مقدمة
إن دراسة سلسلة زمنية تتعلق بتطور أسعار النفط كمادة خام، توضح أن النفط كسلعة يخضع لتقلبات أسعاره. كما هو الحال في أي سوق. لكن في سوق النفط، تلعب الاختلافات في العرض والطلب أو تطور الأحداث الجيوسياسية، مثل الصراعات والتوترات والحروب والصدمات الاقتصادية، دورًا كبيراً في التأثير على اتجاهات الأسعار. وبالتالي، يرجع الانخفاض في أسعار النفط إلى مجموعة من العوامل الجيوسياسية، و الفجوة الكبيرة بين العرض والطلب. لهذا السبب تتولى الدراسة الحالية تحديد الأسباب التي أدت إلى قرار تجمُّع “أوبك بلس” بخفض إنتاج النفط بواقع 2 مليون برميل يوميًا.
وقبل تحليل القرار الذي اتخذته منظمة البلدان المصدرة للبترول (أوبك) والدول المعنية الأخرى، يجدر بالدراسة الوقوف على بعض المفاهم الجوهرية المرتبطة بسوق النفط مع إلقاء نظرة سريعة على تاريخ منظمة أوبك وتجمع أوبك بلس. لتنتهي الدراسة بعد ذلك إلى تقديم رؤية شاملة لأهم التداعيات المحتملة لتخفيض الإنتاج النفطي على سوق النفط العالمية وباقي المتغيرات الاقتصادية العالمية.
سوق النفط العالمية، وقفة مع المفاهيم الأساسية
تتمتع سوق النفط بخصائص فريدة مقارنة بأي سوق أخرى، حيث يتم الاتفاق على كمية وحصص إنتاج النفط التي سيتم إنتاجها، بشكل علني من قبل أكبر المصدِّرين في العالم، الذين تجمعوا معًا في منظمة أوبك، وبالتالي التأثير على اتجاهات الأسعار على مستوى سوق النفط. ويجب أن يكون هناك إجماع بين الأعضاء على تسجيل قرار زيادة أو خفض إنتاج النفط. وفي محاولة لفهم القضايا المرتبطة بتحديات الأسواق النفطية ودور جانبي العرض والطلب وتأثيرهما في الأسعار والاستقرار النفطي العالمي، فإن الفقرات التالية تحدد بعض المفاهيم الأساسية المرتبطة بسوق النفط، كمدخل لفهم ماذا يجري حاليًا في سوق النفط وتوقعاته المستقبلية.
- الأسواق النفطية الفورية وأسواق المستقبليات:
إن النفط عبارة عن سلعة يتحدد سعرها حسب قانون العرض والطلب، وأن العرض النفطي يأتي من الشركات التي تستخرج النفط، بينما يأتي الطلب من شركات التكرير التي تحوّل النفط الخام إلى منتجات يمكن استخدامها من قبل العملاء النهائيين (الوقود، والمواد القابلة للاحتراق، والمواد الخام لصناعة البتروكيماويات).
وتحصل شركات التكرير على طلباتها من خلال شركات تابعة متخصصة في التجارة، يتمثل نشاطها في التدخل في السوق لشراء الكميات اللازمة لتشغيل المصافي أو إعادة بيع الفوائض غير المستخدمة. ويمكن لهؤلاء “التجار” أيضًا السعي لتحقيق أرباح قصيرة الأجل من خلال صفقات البيع والشراء، وذلك بالاستفادة من تغيرات الأسعار اليومية. ومن ثم، فغالبًا تتغير ملكية شحنة من النفط عدة مرات قبل تسليمها. ويطلق على هذه السوق التي تتم فيه معاملات التبادل المادي لبراميل النفط باسم “السوق الفورية”(Spot Markets).
وبالإضافة إلى هذا النوع من الأسوق، فإن هناك أسعارًا لبراميل النفط التي يتم تداولها في شكل عقود “على الورق” فقط، حيث يتم شراء النفط وبيعه “على الورق” بناءً على القيمة المستقبلية المقدّرة، ولا يوجد بشكل عام تبادل مادي للمنتج. ويتم تنفيذ هذه المعاملات في الأسواق الآجلة (Forward Markets) إذا كنا نتحدث عن أسواق غير منظمة، والأسواق المستقبلية (Future Markets) إذا كنا نتحدث عن أسواق منظمة.
