مقدمة:
في الاقتصادات الحديثة، صار من الطبيعي تعاظم ونمو مكانة قطاع الخدمات[1] ضمن القطاعات الاقتصادية المولّدة للناتج المحلي الإجمالي، بما في ذلك مكانته في الاستثمار والتوظيف والتصدير. ولقد زادت باطراد مساهمة الأنشطة الخدمية في توليد الناتج المحلي حتى تجاوزت في العديد من الاقتصادات نصف هذا الناتج؛ ففي المملكة المتحدة مثلاً، بلغت مساهمة قطاع الخدمات في القيمة المضافة المولدة خلال العام 2020 نحو 72.8% من إجمالي القيمة المضافة المولدة في ذلك العام[2]. وكان من نتيجة ذلك أن زادت التشابكات القائمة بين أنشطة الإنتاج الخدمي وباقي أنشطة الاقتصاد الوطني، كما زادت آثار قطاع الخدمات في تحديد اتجاهات النمو الاقتصادي؛ بل ولعب هذا القطاع دوراً حاسماً في تسريع التعافي الاقتصادي من الآثار السلبية لجائحة كورونا في بعض دول العالم.
وفي تفسير هذه الطفرة الكبيرة لقطاع الخدمات في الاقتصادات المتقدمة والنامية على السواء، يمكن الإشارة لدور التكنولوجيا الحديثة في هذا الصدد، ومؤخراً دور وسائل التواصل الاجتماعي المعتمدة بالأساس على ما قدمته التكنولوجيا من أدوات ووسائل حديثة. فلقد وفرت التكنولوجيا الوسائل الضرورية لتنوع الأنشطة الخدمية واتساعها، كما ساهمت في زيادة قاعدة المستهلكين للمنتجات الخدمية المتنوعة، بما في ذلك الخدمات الشخصية وخدمات الترفيه المختلفة. كما لعبت الدعاية والإعلان دوراً مهماً في زيادة الطلب على الخدمات الترفيهية والخدمات المرتبطة بها والمتشابكة معها؛ بما أدى في النهاية إلى زيادة في نمو مكانة هذه الخدمات في القيمة المضافة المحلية.
ونظراً لأن أنشطة كرة القدم تعدُّ في مقدمة الأنشطة الخدمية في عدد كبير من الاقتصادات الحديثة، ونظراً لأنها تمثل مكانة استثمارية وتشغيلية وتصديريه مهمة في اقتصادات متقدمة عدة في قارة أوروبا كالاقتصاد البريطاني، فيحاول هذا المقال إلقاء الضوء على ذلك عبر تناول ثلاثة أفكار رئيسية: الأولى استعراض لمؤشرات عامة للمكانة الحالية لقطاع كرة القدم والدوري الممتاز في الاقتصاد البريطاني. والثانية كيف ساهم هذا القطاع في تسريع التعافي البريطاني من تبعات وتداعيات جائحة كورونا خلال الفترة 2020-2021. أما ثالثة هذه الأفكار وأكثرها أهمية فهي الدروس المستفادة التي يمكن استخلاصها من التجربة البريطانية في تعظيم العوائد الاقتصادية المولدة من أنشطة قطاع كرة القدم باعتباره أحد مكونات القطاع الخدمي في الاقتصادات الحديثة.
أولاً: مؤشرات عامة لمساهمة قطاع كرة القدم في الاقتصاد البريطاني:
هناك شواهد عدة على أن صناعة كرة القدم صارت صناعة رابحة عالمياً، وفي القارة الأوروبية بصفة خاصة. وتتجلى قصة نجاح هذه الصناعة أوروبياً فيما يحدث في الدوري الإنجليزي الممتاز المعروف بأنه الأقوى على كوكب الأرض، ليس لما به من إثارة فحسب، بل لما يدور في فلكه أيضاً من أرقام ضخمة تؤثر إيجابياً في الاقتصاد البريطاني. ووفقاً لتقرير حديث عن مساهمة أنشطة الدوري الإنجليزي الممتاز في الأداء الاقتصادي والاجتماعي البريطاني[3]، فإن أهم الآثار الاقتصادية له تمثلت في الآتي:
- بلغت القيمة المضافة المولدة في الاقتصاد البريطاني من الأنشطة الاقتصادية المرتبطة بطريقة مباشرة وغير مباشرة بالدوري الإنجليزي نحو 7.6 مليار جنيه إسترليني في العام 2019/2020. وتمثل هذه المساهمة نسبة مهمة من القيمة المضافة السنوية التي تولدها الأنشطة الاقتصادية البريطانية.
