مقدمة:
تحاول هذه الدراسة توضيح الأسباب الاقتصادية لاتخاذ قرار تخفيض الإنتاج النفطي من قبل تجمع «أوبك بلس»، لتدحض بذلك الادعاءات التي أثيرت حول وجود دوافع سياسية وراء هذا القرار، أو أنه قد صدر دعمًا لموقف روسيا في حربها على أوكرانيا وضد مصالح الولايات المتحدة الأمريكية.
وتنطلق الدراسة في مراحلها التحليلية من عرض سريع لاتجاهات أسعار النفط في سوق النفط الدولية في آخر ثلاث سنوات، تماشيًا مع التطورات العالمية التي حدثت بفعل جائحة كورونا، ونتيجة للسياسات الدولية للتعافي من تداعيات هذه الجائحة على الأنشطة الاقتصادية، انتهاءً بتطور أسعار النفط في ظل أزمة الحرب الروسية-الأوكرانية. ويلي ذلك تفنيد الحجج والادعاءات التي تُساق لحصر دوافع القرار في سياق سياسي بعيدًا عن العوامل الاقتصادية، ثم تحدد الدراسة أهم الدوافع الاقتصادية الفعلية وراء هذا القرار. وتختتم الدراسة تحليلها برؤية مستقبلية لسوق النفط في ظل التعاون والتكامل تحت مظلة تجمع «أوبك بلس».
تطور أسعار النفط:
يوضح الشكل التالي رقم (1) التطورات السعرية التي حدثت في سوق النفط العالمية خلال الفترة (2020-2022) بالاعتماد على البيانات السعرية لسلة أوبك النفطية:
شكل رقم (1): تطور أسعار سلة أوبك بداية من عام 2020 وحتى أكتوبر 2022 (دولار/البرميل) *
* مصدر بيانات الشكل الرابط التالي: https://www.opec.org/basket/basketDayArchives.xml
وبالتأمل في الاتجاه العام لسعر سلة أوبك خلال الفترة 2020-2022، يمكن تقسيم ما شهدته من تطورات إلى ثلاث مراحل:
- المرحلة الأولى خلال عام كورونا بداية من يناير 2020 تراجع سعر النفط بمعدلات سريعة، حتى وصل إلى أدنى مستوياته في ذروة الجائحة، وتحديدًا منذ إبريل 2020. وكان السبب الرئيسي لذلك هو تراجع الطلب العالمي على النفط بفعل الإغلاق الكامل للأنشطة الاقتصادية بهدف محاصرة الجائحة. وقد وصل سعر سلة أوبك في إبريل 2020 لنحو 12.2 دولار للبرميل.
- المرحلة الثانية خلال فترة التعافي من كورونا أواخر العام 2020 وبداية العام 2021. وقد أخذ سعر برميل النفط يتعافى في الأسواق الدولية مع العودة التدريجية للنشاط الاقتصادي، ووصل لحاجز 60 دولارًا للبرميل بعد مرور عام على الإغلاق، وتحديدًا في فبراير 2021، ثم استمر في الصعود التدريجي بعد ذلك حتى وصل لنحو 80 دولارًا للبرميل في نهاية العام 2021.
- المرحلة الثالثة خلال الأزمة الأوكرانية، وما سبقها من إرهاصات تسببت في زيادة الطلب العالمي على النفط الناتج عن تسريع التعافي بداية من العام 2022. وفي مارس من نفس العام الحالي وصلت أسعار النفط لأقصى قيمة لها لنحو 127 دولارًا للبرميل من سلة أوبك، ثم أخذت الأسعار في التقلب في الاتجاه النازل حتى استقرت عند مستوى 90.82 دولار للبرميل في أكتوبر الجاري.