وتمثل نيويورك التجارية (NYMEX) أهم الأسواق التي يتم التداول فيها. مثل هذه العقود بورصة، تم شراؤها في أغسطس 2008 من طرف بورصة شيكاغو التجارية، وبورصة البترول الدولية (International Petroleum Exchange-IPE) التي تحولت في عام 2005 إلى (ICE Futures) Intercontinental Exchange ومقرها في لندن. وتسمح هذه الأسواق للمنتجين ببيع كميات من النفط بسعر محدد مسبقًا، وبالتالي حماية أنفسهم من أي تغير غير مواتٍ في الأسعار. ويأمل المستثمرون الذين يمثلون الطرف المقابل في تحقيق ربح من خلال المضاربة على تقلب الأسعار.
الشكل البياني رقم (1): عدد عقود مستقبليات النفط في الولايات المتحدة الأمريكية (بالألف)
Source: US Energy Information Administration
- الأسعار المرجعية للنفط في الأسواق الدولية:
لخام النفط أنوع عديدة تختلف من حيث خصائصها (اللزوجة، محتوى الكبريت، …إلخ)، ما يؤثر في درجة سهولة عمليات التكرير. لذلك؛ فإن هناك العديد من الصفات والقيمة النفطية بقدر وجود الآبار وأنواعها. وأشهر أنواع الآبار للنفط الخام، التي تعمل بشكل أساسي كمرجع لتحديد قيم الأسعار حول العالم، هي West Texas Intermediate (WTI)، بالنسبة للنفط المنتج في الولايات المتحدة، وBrent بالنسبة للنفط المنتج في بحر الشمال. ولكن هناك أنواعًا أخرى؛ مثل: Dubai Fateh بالنسبة للنفط المنتج في الخليج العربي، أو Bonny Light الذي يتم إنتاجه في نيجيريا، أو Western Canadian Select للنفط الثقيل الناتج عن الرمال النفطية في كندا. ويتم تحديد أسعار النفط الخام على أساس كل حقل على حدة، مع علاوة أو خصم، بناء على سعر النفط المرجعي. فإذا كان خام غرب تكساس الوسيط أو خام برنت هما الأكثر تفضيلًا، فهذا ليس بسبب جودتهما، ولكن بسبب تسعيرهما المستمر مع فترات بيع أو شراء آجلة مختلفة في الأسواق السائلة. وتعتبر حاليًا مراكز نيويورك ولندن الوحيدة القادرة على تقديم مثل هذه الخدمات.
وبعد جائحة “Covid-19″، انخفض الطلب العالمي بشكل كبير على النفط؛ ما أدى إلى انخفاض الأسعار. حتى أن أسعار العقود الآجلة للنفط WTI أصبحت سلبية مؤقتًا في أبريل 2020؛ بسبب تشبع السعات التخزينية في الولايات المتحدة[1].
الشكل البياني رقم (2): تطور أسعار البرنت (بالدولار الأمريكي)
Source: US Energy Information Administration
وبالإضافة للأسعار السابقة، فهناك أيضًا سعر مرجعي آخر من المهم الإشارة إليه، وهو سعر سلة النفط المباعة من قبل الدول الـ 13 الأعضاء في منظمة البلدان المصدرة للنفط (أوبك) والتي سيؤثر على تدخلها في سوق النفط العالمية.
وعمومًا، فإن معرفة المفاهيم العامة المرتبطة بسوق النفط العالمية، سواء كانت أنواعها أو الأسعار المرجعية القائمة فيها، ستفيد في قراءة واقع هذه السوق وتوجهاتها والنظر إليها نظرة تحليلية واستشرافية، ناهيك عن قراءة قرارات العرض والطلب فيها بطريقة تساعد في التقدير الدقيق لأبرز التوجهات المستقبلية لهذه السوق.
منظمة “أوبك” وتجمُّع “أوبك بلس” تاريخ طويل من العمل الجماعي لتنظيم أسعار أسواق النفط
تأسست منظمة أوبك (Organization of the Petroleum Exporting Countries-OPEC) في 14سبتمبر 1960 من قبل الأعضاء المؤسسين الخمسة الأوائل (إيران، العراق، الكويت، المملكة العربية السعودية، فنزويلا)، وتوسعت منذ ذلك الوقت ليصبح عدد أعضائها حاليًا 13 دولة عضوًا[2]. ومع إضافة 11 دولة أخرى منتجة للنفط إلى منظمة أوبك، بما في ذلك روسيا، أصبح التجمع يعرف باسم أوبك بلس.
