أعلن رئيس الحكومة الكندية، جاستن ترودو (53 عامًا)، يوم الإثنين 6 يناير 2025، تعليقَ عمل البرلمان حتى 24 مارس، واستقالته من منصبه، الذي يتولاه منذ 9 أعوام. قال ترودو، مبررًا استقالته: “اتضح لي أنه إذا اضُطرِرتُ إلى خوض معارك داخلية (داخل الحزب)، فلن أستطيع أن أكون رئيسًا للحكومة”. ولكن ترودو أكد أنه سيواصل تسيير الأعمال إلى أن يختار الحزب الليبرالي الكندي خليفةً له، خلال الأسابيع أو الشهور القليلة القادمة. يأتي ذلك بعدما واجه ترودو، في الفترة الأخيرة، معارضةً متزايدة داخل حزبه، وتراجعًا في شعبيته إلى أدنى مستوياتها في استطلاعات الرأي[1].
واتبع ترودو، وهو نجل رئيس الوزراء الأسبق، بيار ترودو (1968-1979 و1980-1984)، مسارات لا تؤهله لدخول المعترك السياسي، فهو حاصل على دبلوم في الأدب الإنجليزي والتربية، وعمل في أعمال لا تتصل بالعمل السياسي، قبل دخوله عالم السياسة عام 2008، ليصبح عام 2015 رئيس وزراء كندا، (ثاني أكبر دولة في العالم من حيث المساحة بعد روسيا، وبعدد سكان يقترب من 41 مليون نسمة)، وبمساحة تمتد على 6 مناطق زمنية، ويحدّها 3 محيطات، وتنقسم إلى 10 مقاطعات و3 أقاليم، وتعد أحد أكبر البلدان التجارية في العالم، وأغناها. فبالإضافة إلى قطاعها الخدمي النشط، فإنها تتمتع باحتياطي نفطي ضخم، وهي مصدر رئيسي للطاقة والمواد الغذائية والمعادن[2].
جعل ترودو، خلال فترة حكمه، كندا ثاني دولة في العالم تشرّع قانونًا لاستخدام الحشيش، وفرضَ ضريبة على الكربون، ووقّعَ اتفاقات تبادل حرّ مع أوروبا والولايات المتحدة والمكسيك، وقدّم اعتذارات رسمية عن الانتهاكات، التي تعرض لها السكان الأصليون في المدارس الداخلية، وأطلق برامج لتعويض الناجين وأسرهم[3].
وبالرغم من الاستقالة، فمن المتوقع أن يحضر ترودو في 20 يناير الجاري حفل تنصيب دونالد ترامب رئيسًا للولايات المتحدة.
تهدف تلك الدراسة القصيرة أولًا إلى إلقاء الضوء على أبرز عناصر السياق، الذي أدى إلى استقالة رئيس الوزراء الكندي، وتهدف ثانيًا إلى تحليل أهم التداعيات المحتملة لتلك الاستقالة.
السياق: حالة ركود زاد من وطأتها فوز ترامب بالانتخابات الأمريكية
من أهم الأسباب التي دفعت ترودو إلى خيار الاستقالة ما أكده محافظ بنك كندا السابق، ستيفن بولوز، من أن البلاد في “حالة ركود”، وأن المستهلك الكندي يعاني زيادة بنسبة 30% في تكلفة المعيشة، فضلًا عن أن كندا شهدت ارتفاعًا غير مسبوق في أسعار العقارات. وقد واجهت المدن الكندية، والمراكز الحضرية القريبة منها، أزمة إسكان متفاقمة ألقت بتداعيات ثقيلة على حياة مواطنيها. كذلك، شهدت كندا صعودًا تاريخيًا في أسعار المنازل، وفي قيمة الإيجارات، إلى جانب نقص حاد في البيوت المنخفضة التكلفة[4]، وهو ما هدّد صورة “الحلم الكندي”. فبعد 9 سنوات من وصول جاستن ترودو إلى حكم كندا، تتهمه الأحزاب المنافسة بأن تكلفة السكن تضاعفت في عهده، وارتفعت قيمة الإيجارات بنسبة 107%[5]، وأن تسعة من كل عشرة كنديين يعتقدون أنهم لن يحققوا أبدًا حلمهم في ملكية المنزل[6].
