Insight Image

إيقاف راشد الغنوشي والاحتفاظ به: الأسباب والدلالات والتداعيات

19 أبريل 2023

إيقاف راشد الغنوشي والاحتفاظ به: الأسباب والدلالات والتداعيات

19 أبريل 2023

مقدمة

   تم مساء يوم الإثنين 17 إبريل الجاري إيقاف راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة الإسلاموية في منزله بإحدى ضواحي تونس العاصمة من طرف فرقة أمنية تابعة للحرس الوطني، وقد أذنت النيابة العمومية بمحكمة تونس الأولى بالاحتفاظ به على ذمة التحقيق. وتأتي هذه العملية في سياق جملة من القضايا التي يتم التحقيق فيها مع الغنوشي منذ مسار 25 يوليو 2021 من جهة، وفي ظل الإيقافات الأخيرة التي طالت منذ نحو شهرين مجموعة من السياسيين ورجال الأعمال بتهمة التآمر على أمن الدولة من جهة أخرى.

   ويمثل حدث إيقاف الغنوشي والاحتفاظ به حدثاً بالغ الأهمية في السياق التونسي الداخلي وله أبعاده في الخارج أيضًا، فمنذ عودته إلى تونس في 30 يناير 2011 في أعقاب الانتفاضة التي أدت إلى سقوط نظام حكم الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي، أصبح الغنوشي وحزبه لا جزءًا من المشهد السياسي التونسي فحسب، بل أحد أبرز المتحكمين في السياسات العامة للدولة والموجهين لقراراتها والماسكين بزمام أجهزتها، إلى درجة أنه غلب الاعتقاد على فئات كثيرة من السياسيين وعموم الناس أن الغنوشي وحركته فوق المساءلة ولا تطالهم يد القانون بالرغم مما قد يكون اقترفوه من أخطاء وما شهدته فترة حكمهم من جرائم، كاغتيال السياسيين والأمنيين والعسكريين والمدنيين وتجنيد الشباب التونسي في الجماعات الإرهابية وتسفيرهم إلى بؤر القتال والتوتر وإفساد الحياة السياسية والعملية الديمقراطية الناشئة بالمال وشراء الذمم، على نحو ما كشفته الاتهامات التي وجهت إليهم خلال الشهور القليلة الماضية.

   لقد نما تصورٌ لدى الحركة الإسلاموية نابعٌ من رؤيتها الخلاصية أن التاريخ قد بلغ نهايته مع وصولهم إلى سدة الحكم، وأنه لا سبيل إلى إبعادهم عن السلطة لاسيما في ظل منظومة سياسية ودستورية وقانونية وُضعت على مقاسهم، غير أن ما جرى في 25 يوليو 2021 قد شكل انعطافةً كبرى، إذ وجدت حركة النهضة نفسها خارج دوائر الحكم ومنبوذة اجتماعيًا وقياداتها ملاحقة قضائيًا. ففي وقت سابق تم إيقاف قيادات من الوزن الثقيل داخل الحركة أهمهم نور الدين البحيري وزير العدل الأسبق، وعلي العريض رئيس الحكومة ووزير الداخلية الأسبق، وسيد الفرجاني النائب بمجلس نواب الشعب السابق والمعروف تاريخيًا بكونه أحد قادة المجموعة الأمنية السرية، وفوزي كمون مدير مكتب الغنوشي، إضافة إلى عبدالحميد الجلاصي القيادي المستقيل من الحركة. واليوم يجد الغنوشي نفسه رهن الإيقاف والتحقيق معه.

وتتناول هذه الورقة الحدث في عنصرين؛ تبحث في العنصر الأول أسباب هذا الحدث وملابسات وقوعه، وفي العنصر الثاني تستكشف دلالاته وتستشرف تداعياته الممكنة.