الجدول رقم (1): احتياطي النفط الخام المؤكد من أوبك بنهاية عام 2021 (مليار برميل)
Source: OPEC Annual Statistical Bulletin 2022
وتهدف منظمة الأوبك إلى صياغة السياسة النفطية العامة للأعضاء، مثل الإنتاج وكميته وحصص كل دولة من الإنتاج والتسعير والدفاع عن مصالح الدول المنتجة[3] [راجع بيانات الجدول السابق رقم (1)]. وقبل أن تظهر أوبك في الاقتصاد العالمي، كانت مجموعة الشركات المعروفة باسم “الأخوات السبع[4]” هي التي تسيطر على سوق النفط، حيث كانت تملك العديد من الامتيازات في العديد من الدول النفطية.
ولقد وقّعت أوبك اتفاقًا يوسع نطاق المنتجين فيها ويعرف بـاسم “أوبك بلس”، ويضم الاتفاق 23 دولة مصدّرة للنفط تجتمع بانتظام لتحديد كمية النفط الخام الذي يجب بيعه في السوق العالمية. وجرى التوصل لهذا الاتفاق في نوفمبر 2016 بهدف خفض إنتاج البترول لتحسين أسعار النفط في الأسواق العالمية[5]. ومن أجل حماية مصالح المنتجين والمستهلكين، تقوم أوبك بلس بتحقيق التوازن في السوق من خلال التحكم في الإمدادات النفطية عن طريق آليات العرض والطلب.
لماذا خفّضت أوبك بلس الإنتاج؟
لقد اتفقت مجموعة أوبك بلس في 5 أكتوبر 2022 في فيينا، وفي أول اجتماع مباشر لها منذ مارس 2020 على خفض الإنتاج النفطي بواقع مليوني برميل يوميًا إلى أقل من 42 مليون برميل، وهو ما يعادل 2% من إمدادات النفط العالمية. على أن يدخل هذا التخفيض حيز التنفيذ اعتبارا من نوفمبر من العام الجاري. ويمثل هذا القرار أكبر تخفيض من طرف أوبك بلس منذ عام 2020. ومن أجل المساعدة في رفع الأسعار تم تخفيض حجم الإنتاج بأكثر من 9 ملايين برميل نتيجة انتشار فيروس كورونا في جميع أنحاء العالم، ودخول معظم الدول في حالة إغلاق كامل؛ ما أدى إلى انهيار أسعار النفط الخام بسبب انخفاض الطلب على النفط. ومنذ ذلك الحين، زادت المجموعة الإنتاج ببطء مع نمو الطلب أيضًا. وعلى أساس هذه الخلفية التاريخية جاء هذا القرار كمحاولة لوقف الانخفاض في أسعار الطاقة الذي استمر منذ الصيف الماضي 2022، ولحماية السوق من مخاطر الركود الناتج عن تراجع الطلب، وبالتالي فإن القرار يمثل قرارًا تقنيًا أصيلًا. وعليه، فإن قرار أوبك بلس بخفض الإنتاج النفطي يستند إلى مجموعة من المبررات التالية:
مبررات قرار مجموعة “أوبك بلس” بتخفيض الإنتاج النفطي
- أولًا: تحقيق الاستقرار المستدام في سوق الطاقة العالمية: كان الهدف من خفض الإنتاج هو تحقيق الاستقرار في أسعار الطاقة العالمية بعد الانخفاض المستمر منذ بداية الصيف. والحفاظ على أسعار النفط في السوق الدولية عند معدلات تتراوح ما بين 85 إلى 95 دولارًا أمريكيًا للبرميل. فبعد أن ارتفعت أسعار النفط بشكل كبير بعد الغزو الروسي لأوكرانيا في فبراير 2022 لأكثر من 100 دولار، بدأت منذ ذلك الحين في التراجع خلال الأشهر القليلة الماضية؛ بسبب أن الأسواق كانت قلقلة من أن العقوبات العالمية قد تؤدي إلى نقص في النفط الروسي، لتنخفض الأسعار بحدة مرة أخرى منذ ذلك الحين إلى أقل من 90 دولارًا في سبتمبر بسبب مخاوف من حدوث ركود كبير في أوروبا وانخفاض الطلب من الصين بسبب إجراءات الإغلاق. وبدأت التكهنات بأن أوبك بلس ستلجأ إلى تخفيض حجم الإنتاج من جديد.
