بعد نحو عشر سنوات على نشوب الأزمة الليبية، ما تزال الحلول السياسية بعيدة المنال والأوضاع الميدانية عصية على الحسم النهائي، غير أن تطورات الأشهر القليلة الماضية المهمة ربما تفرز تحولات في الأوضاع الليبية ميدانياً وسياسياً في ضوء تعاظم حجم التدخل العسكري التركي، وما أثاره إقليمياً ودولياً من حالة استنفار فتحت الأزمة الليبية على كل المآلات في ضوء تفاعل نتائج العسكرة التركية للأزمة، ومحاولات إحياء التسوية السياسية.
لقد وضعت هذه التطورات ليبيا في سباق بين المسارين السياسي والعسكري، الأمر الذي جعل مصيرها رهناً بتفاعلات معقدة داخلياً وخارجياً، وفرض علينا بالتالي في هذه الورقة تناوله بالدرس والتحليل حتى نتمكن من تحديد في أي اتجاه ستؤول الأوضاع في ليبيا، وذلك من خلال النظر في خارطة التحالفات المتصارعة، ورصد التفاعل بينها على المستويين السياسي والعسكري.
الأزمة الليبية: خارطة التحالفات المتصارعة
شهدت ليبيا منذ انتفاضة الـ 17 فبراير 2011 التي أطاحت بالقذافي بعد تدخل حلف شمال الأطلسي (ناتو) ودول أخرى، تطورات متلاحقة وضعتها ضمن دائرة الدول التي توصف بـ”الفاشلة”، ولا سيما مع تزايد الصراعات الداخلية على السلطة وانتشار الميليشيات المسلحة والجماعات الإرهابية وتعددها على أراضيها؛ ففي الوقت الذي كان فيه مأمولا مع سقوط نظام القذافي وتدخّل المجتمع الدولي لفرض عملية انتقال سلمي للسلطة، أظهرت تطورات الأحداث حقيقة مرة مفادها أنّ بوفاة العقيد الليبي تهاوت الدولة بكل أجهزتها لأنها بُنيت على شخص القذافي[1].
وعقب قتل القذافي في أكتوبر 2011، تولي المجلس الوطني الانتقالي إدارة شؤون الدولة برئاسة الوزير السابق مصطفى عبد الجليل حتى تسليمه السلطة للمؤتمر الوطني العام المنتخب في أغسطس 2012، حينها رفضت القوى السياسية الموالية للإخوان الانتخابات التي أجريت، ونشب صراع بين حكومة طرابلس وحكومة طُبرق حتى ديسمبر 2015 تاريخ توقيع اتفاق الصخيرات[2] بإشراف أممي أفرز “حكومة وفاق وطني” تدير المرحلة الانتقالية لمدة ثمانية عشر شهراً، مع الاعتراف بمجلس النواب المنتخب الذي اعتمد من معظم القوى الموافقة عليه في 6 أبريل 2016.
غير أن الانقسامات والصراعات الداخلية سرعان ما عادت لتعصف بوحدة الصف الليبي، ولا سيما بعد اتضاح اتجاه حكومة الوفاق الداعم لتمكين التيارات الإسلامية المتطرفة، الأمر الذي دفع بالمشير خليفة حفتر في ديسمبر 2017 إلى الإعلان أن الاتفاق السياسي الليبي الموقع في الصخيرات بالمغرب قد انتهت صلاحيته بعد انتهاء الفترة الزمنية المحددة له، ومعه ولاية “حكومة الوفاق الوطني”، وبدأ من ثم في التحرك عسكرياً لمطاردة الجماعات المتطرفة الموالية لهذه الحكومة، وهو الصراع الذي اتسع وأخذ أبعاد إقليمية ودولية وما زال تداعياته إلى الآن.
ولتعميق الفهم بطبيعة الصراع والأزمة الليبية، يتعين بداية توضيح خارطة الفاعلين، والتحالفات المتصارعة، وأهداف كل منها ودود التقارب والتباعد في ما بينها. ويمكن، في هذا السياق، الإشارة إلى ثلاثة محاور أو مجموعات رئيسية، حسب ما يلي[3]:
- مجموعة غرب ليبيا (طرابلس وحلفاؤها):
مركزها طرابلس، وتمثلها حكومة الوفاق المنبثقة من اتفاق الصخيرات برئاسة فائز السراج. وتضم مجموعات مسلحة وميليشيات بعضها تابع مباشرة لتلك السلطة السياسية، وبعضها الآخر موالٍ لها، وإن لم يكن جزءاً من التشكيلات المسلحة الرسمية التابعة لها، وترتبط هذه المجموعة بشبكة تحالفات قوية تصل إلى حد الدعم المباشر من جانب بعض الدول الإقليمية، خصوصاً قطر وتركيا[4]؛ وعلى المستوى الدولي تحظى هذه الحكومة باعتراف الأمم المتحدة وتدعمها بعض القوى الدولية مثل إيطاليا.
