في ظل حالة الطوارئ الصحية العالمية الناجمة عن وباء “كوفيد-19″، لجأت دول عديدة إلى فرض تدابير لكبح انتشار الفيروس. وأحدثت إجراءات الإغلاق المؤقت للعديد من الشركات، والقيود واسعة النطاق التي فُرضت على التنقل انكماشًا حادة في الإنتاج الصناعي، والإنفاق الاستهلاكي، والتجارة والاستثمار الدولييْن.
ويصف تقرير آفاق الاقتصاد العالمي الأخير الصادر عن صندوق النقد الدولي[1] هذه الأزمة بأنها “أزمة لا مثيل لها”، ويتوقع انكماش الاقتصاد العالمي بواقع 4.9% في عام 2020. كما تتوقع منظمة التعاون الاقتصادي[2] سيناريوهات أكثر تشاؤماً سيتراجع فيها النشاط الاقتصادي بواقع 6% في عام 2020، وهي نسبة قد تزيد إلى 7.6% في حال عودة تفشي الإصابات بالفيروس.
لقد أنقدت إجراءات الإغلاق الكثير من الأرواح، لكن ما يتطلّب العناية الفائقة الآن هو الاقتصاد العالمي؛ والسؤال المطروح الآن هو: هل ستأتي هذا العناية في المستقبل القريب أم لا؟ لقد فرضت الأزمة المالية الآسيوية في عامي 1997-1998 والأزمة المالية العالمية في عام 2008 تهديدات للاقتصاد العالمي والاستقرار المالي مماثلة للتهديدات التي يواجهها العالم اليوم. ويعود الفضل في الحد من تلك التهديدات للقيادة الأمريكية[3] ولتوفُّر مجموعة من المنظمات والمؤسسات الاقتصادية الدولية التي تمكنت من خلالها القيادة الأمريكية والدول القيادية الأخرى من تنسيق استجابتها وتوحيد جهودها في مواجهتها.
غير أن اليوم، للأسف، لا يوجد سبب كافٍ للتفاؤل بشأن قدرة هذه المؤسسات على تقديم استجابة فعّالة وفي الوقت المناسب للأزمة الراهنة، خصوصاً في حقبةٍ القيادة الأمريكية المتضاءلة؛ بالإضافة إلى ما تواجهه هذه المؤسسات اليوم من نقص في الموارد، وتنازُع الدول الأعضاء، والتساؤلات التي تضع محط شك شرعيتها وفعاليتها والغرض منها، إلى حد أصبحت معه بعض المنظمات الاقتصادية الدولية الرئيسية[4] تواجه تهديدًا وجوديًا.
توجد أسباب عديدة تفسر ما آلت إليه أوضاع المؤسسات الاقتصادية الدولية، غير أن المشكلات المباشرة مردها إلى ضعف الحوكمة العالمية المتمثلة في سيادة الدول؛ فالكثير من مشكلات الحوكمة الاقتصادية العالمية تأتي من التباين بين سلطة الدول الوطنية وطبيعة النشاط الاقتصادي التي تزداد عولمةً، وامتناع الدول عن التنازل عن سلطاتها السيادية التي تعوق إرساء أسس حكومة عالمية بصلاحيات تخولها وضع القواعد والقوانين.
وواقع الأمر أن هذه المنظمات الاقتصادية الدولية لا تمثل سوى خياراً وسطاً يوفر للعالم آلية تعمل من خلالها الدول في اتجاه إيجاد حلول تعاونية لمشكلاتها الاقتصادية المشتركة مع الحفاظ على سيادتها في الوقت نفسه؛ إنها، باختصار – أي المنظمات الاقتصادية الدولية – تشكل محاولة لتوفير “المنافع العامة الدولية من دون حكومة دولية”[5].
وبانضمام الدول إلى هذه المنظمات، فإنها توافق على الالتزام بمجموعة من القواعد المعيارية بحيث تتم تسوية الخلافات وفقاً للإجراءات القانونية السليمة بدلاً من اللجوء إلى سياسة القوة المجرَّدة. كما أن عمليات الرصد والمراقبة المستمرة تضع شيئاً من الضغط على الدول حتى تفي بالالتزامات المتفق عليها، غير أنه – مع هذا – فإن السيادة تعني أن الدول تظل صاحبة السلطات العليا داخل نطاق ولايتها القضائية على أراضيها.