- ثانيًا: عبر التحكم بالإنتاج، تهدف هذه الخطوة إلى تعزيز أسعار النفط، التي انخفضت إلى أقل من 90 دولارًا بعد ذروة 122 دولارًا أمريكيًا؛ ولذلك تسعى جميع دول أعضاء أوبك بلس إلى الحفاظ على القدرات المالية للأعضاء، وزيادة الإيرادات لجميع أعضائها من خلال تحفيز الأسعار مجددًا، ولهذا يدافع الأعضاء الذين ساندوا هذا الاتفاق على أنه مدفوع بمبررات تقنية لا علاقة لها بالتجاذبات السياسية بين الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها من جهة وروسيا من جهة أخرى. فليس هناك أي انحياز لطرف في الحرب الأوكرانية-الروسية، وإنما جاء القرار من أجل تعظيم مصالح الدول الأعضاء من خلال ضبط الأسعار، وحماية الأسواق من التحركات غير المواتية للأسعار نتيجة الصدمات المتتالية التي تعرفها أسواق الطاقة. كما أن التخفيضات الحقيقية ستكون أقل من مليوني برميل. إذ يتوقع المحللون الذين يتتبعون إنتاج الأعضاء وصادراتهم أن يكون الخفض الفعلي، إذا حدث، أقل من مليون برميل يوميًا، وربما يصل إلى 06-0.8 مليون برميل يوميًا[6].
- ثالثًا: توقعات النمو المتشائمة من طرف صندوق النقد الدولي: في وقت سابق، خفض صندوق النقد الدولي توقعاته للنمو لعام 2023 بحدود%2.9 في تقريره عن آفاق الاقتصاد العالمي، مع استمرار تأثر الاقتصاد العالمي بالحرب في أوكرانيا؛ ما أدى إلى توسيع ضغوط التضخم والتباطؤ في الصين. وتستمر المخاوف بشأن التضخم في الارتفاع في الولايات المتحدة بعد أن ارتفعت أسعار المنتجين أكثر من المتوقع في سبتمبر، حيث تشير إحصاءات العمل في الولايات المتحدة أن مؤشر أسعار المنتجين الأمريكيين (The US producer price index (PPI)) ارتفع بنسبة %0.4 في شهر سبتمبر من عام 2022، مما يبين أن التضخم سيرفع من مستويات المخاطر. وفي الوقت نفسه، فإن الصين، التي تُعدّ أكبر مستورد للنفط الخام في العالم، تواجه مرة أخرى مشكلة مع فيروس Covid-19 مع ارتفاع الإصابات في شنغهاي وشنتشن. وفي ظل المخاوف من تعرض الاقتصاد العالمي للركود جاء قرار أوبك بلس لحماية الدول المنتجة للنفط من انعكاسات انخفاض أسعار النفط الاجتماعية والاقتصادية والميزانية[7].
- رابعًا: بالنسبة لأوبك بلس، فإن هذا القرار هو بمثابة دعم لاستقلال القرار الجماعي لمنتجي النفط لتنظيم أسواق النفط بعيدًا عن أي ضغوطات أو تأثيرات غربية. كما أن هذا القرار سيعطي مصداقية أكبر لـ “أوبك بلس”؛ من أجل الاضطلاع بدورها الأساسي في تنظيم أسواق النفط، واستعادة السيطرة على أسعار النفط من جديد، باعتبار أنها تنتج أكثر من 40% من نفط العالم[8].
وفي ضوء الحجج السابقة لتخفيض الإنتاج النفطي من جانب تجمع أوبك بلس، تحلل الفقرات التالية أهم التداعيات المتوقعة له على الاقتصاد العالمي.