- مجموعة شرق ليبيا (طبرق):
يشكل “الجيش الوطني الليبي” الكيان الداخلي الأبرز في هذه المنطقة، ويقوده المشير خليفة حفتر. تأسس هذا الكيان عام 2014 تحت مظلة البرلمان الليبي، ويسيطر فعلياً على معظم مناطق الشرق الليبي. كما استطاع في الأشهر الأولى من عام 2019 مد نفوذه إلى بعض مناطق الجنوب والغرب، بتفاهمات وتوافقات قبلية أحياناً[5] وبمواجهات مسلحة أحياناً أخرى[6]. وتحظى هذه المجموعة التي ترفع شعار مكافحة الإرهاب بدعم قوى إقليمية منها مصر والإمارات، وقوى دولية منها فرنسا وروسيا.
- أطراف شبه محايدة:
لا تتبنى هذه الأطراف مواقف مسبقة مع أو ضد، ولا تنحاز لأي من الشرق أو الغرب؛ وتتمثل هذه المجموعة بشكل أساسي في معظم مكونات وقبائل الجنوب داخل ليبيا. ومن خارج ليبيا الجزائر وتونس في الجوار المباشر، وبعض الدول الأوروبية مثل ألمانيا[7]، ويمكن ضم الولايات المتحدة إلى هذه المجموعة لأن مواقفها من الصراع وأطرافه غامضة ومتناقضة، فأحيانا تنسق مع حكومة الوفاق وتعتبرها الشرعية، وأحيانا تنسق مع حفتر باعتباره شريكاً في مكافحة الإرهاب.
ويتلخص موقف هذه المجموعة بشكل عام في الحرص على عدم انزلاق ليبيا إلى حالة الفوضى الشاملة، أو الخضوع إلى سيطرة بعض القوى والمكونات السياسية والمجتمعية وإقصاء أخرى، بما يتنافى مع متطلبات الاستقرار، ويُفضي بالتالي إلى انتقال حالة عدم الاستقرار إلى خارج ليبيا. لذا، تحتفظ هذه المجموعة من الدول بعلاقات متوازنة مع كل أطراف الملف الليبي، سواء المتحاربة حالياً داخل ليبيا أو الدول الخارجية متعارضة المصالح[8].
مستجدات الأزمة
شهدت الأزمة الليبية خلال الأشهر القليلة الماضية، وتحديداً منذ أواخر عام 2019، تصعيداً ملحوظاً مدفوعاً بتكثيف تركيا تدخل العسكري في الأزمة بالتزامن مع تزايد الجهود السياسية والدبلوماسية للتوصل إلى تسوية سلمية لها، لمنع اتساع نطاق الصراع؛ وهو ما يمكن توضيحه على النحو التالي:
- التدخل العسكري التركي وتحولات المشهد الميداني
المَلمَح الأبرز في ما تشهده ليبيا منذ عدة أشهر، هو غلبة الخيارات العسكرية على السياسية، مع تعدد المواجهات بين قوات “الجيش الوطني الليبي” بقيادة حفتر، والقوات التابعة لـ”حكومة الوفاق الوطني” مدعومة بفصائل إسلامية مسلحة ومجموعات قبلية، وسعي كل منها إلى حسم الصراع عسكرياً.بدأت وتيرة العمليات العسكرية تتسارع قبل عام تقريباً، وتحديداً منذ 3 من أبريل 2019 حين أعلن حفتر إطلاق عملية “تحرير طرابلس”، وزحف “الجيش الوطني الليبي” لإنهاء سيطرة “حكومة الوفاق الوطني” على العاصمة؛ وقد حقق حفتر حتى نهايات عام 2019 مكاسب متتالية واقترب كثيراً من طرابلس، بعدما سيطر على معظم المناطق المهمة استراتيجياً غرب ليبيا، غير أن هدفه الأساسي لم يتأتى بعد لجوء “حكومة الوفاق الوطني” بقيادة السراج إلى تركيا التي أبرم معها مذكرتي تفاهم حول ترسيم الحدود البحرية بينهما في مياه المتوسط والتعاون العسكري والدفاعي.