يُعَدُّ تحقيق الأمن –بمفهومه العام- أحد أهم المسؤوليات التي تقع على كاهل الدول، بيدَ أنَّ تطوُّر التهديدات قد غَيَّر هذا الفهم إلى حَدٍّ كبير. فمنذ نهاية الحرب الباردة، ومع تنامي ظاهرة العولمة، أصبح الوضع الدولي أكثر تعقيدًا، وباتت حياة الملايين مُهدَّدة بالصراعات، لا سيّما بعد أن أضافت العولمة بُعْدًا جديدًا لانعدام الأمن، يتحدّى نهجه التقليدي، إذ إن حركة الأشخاص والأموال والسلع والأفكار والمعلومات باتت تحدثُ بسرعة، وعبر الحدود وداخلها. وقد شهدت العقود الأخيرة ظهور مجموعة واسعة من التهديدات الأمنية الجديدة على المستويين الوطني والعالمي، بما فيها التهديدات المتعلقة بالصراعات العرقية والإثنية، والحروب الأهلية، والتطرف، وتغيُّر المناخ، والتجارة غير المشروعة، والجريمة المنظمة، والتهديدات البيئية، وزيادة الأمراض الوبائية، وعدم الاستقرار الناجم عن النزوح والهجرة الجماعية للسكان، وانتشار أسلحة الدمار الشامل. وأدى هذا الكم الهائل من التهديدات المتشابكة -والسريعة التحوُّل- إلى ظهور العديد من التغيُّرات في الخطابات الوطنية والدولية، وفي طريقة صُنع السياسات فيما يتعلق بالتدخلات في الصراعات. ولم يَعُدْ من الممكن لأي دولة أن تنهض وحدها بحماية مواطنيها من خلال تعزيز آلياتها الرقابية فقط، حيث إن الدول والمجتمعات الآن -أكثر من أي وقت مضى- باتت تعتمد على إجراءات الدول والمجتمعات الأخرى من أجل أمنها، بل حتى من أجل بقائها في بعض الأحيان. (Fouinat, 2004)
شكلت الأمراض الوبائية تحديًا وتهديدًا لأمن الإنسان؛ كونها تمتلك القدرة على التأثير في الأفراد، وتتحكّم في قدرتهم على متابعة العيش بحُرّيّة وسعادة. وبالتالي، أصبحت هناك علاقة بين الأمراض الوبائية وبين الأمن. وانطلاقًا من قدرة تلك الأمراض على الانتشار السريع والواسع عبر حدود الدول حَدَثَ تداخلٌ بين مفهوميْ الأمن الوطني (National Security)، والأمن العالمي (Global Security). وجرى تعريف الأمن الوطني على أنه “قدرة الدولة على توفير الحماية والدفاع لمواطنيها”، أمّا تعريف الأمن العالمي فهو بالضرورة مرتبط بما تُلقي به الطبيعة من تَحَوُّلات على عاتق الدول، إلى جانب العديد من التَّحَوُّلات الأخرى، وخاصة العولمة، وهي تَحَوُّلات لا يملك أي جهاز للأمن القومي القدرة على التعامل معها بمفرده؛ ومن ثَمَّ تبرز الحاجة إلى تعاون الدول. فالترابط العالمي، والاعتماد المتبادل بين الدول الذي شهده العالم -وما يزال يشهده منذ نهاية الحرب الباردة- كل ذلك يجعل من الضروري للدول أن تتعاون أكثر وتعمل معًا. (Osisanya, N.D.)
أهداف الدراسة:
تسعى هذه الدراسة إلى تحقيق الأهداف التالية:
أ. التعرف على مفهوم الأمن الصحي، وبيان علاقته بكل من الأمن البشري والأمن الوطني.
ب. بيان كيفية تأثير الأمن الصحي في العلاقات الدولية.
ج. بيان كيفية استجابة الدول للتهديدات الصحية العابرة للحدود – كوفيد 19 أنموذجًا.
د. الخروج بالاستنتاجات والتوصيات المناسبة.