ولا تستطيع المنظمات الاقتصادية الدولية بالنظر لهذا الاعتبار تجاوز سيادة الدول وصلاحياتها أو إلغائها، ما يعني جوهرياً أنها غير قادرة على إجبار الدول على الامتثال للالتزامات التي تعهدت بها، وهذا الافتقار إلى الصلاحيات التي تخولها القدرة على إنفاذ إرادتها وقراراتها تحد من قدرة هذه المنظمات الاقتصادية الدولية على تنفيذ التفويضات المكلفة بها وإنجازها بفعالية.
وعلى الرغم من كل مثبطات عمل المنظمات الاقتصادية الدولية[6]، تجدر الإشارة إلى أن الكثير من من هذه المنظمات ما زال يلتزم بقواعد التجارة العالمية التي أرستها الولايات المتحدة ووسعت نطاقها بعد عام 1945 باعتبارها الوصي الأول والمسؤول الذي حرص على صياغة إطار عملها المؤسسي بما يجسِّد النظام الاقتصادي الدولي الليبرالي، والمتبرِّع الأكبر لمعظمها تقريبًا بالتمويل والموارد البشرية والقيادة.
كما أن الولايات المتحدة، من الناحية المفاهيمية، دافعت وباستمرار عن التجارة المفتوحة دفاعًا مستميتًا بلغ ذروته بإعلان الرئيس الأمريكي، جورج بوش الأب، عن نظام عالمي جديد عام 1990 في خطاب ألقاه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة[7] حدد فيه “رؤية لشراكة جديدة بين الأمم… شراكة تقوم على التشاور والتعاون والعمل الجماعي، خصوصاً من خلال المنظمات الدولية والإقليمية؛ شراكة توحد بين أطرافها مبدأ سيادة القانون”.
وقد بدا أن هذه التطورات تبشّر بعصر ذهبي للمنظمات الاقتصادية الدولية، ولكن في واقع سيناريوهات ما بعد الحرب الباردة أصبحت العلاقات بين الولايات المتحدة والمؤسسات الدولية مشحونة بالتوتر على نحو مطَّرد؛ ففي داخل الولايات المتحدة، كان هناك دائماً اتجاه خفي يضمر الكراهية للمنظمات الاقتصادية الدولية، ويؤمن أنصاره بأن معايير هذه المنظمات وقواعدها تفرض قيوداً لا داعي لها على حرية التحرك الأمريكي.
كما احتج أنصار هذا التوجه على كون الولايات المتحدة تتحمل حصة غير متناسبة من التكاليف المرتبطة بدعم المنظمات الاقتصادية الدولية في حين تذهب حصة غير متناسبة من المنافع إلى دول أخرى، مثل الصين على وجه الخصوص. ولأول مرة منذ عام 1945 يجد هذا الاتجاه تأييداً كاملاً من رئيس أمريكي ما زال يشغل منصبه الرئاسي.
لقد ظل الرئيس ترامب، منذ توليه الرئاسة، يهاجم المنظمات الاقتصادية الدولية باستمرار وهو يقف على رأس إدارة أمريكية انسحبت من الشراكة عبر المحيط الهادي[8]، وخفضت إسهاماتها في الميزانية التي تقدمها للمصارف الإنمائية متعددة الأطراف[9]، وتخلّت عن قيادة المنظمات الاقتصادية الدولية.
تمظهرت تفاعلات هذا التوجه الذي ينحو إلى الانسحاب من الساحة الدولية بجلاء عندما دعا نص بيان[10] قمة الدول السبع المنعقدة في يونيو 2018 الولايات المتحدة إلى “الالتزام بتعزيز نظام يقوم على القواعد والمعايير”؛ هذا البيان الذي سحبت منه واشنطن توقيعها لاحقاً إثر خلاف حول التعريفات الجمركية التجارية بينها وبين وكندا.
كما تفاقم هذا الوضع بما يعزز توجه واشنطن إلى التخلي عن قيادة المنظمات الاقتصادية الدولية والانسحاب المتزايد من دورها الدولي بعد وقوع المزيد من الخلافات والانقسامات بين الولايات المتحدة الأمريكية، وبين مجموعة الدول السبع بسبب التغير المناخي ووباء “كوفيد-19” خلال قمتي عامي 2019 و2020.