قامت تركيا بموجب هاتين المذكرتين بتقديم مساعدات عسكرية عاجلة إلى طرابلس، شملت أنماطاً وأشكالاً متنوعة من الدعم بما فيها الخبراء، والتسليح، والمعلومات الاستخبارية، والمشاركة الفعلية في مجريات المواجهات الدائرة، خصوصاً باستخدام الطائرات المسيرة، وبعض القطع البحرية التركية في مياه المتوسط[9]. وقد كان لهذا التدخل العسكري التركي المباشر دوراً كبيراً في الحيلولة دون خضوع طرابلس لسيطرة “الجيش الوطني الليبي”.وبعد انعقاد مؤتمر برلين في 19 يناير 2020، شهد الموقف العسكري أسابيع من الهدوء النسبي، غير أن عدم إحراز مسارات التفاوض التي دشنها مؤتمر برلين أي تقدم أدى إلى استئناف القتال وارتفاع سقف أهداف الجانبين، بهدف تحقيق تفوق ميداني ومكاسب عسكرية تكفل تغيير موازين القوة وبالتالي دعم المواقف التفاوضية في المسار السياسي؛ فعمقت أنقرة على هذا الأساس تدخلها في المعارك بتقديم منظومات تسليح متقدمة، ونقل أعداد من المقاتلين التابعين لفصائل إسلامية مسلحة من سوريا إلى غرب ليبيا[10].لقد شكل هذا الدور العسكري الذي اضطلعت به تركيا نقطة مفصلية في تغيير الأوضاع على الأرض، حيث تمكنت “حكومة الوفاق الوطني” في أسابيع قليلة من استعادة السيطرة على الشريط الساحلي بين طرابلس والحدود التونسية، ثم الاستيلاء على “قاعدة الوطية العسكرية”، وبعدها مدينة “ترهونة” ذات الأهمية الجيواستراتيجية، والتي كانت تمثل مركزاً رئيسياً للقيادة والسيطرة لدى “الجيش الوطني الليبي”.محصلة هذه التطورات المهمة، أن الميزان العسكري الذي كان يميل بشكل واضح لصالح قوات حفتر لعام كامل (أبريل 2019 – أبريل 2020) عاد إلى التوازن بين الجانبين؛ ورغم استمرار العمليات العسكرية، وخروج طرابلس وأنقرة بتصريحات حول الاستمرار في القتال والاتجاه شرقاً بدءاً من سرت. إلا أن التحركات الإقليمية وردود الأفعال الدولية على هذه التطورات، كشفت أن الأطراف الإقليمية المعنية بالملف الليبي وقوى العالم الكبرى، لن تسمح بانقلاب الأوضاع على الأرض الليبية بسيطرة “حكومة الوفاق الوطني” على شرق ليبيا، وانفرادها بالسلطة السياسية في عموم البلد.كما يُشار إلى أن بعض الأطراف الإقليمية المعنية مباشرة بالوضع في ليبيا، وخاصةً مصر، بدأت تنظر إلى هذه التطورات الميدانية بمنظور أمني – دفاعي، لما تمثله من تأثير مباشر على أمنها بحكم الجوار الجغرافي بين البلدين. وجاء، في هذا السياق، خطاب الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي يوم 20 يونيو 2020 الذي أعلن فيه أن سرت والجفرة خط أحمر لأمن مصر القومي، وهدد بـ “تدخل مباشر” للقوات المصرية إذا لم تلتزم حكومة الوفاق وميليشياتها بالخطوط الحمراء المصرية، معتبراً أن أي تدخل مباشر من الدولة المصرية ينحها الشرعية الدولية سواء في إطار ميثاق الأمم المتحدة لجهة حق الدفاع عن النفس أو بناء على السلطة الشرعية الوحيدة المنتخبة من الشعب الليبي، مجلس النواب[11].
