدام هذه النظم، نظرًا إلى امتناع العديد من الدول عن تبادل المعلومات الحساسة والمتعلقة بالمخاطر مع جهات قد تعتبرها غير آمنة[26].
ومن التحديات الأخرى التي يمكن أن تحد من فاعلية نظام الإنذار المبكر، صعوبة توقع التهديدات الإرهابية غير التقليدية، والتي قد تشكلها ما يطلق عليهم “الذئاب المنفردة” أو “الإرهاب الفردي” الصادر عن فعل وسلوك شخص بمفرده، بحيث يصعب توقعه وضبطه أو جمع المعلومات الدقيقة الكفيلة بتحييد الخطر الذي يشكله بشكل مبكر، وذلك لعدم ارتباط هذه “الذئاب” عضويًا بتنظيمات إرهابية، بالنظر إلى أنه يتم تجنيدهم من خارج هذه التنظيمات، ويكون اختيارهم من أوساط اجتماعية يصعب على الأجهزة الأمنية تعقبهم ورصد مخططاتهم [27].
ختامًا وعلى ضوء هذه التحديات، من الضروري اتخاذ بعض الخطوات لتعزيز فاعلية نظام الإنذار المبكر في مواجهة التهديدات الإرهابية، والتي من أبرزها:
- إشراك المجتمعات المعرضة للتهديدات الإرهابية بشكل فعَّال في استخدام أنظمة الإنذار المبكر وتنفيذها، من خلال توعيتها بهذه الأنظمة ونشر الرسائل والإنذارات بفاعلية، وضمان وجود حالة التأهب المستمر وتهيئة الأوضاع لاتخاذ إجراءات مبكرة، وذلك لضمان فاعلية نظم الإنذار المبكر.
- إنشاء قاعدة بيانات ومعلومات وافية، تشمل كافة التنظيمات المتطرفة وقياداتها وعناصرها ومناهجها الفكرية وأسلوب عملها.
- تشجيع الدول التي ليست لديها أنظمة إنذار مبكر على استخدام هذه الأنظمة، من خلال تقديم الدعم اللازم لها لإنشاء مثل تلك النظم، وهو ما يساعد على تعزيز قدرة الدول والمجتمعات عمومًا على مواجهة الإرهاب.
- العمل قدر الإمكان على وجود نوع من التنسيق العالمي حول استخدام أنظمة الإنذار المبكر، أو على الأقل وجود نوع من التنسيق الإقليمي أو الشبكي لمجموعة من الدول تتقاسم الرؤية والأهداف نفسها.
المراجع
[1] – نظم الإنذار المبكر بالأخطار المتعددة؛ قائمة مرجعية، نتائج المؤتمر الأول للإنذار المبكر بالأخطار المتعددة، 22- 23 مايو 2017- كانكون، المكسيك، ص 3
[2] – عبد العزيز بوخرص، لمي علوطي، العمل على إنشاء نظام إنذار مبكر للأزمات بالاستعانة بمقاييس ومؤشرات لوحة القيادة المستقبلية (دراسة تحليلية)، مجلة اقتصاديات شمال أفريقيا، المجلد 14، العدد 19، سنة 2018، ص 5.
[3] – الخزندار سامي إبراهيم، نظام الإنذار المبكر ومنع الصراعات.. التطور والمفاهيم والمؤشرات، مجلة الفكر، كلية القانون والعلوم السياسية، جامعة خيضر بسكرة، العدد السابع، 2013، ص 12.
[4] – نظم الإنذار المبكر بالأخطار المتعددة، مصدر سابق، ص 3.
[5] – Platform for promotion of Early Warning, International Strategy for Disaster Reduction,
Platform for the Promotion of Early Warning,
http://www.unisdr.org/ppew/whats-ew/basicsew.htm
[6] – برنامج الاستراتيجية الدولية للحد من الكوارث، المؤتمر الدولي الثالث للإنذار المبكر، تطوير نظم الإنذار المبكر: قائمة التدقيق، بون -ألمانيا، 27-29 مارس 2006.