لا تكمن المشكلة في تخلي الولايات المتحدة الأمريكية عن دورها القيادي فسحب، بل أيضاً في أن صوتها أصبح مفقوداً أكثر فأكثر في العديد من المناقشات الدولية. كما أن تأخُّر الإدارة، أو إخفاقها التام[11]، في تعيين مندوبين دائمين لدى المنظمات الاقتصادية الدولية، بما فيها منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، قد ترك البعثات تعمل تحت رئاسة موظفين مؤقتين.
وفي هذا السياق، يُعرف عن المؤرخ الاقتصادي، تشارلز كيندلبيرغر[12]، الذي نشر فكرة أن الدولة المهيمنة يمكن أن تساعد في استقرار النظام العالمي، أنه قال ذات مرة: “إن الحفاظ على الأنظمة يتطلب عملاً وجهداً؛ وفي غياب تركيز الانتباه وانقطاع ضخ المال، فإنها تنحو إلى الاضمحلال على المدى الطويل”.
لقد شهد الموقف الفكري للإدارات الأمريكية تحولاً مماثلاً، فقد قُدّمت في السابق فكرة أن العالم يشبه مجتمعاً دولياً تربط بين أعضائه المُثل المشتركة والمؤسسات، ولو على نحوٍ فضفاض، والآن أصبحت هذه الفكرة مرفوضة وتوصف بأنها خرقاء، وأصبحت الولايات المتحدة تؤمن بأن بناء السياسة الخارجية على هذه النظرة للعالم “أغنت الصناعة الأجنبية على حساب الصناعة الأمريكية… وقد حوّلنا دولاً أخرى إلى دول غنية في حين اختفت ثروة بلادنا وقوتها وثقتها”. وتنظر واشنطن، باختصار، الآن إلى التعاون الدولي باعتباره مصدراً للمشاكل المحلية، بدلاً من كونه أداة لإدارتها.
وتوضيحاً لهذا الموقف كتب هيربرت ريموند ماكماستر، مستشار الأمن الوطني الأمريكي حينها، وغاري كوهين، كبير المستشارين الاقتصاديين آنذاك، في صحيفة وول ستريت جورنال[13] مقالاً لخّصا فيه عقلية الإدارة الأمريكية بقولهما إن العالم “ساحة تتشارك فيها الدول والجهات الفاعلة غير الحكومية والشركات وتتنافس على المصالح والمنافع. ونحن نجلب لهذه الساحة قوة عسكرية وسياسية واقتصادية وثقافية ومعنوية لا نظيرَ لها. وبدلاً من إنكار هذه الطبيعة الأساسية للشؤون الدولية، فإننا نتبنّاها ونؤمن بها”. لقد كانت الرسالة واضحة وتفيد بأنه من الآن فصاعداً ستركز الولايات المتحدة اهتمامها على الاتفاقات الثنائية التي تستطيع فيها تغليب مصالحها الاقتصادية من أجل الحصول على شروط تفضيلية، بدلاً من التعهد بتمويل المنظمات الأممية المكلَّفة.
كل هذا يُنبئ بمستقبل قاتم للمنظمات الاقتصادية الدولية. وعلى المدى القصير، قد تتحمَّل منظمات دولية عديدة فك ارتباط الولايات المتحدة بها، على الأقل، أو حتى انسحابها منها، وتبقى على قيد الحياة، ولكن تراجع الدور القيادي للولايات المتحدة الأمريكية في المنظمات الاقتصادية الدولية يضر بشرعيتها وفعاليتها، كما نشهد اليوم بالفعل.
وتتجلى هذه الحقيقة في الطريق المسدود الذي وصلت إليه منظمة التجارة العالمية حيث أوقفت الولايات المتحدة، عدة مرات، إجراءات تعيين قضاة جدد في هيئة الاستئناف التي تحكم في النزاعات التجارية بين الدول الأعضاء، ما جعلها عاجزة عن أداء مهامها[14]. كما أن تخفيضات الميزانية الناتجة عن انخفاض الإسهامات الأمريكية قد يشل قدرة المنظمات الاقتصادية الدولية على إنجاز التفويضات الممنوحة لها.