أولًا: في أسباب الإيقاف وملابساته

    تداول نشطاء في موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك مساء يوم الإثنين 17 إبريل الجاري خبر إيقاف راشد الغنوشي، ولاحقًا أعلن مصدر مسؤول بوزارة الداخلية لوكالة تونس أفريقيا للأنباء الرسمية أن عملية الإيقاف تمت على خلفية تصريحات تحريضية أدلى بها الغنوشي، وقد صدرت في شأنه مذكرة إيقاف من النيابة العمومية بالقطب القضائي لمكافحة الإرهاب، وقد صاحب الإيقاف عملية تفتيش لمنزله[1]. وقد أفاد الناطق الرسمي باسم الحرس الوطني يوم الثلاثاء 18 إبريل الجاري أن النيابة العمومية لدى المحكمة الابتدائية تونس 1 قد عهدت للفرقة المركزية الخامسة لمكافحة جرائم تكنولوجيا المعلومات والاتصال بمباشرة الأبحاث بخصوص تلك التصريحات[2]. وبعد ساعات من هذا الحدث، داهمت قوات الأمن المقر المركزي لحركة النهضة وقامت بتفتيشه، وأوقفت ثلاثة عناصر نهضوية من أعضاء المكتب السياسي للحركة وهم: محمد القوماني وبلقاسم حسن ومحمد شنيبة، ثم أصدر وزير الداخلية يوم الثلاثاء 18 إبريل الجاري قرارًا يقضي بمنع الاجتماعات بمقرات حركة النهضة في كامل البلاد وكذلك منع اجتماعات ما تُسمَّى “جبهة الخلاص الوطني” بمحافظات تونس الكبرى[3].

   وكان الغنوشي قد ألقى خلال مسامرة رمضانية، بمقر اعتصام ما يسمى بـ”جبهة الخلاص الوطني” المتكونة من مجموعة من الأحزاب والشخصيات، والتي تشكل حركة النهضة عمودها الفقري، كلمةً نُقلت على الصفحة الرسمية للجبهة على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك، وكان من أبرز ما جاء فيها النقاط التالية[4]:

  • ما حدث في 25 يوليو انقلاب على الثورة والديمقراطية.
  • الانقلاب لا يُحتفى به، بل ينبغي رميه بالحجارة.
  • احتفاء النخبة التونسية بالانقلاب فضيحة ينبغي إدانتها، وهم استئصاليون وإرهابيون ودعاة لحرب أهلية.
  • لا يمكن تصور تونس دون نهضة ودون إسلام سياسي، وهذا إجرام وهناك إعاقة فكرية وأيديولوجية تؤسس لحرب أهلية[5].

   يكشف النظر في هذه النقاط عن أمرين اثنين لافتين للانتباه؛ الأول: حجم المغالطات وعدم إدراك الواقع والانفصال عن حقائقه التي يتضمنها خطاب الغنوشي من جهة موقفه من حدث 25 يوليو 2021، وهو حدث اجتماعي بالأساس وجد صداه السياسي في قرارات رئيس الجمهورية، التي وجدت مساندة من فئات اجتماعية متنوعة بما فيها قطاعات من النخبة، ولم يدرك الغنوشي بالرغم من مرور ما يناهز سنة ونصف السنة على هذا الحدث أنه بات وحركتَه منبوذَيْن اجتماعيًا، ولم تفلح التحركات (ما يقارب 20 تحركًا) التي قاموا بها، ولاسيما في إطار “جبهة الخلاص” في تعبئة الشارع معهم ودفعه للانتفاضة على حكم الرئيس قيس سعيد، وقد أقر نجيب الشابي رئيس الجبهة بذلك[6].

 والأمر الثاني: كثافة معجم العنف والتهديد به الذي يتخلل الخطاب، وفي الواقع ليس الحديث عن الحرب الأهلية في صورة إقصاء النهضة جديدًا في خطابات الحركة الإسلاموية بتونس منذ 2011، فهو أحد ثوابت خطابها. ولئن كانت تلك التهديدات سابقًا، والنهضة ممسكة بمقاليد الحكم، أي وهي في موقع القوة؛ فكانت تُفهم على أساس أنها تنبيه للمعارضين حتى لا يُوغِلوا في “حلم” الإطاحة بها، فإن خطاب الغنوشي الأخير جاء في سياقٍ أصبحت فيه الحركة في أضعف مراحلها سياسيًا ومعزولة اجتماعيًا وشعبيًا وفاقدةً الدعم الداخلي والخارجي، وهو ما يدفع إلى ترجيح أن يُحمل خطابه هذه المرة على محمل الجد، وأنه يشكل فعلًا تهديدًا مقصودًا، إذ استنفدت الحركة كل محاولاتها الرامية إلى أن يتراجع الرئيس سعيد عن قراراته، وأن تجد معه سبيلًا للتفاهم، ولم يبق لها سوى اللجوء للعنف لفرض وجودها واستعادة موقعها على الساحة. وليس هذا الخيار غريبًا عن أدبيات الحركات الإسلاموية الإخوانية عمومًا، فالعنف مُكوِّن بنيوي في هذه الحركات، ويشهد تاريخها بأنها التجأت إلى التصادم مع الدولة، في إطار الصراع على السلطة، كلما مرت بمراحل الاستضعاف، ونكتفي هنا بالإشارة إلى خطة تحرير المبادرة التي وضعتها حركة النهضة عام 1991 لمواجهة الدولة في عهد حكم الرئيس الأسبق زين العابدين بن علي[7].