- بلغت قيمة الوظائف التي ترتبط بأنشطة الدوري الإنجليزي نحو 94 ألف وظيفة خلال العام 2019/2020.
- وصلت مساهمة الأنشطة الاقتصادية المرتبطة بالدوري الإنجليزي في تمويل حصيلة الضرائب البريطانية نحو 3.6 مليار جنيه إسترليني في العام 2019/2020. وقد مثلت هذه الحصيلة الضريبية نمواً مقداره 50٪ في المساهمات الضريبية للأنشطة الكروية منذ 2013/2014.
- زادت مساهمة الدوري الإنجليزي في نمو الناتج المحلي الإجمالي البريطاني بمعدل 840% منذ الموسم الكروي في العام 1998/1999.
- وعلى صعيد الصادرات، بلغت قيمة حقوق البث الخاصة بالدوري الإنجليزي المباعة للأسواق الدولية[4] نحو 1.4 مليار دولار في العام 2019/2020.
ولقد تحققت الآثار الإيجابية السابقة على الاقتصاد البريطاني نتيجة لعدة عوامل موضوعية؛ ففي الموسم العادي تمتلك أندية الدوري الإنجليزي أكثر من نصف مليون حامل تذكرة موسمية وأعلى معدل إشغال في جميع دول أوروبا. وفي كل موسم هناك نحو 43 مليون شخص يشاهد الدوري الإنجليزي على شاشة التلفزيون في المملكة المتحدة وحدها، في حين أن المشاهدات الدولية لهذا الدوري تصل نحو 3.2 مليار مشاهدة دولية. وبطبيعة الحال، تعني المؤشرات السابقة طلباً متنامياً على الأنشطة الكروية والأنشطة الاقتصادية المرتبطة بها والمتشابكة معها.
ثانياً: كيف ساهمت أنشطة كرة القدم في تعزيز التعافي البريطاني من جائحة كورونا:
واجه القائمون على تنظيم الدوري الإنجليزي الممتاز جائحة فيروس كورونا نهاية العام 2019 بطريقة احترافية رغم الخسائر التي تعرضت لها الرابطة بمنع حضور الجماهير ما اضطر الرابطة إلى تقليص عمليات الإنفاق المالي على قطاعات عدة ليس من بينها أجور العاملين، فقد التزمت الرابطة بوعودها التسويقية للشركات التي اشترت حقوق البث مع إعادة مبلغ 330 مليون جنيه إسترليني للقنوات الناقلة بعد اتفاق تم بينهما لتعويض الخسائر التي خلفتها أزمة كوفيد-19. وكان للدور الوطني الذي لعبته أندية الدوري الإنجليزي ورؤساء الأندية في هذه الفترة أثر كبير في دفع عجلة البطولة الأشهر لتدور مرة أخرى بكامل قوتها في الموسم الموالي.
فلقد تأثرت أنشطة قطاع كرة القدم بشدة بالإغلاق والإجراءات الاحترازية التي تقررت وتم فرضها لمنع انتشار فيروس كورونا بين جماهير الأندية الإنجليزية ومشجعيها. فمن ناحية، قللت هذه الإجراءات من العائد المتأتي من بيع تذاكر حضور المباريات. كما كان لهذه الإجراءات آثار غير مباشرة على الاقتصاد البريطاني، بفعل انخفاض الحصيلة المتوقعة للضرائب على الأنشطة المرتبطة بقطاع كرة القدم. ومن الآثار غير المباشرة أيضاً الأثر الذي تركته هذه الإجراءات على الوظائف المباشرة وغير المباشرة في هذا القطاع. لكل ذلك، كان من الضروري تطوير وابتكار سياسات تعالج الآثار السلبية لهذه الأزمة على الإيرادات الخاصة بالأندية الإنجليزية.