فرضية الدراسة:
تنطلق هذه الدراسة من فرضية رئيسية، مفادها أن هناك علاقة ارتباطية طردية -سلبية وإيجابية- بين انتشار الأمراض والأوبئة على مستوى العالم من جهة، وتوتر وتعاون العلاقات الدولية من جهة أخرى.
منهجية الدراسة:
من أجل تحقيق أهداف الدراسة، والتحقق من صدق فرضيتها، سيتم استخدام المنهج الوصفي التحليلي، من خلال وصف الواقع الصحي الذي شهده العالم نتيجة انتشار وباء كورونا 19 منذ أواخر عام 2019، ثم تحليل التغيرات التي شهدتها العلاقات الدولية خلال هذه الفترة، ومن ثم يمكن التنبؤ بمستقبل العلاقات الدولية نتيجة لظهور أوبئة صحية جديدة على المستوى العالمي.
نظريات الدراسة:
تتضمن دراسة العلاقات الدولية ضرورة التطرق لأبرز النظريات التي تفسر سير هذه العلاقات، والعوامل التي تؤثر فيها وعليها سلبًا وإيجابًا. ومن هذا المنطلق سيتم الحديث عن نظريتين رئيسيتين، يمكن أن تساعدا في تفسير العلاقة الارتباطية بين الأمن الصحي من جهة، والعلاقات الدولية من جهة أخرى، وهما المثالية والواقعية.
النظرية المثالية:
تبلورت أفكار النظرية المثالية في ميدان العلاقات الدولية بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، وقد اهتمت بأولوية الأخلاق كمحور أساسي ينظم العلاقات الدولية. وتنطلق هذه النظرية من قضية أساسية مفادها أن الدول لا بُدَّ لها أن تكرس كل جهد ممكن لتحقيق الصالح العام استنادًا للقيم والأخلاق والمُثُل العُليا والقانون. (أبو عامر، 2002)
والنظرية المثالية -كما يشير اسمها- ترتكز على الأخلاق والمُثُل العُليا والطبيعة الإنسانية، وتنادي بضرورة تفعيل القانون في ميدان العلاقات الدولية، وعدم الاستناد إلى القوة وحدها، بحيث يسود العدل والسلم بين جميع الأطراف في الدول، بينما ترتكز المثالية الجديدة على الدبلوماسية الناعمة والذكية والتعاون الدولي. (شطناوي، 2002)
وتعود جذور هذه النظرية لأفكار الفيلسوف (جيريمي بنثام)، من خلال العديد من الكتابات التي ركز فيها على أسس النظرية المثالية. (بوقن، 1980) وبناءً على الأفكار التي تبناها مُنَظِّرُو هذه النظرية، فإن الدول تحاول بناء عالم تسوده العدالة والسلم والخير، خاصة عند بناء علاقاتها المتبادلة، حيث تسعى بكل جهد ممكن لتطبيق المبادئ والقواعد القانونية الدولية على أساس من القيم والمبادئ والمُثُل العُليا والأخلاق. (حسن، 2002)
وعند تحليل هذه النظرية نجد أنها ترتكز على عدد من المرتكزات؛ ومن تلك المرتكزات: الدين، والأخلاق، والفلسفة، والقوانين، والتوجُّه نحو العالمية، والتركيز على مبادئ الأخلاق، والتنازل عن المصلحة الخاصة للدول لحساب المصلحة العامة (العالمية)، وتدريس القانون، والتركيز على دور المنظمات الدولية كعنصر أساسي في دعم الأمن والسلم الدوليين، والحد من التسلح بأنواعه بُغية تحقيق الأمن والسلام العالمي، وتنظيم العلاقات بين الدول، والتي تشكل ضرورة للعلاقات الإنسانية بشكل عام، حيث أقامت طبيعة الإنسان على حسن النية، والإحسان، والمساواة بين الدول، بوصفهم لاعبين فاعلين في السياسة الدولية. (حتي، 1985)
وفي إطار هذه النظرية يمكن معالجة الأزمات بين الدول من خلال تبني عدة معايير تتمثل فيما يلي: (السيد سليم، 1998)
- وجود مؤسسات دولية فاعلة؛ كهيئة الأمم المتحدة التي يمكن لها أن تساعد في تحقيق الأمن والسلم الدوليين.