ما هي التداعيات الأساسية على الاقتصاد العالمي؟
يعتبر انخفاض سعر النفط خبرًا جيدًا بالنسبة للدول المستهلكة (المستوردة)؛ لأنه سيسمح لها بتقليل حجم الإنفاق على الطاقة، مما يؤثر بشكل إيجابي على الاستهلاك والنمو. وعلى العكس من ذلك، ستشهد الدول المصدّرة للنفط انخفاضًا في عائداتها ومعها آفاق نموها. وللقرار الصادر عن مجموعة “أوبك بلس” تداعيات مختلفة على الاقتصاد العالمي يمكن الإشارة إلى أهمها:
- عودة الأسعار تدريجيًا لسقف 100 دولار للبرميل أو تجاوز هذا السقف: يُتوقع أن يؤدي نقص العرض مقابل زيادة الطلب إلى ارتفاع أسعار الطاقة، ويمكن أن يصل الارتفاع إلى مستوى 100 دولار أمريكي للبرميل، وهذا لوجود العديد من المؤشرات التي تسند ذلك؛ فأولًا حلول موسم الشتاء في أوروبا، وهناك احتمال ثانٍ يتعلق بانخفاض المخزون الأمريكي. وأخيرًا، كلما استمرت الحرب الروسية-الأوكرانية توسع مجال عدم اليقين في أسواق الطاقة. ويمكن أن يتزامن هذا الارتفاع في سعر النفط مع زيادة معدلات التضخم في الاقتصاد العالمي. ولذلك، استند معارضو هذا الاتفاق بأن الارتفاع في أسعار النفط سيؤدي إلى الإضرار بالاقتصاد العالمي. ولذلك كانت ردود فعل الاتحاد الأوروبي هو إقرار الحزمة الثامنة من العقوبات على روسيا، التي تضمنت فرض سقف لسعر النفط الروسي. كما أن رد الفعل الروسي على هذا القرار من خلال منع بيع النفط للدول التي ستؤيد أو تنضم لقرار الاتحاد الأوربي الخاص بتسقيف أسعار النفط الروسي؛ وهذا سيزيد من اضطراب السوق النفطية في الأشهر القليلة القادمة.
- تباطؤ حاد في النمو الاقتصادي في الدول الأوروبية: آثار الطاقة على أوروبا تعود إلى عام 2021. ويعد ارتفاع سعر النفط خبرًا سيئًا بالنسبة للاتحاد الأوروبي على وجه الخصوص، حيث يؤدي هذا الارتفاع إلى ارتفاع فاتورة الطاقة لجميع دول منطقة اليورو، وجميعها مستوردة رئيسية للنفط. ومن ثم، يكون هذا الارتفاع غير ملائم للقدرة التنافسية للشركات الأوروبية، وخاصة الشركات العاملة في القطاعات الكثيفة الاستهلاك للطاقة؛ مثل: النقل، والاتصالات، والقطاع العقاري، والتصنيع، إضافة إلى انهيار القوة الشرائية للأسر بسبب ارتفاع معدلات التضخم نتيجة ارتفاع أسعار العديد من السلع. وفي النهاية، من المفترض أن يكون لارتفاع أسعار النفط تأثير سلبي على فرص النمو وآفاقه في أوروبا. ومع ذلك، من المحتمل أن تؤدي العديد من العوامل إلى تعزيز التأثير السلبي لهذا الارتفاع، ومنها:
- إذا كان ارتفاع النفط مصحوبًا بانخفاض اليورو مقابل الدولار، فإن هذا سيزيد من تكلفة ارتفاع سعر البرميل المقوّم بالدولار. وبالتالي، فإن التأثير العام على الاقتصاد الأوروبي سيكون قويًا بقدر ما قد يوحي به حجم الارتفاع في أسعار النفط.
- إضافة إلى ذلك، وفي بيئة تتميز بتضخم متصاعد للغاية، فإن ارتفاع أسعار النفط يزيد من مخاطر ظهور عملية انكماشية في منطقة اليورو من شأنها أن تكون ضارة بالنمو.
- يؤدي ارتفاع مستوى الدخل في الدول المصدرة للنفط في الواقع إلى رفع وارداتها من دول منطقة اليورو. وينتج عن هذا أرباح في النشاط بالنسبة للأخيرة؛ ما يخفف من التأثير السلبي على نمو ارتفاع سعر النفط.