- تذبذب المسار السياسي:لم تشهد الأوضاع السياسية في ليبيا استقراراً منذ الإطاحة بالقذافي ومقتله عام 2011 نتيجة لعوامل متداخلة داخلية متمثلة في غياب الإجماع وانعدام التوافق بين المكونات الاجتماعية والسياسية الليبية على خلفية تباينات قبلية وعشائرية قديمة، وتناقضات جذرية في الرؤى وتوجهات سياسية يصعب تجاوزها ولا تقبل الحلول الوسط خصوصاً مع وجود قوي ونفوذ ملحوظ في بعض المناطق الليبية لقوى وجماعات إسلامية متنوعة من الإخوان والسلفية وداعش والقاعدة.ومع استمرار الاضطراب والانفلات الأمني، تحولت الساحة الليبية كذلك إلى مصدر جذب لموجات متتالية من الإرهابيين والمرتزقة. وتوجت هذه العوامل بالطموحات الشخصية وتطلعات بعض الرموز والقادة المحليين نحو السلطة، لتتضافر معاً وتحول دون التوصل إلى توافقات ولو نسبية أو صيغ سياسية مقبولة تلبي مصالح مختلف القوى والمكونات وتعكس أوزانها النسبية دون تهميش أي منها.ووفقاً لبعض التحليلات[12]، لم تكن أي انتخابات أو عملية سياسية لتنجح وسط تعقيدات داخلية خصوصاً المشكلات والاختلافات داخل كل من معسكري الشرق والغرب، والتي تشكل بيئة غير مواتية وتُفقد أي تحرك سياسي كالانتخابات مثلاً جدواها وحيادها؛ فضلاً عن تعارض حسابات المواقف الإقليمية والخارجية بين تأييد ومعارضة تمثيل ووزن القوى الإسلامية الليبية في أي صيغة سياسية سواء للمستقبل أو خلال المرحلة الانتقالية وبذلك تكون أي انتخابات لا يكون الداخل الليبي مُهيَئاً لها وتحظى بتوافق خارجي، ستؤدي إلى مزيد من الفوضى أو على الأقل مؤسسات لا تتمتع بالشرعية التي تتطلب رضا مجتمعي وتمثيل متوازن لكافة مكونات المجتمع.بالإضافة إلى هذا، كانت (وما تزال) السيطرة الفعلية على الأرض موزعة بين مراكز قوى متعددة الأمر الذي كان يعني وجود صعوبة تصل حد الاستحالة، لتدشين أي عملية تصويت تتسم بالحياد والنزاهة دون تأثر بسطوة الميليشيات والقوى القبلية والمجموعات المسلحة؛ ثم أصبح الواقع الليبي أكثر تعقيداً واستعصاء على التفكيك، حيث تشكلت خلال السنوات الماضية قوى ومجموعات لها مصلحة مباشرة في عدم التوصل إلى حل سياسي، بدوافع ليست كلها سياسية، فأصبح هناك ما يشبه منظومة شبكية تتقاطع خيوطها بين القبلية، والفساد، والانتهازية السياسية والإرث الثأري، فضلاً عن الارتباطات المعروفة لبعض القوى والتيارات بأطراف خارجية.تعثرت، على هذه الخلفية، كل جهود المبادرات التي أطلقت لتعزيز المسار السياسي في ليبيا سواءً تلك التي استندت إلى المشاركة الشعبية وصناديق الاقتراع، مثل “المؤتمر الوطني العام” أو بالمفاوضات والاتفاقات بين القوى السياسية والاجتماعية على غرار ما حدث في “اتفاق الصخيرات” الذي أُبرمت صياغته النهائية[13] في 17 ديسمبر 2015، ولم يكتمل تنفيذه حتى الآن[14].غير أن الاختلافات وعوامل التناحر والتباينات الداخلية، لم تكن لتنجح وحدها في تعطيل استقرار ليبيا سياسياً، ما لم تجد تلك العوامل بيئة خارجية حاضنة، سواء على المستويين الإقليمي أو العالمي، إذ يوجد انقسام يصل إلى حد التعارض في حسابات وتقديرات الدول المنخرطة في الملف الليبي، خصوصاً من منظور المصالح والتهديدات. وقد لعب هذا التعارض دوراً مهماً في تعطيل المسار السياسي، بالإيعاز إلى قوى داخلية لتعطيل التفاهمات والعمل على تسيير المرحلة الانتقالية بما يخدم مصالح وتقديرات تلك الأطراف الخارجية. وانعكس هذا التدخل غير المباشر واضحاً في تهرب “حكومة الوفاق الوطني” من تنفيذ التزاماتها بموجب اتفاق الصخيرات، خصوصاً تلك المتعلقة بالترتيبات الأمنية ونزع سلاح الميليشيات.
ومع ذلك، فقد شهدت الأزمة الليبية العديد من المبادرات والجهود المهمة التي توصلت إلى مجموعة من التفاهمات والأسس التي يمكن البناء عليها للتوصل إلى تسوية سلمية، ومن أبرزها:
مؤتمر باليرمو الذي عقد يومي 12 و13 نوفمبر 2018 في إيطاليا بحضور أطراف الأزمة الليبية وعددٍ من القوى الإقليمية والدولية ودول الجوار الليبي، والذي أكد أيضًا أهمية احترام نتائج الانتخابات، ومحاسبة أولئك الذين يُعرقلون إجراءها. وشدد المؤتمر على رفض الحل العسكري في ليبيا، واعتماد الاتفاق السياسي الليبي المتفق عليه (اتفاق الصخيرات)، كإطار وحيد قابل للتطبيق من أجل مسار دائم نحو الاستقرار في ليبيا[15].