[7] – عبد العزيز بوخرص، لمي علوطي، مصدر سابق، ص 5.
[8]– الجحني علي بن فايز، رؤية للأمن الفكري وسبل مواجهة الفكر المنحرف، المجلة العربية للدراسات الأمنية والتدريب، المجلد 14، العدد 27، ص275.
[9]– مبارك سالم أحمد، الانحراف والتطرف الفكري؛ أسبابه ودوافعه، وسبل القضاء عليه، عمان، مركز الإعلام الأمني، الدراسة الأولى، د. ت، ص 19.
[10] – Preventing Violence, War and State Collapse: The Future of Conflict Early Warning and Response, Paris: OECD, 2009, P 86
[11]-Johan P Sullivan and Alain Bauer; Terrorism Early Warning, 10 years of Achievement in fighting terrorism and crime, los Angles, California, October 2008, P 28.
[12] – Report of meeting of governmental experts on early warning and conflict prevention; “Framework for the Operationalization of the Continental Early Warning System”, south Africa 17 – 19 December 2006, https://archives.au.int/bitstream/handle/123456789/4435/EX%20CL%20300%20X_E.PDF?sequence=5&isAllowed=y
[13] استراتيجية بريطانيا لمكافحة الإرهاب.. مواجهة المشكلة أم ترسيخها؟، موقع المرجع، 27 يونيو 2018،
https://www.almarjie-paris.com/2060
[14] – المغرب يدعو لإقامة تعاون بين الدول الأفريقية لتعزيز المنظومة القارية للإنذار المبكر، وكالة المغرب العربي للأنباء، 7 إبريل 2022،
[15] – الرباط تدعو إلى إنشاء منظومة للإنذار المبكر لمواجهة الإرهاب، العرب اللندنية، 15 نوفمبر 2013،
[16] – حلف الشمال الأطلسي، المنهج المرجعي لمكافحة الإرهاب، مايو 2020، ص 105،
https://www.nato.int/nato_static_fl2014/assets/pdf/2020/12/pdf/2012-DEEP-CTRC-arabic.PDF
[17] – المرجع نفسه، ص 103.
[18] – انظر كلمة وكيلة أمين عام الأمم المتحدة للشؤون السياسية، روزماري ديكارلو، أمام مجلس الأمن الدولي، 23 مايو 2022، الموقع الرسمي للأمم المتحدة، 23 مايو 2022،
https://news.un.org/ar/story/2022/05/1102602
[19] – Jean-Pierre Lacroix Under-Secretary-General for Peace Operations; Military Peacekeeping-Intelligence Handbook, April 2019, P 7, (Accessed 22/08/2022) ;
[20] – مروة أحمد سالم، الإنذار المبكر: تطور أساليب مكافحة الإرهاب، مركز سيتا، 20 إبريل 2021، (تاريخ الزيارة 15/07/2022)
https://sitainstitute.com/?p=11426
[21] – الآلية الأمنية “حذر” تتمثل في نشر وحدات بمناطق حساسة، بست مدنهي: الدار البيضاء، فاس، الرباط، طنجة، أكادير، مراكش.
[22] – “حذر” برنامج أمني مغربي لمكافحة “الإرهاب”، على الرابط التالي (تاريخ الزيارة 22 أغسطس 2022)،
[23] – المغرب يحذر من خطر “إرهابي جدي” يهدد المملكة، على الرابط التالي (تاريخ الزيارة 22 أغسطس 2022)،
[24] – المرجع نفسه.
[25] – ذنون مرعي خالدة، حسن خمومحمد، إسماعيل أحمد دلير؛ نظام الإنذار المبكر ودوره في الحد من مخاطر الكوارث “دراسة في إطار القانون الدولي العام”، مجلة جامعة دهوك، عدد 9، كردستان- العراق سنة 2020، ص 13.
[26] – المرجع السابق، ص 16
[27] – الصافي إبراهيم، الذكاء الجهادي وتفكيك آليات هندسة الإرهاب (الدار البيضاء، دار النشر المغربية، 2017) ص 71.