لقد تضمنت جميع مقترحات الميزانية الأمريكية الأخيرة فقرات تنص على إنهاء أو تخفيض التمويل المخصص للبرامج والمنظمات الدولية التي تقوم بمهام لا تعزز مصالح السياسة الخارجية الأمريكية بصورة ملحوظة، أو تلك التي لا تتقاسم الدول الأعضاء عبء تمويلها بطريقة عادلة[15]. وعلى صعيدٍ آخر، أمرت الإدارة الأمريكية وزارة الخارجية بتقنين هذه التخفيضات من خلال دراسة “الخيارات المتمثلة في:
- تخفيض ميزانيات المنظمات الدولية، و/أو
- تخفيض معدلات الإسهام الأمريكي، و/أو
- عدم دفع الإسهامات الأمريكية كاملة”[16].
وبما أن الولايات المتحدة عادةً ما توفر ما بين 10% و20% من ميزانيات المنظمات الاقتصادية الدولية، فإن هذه المقترحات ستكون لها تداعيات خطيرة على برامج أعمالها[17].
يجب على الدول أن تتوقف قليلاً لتنظر في فوائد المنظمات الاقتصادية الدولية قبل التخلي عنها وتركها تذهب أدراج الرياح. ومن أجل الدفاع عن هذه المنظمات، يجدر بنا التأمّل برهةً في نشأتها. فمن الناحية الاقتصادية، كان العالم بحلول عام 1914 على درجة عالية من التكامل مع التقدم السريع في التكنولوجيا والاتصالات والتجارة، وكان يشهد زيادة غير مسبوقة في كثافة التفاعلات عبر الحدود واتساعها وسرعتها. وتولَّد عن ذلك مطالب بإيجاد آليات لتهدئة الخلافات الناشئة عن تزايد وتيرة الاعتماد المتبادل بين الدول، لا سيما وضع قواعد ومعايير متناسقة تهدف إلى تقليص تكاليف المعاملات التجارية التي تعوق حركة التجارة الدولية.
يسرد كريغ ميرفي[18]، في تأريخه للحوكمة العالمية، ظهور الاتحادات الدولية العامة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، والتي طوَّرت معايير للاتصالات التلغرافية والبريدية (الاتحاد الدولي للتلغراف (للاتصالات حالياً)) و(الاتحاد البريدي العالمي)، ووحدات القياس (المكتب الدولي للأوزان والمقاييس)، والنقل (المكتب المركزي للنقل الدولي بالسكك الحديدية)، والملكية الفكرية (المكاتب الدولية الموحدة لحماية الملكية الفكرية).
وعملت منظمات أخرى كمراكز لتبادل المعلومات من أجل تيسير التجارة الدولية، بما في ذلك الاتحاد الدولي لنشر التعريفات الجمركية والمعهد الدولي للزراعة. وما زالت هذه الهيئات كلها باقية، وإن أُدمِجت أحياناً في منظمات لاحقة تعمل بتفويضات تم تحديثها.
وفي غضون تلك الفترة، تعاظمت قوى العولمة التي رعت هذه الفورة الأولية في بناء المؤسسات إلى جانب المطالب بأن تتولى المنظمات الاقتصادية الدولية إدارتها. ويُعدّ من المسلّمات بالنسبة إلى الكثير من المواطنين وجود اقتصاد دولي مترابط بشبكات التجارة والإنتاج والتمويل، ولكن هذا سيكون مستحيلاً من دون القواعد والمعايير والمبادئ، الغامضة في كثير من الأحيان، التي وافقت عليها الدول في المنظمات الاقتصادية الدولية.
وكما قال ماثيو بيشوب[19] مؤخراً، فإن هذه القواعد تكاثرت “لأن طبيعة الإنتاج والاستهلاك الحديثيْن المعقّدة والمجزّأة للغاية تتطلب أشكالاً من الحوكمة أكثر سرية ودقّة”؛ فالتجارة، حتى في المنتجات البسيطة مثل البرتقال[20] ولحم الحملان[21]، تعتمد على تطبيق معايير فنية مفصّلة في ما يتعلق بما يشكل سلعة بعينها وكيف سيتم قياسها نوعاً وكماً. وإذا رغبت الدول في مواصلة جني ثمار التجارة الدولية، فلا بد من وجود إطار من القوانين المتفق عليها.