مؤتمر برلين الذي انعقد في 19 يناير 2020 بمشاركة 11 دولة معنية بالأزمة الليبية، بعد إخفاق محاولة موسكو وأنقرة تثبيت اتفاق لوقف القتال؛ ورغم أن المؤتمر انعقد على خلفية التصعيد العسكري التركي، وتصريحات أنقرة بإرسال قوات تركية إلى ليبيا، إلا أن مخرجاته مثلت نقلة في اتجاه التسوية على خلاف ما سبقه من لقاءات واجتماعات سواء دولية أو إقليمية. كما تبنى المؤتمر منظوراً يتسم بدرجة عالية من الشمولية في الاقتراب إلى التسوية السياسية إذ راعى ضرورة معالجة كل الملفات العالقة وليس الاقتصار على اتفاق سياسي بمعزل عن الواقع الميداني وتعقيداته.
وبموجب مقررات مؤتمر برلين، تم تشكيل لجان منفصلة للتفاوض في كل ملف أهمها اللجنة الأمنية والعسكرية التي عقدت بالفعل اجتماعين في شهر فبراير 2020، ثم تعطلت الاجتماعات بسبب عدم توقف القتال واستمرار العمليات العسكرية. كما اتفق المشاركين في المؤتمر أن “لا حل عسكريا للنزاع”، وتعهدوا باحترام حظر الأسلحة الذي فرضته الأمم المتحدة عام 2011 على ليبيا.
إعلان القاهرة الذي جاء في أعقاب التحول الذي طرأ على موازين القوى على الأرض واستعادة قوات “الوفاق الوطني” السيطرة على مناطق غرب ليبيا، جعل مصر تبادر إلى استضافة لقاء جمع المشير خليفة حفتر والمستشار عقيلة صالح رئيس البرلمان الليبي. وقد مثل اللقاء محطة مهمة في التنسيق والتفاهم بين الطرفين الأساسيين في شرق ليبيا (البرلمان والجيش الوطني).
وأسفر هذا اللقاء عن إصدار بيان تحت عنوان “إعلان القاهرة” يدعو إلى وقف القتال، ويرسم خارطة طريق لحل سياسي شامل لكل القوى والمكونات الليبية؛ ورغم أن مبادرة مصر تضمنت تفاصيل كاملة وإجرائية للحل السياسي، ولقيت تأييد عربي واسع وترحيب بعض القوى الخارجية خصوصاً روسيا وفرنسا، إلا أن دولاً أخرى، منها الولايات المتحدة مالت إلى إحياء مسار برلين كأساس لاستئناف التفاوض[16].
موسكو وأنقرة وسيناريو “سوتشي ليبيا”
لم يكن التدخل العسكري التركي هو المتغير الوحيد المهم في المشهد الليبي، حيث شهد الدور الروسي أيضاً بروزاً واضحاً في هذا المشهد بتواتر تقارير عدة تشير إلى دخول موسكو على خط الأزمة بشكل غير مباشر من خلال عناصر تابعة لشركة “فاغنر” الأمنية التي تقدم خدماتها لقوات “الجيش الوطني الليبي”. وتضمن أحد تقارير الأمم المتحدة معلومات تفصيلية في هذا الخصوص[17]. كما وجهت الولايات المتحدة اتهامات مباشرة إلى روسيا بإرسال طائرات مقاتلة لليبيا للغرض نفسه[18].
وبحكم الارتباط المباشر بين المسارين العسكري والسياسي، فإن الدورين الجديدين (التركي والروسي) سرعان ما امتدا إلى النطاق السياسي، فبعد مشاورات وتنسيق روسي- تركي، بادرت موسكو إلى استضافة مباحثات غير مباشرة بين فائز السراج والمشير خليفة حفتر في 13 يناير 2020. وطرحت موسكو على الطرفين صيغة مبدئية لاتفاق لوقف القتال، وافق عليها السراج فوراً، بينما رفض حفتر التوقيع عليها وغادر موسكو الأمر الذي أرجعه أحد كبار القادة في الجيش الوطني الليبي إلى أن: “توقيع الاتفاق كان يعني اعترافا بشرعية حكومة الوفاق، وبالتالي اعتراف بصحة توقيعها للاتفاق الأمني والبحري مع تركيا”[19].
وما يثير الانتباه أكثر، في هذا السياق، هو أن محاولة موسكو وأنقرة سبقت موعد انعقاد مؤتمر برلين بأيام فقط، ما كان يشير بالفعل إلى رغبة روسية – تركية مشتركة لتولي زمام المسار السياسي، والاستفادة من بروز الحضور الميداني والدور العسكري لكل منهما في المشهد الليبي لإبرام اتفاق “سوتشي ليبيا”، عبر تكرار سيناريو التفاهم الروسي – التركي في سوريا أو ما يُعرف باتفاق “سوتشي”[20]؛ وهو التوجه الذي قوبل بقلق وتحفظ أوروبي وعربي، لذا تم الضغط على حفتر لعدم توقيع أي اتفاق في موسكو. كما أعلنت فرنسا صراحة أن مستقبل ليبيا يجب أن يحدده الليبيون وليس مصالح قوى خارجية[21].