  ولفهم التطور الأخير الذي دفع إلى إيقاف الغنوشي على خلفية هذا التصريح- وهو أمر لم يحدث سابقًا بالرغم من خطورة القضايا المرفوعة ضده، على غرار قضايا تسفير الشباب إلى بؤر التوتر ودعم الإرهاب والاغتيالات السياسية والفساد المالي وتبييض الأموال؛ إذ كان يُترك في حالة سراح مع اتخاذ إجراءات كتجميد أرصدته المالية ومنعه من السفر-، ينبغي في تقديرنا استحضار المعطيات الداخلية والخارجية الآتية:

  • يبدو المشروع السياسي للرئيس قيس سعيد على وشك الاكتمال بعد إقرار الدستور وانتخاب أعضاء مجلس نواب الشعب الجديد، ولم يبق سوى انتخاب أعضاء الغرفة البرلمانية الثانية، وهي مجلس الجهات والأقاليم، وهو ما يضع حدًّا بصفة تكاد تكون نهائية “لحُلم” حركة النهضة وراشد الغنوشي بإيجاد تسوية سياسية تتيح له أن يجد مخرجًا “مشرفًا” له لمسيرته السياسية، وقد يكون بذلك قد اختار متعمدًا التصعيد بحثًا عن مواجهةٍ مع السلطة، يستعيد بها خطاب المظلومية.
  • لا تزال البلاد ترزح تحت وطأة أزمة اقتصادية ومالية خانقة من مظاهرها ارتفاع نسبة التضخم وفقدان مواد أساسية والضغط على المالية العمومية، وزادها تعثر الاتفاق مع صندوق النقد الدولي استفحالًا، وهو ما ينذر بالأسوأ خصوصًا من حيث تداعياتها الاجتماعية. وقد فشلت الحركة الإسلاموية في استغلال هذا الوضع لإثارة النقمة ودفع الناس إلى الانتفاضة، وهو ما قد يفسر مشاعر اليأس والخيبة التي تدفعها إلى الحلول القصووية، ومنها التهديد باللجوء إلى العنف، والتحريض ضد الجيش، على غرار ما صدر منذ أيام عن رفيق عبدالسلام صهر الغنوشي[8].
  • في اليوم الذي تم فيه إيقاف الغنوشي، استقبلت الدولة التونسية وزير الخارجية السوري فيصل المقداد في زيارة مطولة نسبيًا تمتد على ثلاثة أيام بعد الإعلان عن إعادة العلاقات الديبلوماسية بين البلدين، ولا يخفى ما لهذا المعطى من أهمية، لاسيما في ضوء التحركات الديبلوماسية العربية مؤخرًا تجاه سوريا، والملفات ذات الصبغة الأمنية التي قد تُفتح ويتم التعاون فيها بين تونس وسوريا في علاقة بقضية تسفير الشباب التونسي إلى هذا البلد، إبان حكم حركة النهضة خصوصًا في الفترة بين 2012 و2014.
  • قد يكون ما دفع السلطات التونسية على أن تأخذ خطاب الغنوشي على محمل الجد هذه المرة التطورات التي يشهدها السودان منذ 15 إبريل الجاري والمعارك الطاحنة الدائرة هناك[9]، مما قد يكون جعل السلطات تتوجس من انفجار وضع مماثل في تونس، فلم تكن القرارات التي اتخذتها سوى قرارات استباقية لتفادي الأسوأ حتى لا تدخل البلاد في وضع معارك مسلحة بين قوى الشرعية من جيش وأمن وجماعات مسلحة خارجة عن الشرعية وتسعى إلى فرض أجندتها السياسية على الدولة، خصوصًا في ضوء التهم التي تلاحق حركة النهضة بامتلاك جهاز سري من ناحية وترصُّد الجماعات الإرهابية المسلحة لحالات الهشاشة الأمنية، للعودة إلى تنفيذ عمليات إرهابية تهدد استقرار البلاد من ناحية أخرى.