دفع ذلك الأمر حكومة ترودو، نهاية العام الماضي، لإعلان أنها ستخفّض بنسبة “كبيرة” تصل إلى 21% الحصصَ المخصصة للإقامة الدائمة للمهاجرين الجدد في البلاد، وذلك من بداية عام 2025. وبرّر جاستن ترودو ذلك بأن الهدف من ذلك هو “تحقيق استقرار في النمو الديموغرافي لكندا لإعطاء الحكومة، على كل مستوياتها، وقتًا كافيًا للحاق بالركب، وتنفيذ الاستثمارات الضرورية في مجالات الرعاية الصحية والإسكان والخدمات الاجتماعية”[7].
ورغم أن الولايات المتحدة لا تؤثر بشكل مباشر في الداخل الكندي، فإن السياسات الاقتصادية للجارة الأمريكية تترك ظلالها على أوتاوا، ولاسيما مع ارتباط البلدَين باتفاقيات تجارية مؤثرة، خاصة على الجانب الكندي. في هذا السياق، أجرت حكومة ترودو، خلال شهرَي نوفمبر وديسمبر الماضيين، مفاوضات مضنية؛ لتجنب حرب تجارية مع الولايات المتحدة. غير أنه يبدو أن المفاوضات، ومن بينها اجتماع ترودو مع ترامب في منتجع مارالاغو، لم تسفر عن نتائج ملموسة؛ ما زاد من الإحباط العام تجاه حكومة ترودو، التي اتُهمت بعمل “حيل سياسية مكلفة”، بدلًا من مواجهة الرئيس الأمريكي القادم بقوة، الذي يعتزم رفع الرسوم الجمركية على الواردات الكندية إلى 25%[8].
أدى هذا السياق إلى استقالة نائبة ترودو، كريستيا فريلاند، التي كانت تشغل أيضًا منصب وزيرة المالية، من الحكومة، مع تصاعد التوترات مع رئيس الوزراء بشأن الرسوم، التي يهدف ترامب إلى فرضها، وبشأن كيفية إدارة الحرب الاقتصادية، التي تلوح في الأفق مع الولايات المتحدة[9]. كانت فريلاند قد استقالت قبل ساعات فقط من موعد إصدارها أول خطة اقتصادية للبلاد، قبل تغيير الإدارة في واشنطن؛ ما دفع النائب الفيدرالي في أونتاريو، بيتر فراجيسكاتوس، الذي يمثل دائرة لندن-نورث سنتر، إلى المطالبة برحيل زعيم حزبه، جاستن ترودو، حيث قال، في مقابلة مع شبكة سي بي سي: “في الوقت الحالي، أصبحت قيادة رئيس الوزراء ترودو لا يمكن الدفاع عنها، خاصة في ضوء ما حدث مع [كريستيا] فريلاند”[10]. في هذا السياق، فقَدَ ترودو الكثير من شعبيته، وأثبتت استطلاعات الرأي أن أرقام شعبيتة لعام 2024 هي الأسوأ في فترة ولايته رئيسًا للوزراء[11]، ويأتي ذلك أيضًا بعد انفصاله عن زوجته، في أغسطس 2023، بعد 18 عامًا من الزواج.
أظهرت ردود الفعل في الداخل الكندي ما أكده إيف فرانسوا بلانشيت، زعيم الكتلة الكيبيكية، بشأن أن الجميع أراد رحيل ترودو. فمن جانبه، صرح بيير بويليفر، رئيس حزب المحافظين في كندا، رئيس المعارضة الرسمية، بأن رحيل ترودو هو الطريقة الوحيدة لإصلاح ما حدث من فساد. وأعلن رئيس الحزب الديمقراطي الجديد (NPD)، جاجميت سينغ، أن المشكلة لا تعود إلى جاستن ترودو، وأن الحزب الليبرالي لا يستحق فرصة أخرى. من جانبها، صرحت اليزابيث ماي، زعيمة حزب الخضر، بأن جاستن ترودو، الذي اختار أن يصبح مدرسًا للغة الإنجليزية، قبل عمله في السياسة، لم يكن مستعدًا أبدًا للسير على خطى والده، رئيس الوزراء الأسبق بيار ترودو (1968-1979 و1980-1984)[12].
فضلًا عن ذلك، عبرت صحف كندية عن ارتياحها لاستقالة ترودو، فرأت جريدة مونتريال أن استقالة جاستن ترودو كانت نتيجة مباشرة لفشله الذريع؛ فببقائه فترة طويلة في السلطة، أغرق البلاد في حالة من عدم اليقين[13].