- توفير أدوات للمحافظة على الأمن والسلم الدوليين، ومن ذلك الخضوع للقضاء أو التحكيم الدولي.
وسيتم توظيف هذه النظرية من خلال إبراز دور المنطلقات الفكرية للنظرية المثالية (القوانين والقيم والمبادئ والمُثُل العُليا والأخلاق) في تقريب وجهات النظر بين دول العالم بالإقناع وليس بالإكراه (لا سيّما بعد أن عانت من تبعات جائحة كورونا)، ومن خلال دفعها إلى تَبَنِّي مقاربات إنسانية وأخلاقية وقانونية تعاونية، والابتعاد عن المصادمات وتبادل الاتهامات، وتقديم المساعدات الإنسانية والطبية والإغاثية بعضها إلى بعض من منطلق إنساني، مما يحقق التعاون والأمن والاستقرار في العلاقات الدولية.
النظرية الواقعية:
تعود الجذور التاريخية للنظرية الواقعية إلى المفكر الايطالي (مكيافيللي)، فقد بيّن في كتابه (الأمير) أن القوة بكل أدواتها السياسية والاقتصادية هي أساس في ثبات الدولة ومؤسسة الحكم، حتى وصل به الأمر إلى استبعاد البُعْد الأخلاقي في السياسة، حينما طرح مقولته “الغاية تبرر الوسيلة”، ثم تبع ذلك الكاتب (توماس هوبز)، والذي يعتبر من أشد المؤيدين للفلسفة الواقعية، وقد اتضح ذلك في كتابه (اللوفتيان)، والذي أكد فيه على عامل القوة وأثره الواضح في رسم السياسة الداخلية للدول. (نجيم، 2011)
يستند محور النظرية الواقعية في التعامل بين الدول على عامليْ المصلحة القومية والقوة، وقد أرسى دعائمها العلمية (هانز مورجانثاو) في كتابه الشهير (السياسة بين الأمم)، حيث اعتبر السياسة الدولية بمثابة صراع على القوة، وهي عبارة عن علاقة نفسية بين من يمارسونها وبين من تُمَارَس ضدهم، وهي تمنح من يمارسونها السيطرة على عقول ومكامن القوة لدى من تُمَارَس ضدهم. كذلك فإنه مهما كانت الأهداف المادية لأي دولة، كالحصول على مصادر المواد الأولية، أو السيطرة على الطرق البحرية، أو إجراء تغييرات إقليمية، فهي تتطلب إجراءات معيّنة للسيطرة على الآخرين. وينظر (مورجانثاو) إلى السياسة الدولية على أنها عملية توفيق بين المصالح القومية للدول. (نجيم،2011)
وبشكل عام، تستند النظرية الواقعية الجديدة على عدة أمور، منها: اعتماد الدول -الفاعل والأساسي- على مبادئ القوة والمصالح القومية، كأساس لهذه النظرية، والنظر للدولة كوحدة واحدة، بغضّ النظر عن اختلاف من يتخذ القرار في الدولة. كما أن تبنّي القوة وتعظيمها جعل النظرية الواقعية تؤكد على أن الدول يمكن لها أن تزيد من قدرتها وتحقيق مصالحها من خلال تحالفات تعقدها مع دول أخرى. وانطلاقًا من الإيمان بوجود طبيعة شريرة عند أفراد البشر -وهذا ما ظهر من خلال مقولات كل من (مورجانثاو) و(هوبز) وغيرهم- فإن النظرية الواقعية تبتعد عن الاحتكام للأخلاق والمؤسسات الدولية. (نجيم، 2011)
وترتكز الواقعية الجديدة على مبادئ عدة، تتمثل في وجود نظم سياسية تسلسلية أو فوضوية، ويأخذ النظام الدولي الشكل الأخير، وترتكز كذلك على أن وظائف الدول متشابهة من حيث قدراتها، وأن كل الدول تتسم بالأنانية، كما يجب الاستجابة للقوة النسبية وأفعال الآخرين، وأن وجود فوضى في النظام الدولي من شأنه أن يدفع نحو إيجاد النظام لتوازن القوى. (توفيق، 2007)
وسيتم توظيف مبادئ النظرية الواقعية من خلال بيان كيف تصرفت العديد من دول العالم إبان جائحة كورونا لتحقيق أهدافها القومية، من خلال التوفيق بين مصالحها القومية وبين مصالح الدول الأخرى. وبناءً عليه فإن فكرة المصالح القومية لا تفترض وجود عالم مسالِم، كما لا تفترض حتمية الحرب. لكنها –أي فكرة المصلحة القومية- تعني فقط الحفاظ على البقاء القومي، بما في ذلك الدفاع عن الكيان المادي والسياسي والثقافي للدولة، حيث إن هذه المصلحة بالذات تمثل هدفًا أساسيًا لا يمكن التنازل عنه أو المساومة عليه.