ويلاحظ أن الاتجاهات العامة لسعر برميل النفط تتماشى مع القواعد الاقتصادية العامة للأسواق؛ فقانون الطلب يؤكد أن زيادة الكمية المطلوبة من النفط مع تسارع الأنشطة الإنتاجية ستدفع باتجاه زيادة الأسعار، وخصوصًا في ظل وجود بعض المحددات الاقتصادية التي تؤثر في قوى الإنتاج ومستويات العرض النفطي في أسواق الدولية. ويدفع ذلك للتساؤل حول ما إذا كان «أوبك بلس» بصفته لاعبًا دوليًا يدير نحو 40% من الإنتاج النفطي العالمي قد لجأ في اجتماعه الأخير لتخفيض الإنتاج اليومي بنحو 2 مليون برميل اسميًا لأهداف اقتصادية أم لغيرها من الأهداف، وعلى رأسها دعم الاقتصاد الروسي في حربه على أوكرانيا؟
هل خفضت «أوبك بلس» الإنتاج النفطي دعمًا للاقتصاد الروسي؟
يمكن القول إن الادعاءات التي خرجت من بعض دول العالم تجاه مجموعة «أوبك بلس» لا تنطلق سوى من مواقفها السياسية تجاه الدول المُنتجة؛ والدليل على ذلك أن المنصات التي تروج لمثل هذه الادعاءات تضخم من المشكلات الاقتصادية المرتبطة بارتفاع أسعار النفط مع تجاهل ملحوظ لما تشهده أسواق الغاز وبقية أسواق الطاقة من ارتفاعات مماثلة في الأسعار، ناهيك عن شيوع التضخم في كافة السلع والخدمات الداخلة في التجارة الدولية بخلاف الطاقة.
ولقد ذهبت الولايات المتحدة الأمريكية بعيدًا في رد فعلها على قرار «أوبك بلس» الأخير بخفض إنتاج النفط بواقع مليوني برميل يومياً، حيث تم وضع القرار في سياق استهدافه التأثير على مسار الانتخابات النصفية القادمة في الولايات المتحدة عبر زيادة الضغوط التضخمية في الاقتصاد الأمريكي من جراء رفع تكلفة الوقود على الناخب الأمريكي وإثارة غضبه على الديمقراطيين. ولقد توصلت بعض الاستنتاجات إلى أن مجموعة «أوبك بلس» قد اختارت التحالف مع روسيا بهذا القرار لدعمها في حربها على أوكرانيا. وتحمل هذه الاستنتاجات معنى ضمنيًا أن الإدارة الأمريكية تريد من «أوبك بلس» أن تتخذ المواقف الرامية إلى معاقبة روسيا، عبر زيادة الإنتاج النفطي لينعكس على انخفاض أسعار النفط، وبما يخفض العائدات الروسية من النفط ويحرمها من فوائض دولارية تستخدمها لتمويل حربها المستمرة ضد أوكرانيا.
وبينما تعتبر روسيا لاعبًا رئيسيًا في تجمع «أوبك بلس»، فإن الولايات المتحدة الأمريكية تسعى لأن تتحمل باقي الدول الرئيسية في التجمع – وعلى رأسها المملكة العربية السعودية – الفاتورة الاقتصادية لمعاقبة الاقتصاد الروسي على حربه، وذلك دون أن تأخذ دول التجمع في اعتبارها مصالحها الشخصية وتوجهاتها الاقتصادية واستقرارها السياسي وقدراتها التمويلية في ظل عالم مليء بالتحديات التمويلية. فالولايات المتحدة الأمريكية إذن تريد أن تكون قرارات «أوبك بلس» قرارات سياسية الطابع في المقام الأول، وتكون موجهة ضد الأدوات التي استخدمها الاقتصاد الروسي في سياق حربه على أوكرانيا عبر وقف تصدير الغاز لدول أوروبا؛ أي إنها، وفي ذات الوقت، تريد أن تبتعد «أوبك بلس» عن كونها تتخذ قراراتها بمراعاة الأبعاد الاقتصادية والتقنية والاستثمارية التي تخدم مصالح دول التجمع.
والدليل على أن دول منظمة أوبك وعلى رأسها دول الخليج لا تستخدم أسعار النفط كسلاح سياسي في مواجهة الأطراف الدولية، أن هذه الدول نفسها، وفي ذات الوقت، قد تصرفت كبقية دول العالم وأعلنت رفضها لتلك الحرب، وبغالبية ساحقة في الأمم المتحدة، كما قدمت – ومازالت – دعمًا ومساعدات إنسانية لأوكرانيا. كما أن نظرة تاريخية سريعة للعلاقة التي تربط دول الخليج بالولايات المتحدة كفيلة بأن تؤكد أنه لا توجد ثمة رغبة خليجية في فك أواصر العلاقة الاستراتيجية مع الولايات المتحدة الأمريكية، ولا تسعى إلى إضعافها أو التأثير عليها بأي مؤثر سلبي؛ بل إن الواقع يشير إلى أن دول أوبك الخليجية تريد استمرار هذه العلاقات على أسس متينة، تكون عناصر التعاون والشراكة والمصالح الأمنية والاقتصادية والسياسية واضحة فيها.