تداعيات محتملة للاستقالة: ديناميكيات داخلية جديدة واستمرارية جيوسياسية
بعد إعلان استقالة جاستن ترودو مباشرة، ارتفع الدولار الكندي؛ فقد ربحت العُملة الكندية 0.71% إلى 0.6969 دولار[14].
على المستوى الدولي، علّق الرئيس الأمريكي المنتخب، دونالد ترامب، على استقالة رئيس الوزراء الكندي، جاستن ترودو، قائلًا “إنه إذا اندمجت كندا مع الولايات المتحدة، فستستفيد من الناحيتين الأمنية والتجارية، وإن العديد من الناس في كندا يرغبون أن يكونوا الولاية (الأمريكية) رقم 51، وإنه لم يعد بإمكان الولايات المتحدة أن تتحمل العجز التجاري الهائل والإعانات التي تحتاج إليها كندا للبقاء واقفةً على قدميها، وإن جاستن ترودو كان على علم بذلك واستقال”[15].
يثير هذا الخطاب لدى الكنديين شجونَ فترةٍ حالكة في العلاقات بين واشنطن وأتاوا، وذلك عندما اعتقدت الولايات المتحدة أنه سيكون من السهل عليها غزو كندا، فشنت غزوًا في يونيو من عام 1812 وأحرقت عام 1813 مبنى الحكومة، ومبنى البرلمان في يورك (تورنتو حاليًا). ردًا على ذلك، قاد الجنرال روبرت روس عام 1814 حملة من نوفا سكوشا الكندية، أحرقت البيت الأبيض وغيره من المباني العامة في واشنطن العاصمة؛ ما مهّد، في نهاية عام 1814، لفشل المحاولة الأمريكية لغزو كندا[16]. لذا، من المتوقع أن يتخذ رئيس الوزراء القادم مواقف أكثر صرامة تجاه تصريحات ترامب.
من جانب آخر، ليس من المتوقع أن تتغير السياسة الخارجية لكندا؛ فمن غير الوارد أن يتغير الدعم الثابت لكييف من أوتاوا. فكندا المؤسساتية وحلفاؤها في حلف الناتو، ومجموعة الدول الصناعية السبع الكبرى لا تتوانى عن التصريح بعدم التوقف عن دعم أوكرانيا وسلامة أراضيها، وسيادتها واستقلالها، ومواجهة التصرفات الروسية، مثل استخدامها صواريخ باليستية متوسطة المدى.
وليس من المتوقع أيضًا أن تغيّر أوتاوا من خطابها، الذي تعبر من خلاله عن القلق العميق إزاء التعاون الصيني- الروسي، خاصة في القطب الشمالي، وفي الحرب في أوكرانيا، حيث تعتقد كندا وحلفاؤها بأن دعم بكين لموسكو حاسم في الحفاظ على حربها غير القانونية. فضلًا عن ذلك، غالبًا ما ستحتفظ كندا، بغض النظر عن ماهية رئيس وزرائها القادم، بدعم المفاوضات الجارية؛ من أجل التوصل إلى تسوية دبلوماسية بين إسرائيل وحزب الله وحماس.
بالإضافة إلى ذلك، ستسعى أوتاوا قدمًا، في قيادة مجموعة الدول الصناعية السبع، في سياق رئاستها لها عام 2025، إلى قيادة أجندة تركز على مجابهة مخاطر الذكاء الاصطناعي، واستخدامه في العمل المناخي في الوقت نفسه، نظرًا لأن كندا ليست فقط رائدة في مجال المواهب البشرية الفردية في مجال الذكاء الاصطناعي؛ وإنما لديها أيضًا العديد من مراكز الذكاء الاصطناعي الديناميكية، وذات السمعة العالمية في مونتريال، وتورنتو، وأوتاوا، وإدمونتون[17].
ربما ستختلف الأمور في الداخل الكندي؛ فعلى سبيل المثال، كان قد زاد حجم الدولة الفيدرالية من مؤسسات وتعيينات جديدة وتأثير تحت حكم جاستن ترودو. وسيؤدي رحيل ترودو إلى عدم اليقين بشأن مستقبل المؤسسات والوظائف العامة، حيث إن الاتجاه في العالم يتجه لتقليصها، وليس العكس كما فعل ترودو[18].