ولقد اتفقت الأندية الإنجليزية على توزيع عادل لمبلغ 2.6 مليار جنيه إسترليني فيما بينها لكي تراعي ظروف جائحة كورونا. فالفائز بالدوري الإنجليزي وقتها كان نادي مانشستر سيتي المملوك لمجموعة سيتي لكرة القدم التي تديرها مجموعة أبوظبي المتحدة للتنمية والاستثمار نالت نصيب الأسد بسبب النجاح الباهر للفريق في البطولة السابقة؛ ما زاد من حجم الإعلانات والاستثمارات التي تندرج تحت اسم النادي في البطولة. ويوضح الجدول التالي التوزيع المقترح للعوائد المتوقعة لكل نادٍ من الأندية الإنجليزية في حقوق البث:
جدول توقعات العوائد التي ستتلقاها الأندية الإنجليزية من حقوق بث الدوري الإنجليزي [5]
وفيما يخص المعايير التي تم الاعتماد عليها لتوزيع عوائد البث للفرق المكونة للدوري الإنجليزي الممتاز، فإنها تتلخص في النظام الأساسي للرابطة والذي خرج للنور بعد دراسات مستفيضة ومتغيرة كل موسم مع كبرى شركات المحاسبات المالية في البلاد. وقد بنيت هذه المعايير على خمسة بنود يتم من خلالها توزيع الأموال، وهي كالتالي:
- استحقاق المال: Merit Money: بمعنى التوزيع حسب ترتيب الأندية في البطولة السابقة، ونسبتها 25٪ من عائدات بيع حقوق النقل داخل بريطانيا.
- رسوم المنشأة Facility Fees: بمعنى التوزيع حسب المباريات المنقولة تلفزيونياً لكل فريق ونسبتها 25% من عوائد حقوق البث.
- حصص التلفزيون المحلي Equal Share domestic TV: وتعني التوزيع العادل والمتساوي بين الأندية لقيمة 50% من حقوق البث المتبقية داخل بريطانيا من المبلغ الأساسي 50٪.
- حصة من البث الدولي Equal Share overseas TV: بمعنى التوزيع العادل والمتساوي من قيمة النسبة الأكبر لحقوق البث التلفزيوني خارج بريطانيا.
- مصادر أخرى للدخل Other Income بمعنى توزيع المداخيل المالية الأخرى من إيرادات الإعلانات حول الملعب وإعلانات الإذاعات التي تملك حقوق البث داخل بريطانيا، ومن مدة قريبة تم إدخال حقوق البث الرقمي وتوزيع هذا الجزء بالتساوي على الأندية.
إن هذا النظام الموضوعي الذي لا يمكن رؤيته في أي دوري آخر حول العالم قد عزز من برنامج التعافي البريطاني من تداعيات الجائحة. ولم يكتف بذلك، بل ساهم في إنعاش الأداء الاقتصادي البريطاني بحسب دراسة أجرتها مؤسسة E&EFinancial Services الأمريكية. فقد أوضحت هذه الدراسة أن الدوري الإنجليزي ساهم في دعم الاقتصاد البريطاني في ظل جائحة كورونا بأن ضخ نحو سبعة مليارات وستمائة مليون جنيه إسترليني في الخزينة البريطانية خلال سنوات الجائحة.كما أكدت الدراسة أن مباريات الدوري الأشهر حول العالم حققت نحو ثلاثة مليارات مشاهدة حول العالم في موسم الجائحة.
وتجدر الإشارة أيضاً إلى أن رابطة الدوري الإنجليزي تدرس حالياً مشروعاً جديداً ببيع حقوق البث لمنصات المشاهدة المدفوعة مُسبقاً مثل Netflix وAmazon. حيث ترغب الرابطة في بيع كل مباراة على حدة عن طريق الاشتراكات في المنصتين مع تغيير قيمة البيع من قارة إلى أخرى حتى تتمكن من الوصول لكل بيت في العالم من خلال الهاتف مستقبلاً، وليس عن طريق القنوات التلفزيونية.