تقسيم الدراسة:
من أجل تحقيق أهداف الدراسة، والتحقق من صدق فرضيتها، سيتم تناول الدراسة من خلال ثلاثة محاور على النحو التالي:
- الأول: التأطير النظري لمفهوم الأمن الصحي، وعلاقته بكل من الأمن البشري والأمن الوطني.
- الثاني: استجابة الدول للتهديدات الصحية العابرة للحدود – كوفيد 19 أنموذجًا.
- الثالث: تأثير الأمن الصحي على العلاقات الدولية.
المحور الأول: مفهوم الأمن الصحي
على الرغم من أن مفهوم الأمن الصحي العالمي قد جرى استخدامه على نطاق واسع، إلا أنه لم يتم الاتفاق حول تعريف واضح له (Aldis, 2008)، ويُعْزَى ذلك إلى أن الإجماع حول أهم معاييره ما يزال بعيد المنال. (McInnes, Routledge Handbook of Global Health Security, 2015) كما يُعْزَى إلى الاختلاف حول أهم المخاوف التي يجب إدراجها كمهددات للأمن الصحي.
وهناك العديد من التعريفات المتعلقة بالأمن الصحي، وعلى سبيل المثال يُعَرَّف على أنه “الحالة التي تكون فيها الأمة ومواطنوها مستعدين لمواجهة التهديدات أو الحوادث الصحية، والتي يحتمل أن تكون لها آثار صحية سلبية” (International Conference on Health Security, 2018)، كما يُعَرَّف على أنه “الأنشطة والإجراءات المتخذة عبر الحدود السيادية؛ بقصد التخفيف من حوادث الصحة العامة وتأمين صحة السكان” (WHO, Health security, N.D.) وعلى أنه “الأنشطة المطلوبة لتقليل خطر حوادث الصحة العامة الحادة، وتأثيرها الذي يعرّض الصحة الجماعية للسكان الذين يقطنون المناطق الجغرافية والحدود الدولية للخطر. (Aldis, 2008)
وإجرائيًا، يُعَرَّف الأمن الصحي بأنه مجمل الأنشطة اللازمة، المُعَدَّة بشكل مخطط له، أو بشكل استباقي، والمُوَجَّه للحَدِّ من الخروقات التي تشكل خطرًا على الصحة العامة للسكان. ويشمل ستة أبعاد: (الوقاية، الكشف والإبلاغ، النظام الصحي، الاستجابة السريعة، الامتثال للقواعد الدولية، تحسين القدرات الوطنية والبيئة العامة للمخاطر).