  تقدم هذه المعطيات في تقديرنا تفسيرًا لعملية إيقاف الغنوشي، تأخذ بعين الاعتبار السياق الداخلي والخارجي لهذا الحدث الذي يشكل تطورًا غير مسبوق في علاقة الدولة التونسية بهذه الشخصية منذ عودته بعد 2011. وهو ما يجعل هذا الحدث محملًا بدلالات عدة، وقد تكون له تداعيات، إن على مستوى وطني تونسي أو على مستوى حركة النهضة.

ثانيًا: في دلالات الحدث وتداعياته

  ينطوي حدث إيقاف الغنوشي ومنع الاجتماعات بمكاتب حركة النهضة ومقارها على جملة من الدلالات، لعل من أبرزها أن هذا الرجل لم يعد يتمتع بما يتردد في بعض الأوساط من حصانة تجعله في منأى عن إيقافه وإيداعه السجن، ولاسيما أنه أُبقيَ في حالة سراح في كل القضايا المرفوعة ضده سابقًا، وأن خطابه هذه المرة المشحون بنزعة إلى العنف تجعله يقع تحت طائلة القانون. وقد تكون السلطة الحاكمة أرادت أن تبعث برسالة قوية، مفادُها أنها لم تعد تسمح بالخطابات التحريضية التي تهدد أمن الدولة واستقرار المجتمع، وأن لا أحد مهما يكن شأنه فوق المحاسبة القانونية، وهي رسالة إلى الداخل التونسي وإلى القوى الخارجية تشي بأن السلطات قد وطّدت أركان حكمها وهي تُمسك بإحكام بأجهزة الدولة ومؤسساتها، وأنها ماضيةٌ في التشبث بسيادتها الوطنية واستقلالية قراراتها، وهو ما ظهر في خطاب الرئيس قيس سعيد يوم الثلاثاء 18 إبريل الجاري بمناسبة الاحتفال بالعيد الوطني لقوات الأمن الداخلي[10].

إن ما حدث للغنوشي قد يكون فتح الباب للفصل الأخير من مسيرة الرجل المثيرة للجدل بين من يعدُّه من أنصاره زعيمًا ذا استراتيجية سياسية ثاقبة ورؤية فكرية مجددة، ومن يعدُّه شخصية منبوذة فاقدة للثقة والمصداقية وتثير الازدراء[11].

  وأما فيما يتعلق بقرار منع الاجتماعات في مقار حركة النهضة فقد يكون مُحمَّلًا بدلالتين؛ الأولى سعي السلطات التونسية إلى احتواء ردة فعل عناصر حركة النهضة إزاء ما حدث لزعيمهم وتجنب أن تكون تلك الاجتماعات تحضيرًا لتحركات تثير الفوضى والشغب. والثانية أن يكون هذا القرار تمهيدًا لحل الحركة إذا ما اتخذ القضاء التونسي حكمًا بإدانة راشد الغنوشي، وهو الممثل القانوني للحركة بوصفه رئيسها، بما يجعل الحركة برمتها مدانة، وهو ما قد يؤدي إلى حلها. وفي كل الأحوال يبدو وضع الحركة في تراجع، ولم تعد قادرة على استنفار عناصرها لمواجهة الإجراءات التي تتخذها الدولة منذ 25 يوليو 2021، وفقدت طاقتها على الحشد الشعبي للدفاع عن نفسها وعمّا يلاحق رئيسها من تهم وقضايا، بما يؤكد الهوة السحيقة التي باتت تفصل بينها وبين مختلف فئات المجتمع، فضلًا عما تشهده من مشاكل داخلية أدت إلى استقالة العديد من قياداتها.

  وأما في مستوى ردود الأفعال تجاه إيقاف الغنوشي والاحتفاظ به، فلعل أبرز ما يشد الانتباه أنه باستثناء حركة النهضة و”جبهة الخلاص” اللتين نددتا بهذه العملية وطالبتا بإطلاق سراحه[12]، فإن معظم مكونات الساحة السياسية والاجتماعية من أحزاب ومنظمات لازمت الصمت إلى حد الآن، ولم تصدر عنها مواقف إزاء هذا الحدث، في حين أبدت قطاعات أخرى ترحيبها بذلك[13].