أيضًا، من المحتمل أن تشهد ساحة الأحزاب السياسية بعض التحولات الفكرية؛ نتيجة لتغير السياقات داخل كندا والعالم، وربما ستشهد البلاد ظهور أحزاب جديدة، أو شخصيات مستقلة يمكن أن تؤثر في مستقبلها.
الخاتمة
يرى بعض المراقبين أن انتهاء حقبة ترودو ليس فقط نهاية لمسيرة رئيس الوزراء السياسية، ولكنها أيضًا نهاية لبعض الأفكار، التي كانت سائدة عن كندا[19]. فالسياقات الحالية تمهّد لبيئة كندية مليئة بديناميكيات جديدة تؤدي إلى تغيرات جديدة على المشهد الكندي الداخلي، وليس على علاقات البلاد الخارجية، وذلك على المدَيين المتوسط والبعيد.
[1] Canada: les dessous de la démission du Premier ministre Justin Trudeau, Sud-Ouest, 07/01/2025
[2] Bienvenue au Canada, Ce que vous devriez savoir,
https://www.canada.ca/content/dam/ircc/migration/ircc/francais/pdf/pub/bienvenue.pdf
[3] https://ici.radio-canada.ca/nouvelle/1129155/cannabis-marihuana-legalisation-decriminalisation-monde
[4] Jordan Gowling, ‘We’re in a recession,’ says former Bank of Canada governor Stephen Poloz, Dec 04, 2024, https://financialpost.com/news/economy/bank-of-canada-stephen-poloz-says-recession
[5] Les faits: La crise du logement va s’aggraver sous Trudeau, le Parti conservateur,
https://www.conservateur.ca/les-faits-la-crise-du-logement-va-saggraver-sous-trudeau/
[6]Les faits: Toronto est devenue l’une des villes les plus chères au monde sous Trudeau, le Parti conservateur,
[7] كندا: خفض “كبير” في الحصص المخصصة لإقامة المهاجرين الدائمة اعتبارًا من العام المقبل، فرانس 24، 25/10/2024،
[8] Michael Wayland, Trump’s 25% tariff could be an existential threat to Canada’s recovering auto industry, Dec 23, 2024,
[9] Théo Bourrieau, Canada: pourquoi le premier ministre Justin Trudeau a démissionné, 6 janvier 2025, L’humanité,
[10] Olivia Bowden, Canada’s deputy PM resigns from cabinet as tensions with Trudeau rise over Trump tariffs, 16 Dec 2024, https://www.theguardian.com/world/2024/dec/16/chrystia-freeland-resigns-canada-trump
[11] Jesse Tahirali, Trudeau’s 2024: Did the PM become less popular this year?, CTVNews, Dec. 21, 2024,
https://www.ctvnews.ca/canada/trudeau-s-2024-did-the-pm-become-less-popular-this-year-1.7152469
[12] Démission de Justin Trudeau: le bilan libéral à la fois salué et critiqué, Radio Canada, https://ici.radio-canada.ca/info/en-direct/1012267/justin-trudeau-annonce-avenir-politique
[13] La démission de Justin Trudeau est un échec retentissant, Le journal de Montréal, 6 janvier 2025,
[14] Hausse du dollar canadien: Justin Trudeau démissionne, Boursorama, 06/01/2025,
[15] “الولاية 51”.. ترامب يجدد رغبته باندماج كندا مع الولايات المتحدة: ستكون آمنة تمامًا، CNN العربية، 7يناير 2025،
https://arabic.cnn.com/world/article/2025/01/07/trump-canada-should-become-the-51st-us-state-trudeau
[16] La guerre de 1812, qu’est-ce au juste?, Radio-Canada, 8 juin 2018, https://ici.radio-canada.ca/nouvelle/1105851/guerre-1812-histoire-maison-blanche-canada-etats-unis-archives
[17] Pan-Canadian Artificial Intelligence Strategy, 2024-12-03, https://ised-isde.canada.ca/site/ai-strategy/en
[18] Départ de Justin Trudeau: un nuage d’incertitude plane sur la fonction publique,
https://ici.radio-canada.ca/nouvelle/2130989/fonction-publique-demission-justin-trudeau
[19] Canada: les dessous de la démission du Premier ministre Justin Trudeau, Sudouest.fr avec AFP, 07/01/2025,