إن توفّر إطار مستقر من القواعد التي تعزز أي نظام تجاري دولي مفتوح نسبياً ليس سوى مثال واحد للمنافع العامة العالمية التي تتولى مسؤوليتها المنظمات الاقتصادية الدولية. وهناك مجموعة من المنظمات، بما فيها صندوق النقد الدولي، ومنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، ومجموعة الدول السبع، ومجموعة الدول العشرين والبنك الدولي ومصرف التسويات الدولية، تعمل معاً على حماية استقرار الاقتصاد العالمي من خلال تنسيق السياسات الاقتصادية الصادرة عن الدول والبنوك المركزية بما يضمن استقرار تدفق رؤوس الأموال إلى الدول النامية، وإنقاذ الدول التي تواجه صعوبات مالية.
كما أن تخفيف حدة الأزمات المالية وإدارتها أمر بالغ الأهمية بالنسبة إلى المنظمات الاقتصادية الدولية. لم يتعرض العالم لكارثة اقتصادية على غرار الكساد الكبير على الرغم من بعض الاضطرابات الخطيرة التي اكتنفت الاقتصاد العالمي ما بعد الحرب العالمية الثانية، وعادةً ما يُنسب الفضل في هذا الاستقرار النسبي إلى وجود هذه المنظمات الاقتصادية الدولية التي تقوم بالتصدي للأزمات أولاً ثم بتنسيق استجابة عالمية موحدة لمكافحتها.
على الرغم من قفز المنظمات الاقتصادية الدولية إلى الصدارة في أوقات الأزمات، فإن معظم أنشطتها يتسم بالتقليدية. ففي تشريح الحوكمة العالمية، غالباً ما تُصوَّر المنظمات الاقتصادية الدولية على أنها الهيكل العظمي أو العمود الفقري الذي يحمل النظام. إنها على القدر نفسه من الأهمية في الواقع لأنها توفر الأوردة والشرايين التي تربط أعضاء جسد الحوكمة العالمية وتمكنها من العمل معاً في تناغم وانسجام.
تشكّل المؤسسات الاقتصادية الدولية آلية مستمرة للتعاون المنظّم بين شبكات الخبراء ومسؤولي السياسات من خلال جمعهم مع نظرائهم في الخارج وخبراء الخدمة المدنية الدولية. ومن خلال العمل معاً في المنظمات الدولية، يتبادل المسؤولون الوطنيون وجهات النظر حول العالم، ويتوصلون إلى فهم أفضل للمشاكل التي تقلق زملاءهم، ومن المؤكد أن هذه التفاعلات مهمة لنزع فتيل التوترات بهدوء حتى لا تتصاعد وتتحول إلى نزاع اقتصادي مدمِّر.
إضافة إلى ذلك، تؤدي هذه الشبكات دوراً محورياً في اكتشاف وتأطير وتدقيق ونشر الأفكار التي تعزز الحوكمة العالمية المعاصرة، وفي توعية الدول حول مصالحها الخاصة بها. فعلى سبيل المثال، أصبحت تجارة الخدمات اليوم جزءاً أساسياً من أجندة عدد كبير من منظمات التجارة الدولية. ولم تكن الدول مصدراً للقوة الدافعة الأولى وراء تجارة الخدمات، بما في ذلك اختراع المصطلح نفسه، بل نبعت تلقائياً من المناقشات التي دارت في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية.
فقد أمضت منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية أكثر من عشر سنوات في إقناع الدول بقابلية الخدمات للتبادل التجاري بطريقة مماثلة لتجارة السلع، وتوعيتها حول فوائد تحرير تجارة الخدمات؛ ولا شك في أن التوقيع على المعاهدات الدولية الرئيسية التي تفصل في مشاكل العالم الاقتصادية جاء تتويجاً طبيعياً لسنوات من عمليات الإعداد الدؤوب والدبلوماسية المتأنية التي أُجريت من قِبَل المنظمات الاقتصادية الدولية ومن خلالها. كما أن هذه المنظمات توفّر منبراً قيّماً يمكن أن تتواصل فيه المحادثات غير الرسمية حتى عندما تنهار المفاوضات الرسمية.