  وعلى الصعيد المواقف الإقليمية والدولية لم يصدر إلى حد الآن من الموقف سوى ثلاثة وهي؛ المفوضية الأوروبية للشؤون الخارجية التي أصدرت بيانًا مفاده أنها تتابع بقلق شديد التطورات الأخيرة في تونس وخاصة إيقاف رئيس حركة النهضة راشد الغنوشي، بالإضافة الى تقارير حول غلق مقر الحركة. واعتبرت أن إيقاف الغنوشي يأتي ضمن سلسلة اعتقالات لشخصيات من مجموعات معارضة مختلفة، وأنها في انتظار توضيحات رسمية فإنها تشدد على ضرورة احترام حق الدفاع وتوفير محاكمة عادلة[14]. وأعرب الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن قلقه إزاء توقيف الغنوشي، وأنه سيتحدث إلى السلطات التونسية لينقل لها مخاوفه حيال هذا الحدث وليقول لها إنه لا يرى ذلك مناسبًا[15]. وأصدر المتحدث الإعلامي لجماعة “الإخوان المسلمون” في صفحة على موقع فيسبوك بعنوان “الإخوان المسلمون- المركز الإعلامي” بيانًا يدين فيه اعتقال راشد الغنوشي[16]. وباستثناء موقف الجماعة الإخوانية النابع من موقع التضامن الأيديولوجي والحركي فضلًا عن كونه صادرًا عن جماعة لا تحظى بالشرعية الدولية، فإن موقفي تركيا والاتحاد الأوروبي يقتصران على التعبير عن القلق والمطالبة بمحاكمة عادلة.

   ويبدو إيقاف الغنوشي في تقديرنا مفتوحًا في مستوى التداعيات على سيناريوهين اثنين؛ فأما الأول فهو أن تستكمل السلطات القضائية التونسية التحقيق معه في هذه القضية وغيرها من القضايا الأخرى المتعلقة به وتُصدِر أحكامها الباتة فيها في ظروف محاكمة عادلة تُحترم فيها كل الضمانات القانونية، فتدينه فيما يتحمل فيه مسؤولية وتبرئه فيما لا مسؤولية له عليه، وهو ما يسحب البساط إزاء خطاب المظلومية. وتتحمل حركة النهضة لاحقًا تبعات ذلك وتغلق جميع الملفات المفتوحة منذ سنوات لاسيما ملفات الاغتيالات السياسية والإرهاب والجهاز السري. وقد يحمل هذا السيناريو، إضافة إلى الفصل في القضايا الأخرى وخاصة قضية التآمر على أمن الدولة، دلالة عميقة على استعادة الدولة سلطتها على الجميع وتفرض، من خلال تطبيق القانون، هيبتَها من أجل مشهد سياسي خالٍ من العنف والإرهاب والفساد المالي. وأما السيناريو الثاني فهو أن تتراجع السلطات عن مواصلة مسار المحاكمة بتأثير عوامل داخلية عدة، كإمكانية حدوث اضطرابات، وهو أمر يبدو مستبعَدًا في رأينا في المستقبل المنظور أو ممارسات عنيفة تهدد استقرار المجتمع، أو عوامل خارجية، كتدخلات بعض القوى الإقليمية أو الدولية المعروفة بدعمها للحركات الإسلاموية الإخوانية. وفي هذه الحالة تبقى تلك القضايا معلقة، وباب الجدال حولها مفتوحًا، ويعطي الانطباع بأن هناك أطرافًا سياسية فوق المحاسبة القانونية، وهو ما قد يؤجج الصراع السياسي والاجتماعي.

خاتمة

  يبدو أن الغنوشي في خطابه الأخير قد اختار طريق المواجهة والصدام بعد فشل كل المحاولات في الفترة الماضية في احتواء السلطة أو إسقاطها عبر التحركات الشعبية، فأطلق تلك التصريحات المهددة بالحرب الأهلية دليلًا على ما يتخبط فيه وحركتُه، من خيبة ويأس في استعادة زمام المبادرة والعودة إلى ما قبل 25 يوليو 2021. وقد تلقفت السلطات التونسية الرسالة التحريضية وتصدت لها بكل حزم لتؤكد أنها ماضية في الإجراءات التي اتخذتها وأنه لا سبيل إلى العودة إلى المنظومة السابقة وأنها تحظى بالشرعية والمشروعية اللازمة لتفرض سلطانها وهيبتها على الجميع دون استثناء وأنه لا أحد فوق المحاسبة والقانون.