- المزيد من تشديد السياسة النقدية للبنوك المركزية: من المحتمل أن تُهرع كثير من دول العالم إلى مزيد من تشديد السياسة النقدية، ورفع أسعار الفائدة، لكبح جماح التضخم المتوقع من جراء قرار الأوبك بلس، ولرفع تكاليف الإقراض بغرض خفض السيولة في الأسواق. وستزيد سياسة التشديد النقدي من الضغوط التضخمية المتأتية من جانب التكاليف، وذلك لارتفاع تكاليف التمويل في كافة الاقتصادات العالمية، وما تتركه على التجارة الدولية والتضخم المستورد.
- التأثير على الأسواق المالية وأسواق السلع: يؤثر الارتفاع الحاد في أسعار النفط أيضًا على مؤشرات سوق أسهم شركات الطاقة وأسعار الغاز، ولاسيما تلك التي تؤثر عليها بشكل كبير القيمة السوقية للشركات المتخصصة في قطاع الطاقة وإنتاج النفط. هذا هو الحال بشكل خاص في CAC 40 نظرًا لوزن Total في المؤشر الرئيسي لبورصة باريس. لا تقتصر هذه الظاهرة على فرنسا، وإنما تشمل أيضًا قطاع الطاقة في المؤشر الأمريكي الرئيسي S&P 500. ومن ثم، فإن احتمالات حدوث ارتفاع في ربحية هذه الشركات تولّد تيارات طلب قوية على هذه الأوراق المالية. علاوة على ذلك، تتأثر الأسواق المالية أيضًا بشكل غير مباشر بارتفاع سعر النفط، حيث يراهن العديد من المضاربين أو صناديق التحوط على استمرار ارتفاع سعر النفط عبر سوق العقود الآجلة من أجل الاستفادة من فوارق الأسعار وتسجيل أرباح كبيرة. ويمكن أن يتأثر المستهلكون بهذا الارتفاع، مثلما هو الحال بالنسبة للمستهلكين الأمريكيين.
- تحولات في أنماط الاستهلاك والسياسات العمومية المتعلقة بمجال الطاقة: يمكن أن يؤدي الارتفاع الكبير في أسعار النفط إلى عزوف المستهلكين عن الشراء، مما سيكون له العديد من الانعكاسات على سوق النفط، ولكن يتوقف هذا السلوك على وجود بدائل آنية تحل محل الطاقة التقليدية، وبحكم أن البدائل حتى الآن مازالت بعيدة المنال بالنسبة لأغلب الدول المتقدمة، فستظل الطاقة التقليدية هي المصدر الأعلى قدرة على تموين الأسواق والصناعات والمستهلكين. ولكن رغم ذلك، هناك تطورات في السلوكيات الاستهلاكية، حيث “قامت العديد من الدول الأوروبية بالعديد من الإجراءات التي تهدف إلى ترشيد استهلاك الطاقة، إلى جانب مراجعة الخطوات التي اتُّخذت للاستغناء عن الطاقة الأحفورية (النفط، والغاز، والفحم) والتفكير في العودة إلى خيار الطاقة النووية، من أجل توفير احتياجات أوروبا من الوقود، ومواجهة التحدي الروسي. وفي خطوة تليق بمتخذ القرار في ظل الأزمات، اتجهت كل من بريطانيا وهولندا إلى فرض سقف لأسعار الطاقة في الدولتين بالنسبة للمستهلكين، من أجل ضمان استقرار الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية لديهما”.
- سياسات تنويع اقتصادي مدفوعة بارتفاع العائدات النفطية: تملك الدول المصدرة للنفط العديد من استراتيجيات التنويع الاقتصادي ذات الآفاق طويلة المدى، مثل المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة. ومن شأن زيادة العائدات النفطية أن يدفع هذه الدول وغيرها من الدول الأعضاء إلى استكمال برامج التنمية من أجل تحقيق مستويات عالية من الرفاهية الاجتماعية لسكانها، وتحقيق معدلات نمو مرتفعة والتحول إلى أقطاب تكنولوجية على مستوى منطقة الشرق الأوسط أكثر جاذبية للشركات والاستثمارات الصناعية والتجارية.