تحتاج الدول أيضاً إلى المنظمات الاقتصادية العالمية لكي تعزز شرعيتها المحلية، فمنذ عام 1945، ظل دور الدولة يتوسع باطّراد ليشمل كل جانب من جوانب الحياة اليومية تقريباً. ومن المفارقات أن الحكومات اليوم مسؤولة أمام مواطنيها عن مجموعة من المشاكل التي لا تستطيع معالجتها بمعزل عن غيرها من الحكومات. لذا فإن ارتفاع مستويات التكامل الاقتصادي يعني أن الوعود بتحقيق الأهداف الاقتصادية، مثل العمالة/التوظيف والتضخم وتوازن عجز الميزانيات العامة، عُرضة للتأثّر بالقرارات التي تتّخذ في أماكن أخرى.
لذلك يمكن تفهُّم الدافع وراء رغبة الكثير من القادة والمواطنين في “استعادة السيطرة”، على حد التعبير الذي استخدمته الحملة الناجحة لإخراج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي، مضحّين بالتعاون الدولي استرضاءً لجمهور الناخبين المحليين؛ وهذا توجهٌ خاطئ، لأن من المستبعد أن يهدأ القلق المحلي بالانسحاب من الانخراط مع المنظمات الاقتصادية العالمية أو تقليص الارتباط بها، بل قد يؤدي هذا إلى تفاقمه في واقع الحال وذلك لأن:
- أولاً، من المرجح أن يؤدي الانغلاق الداخلي إلى تفاقم المشاكل التي صُمّم هذا الانغلاق لحلّها. فتخفيض تدفقات الهجرة ووضع الحواجز أمام التجارة والاستثمار وإلغاء الاتفاقات الدولية، جميعها قد تغذّي الدول بوهم السيطرة، ولكن هذا لا يُعوِّض عن إيجاد بيئة تجارية ملائمة. إن التحركات الحمائية الأمريكية الأخيرة، على سبيل المثال، لن تُعيد العمالة الصناعية إلى ما كانت عليه[22]، بل ربما تُضعفها بإشعال حرب تجارية.
- ثانياً، يمكن للمشروعات التعاونية التي تقام عن طريق المنظمات الاقتصادية العالمية أن تعزز قدرة الحكومات في تخفيف الاضطرابات الاقتصادية وعلى تلبية مطالب المواطنين، ولكن الانسحاب من المنظمات الاقتصادية الدولية قد يضعفها. ولا يمكن تحقيق مصالح المواطنين المعاصرين ومطالبهم إلا من خلال نوع من أنواع الحوكمة الاقتصادية الدولية. فلك أن تتخيل، مثلاً، حكومة تُبلغ السكان بأن هواتفهم المحمولة لن تعمل لأنهم انسحبوا من الاتحاد الدولي للاتصالات، أو لا يمكنهم القيام برحلة جوية دولية لأنهم انسحبوا من منظمة الطيران المدني الدولي.
إن النجاحات البارزة التي حققتها المنظمات الاقتصادية الدولية طوال تاريخها قد تخللتها إخفاقات شنيعة؛ مثل أزمة 2008 المالية. وربما تكون المنظمات الاقتصادية الدولية قد نجحت في درء الانزلاق نحو الكساد، ولكن إخفاقها في منع حدوث الأزمة من الأساس كان أيضاً يمثل فشلاً هائلاً في إنجاز تفويضاتها. وبشيء من التصرف في مقولة ونستون تشرتشل عن الديمقراطية، يمكن القول إن المنظمات الدولية قد تكون أسوأ أشكال الحوكمة الدولية، باستثناء جميع الأشكال الأخرى.
لقد أصبحت هذه المنظمات الدولية، بغض النظر عن عيوبها، تشكل الدعامة الحقيقية للحوكمة الاقتصادية العالمية، ولولاها ولولا الجهود التعاونية التي تقودها لما ازدهر الاقتصاد المُعولم ولما تحققت المنافع المتدفقة منه. ولا يكاد يمر خطاب عن السياسة الخارجية من دون احتوائه شيئاً من الإقرار بدور المنظمات الدولية في تخفيف المشاكل المصاحبة للعولمة الاقتصادية.