سيناريوهات معقدة:
لاشك أن الحديث عن مستقبل الأزمة الليبية في ظل هذه التشابكات والصراعات وتباين المصالح يصبح أمراً في غاية الصعوبة. فالحديث عن سيناريوهات التسوية والصراع تبدو متساوية، بالنظر إلى تداخل المسارين السياسي والعسكري في الأزمة الليبية، وهذا ما أثبتته تطورات العامين الأخيرين، وخصوصاً مستجدات الأشهر القليلة الماضية، فالعلاقة بين المسارين أقرب إلى علاقة الفعل ورد الفعل، ولذا تأتي النتائج على أحد المسارين “تالية” زمنياً على مسبباتها في المسار الآخر.
ومن اللافت أنه كلما طال الوقت الفاصل بين التطورات التي يعرفها المسارين، كان التأثر أعمق وأشد وضوحاً. ولعل الأطراف المنخرطة في الملف الليبي بدأت تدرك هذه الآلية أو المنهج المميز للعلاقة بين الميداني والسياسي، وهو ما يفسر تصاعد النشاط الدبلوماسي والمساعي الحثيثة التي بدأت تجري مؤخراً (منذ أسابيع) لاحتواء تداعيات التحول الميداني الجذري الذي نجم عن التدخل العسكري التركي، والذي بدأ قبل أكثر من ستة أشهر.
وما يزيد من تعقيد المشهد الليبي هو تعدد الأطراف الإقليمية والدولية المتداخلة في الأزمة وتعارض مصالحها بشكل كبير للغاية بشكل يجعل أي حديث عن تسوية محتملة أمراً في غاية الصعوبة، وكذلك الحال بالنسبة للحسم العسكري، إضافة إلى تبدُلات مواقف هذه الأطراف بين فترة وأخرى. فمن ناحية، لاشك أن كلاً من روسيا وتركيا قد أصبحا فاعلين رئيسيين وشريكين أساسيين في مجريات الأزمة وإدارتها، سواء على المستوى الميداني أو السياسي، ولكن الصراع بينهما محتدم على الأرض. كما أن أي توافق بينهما لن يحظى بقبول الأطراف الأخرى العربية والأوروبية التي لا تريد “مسار سوتشي” أخر في ليبيا يخضع لهيمنة تركيا وروسيا فقط.
من ناحية أخرى، يبدو الموقف الأمريكي غامضاً وغير واضح ولا سيما في ظل تعارض مصالح حلفاء واشنطن في الساحة الليبية وتصارعهم، ورغم أنها بدأت تميل قليلا إلى موقف حكومة السراج وتركيا بسبب التدخل الروسي الداعم للطرف المقابل، فإن مواقفها ما تزال متوازنة وغير حاسمة، وهو ما أدى إلى تراجع وزنها النسبي في إدارة هذه الأزمة.
وزاد من هذا التراجع، انشغال الإدارة الأمريكية الحالية بالأوضاع الداخلية، في ظل أزمات وملفات متلاحقة تشمل أزمة “كوفيد-19″، والتظاهرات المضادة للعنصرية، فضلاً عن قيود ومقتضيات أجواء عام الانتخابات الرئاسية التي تجري في نوفمبر المقبل، وغلبة التوجه الانعزالي بصفة عامة على السياسة الخارجية الأمريكية في عهد ترامب، وإن كانت بعض الدراسات الأمريكية، بدأت تنصح إدارة ترامب بتنشيط دورها في ليبيا مجدداً، وتبني مواقف أكثر قوة وإيجابية في مواجهة المستجدات التي تضع ليبيا أمام تحدي الفوضى، وتمثل تحدياً أمام واشنطن والغرب عموماً[22].
ومن ناحية ثالثة، ما يزال الموقف الأوروبي يعاني من الانقسام والتعارض الواضح بين مصالح دوله، ولا سيما بين إيطاليا وفرنسا، وهو الانقسام الذي أضعف هذا الموقف وجعله هامشياً. كما أثيرت تساؤلات عديد مؤخراً حول عدم قدرة أوروبا على وقف تدفق الأسلحة والمسلحين من تركياً إلى ليبيا عبر البحر بالرغم من مهمة “إيريني” التي أطلقها الاتحاد الأوروبي في مايو 2020 لمراقبة تنفيذ حظر الأسلحة على ليبيا. رغم أن هناك مؤشرات وتقارير عدة بدأت تشير إلى تقارب وتنسيق أوروبي في مواجهة هذه الأزمة بعد التدخل العسكري التركي والتدخل الروسي وما يفرضانه من تحديات وتهديدات لمصالح أوروبا في ليبيا والمنطقة.