ومادام القرار الأخير لـ “أوبك بلس” منزهًا عن الدوافع السياسية، فما هي إذن الدوافع الفعلية وراء اتخاذه في ظل السياق الاقتصادي الدولي الراهن؟ الجزء التالي من الدراسة يجيب عن هذا السؤال.
ما هي الدوافع الاقتصادية وراء قرار تخفيض الإنتاج من جانب أوبك بلس؟
إن لجوء تكتل أوبك بلس في الخامس من أكتوبر الجاري 2022 بتعديل الإنتاج الإجمالي بالخفض بمقدار 2 مليون برميل يوميًا من مستويات الإنتاج المطلوبة في أغسطس 2022، بدءًا من نوفمبر 2022 للدول المشاركة في منظمة أوبك والدول غير الأعضاء في أوبك، قد تم تبريره من جانب التكتل بأنه يأتي استجابة لثلاثة عوامل رئيسية[1] على النحو الموضح في الشكل التالي رقم (2):
شكل رقم (2): أسباب أوبك بلس لتخفيض الإنتاج النفطي
قرار أوبك بلس لتخفيض الإنتاج النفطي
- العامل الأول هو أن حالة عدم اليقين هي التي تسود حاليًا الأسواق الدولية كافة، سواء كانت أسواق الطاقة أو غيرها من أسواق السلع والخدمات الدولية والمحلية والإقليمية.
- العامل الثاني هو أن هذا القرار يهدف لتعزيز الاستقرار الطويل المدى في سوق النفط الدولي، ويقلل التقلبات غير المرغوبة في سعر النفط خلال الأجلين القصير والمنظور.
- أما العامل الثالث فهو أن قرار التخفيض يتماشى مع النهج المتبع من التكتل والمتمثل في أن تكون قراراته من النوع الاستباقي، الذي يرصد المتغيرات الاقتصادية ويسبقها بقرارات تساعد في تحقيق التوازن في سوق النفط العالمية في الأجل الطويل.
وجدير بالملاحظة هنا في ظل الحجج التي قدمتها أوبك بلس لقرار الخفض، فإن التخفيض الفعلي للإنتاج سيدور حول نصف ما قررته أوبك بلس أي بحوالي مليون برميل يوميًا في التطبيق الفعلي[2]. ويرجع ذلك بالأساس نتيجة لوجود قصور حالي في القدرات الإنتاجية لبعض دول التجمع نابع من مشكلات في أنشطتها الإنتاجية في قطاع النفط.
ومهما يكن من أمر، فإن قراءة اقتصادية مركزة ومتأنية لهذا القرار تكتشف أن المحددات الاقتصادية التي قد تفسر لجوء “أوبك بلس” لهذا الخفض تدور حول أربعة محددات رئيسية[3] على النحو الذي توضحه بيانات الشكل التالي رقم (3):
شكل رقم (3): محددات اقتصادية لتفسير قرار أوبك بلس لتخفيض الإنتاج النفطي
- أول هذه المحددات هو انتهاء عصر النفط الرخيص. ففي ظل التقطع الحاصل حاليًا في سلاسل الإمداد العالمية والمتوقع له الاستمرار لأواخر العام القادم 2023، ومع ارتفاع أسعار سلة الغذاء وأسعار كافة السلع الصناعية، لم يعد مقبولاً – من منظور “أوبك بلس” – أن يتراجع سعر برميل النفط دون حاجز 90 دولارًا للبرميل، والذي يمكن له أن يحدث في حالة استمرار الإنتاج الحالي على حاله مع إمكانية حدوث تراخٍ في الطلب، مع استمرار الحرب الروسية وتنامي المخاطر الجيواستراتيجية في أقاليم اقتصادية عديدة؛ مع ما يعنيه ذلك ضمنيًا بأن هذا التكتل بات رافضًا أن يقايض نفطًا رخيصًا بسلع يتزايد سعرها باطراد.
- وثاني هذه المحددات هو الحاجة لتحفيز الاستثمارات النفطية؛ ذلك أن الرفع المتواصل لأسعار الفائدة على السندات الأمريكية لمحاصرة التضخم في السوق الأمريكية قد سحب حصة مهمة من السيولة الدولية وأعاد توجيهها للداخل الأمريكي. ومن ثم، فإن سعي دول “أوبك بلس” لتحفيز الاستثمارات المحلية واستقطاب الاستثمارات الدولية للقطاع النفطي، في ظل سيولة دولية تتجه ناحية الاقتصاد الأمريكي، يستدعي منها رفعًا مقابلاً للعوائد المتوقعة للاستثمار في هذا القطاع؛ وبطبيعة الحال، فإن هذه العوائد لن ترتقي في ظل أسعار نفط رخيصة أو حتى آخذة في التراجع. فجدوى الاستثمارات النفطية تقارن باستمرار بين تكاليف الإنتاج النفطي وعوائد بيع النفط في الأسواق الدولية.