ثالثاً: أهم الدروس المستفادة من التجربة البريطانية في تعزيز الأنشطة الخدمية المرتبطة بكرة القدم:
في ضوء العرض المتقدم، يمكن استخلاص أربعة دروس مستفادة من تحليل الآثار الاقتصادية لكرة القدم ودورها في تسريع التعافي وتعزيز النمو الاقتصادي البريطاني، وهي:
- إن ريادة قطاع الخدمات في الأداء الاقتصادي لا تعني فقط قيمة ما يولده من قيم مضافة سنوية، فالمهم أن تتمتع هذه الريادة بالاستقرار والاستدامة في مواجهة الجوائح والأزمات، وأن تتمكن من خلق الوظائف المنتجة والتي تتسم بالاستقرار. ويتطلب ذلك دوراً معززاً لنوعية تنموية من الأنشطة الخدمية، ونوعية تتمتع بالقبول الجماهيري، ولديها طلب مستقر ومتصل على ما تقدمه من منتجات، كما هو الحال في أنشطة الدوري الممتاز الإنجليزي.
- تشكل السياسات والبرامج والتنظيمات الحكومية المعززة لقدرات الصادرات الخدمية ضمانة أساسية لنجاح قطاع الخدمات في توليد القيمة المضافة الوطنية. ويمكن لصادرات حقوق البث للخدمات المختلفة – كما هو الحال في حقوق بث مباريات كرة القدم – أن تشكل رافداً مهماً للصادرات الخدمية.
- إن المسؤولية الاجتماعية للشركات، بما فيها الشركات العاملة في قطاع الخدمات وإدارة النوادي والأنشطة الرياضية، تعدُّ عاملاً حاسماً في برامج التصدي لتبعات وتداعيات الجوائح والأزمات على الاقتصادات المحلية. ولتعزيز هذه المسؤولية الاجتماعية، يجب الاعتماد على معايير علمية وموضوعية في توزيع الأعباء والمسؤوليات على الشركات، سواء كانت تنتج سلعاً أو خدمات.
- نظراً لأن التكنولوجيا الحديثة، ولاسيما التكنولوجيا الرقمية، تلعب أدواراً متنامية في الاستقرار والنمو الاقتصادي؛ فإن المزيد من تطوير وتوطين هذه التكنولوجيا، والمزيد من تهيئة البنى الأساسية اللازمة لها، والمزيد من الجاهزية لرأس المال البشري للريادة التكنولوجية – كل ذلك سيمثل رافداً مهماً في تعزيز القيمة المضافة المحلية. كما أن توظيف منصات ووسائل التواصل الاجتماعي ومنصات التجارة الإلكترونية للخدمات والمنصات القائمة على الاقتصاد التشاركي – تمثل كلها فرصاً لا يجوز تفويتها؛ من أجل استدامة النمو الاقتصادي في الدول التي تخطو خطوات ثابتة نحو التنمية الاقتصادية والاجتماعية الشاملة في المستقبل.
المراجع
[1]. يعرّف البنك الدولي أنشطة قطاع الخدمات بأنها تتمثل تجارة الجملة والتجزئة (بما في ذلك الفنادق والمطاعم) والنقل والخدمات الحكومية والمالية والمهنية والشخصية، مثل التعليم والرعاية الصحية والخدمات العقارية. كما يتم أيضاً تضمين رسوم الخدمات المصرفية المحتسبة ورسوم الاستيراد وأي اختلافات إحصائية في جمع البيانات الوطنية، بالإضافة إلى التناقضات الناشئة عن إعادة التقييم، راجع الرابط: https://databank.worldbank.org/reports.aspx?source=world-development-indicators
[2].راجع في ذلك بيانات البنك الدولي على الإنترنت، في الرابط: https://databank.worldbank.org/reports.aspx?source=world-development-indicators
[3]. راجع في ذلك التقرير على الرابط: https://2u.pw/Jrn8w.
[4]. هذا المبلغ الذي قد يتضاعف كل ثلاثة أعوام، عندما تقرر رابطة الدوري الإنجليزي بيع الحقوق لشبكات التلفزيون حول العالم، وقد نجحت شبكتا sky sports وBT sports في الحصول على هذه الحقوق في السنوات الثلاث الماضية.
[5]مصدر بيانات هذا الجدول هو الرابط:https://2u.pw/XdA4T