إن قدرة المنظمات الاقتصادية الدولية على أداء هذا الدور أصبحت اليوم معرضة للخطر بسبب تغيّر النظرة السياسية لدى الولايات المتحدة التي تمثل راعيها الأول. فتحت شعار “أمريكاً أولاً” يُلاحظ دون قصد أن الولايات المتحدة بدأت تنزع خيوط الحوكمة الاقتصادية العالمية التي أنفقت الإدارات الأمريكية السابقة الكثير من الطاقة في نسجها. لقد أدى فتور الدعم الأمريكي إلى تشجيع قادة العالم الآخرين على تشويه سمعة المنظمات الاقتصادية العالمية والحط من قدرها، غالباً لجذب استحسان الجماهير المحلية. فهذه المنظمات يعدّها الشعبويين بعبعاً، ولكن كان لموقفهم هذا تأثير مُعدٍ على الدول الأخرى التي بدأت تتّبع سياسات لأسبابها الخاصة. وفي حين أن تكاليف المنظمات الاقتصادية الدولية عادةً ما تكون مباشرة وملموسة وتقع على عاتق قطاعات مجتمعية متمايزة يمكن تعبئتها وحشدها بسهولة، فإن منافعها لا تجد فهماً شعبياً واسع النطاق لأنها طويلة الأجل وغير مرئية ومبعثرة.
إن خبرة التاريخ وتجاربه تؤكد أنه من المستبعد أن يصمد الاقتصاد العالمي ويزدهر من دون الأجهزة المصاحبة التي توفرها المنظمات الاقتصادية الدولية والأدوار التي تلعبها في تعزيز التعاون الاقتصادي العالمي.
المراجع
[1] A Crisis Like No Other, An Uncertain Recovery – World Economic Outlook, June 20, 2020
[2] OECD Economic Outlook – June 2020
[3] Daniel W. Drezner – Global Economic Governance during the Great Recession, Cambridge University Press, January 2014, Volume 66, Number 1, pp. 123-164
[4] Jeffrey J. Schott, The WTO’s Existential Crisis: How to Salvage Its Ability to Settle Trade Disputes, The Peterson Institute for International Economics, December 2019
[5] Charles P. Kindleberger – International Public Goods without International Government, The American Economic Review, Vol. 76, No. 1, pp. 1-13, March 1986
[6] Richard Woodward and Michael Davies – How Many International Organizations Are There? The Yearbook of International Organizations and its Shortcomings, Political Studies Association, October 11, 2015
[7] John Woolley and Gerhard Peters, The American Presidency Project – UC Santa Barbara
[8] Presidential Memorandum Regarding Withdrawal of the United States from the Trans-Pacific Partnership Negotiations and Agreement, Presidential Memoranda, January 23, 2017
[9] Sophie Edwards, Trump’s ‘America First’ budget slashes foreign aid, multilateral funding, Devex, March 16, 2017
[10] The Charlevoix G7 Summit Communiqué, La Malbaie, Quebec, Canada, Munk School of Global Affairs and Public Policy University of Toronto, June 9, 2018
[11] Kevin Schaul and Kevin Uhrmacher, Tracking how many key positions Trump has filled so far, Washington Post, December 3, 2016
[12] Charles P. Kindleberger, International Public Goods without International Government, The American Economic Review, Vol. 76, No. 1, pp. 1-13, March 1986
[13] H.R. McMaster and Gary D. Cohn, America First Doesn’t Mean America Alone, Wall Street Journal, May 30, 2017
[14] Keith Johnson, How Trump May Finally Kill the WTO, Foreign Policy, December 9, 2019
[15] A Budget for America’s Future, Major Savings and Reforms, Fiscal Year 2021
[16] Major Savings and Reforms, Budget of the US Government, Fiscal Year 2018
[17] John W. McArthur and Krista Rasmussen, Who funds which multilateral organizations? GLOBALVIEWS no. December 8, 2017.
[18] Craig N. Murphy, International Organization and Industrial Change: Global Governance Since 1850, April 1994
[19] Matt Bishop, Brexit and free trade fallacies Part Two, Sheffield Political Economy Research Institute (SPERI) January 16, 2017.
[20] Peter Ungphakorn, Oranges: a litmus test of UK post-Brexit tariff negotiations, Trade β Blog, September 10, 2016
[21] Ian Dunt, If Liam Fox messes up, we’re all in deep trouble, Politics.co.uk, December 15, 2016,
[22] Martin Wolf, Donald Trump’s tough talk will not bring US jobs back, Financial Times, January 31, 2017