  وفي انتظار ما ستفرزه الأيام القادمة حول مسار التحقيق مع الغنوشي والسيناريوهات المحتملة له، يبدو المشهد التونسي مقبلًا على تطورات جسيمة قد تحدد مستقبل العملية السياسية في البلاد ومآل الأوضاع فيها؛ إما استعادة الاستقرار وبسط سيادة الدولة وفرض احترام القانون وإرساء قواعد حياة سياسية سليمة والاهتمام بإيجاد حلول للأزمة الاقتصادية المستفحلة، أو أن تسلك الحركة الإسلاموية أو بعض الجماعات الإرهابية سبيل الصدام والعنف وتتحدى الدولة فتزيد من هشاشة الوضع، وهو ما قد يبقي البلد في مهب العواصف.

المراجع

[1]  مصدر أمني يكشف أسباب إيقاف راشد الغنوشي، على الرابط: https://bit.ly/3Aa30BC

[2] تعهد الفرقة المركزية الخامسة لمكافحة جرائم تكنولوجيا المعلومات والاتصال بمباشرة الأبحاث بخصوص تصريحات راشد الغنوشي (الناطق الرسمي باسم الحرس الوطني(‎‎، على الرابط:https://bit.ly/41GR6uH

[3] بعد الغنوشي- توقيف ثلاثة قياديين آخرين لـ”النهضة” وإغلاق مقراتها، على الرابط:  https://bit.ly/3GYjOPB

[4] يمكن الاطلاع على كلمة الغنوشي على الرابط: https://bit.ly/41BHiSD

[5] تجدر الملاحظة هنا إلى أن الغنوشي يعود إلى إقرار انتسابه وحركته إلى الإسلام السياسي، بعد أن كان سابقًا ينفي ذلك ويتحدث عن كونهم إسلامًا ديمقراطيًا لا، وعلاقة لهم بالإسلام السياسي، وهو ما يثير الشكوك حول مدى نزاهته الفكرية ومصداقيته الأخلاقية.

[6] راجع كلمة الشابي على الرابط السابق نفسه.

[7] للتوسع راجع: فريد بن بلقاسم، علاقة حركة النهضة بأنظمة الحكم في تونس منذ نشأتها إلى 2022. على الرابط:

https://bit.ly/3KPNFe3

[8] منية غانمي، صهر الغنوشي يحرض ضد الجيش.. والنهضة لا يمثلنا. على الرابط: https://bit.ly/3UOScSJ

[9] تفجر الصراع في السودان: الأسباب والسيناريوهات المحتملة. على الرابط: https://bit.ly/3A6LJZY

[10] هايدي عبد المجيد، بعد القبض على الغنوشي.. قيس سعيد: نبني تاريخًا جديدًا لتونس. على الرابط: https://bit.ly/3A8IX6f

[11] ناجي بغوري، الشخصية الأكثر ازدراءً في تونس، ماذا تبقى له من ثقة؟ على الرابط:https://bit.ly/3KRwJUu

[12] بسمة بركات، سياسيون تونسيون: توقيف الغنوشي تطور خطير هدفه التنكيل بالمعارضين. على الرابط:

https://bit.ly/41wLenO

يجدر التنبيه إلى أن صاحبة المقال لم تذكر من السياسيين سوى عناصر من حركة النهضة وجبهة الخلاص والمنصف المرزوقي المقرب من حركة النهضة.

[13] محسن أمين، “لا عاش بتونس من خانها”.. إشادات واسعة بتوقيف الغنوشي. على الرابط: https://bit.ly/43HS9ME

[14] يمكن الاطلاع على هذا البيان على الرابط: https://bit.ly/41CMDsH

[15] أردوغان: سننقل مخاوفنا إلى السلطات في تونس حيال توقيف الغنوشي. على الرابط: https://bit.ly/3olAbiO

[16] انظر الصفحة على الرابط:  https://bit.ly/3Afolt2

المواضيع ذات الصلة