ارتباط الصحة والأمن الصحي بمفهوم الأمن الوطني وأبعاده المختلفة:
ما تزال الأمراض الوبائية تشكل تحديًا وتهديدًا لأمن الإنسان؛ كونها تمتلك القدرة على التأثير في الأفراد، وتتحكّم في قدرتهم على متابعة العيش بحُرّيّة وسعادة. وبالتالي، هناك علاقة بين الأمراض الوبائية وبين الأمن الوطني، حيث يمكن أن تؤثر الأمراض على الأفراد، وتُضعف ثقتهم بقدرة الحكومة على الاستجابة. كما أن لها تأثيرًا اقتصاديًا حادًا، وبإمكانها أن تُقوِّض النظام الاجتماعي للدولة، وتؤدي إلى عدم الاستقرار على المستوى الإقليمي، وتُشكِّل تهديدًا استراتيجيًا من خلال تطوُّرها المحتمل إلى حرب بيولوجية. (Cecchine & Moore, 2006)
وقد تعاملت دول كثيرة مع فيروس كوفيد-19، خاصة في بداية الانتشار وأوقات الذروة، باعتباره حالة أمنية تستدعي تَدَخُّلًا من السلطات العامة للحد من آثاره وعواقبه، فلجأ العديد من الدول إلى سَنّ القوانين وفرض الأنظمة والتعليمات، واتخذت إجراءات لوضع حَدٍّ لانتشاره، من بينها العزل الصحي وحظر التجوال والإغلاقات العامة، وهي إجراءات قلما تُتَّخَذ للتعامل مع أزمات غير أمنية. كما رفعت الدول جاهزية مختلف قطاعاتها، بما فيها القطاعات الأمنية على وجه التحديد، فشددت الرقابة على الأفراد المخالفين للقوانين المسنونة بشأن الجائحة، وجرى معاملة الدول التي شهدت انتشارًا كبيرًا للفيروس على أنها مصدر للمخاطر، وأنها قد تجلب التهديد للدولة، فتم فرض حظر السفر منها وإليها، وبدا الفيروس كأنه ظاهرة تُهَدِّد جميع المكونات البشرية والفردية والقومية، شأنه شأن المخدّرات أو الإرهاب.
من المحتمل أيضًا أن يُسهم المرض الوبائي في اندلاع الصراعات، لا سيّما من خلال التسبُّب في نشأة ظاهرة عدم الاستقرار المحلي، وبهذه الطريقة يمكن أن يشكل المرض الوبائي تهديدًا للأمن القومي للدول. ومن جانب آخر، فإن ظهور ما يُعرف بالحرب البيولوجية قد أضاف مزيدًا من الأهمية على العلاقة بين الأمن والصحة، بسبب مقدرتها على نشر العوامل الوبائية والفتاكة. (Tucker, 1997) ومن المعروف أن الأسلحة البيولوجية تتضمن كائنات حية، وهي في الغالب كائنات دقيقة ذاتية التكاثر -بما فيها البكتيريا والفيروسات والفطريات والريكتسيا- ويتم نشرها عَمْدًا لتُسبِّب المرض أو الموت للإنسان أو الحيوان. وقد تشمل أيضًا عوامل غير حية وغير ذاتية التكاثر تُفرزها الكائنات الحية، أو تُنتَج صناعيًا لتكون مشابهة للعوامل التي تُفرزها الكائنات الحية. (Dando, 2001) وهنا تبرز كذلك أهمية تطوير قدرة الدول على مواجهة حروب غير تقليدية في المستقبل.
من الواضح إذن أن التحديات التي يجابهها للأمن الصحي قد أبرزت الحاجة إلى تعاون مختلف مؤسسات الدولة لمواجهة الجائحة. وفي بعض الدول ظهر جليًا دور الجيش في فرض النظام الأمني، وبالتالي برزت الحاجة إلى الحفاظ على جاهزية الجنود وصحتهم، بحيث يتمكَّنون من مواجهة التحديات الأمنية، ودعم النظام المدني الذي يُفترَض أنه سيحتاج إلى المساعدة مع استمرار الأزمة. (Brun & Gat, 2020)
المحور الثاني: استجابة الدول إلى التهديدات الصحية – كوفيد 19 أنموذجا
تتفاوت طبيعة استجابة الدول للجوائح والأوبئة، وقد لوحظ هذا التفاوت في كيفية تعامل الدول مع انتشار جائحة كورونا 19، إذ استطاعت بعض الدول أن تَحُدَّ من انتشار الجائحة، فيما عجزت دول أخرى عن ذلك، وكأمثلة على استجابات الدول تجاه الجائحة يمكن التطرق إلى نموذجين من الدول.