- وثالث هذه المحددات هو متطلبات دعم الكفاءة الإنتاجية لأنشطة قطاع النفط والقطاعات شبه النفطية؛ ذلك أن تردي الإنتاجية في أنشطة قطاع النفط في العديد من دول تكتل “أوبك بلس”، مع تزايد فاتورة عمليات الإحلال والتجديد والصيانة للآلات والمعدات والبنى الإنتاجية والأصول الثابتة – كل ذلك قد أثر سلبيًا على إمداداتها النفطية الفعلية في الأسواق الدولية، وبالقدر الذي يجعل استمرار أسعار النفط فوق حاجز 90 دولارًا للبرميل أمرًا في غاية الأهمية لهذه الدول، ليس فقط لكي تزيد من عوائدها من تصدير النفط عبر دعم السعر التوازني، ولا لتتمكن فحسب من سداد فاتورة دعم وصيانة قدراتها الإنتاجية النفطية التي تتزايد وتتجدد باستمرار، وإنما قبل كل ذلك لكي يتحقق التوازن والاستقرار الذي تنشده للسوق الأكثر أهمية بالنسبة لاقتصاداتها الوطنية.
- أما رابع هذه المحددات فهو مواجهة التداعيات المحتملة لحدوث ركود عالمي، باعتبار ذلك الركود واحدًا من أبرز التداعيات المحتملة الحدوث قريبًا، في حال استمرار الحرب الروسية على أوكرانيا أو توسُّع نطاق هذه الحرب وتصاعد وتيرتها واتساع نطاقها الجغرافي والسياسي.
وبناء على المحددات الاقتصادية الأربعة السابقة، فإن تحقيق الاستقرار في سوق النفط العالمية يعتبر هدفًا أصيلًا لقرارات تجمع أوبك بلس، وينتج عن قراءة مستمرة لمتغيرات العرض والطلب في السوق مع استخدام أساليب النمذجة الاقتصادية للتنبؤ المستقبلي بأحوال السوق وبالتدخلات الواجبة في ظل الدقة المأمولة لهذه التنبؤات.
خاتمة ورؤية مستقبلية لسوق النفط في ظل تجمع «أوبك بلس»:
لئن كانت سوق النفط العالمية تتسم بأنها شديدة التأثر بمجريات الاقتصاد العالمي، وأنها عانت عبر عقود عديدة مضت من جراء صدمات في جانبي العرض والطلب، فإن الوصول لوضعية الاستقرار والتوازن في هذه السوق يظل محكومًا بالتفاعل المستمر بين قوى العرض والطلب، وبما يعني زيادة التجاذبات والتفاعلات التي تحدث بينهما باستمرار.
واعتمادًا على الخبرة التاريخية، المليئة بالدروس المهمة التي تقدمها سوق النفط العالمية، فإنه بالقَدْر الذي ينجح فيه التكامل والتنسيق على جانب العرض والإنتاج النفطي العالمي، وبالقدر الذي ستظل فيه أوبك بلس-ومنذ أن ظهرت في عام 2016 – هي العامل الموازن والمعبِّر الأمين عن مصالح المنتجين، فبالقدر نفسه سيتحقق استقرار مستدام في سوق النفط العالمية، وبنفس القدر ستستمر فيه هذه السوق قائمة بين أنداد متكافئين، ولا تتحول إلى سوق يتحكم فيها البائعون أو يتلاعب بها المشترون، ولا تطغى فيها أية مصالح خاصة على حساب مصلحة المجموع، ولا تسود فيها سوى المصالح الأساسية لضمان الاستقرار في الاقتصاد العالمي.
المراجع
[1]. راجع في ذلك بيان الاجتماع الوزاري الثالث والثلاثين لأوبك والمنتجين المستقلين على الرابط التالي: https://www.opec.org/opec_web/en/press_room/7021.htm
[2] . راجع في ذلك الرابط التالي: https://www.asharqbusiness.com/article/43003
[3]. راجع في ذلك المقالة التالية: https://2u.pw/92tsq.