- الخاسرون من هذا الارتفاع: ستضرر العديد من الدول المستهلكة (المستوردة) من هذا الارتفاع، وخاصة العديد من الدول العربية. ولاسيما الدول التي تعاني حاليًا العديد من الأزمات المالية والاقتصادية، مما سيكون لهذا الارتفاع العديد من الآثار الاجتماعية والاقتصادية السلبية. ويمكن أن تكون أسعار الطاقة أحد التحديات التي ستواجه السياسات العمومية في مجال إعادة النظر في الدعم الحكومي للطاقة، ما سيكون له تداعيات سلبية على تكلفة إنتاج العديد من السلع المحلية. كما يمكن لهذا القرار أن يعمق الأزمة في الداخل الأمريكي والأوروبي، وربما يوسع مجال الاحتجاجات على حكومات تلك الدول التي بدأت في فرنسا وبريطانيا وبروكسل بسبب أزمه الطاقة والغذاء. وسيدفع هذا الوضع دول الاتحاد الأوروبي إلى التحرك بمظهر الجبهة الواحدة من أجل تعزيز مصادرها المحلية، بما في ذلك النفط والغاز والطاقة النووية ومصادر الطاقة المتجددة بما في ذلك طاقة الرياح والطاقة الشمسية، للحفاظ على أمن الطاقة بها.
خاتمة
بالنظر لواقع أسواق النفط العالمية وتوقع توجهاتها المستقبلية العالمية، وبناء على التحليل السابق، وبالتركيز على أحوال اقتصادات الدول النفطية، فإن قرار “أوبك بلس” جاء كمحاولة لوقف الانخفاض في أسعار الطاقة المستمر منذ الصيف، لحماية السوق من مخاطر الركود الناجمة عن انخفاض الطلب. ومن ثم، فإن القرار فني بحت، و لا علاقة له بما يحدث من توترات ما بين روسيا وأكرانيا. وبرغم ردود الفعل المتباينة حوله، فإن لهذا القرار العديد من المبررات تم تقديم أهمها، كما ستكون له انعكاسات على المدى القصير، والمتوسط والبعيد، سواء كانت على الدول المصدّرة أو الدول المستوردة أو الاقتصاد العالمي ككل، ويستدعي كلُّ ذلك العملَ على عدة محاور استثمارية وتصنيعية وتصديرية في الدول المصدرة للنفط؛ لضمان الانضباط المستدام والتوازن والاستقرار في سوق النفط وفي نموها الاقتصادي المستقر، وعلى رأس هذه المحاور دعم وتسريع سياساتها الوطنية للتنويع الاقتصادي، وزيادة قدراتها التصنيعية والتكنولوجية المستدامة.
المراجع
[1] . راجع في ذلك الرابط التالي على البنك الدولي: https://2u.pw/idR1i.
[2] . وهي كل من: الجزائر، وأنغولا، وغينيا الاستوائية، والغابون، وإيران، والعراق، والكويت، وليبيا، ونيجيريا، وجمهورية الكونغو، والمملكة العربية السعودية، والإمارات العربية المتحدة، وفنزويلا.
[3] . OPEC, Statute, article (2), 2021, Available from: www.opec.org/opec_web/static_files_project/media/downloads/publications/OPEC%20Statute.pdf
[4] . “الشقيقات السبع الكبرى” (The Seven Big Sisters)، ومنها خمس شركات أمريكية هي: (Mobil)، و(ESSO)، و (Standard oil of California)، و (GULF) و (TEXACO)، وواحدة بريطانية وهي (British Petroleum) وأخرى بريطانية هولندية وهي شركة (SHELL) وأضيف إليها شركة فرنسية وهي الفرنسية للبترول (CIE).
[5] . يضم اتفاق “أوبك بلس” بالإضافة إلى دول منظمة أوبك كلًا من: روسيا، وأذربيجان، والبحرين، وبروناي، وكازاخستان، وماليزيا، والمكسيك، وعُمان، وجنوب السودان، والسودان.
[6] . Special Briefing: The policy and geopolitical implications of the OPEC+ oil production cuts, from: www.mei.edu/blog/special-briefing-policy-and-geopolitical-implications-opec-oil-production-cuts
[7]. John Benny, (Oct13, 2022), Oil prices fluctuate as investors worry about demand outlook, from: www.thenationalnews.com/business/energy/2022/10/13/oil-prices-dip-as-investors-worry-about-demand-outlook .
[8] . راجع في ذلك الدراسة التالية: https://trendsresearch.org/ar/insight/opec-plus-and-support-the-balance-in-the-oil-markets/.