تركيا
تعتبر تركيا من الدول القلائل التي حصلت على إشادة من منظمة الصحة العالمية، ومن عدة رؤساء دول وزعماء حول العالم، بسبب النجاحات التي حققتها في التعامل مع جائحة كورونا. فقد استطاعت السيطرة على انتشار الوباء بين مواطنيها، بفضل خبرتها الواسعة في إدارة الأزمات المحلية والدولية، ووجود بنية تحتية صحية قوية، تمثلت في وجود عدد مناسب من الأطباء والعاملين بالقطاع الصحي، حيث كان يعمل في فترة انتشار الجائحة عالميًا حوالي 165 ألف طبيب في وزارة الصحة والمشافي الجامعية والقطاع الخاص، إلى جانب حوالي 205 آلاف من الممرضين من الجنسين، بالإضافة إلى 360 ألف فرد كدعم لوجستي. وكانت تركيا من أوائل الدول في العالم التي أطلقت مركز عمليات وشكلت لجنة علمية لدراسة الفيروس، وقامت بإعداد دليل للتعامل معه، ثم بدأت فحوصات القادمين من الدول الموبوءة، بالإضافة إلى إيقاف الرحلات من الصين وإليها، وأنشأت مستشفيات ميدانية على الحدود مع دول الجوار، ثم قامت بإغلاق الحدود مع إيران، وأوقفت بعد ذلك الرحلات مع إيطاليا. ورغم إجراءات الإغلاق التي اتبعتها الدولة التركية، إلا أن عجلة الاقتصاد استمرت، ووفرت الغذاء والاحتياجات الأساسية لمواطنيها بدون مشاكل، ورفعت المعنويات لمواطنيها من خلال الإرشادات الصحية والإجراءات التي اتخذتها. ولم تكن الدولة التركية من ضمن الدول المتلقية للمساعدات، بل إن أنقرة قدمت مساعدات إلى أكثر من 17 دولة، على رأسها إيطاليا وإسبانيا. (Al-Jazeera Net)
قطر
يمكن الالتفات إلى تجربة دولة قطر في التعامل مع الأزمة، صحيحٌ أن عدد الإصابات كان مرتفعًا مقارنة بتعداد السكان، ولكنها استطاعت الإبقاء على عدد وفيات منخفض، إلى جانب اتخاذ إجراءات صحية مشددة أدت إلى محاصرة الفيروس. لقد وضعت دولة قطر خطة استجابة لفيروس كوفيد-19، حددت فيها مجموعة واضحة من الإجراءات المطلوبة لضمان حماية صحة ورفاهية وازدهار شعبها، من خلال اتخاذ إجراءات للتحضير والمراقبة والاستجابة والتعافي. ووفرت هذه الخطة استراتيجية للتعاون والقيادة العابرة للحكومة، بحيث تكون كل إدارة حكومية مسؤولة عن الاستجابة للقطاع الذي تخدمه، مسترشدة بمجموعة الإرشادات والموارد التي طورتها وزارة الصحة العامة. وبالإضافة إلى ذلك، هناك عدد من الإجراءات ذات الأولوية التي تحملتها جميع هذه الإدارات الحكومية، وهي تقديم الدعم للقطاع الصحي في تنفيذ إجراءات الاستجابة، والحفاظ على توفير الخدمات الأساسية، وإشراك السكان ورفع وعيهم وفقًا لإجراءات الاستجابة، والحفاظ على ثقة المواطنين في الحكومة.
في الوقت نفسه عُهِدَ إلى وزارتيْ الداخلية والدفاع مسؤوليات إدارة الحدود، وتوفير السلامة العامة والأمن، وتنظيم مسائل دخول المواطنين والوافدين، وحماية المرافق العامة والمهمة في الدولة. أمّا وزارة الخارجية فقد اضطلعت بمسؤوليات الاعتناء بالمواطنين الذين يعيشون في الخارج، وإدارة العلاقات الدولية، ومساعدة البلدان التي تُعاني من الأزمة وفقًا للأولويات. كما اتخذت كل من وزارة البلدية والبيئة ووزارة التنمية الإدارية ووزارات العمل والشؤون الاجتماعية والأشغال مسؤولية التنسيق مع جميع الجهات الحكومية؛ لتخصيص المباني المناسبة للحجر الصحي. إلى جانب ذلك، اضطلعت وزارة البلدية والبيئة ومؤسسة حمد الطبية بمسؤولية الحفاظ على النظافة العامة ونظافة المباني ومواقف السيارات والحدائق، وما إلى ذلك. (Ministry of Public Health, 2020).