أما على المستوى الإقليمي العربي، فإن الأمر أصبح أكثر خطورة ولا سيما مع تنامي مخاطر التغلغل التركي الذي عزز حالة الاستنفار في دول المنطقة، وخاصة الدول المحورية فيها، التي تدرك خطورة الأزمة في ليبيا، سواء من جهة تأثير عدم الاستقرار الداخلي والفوضى الأمنية والسياسية على محيط ليبيا الإقليمي وجوارها الجيواستراتيجي أو من زاوية النموذج الذي تطرحه أو تروجه تطورات الوضع الداخلي الليبي في المنطقة العربية؛ وهو نموذج شديد السلبية والخطورة في أكثر من اتجاه، خاصة بالنسبة للملفات والصراعات القائمة في بلدان أخرى في المنطقة، تحديداً سوريا واليمن.
كما أن النموذج الليبي من شأنه أن يشجع الجماعات المسلحة والفصائل الإرهابية، فضلاً عن جماعات الإسلام السياسي بمختلف تنويعاتها، على التمسك بالعنف والفوضى وسيلة للبقاء ولعب أدوار وتأمين مكاسب لنفسها أو لحساب أطراف وقوى خارجية، هذا ما يستدعي إليه جانب آخر لا يقل خطورة في ذلك النموذج، حال استمراره، وهو المتعلق بالاستقواء بأطراف خارجية واستدعاء دول أو قوى خارجية للتدخل المباشر لترجيح كفة داخلية على أخرى. ولا يتوقع، في هذا السياق، أن يستمر الصمت العربي في مواجهة التدخلات التركية أو أن يتم السماح لأنقرة وميليشياتها بالسيطرة على ليبيا. وهنا تبرز بصورة خاصة تصريحات الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي يوم 20 يونيو 2020 وتهديده بالتدخل المباشر في ليبيا والدعم العربي الواسع الذي لقيته هذه التصريحات.
إن كل هذه العوامل تجعل الأزمة الليبية مفتوحة على كل الاحتمالات من خلال:
- سيناريو “سورنة ليبيا”، الذي يجري على قدم وساق، من خلال التدخل المتزايد من قبل تركيا وروسيا في الصراع، ومن خلال قيام أنقرة بنقل آلاف المسلحين والإرهابيين من سوريا إلى ليبيا.
- سيناريو التقسيم طويل الأمد الذي يبدو محتملا أيضاً مع استمرار دعم القوى الخارجية لطرفي الصراع والتدخل المباشر لمنع أي طرف من تحقيق الحسم العسكري على الطرف الآخر.
- سيناريو التسوية السلمية الذي يظل مطروحاً في جميع الأحوال، وهو أفضل السيناريوهات لأنه يجنب ليبيا مزيد من الفوضى والدماء، ولكن هذا السيناريو يحتاج أولاً إلى توافقات واسعة بين مختلف القوى الإقليمية والدولية التي لا يهم بعضها دماء الليبيين أو مصالحهم.
- السيناريو العسكري المفتوح الذي تزداد احتمالاته مع استمرار الغطرسة التركية وتدخلاتها الفجة في ليبيا.
خاتمة
لقد وصلت الأزمة الليبية إلى مستويات خطيرة من التعقيد وأصبحت تنذر بصراع إقليمي ودولي جديد ومفتوح على الأراضي العربية. وما لم يتم تدخل الأطراف الدولية الفاعلة ولا سيما الولايات المتحدة، والأمم المتحدة لوضع حد لهذا الصراع، فإن عواقبه ستكون خطيرة على جميع القوى ومدمرة على أبناء الشعب الليبي.
وملامح هذه التسوية معروفة، وهي ترك الأمور للشعب الليبي لاختيار من يريد أن يحكمه بعملية انتخابية شفافة وذات مصداقية، وإخراج جميع القوات والميليشيات المرتزقة من ليبيا، وكذلك الجماعات المتطرفة التي لا تشكل خطر على الشرق الأوسط فقط، بل وكذلك على أوروبا.
[1] علي نوار (مترجم)، “كيف يمكن حل الأزمة الليبية؟”، موقع حفريات، 8 يناير 2020.
[2] “الازمة الليبية بين الصراعات الداخلية والاقليمية والدولية”، الهيئة العامة للاستعلامات في مصر، 15 فبراير 2020.