كما تم الالتزام بإعمال قوانين الأمراض الوبائية والتدابير الوقائية، منها مثلًا القانون رقم 17 لسنة 1990، والذي بموجبه يواجه الأشخاص الذين لا يرتدون أقنعة خارج منازلهم عقوبات تصل إلى السجن ثلاث سنوات و/أو غرامة تبلغ قيمتها 200 ألف ريال قطري. وقد أحالت الشرطة بالفعل عددًا من الأشخاص المخالفين إلى النيابة العامة، (Qatar Tribune, 2020) كما حظرت دولة قطر في بداية الأزمة جميع أشكال التجمعات بموجب القانون (Al-Arabiya, 2020) .
المحور الثالث: أثر الأمن الصحي على العلاقات الدولية
أحدثت جائحة كورونا آثارًا إيجابية وسلبية على العلاقات الدولية؛ بسبب تداعياتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية الضخمة. فمن حيث الآثار الإيجابية سنجد أن الجائحة قد أعادت قوة الدولة الوطنية وتأثيرها كفاعل رئيسي في العلاقات الدولية والتفاعلات الداخلية والخارجية، بعدما تراجع دورها في العقود الأخيرة لصالح فاعلين آخرين، مثل المنظمات الدولية والإقليمية والشركات متعددة الجنسيات، والتي كان لها دور فاعل في تقرير كثير من السياسات العالمية على حساب مصالح الدول ومواطنيها، وبالتالي أصبحت الدول أكثر قوة وتأثيرًا في تحقيق مصالح مواطنيها حسب إمكاناتها وقدراتها، وفي تزايد دورها في اتخاذ الإجراءات الاحترازية والاقتصادية للتقليل من الآثار السلبية وحماية مواطنيها. وساهمت تداعيات كورونا كذلك في تزايد دور الدولة في المجال الاقتصادي وفي الإنتاج، فلم تَعُدْ الدولة هي الحارس وفقًا للنظرية النيوليبرالية التي تقصر وظائف الدول على تطبيق القانون والدفاع والسياسة الخارجية، بل أصبحت هي القوة المركزية القوية القادرة على مواجهة الأزمات، كل ذلك أعطى الدولة الوطنية مزيدًا من الثقة بين مواطنيها، مما أعطاها قوةً وتأثيرًا أكثر على الساحة الدولية.
ومن الجدير بالذكر أن جائحة كورونا قد ساهمت كذلك في تراجع دور الفاعلين من غير الدول، مثل التنظيمات والميليشيات والحركات المسلحة داخل الدول، والتي تصاعد دورها بشكل كبير خلال العقد الماضي بسبب التغيرات السياسية التي شهدها العالم العربي منذ عام 2011، مثل داعش والقاعدة والتنظيمات المسلحة في العراق وسوريا واليمن وليبيا، والتي شكلت تحديًا للدولة الوطنية وأضعفت قوتها ومؤسساتها، مما كان له أثر سلبي خطير في التعامل مع التحديات. وبطبيعة الحال وقفت تلك الميليشيات عاجزة عن مواجهة خطر الفيروس، وتوارت لصالح دور الدولة في اتخاذ إجراءات الحجر الصحي وفرض حظر التجوال وتوفير السلع وغيرها، وهو ما يؤكد دائما أهمية دور الدولة الوطنية، حيث أصبح للجيوش الوطنية أدوار مهمة غير الأدوار العسكرية، فقد أبرزت أزمة كورونا أن الدول المختلفة اعتمدت بشكل أساسي على قواتها المسلحة في إدارة الأزمة، وفى احتواء خطر انتشار وتمدد الفيروس، وأبرزت كذلك الدور الاقتصادي للجيوش في توفير السلع والخدمات. وبالتالي كان كل ذلك بمثابة تذكير للدول بضرورة تعميق ترابطها وتحقيق احتياجاتها المتبادلة، من أجل تفويت الفرصة على التنظيمات والميليشيات العسكرية والمذهبية التي مزقت الدول والشعوب.