([3]) سامح راشد، ﻣﺂﻻﺕ ﺍﻷﺯﻣﺔ ﺍﻟﻠﻴﺒﻴﺔ بين الحرب ﻭاﻟﺴﻴﺎﺳﺔ، فصلية “شؤون عربية”، العدد 187 (جامعة الدول العربية، صيف 2019)، ص ص 94 – 95
([4]) تُوجه لقطر وتركيا اتهامات بتقديم الدعم بأشكال متعددة ليس فقط لحكومة طرابلس، لكن أيضاً لجماعات وميليشيات مسلحة في غرب ليبيا. انظر: https://bit.ly/2EbgoZx
([5]) https://www.al-monitor.com/pulse/originals/2019/03/libya-hifter-lna-south-operation-elections-sarraj.html
([6]) https://bit.ly/2WcbF3S
([7]) https://p.dw.com/p/3HVAX
([8]) سامح راشد، ﻣﺂﻻﺕ ﺍﻷﺯﻣﺔ ﺍﻟﻠﻴﺒﻴﺔ بين الحرب ﻭاﻟﺴﻴﺎﺳﺔ، مصدر سابق، ص 96
([9]) ليبيا: هل يخوض أردوغان مغامرة وقودها السوريون؟، موقع “بي بي سي”، 8 يونيو 2020.
https://www.bbc.com/arabic/middleeast-52959311
[11] ” السيسي: تجاوز سرت والجفرة “خط أحمر” لمصر.. وأي تدخل لنا في ليبيا تتوفر له شرعية دولية”، موقع سي إن إن عربي، 20 يونيو 2020، على الرابط: https://arabic.cnn.com/middle-east/article/2020/06/20/sis-egypt-libya-sirte-gna-lna?hpt=related-article
([12]) https://www.foreignaffairs.com/articles/libya/2018-06-19/wrong-way-fix-libya
([13]) تم التوقيع بالأحرف الأولى على صيغة أولية لاتفاق الصخيرات في 11 يوليو 2015، وخلال الفترة بين الصيغتين المبدئية والنهائية، خضع الاتفاق للتحليل والتقييم، وتوقعت بعض الدراسات فشله بسبب الانقسامات الداخلية والتناقضات الخارجية. لمزيد من التفصيل، يمكن الرجوع إلى:
Wolfram Lacher, Supporting Stabilization in Libya: The Challenges of Finalizing and Implementing the Skhirat Agreement, SWP Comment 2015/C 36, (Berlin: German Institute for International and Security Affairs, July 2015).
https://www.swp-berlin.org/fileadmin/contents/products/comments/2015C36_lac.pdf
([14]) لتفاصيل وتطور المسار السياسي منذ 2011 إلى اتفاق الصخيرات:
د. أحمد موسى بدوي، مخاطر تفكيك الدولة: ليبيا بين إرهاصات التحول الديمقراطي، (القاهرة: المركز العربي للبحوث والدراسات، 14 يناير 2016).
[15] ” الازمة الليبية بين الصراعات الداخلية والاقليمية والدولية”، مرجع سابق.
[16])) حول بنود “إعلان القاهرة” مواقف الأطراف منه ومقارنته بمقررات برلين، انظر:
كميل الطويل، مسار الحل الليبي: ما الفرق بين «إعلان القاهرة» و«مخرجات برلين»؟، جريدة “الشرق الأوسط”، 13 يونيو 2020.
([17]) تقرير أممي مسرب: مئات المرتزقة من “فاغنر” الروسية يقاتلون في ليبيا، موقع “بي بي سي” 7 يونيو 2020.
https://www.bbc.com/arabic/world-52579118
([18]) الولايات المتحدة تتهم روسيا بإرسال طائرات مقاتلة إلى “مرتزقة” روس، موقع “بي بي سي”، 26 مايو 2020.
https://www.bbc.com/arabic/middleeast-52810749
([19]) ورد ذلك على لسان مدير إدارة التوجيه المعنوي بالجيش الوطني الليبي، خالد المحجوب. التفاصيل في:
أشرف عبد الحميد، الجيش الليبي يكشف “خدعة” تركيا لتمرير اتفاق موسكو، موقع قناة “العربية”، 20 يناير 2020.
[20] بهاء الدين عياد، “سيناريو “سوتشي ليبيا” يثير قلق الأوروبيين بعد جولات “الوفاق” بين موسكو وأنقرة”، موقع اندبندت عربية، 4 يونيو 2020.
[21] ” وزير الخارجية الفرنسي: مستقبل ليبيا يجب أن يحدده الليبيون وليس مصالح قوى خارجية”، صحيفة المصري اليوم، القاهرة، 3 يونيو 2020.
([22]) Frederic Wehrey and Jalel Harchaoui, How to Stop Libya’s Collapse, Foreign Affairs, 7 January 2020.
https://www.foreignaffairs.com/articles/libya/2020-01-07/how-stop-libyas-collapse