وقد أدت هذه الجائحة إلى تحقيق نوع من التوازن والاستقرار في العلاقات الدولية، من خلال حدوث تغييرات هيكلية إلى حد ما في النظام الدولي، والانتقال به من عالم أحادي القطبية تقوده الولايات المتحدة الأمريكية إلى عالم متعدد الأقطاب. يُذكر أن الولايات المتحدة كانت تكيل الاتهامات وقت الجائحة، في حين كانت الصين وروسيا تقدمان مساعدات إنسانية وعلاجية لعدد من دول العالم الثالث، بل أيضًا لبعض الدول الأوروبية (إيطاليا، فرنسا، صربيا) لأسباب إنسانية وأخلاقية، وليست سياسية مصلحية، وقد أدى هذا الأمر إلى حدوث حالة من التضامن والتعاون بين دول العالم. (أحمد، وكالة الأهرام)
وقد كان بإمكان الصين أن تستغل حالة الضعف الاقتصادي والمالي للدول المتضررة لخلق تبعيات، ليس فقط في أفريقيا ولكن أيضًا في أوروبا، عبر مساعداتها الإنسانية ودعمها للبنية التحتية الاستراتيجية (Rogg, 2020) خاصة مع زيادة الطلب على مواردها. (Brun & Gat, 2020)
هناك ما يُشير إلى وجود جانب آخر من العمل لمكافحة الفيروس يتعلق بالسياسة الأمنية، فخلال أزمة الفيروس التاجي، بدأت فنزويلا وكولومبيا استكشاف إمكانيات التعاون في مكافحة الوباء من خلال منظمة الصحة للبلدان الأمريكية. وفي ليبيا، شرع الفاعلون الدوليون في مفاوضات للتوصل إلى وقف إطلاق النار بسبب كوفيد-19، كما شاهد العالم أيضًا دعم كل من دولة الإمارات وقطر والكويت لإيران بالمساعدات الطبية. أمّا في الفلبين، فقد أمر الرئيس (رودريغو دوتيرتي) بوقف إطلاق النار لمدة شهر واحد في القتال ضد المتمردين الشيوعيين، للسماح للقوات المسلحة بالتركيز على محاربة الفيروس. وحتى الولايات المتحدة، ورغم سنوات من الصراع مع روسيا، فإنها أرسلت المساعدات الإنسانية إلى منطقة أبخازيا (Rogg, 2020) .
لقد أثبتت أزمة كوفيد-19 أن عزلة أي دولة غير ممكنة، بل ومكلفة، فالاضطرابات ذات الصلة بالتجارة، مثل إغلاق الموانئ والمطارات، قد تمنع أيضًا الإمدادات الحيوية من الوصول إلى الأماكن التي تحتاج إلى المساعدة. ومن ثم، فإن مثل هذه الحلول قد تؤدي إلى عواقب اقتصادية خطيرة على المستوى العالمي، وكذلك بالنسبة للبلدان التي تعتمد على التجارة، أو تعتمد بشكل كبير على السياحة كمصدر للدخل القومي، بغض النظر عن أن الفوائد البيئية قد تكون أكبر من الفوائد لهذه الدول (Kevany, 2020) .
وفي إطار الفوائد الإيجابية للجائحة على العلاقات الدولية، فقد بينت الجائحة أن القوة الآسيوية -وعلى رأسها الصين- مصممة على اكتساب مركزية جديدة في النظام العالمي الجديد، وذلك من خلال سيطرتها على تبعات الجائحة بقدرتها العالية على الضبط الاجتماعي، على عكس كثير من الدول الغربية -وعلى رأسها الولايات المتحدة- التي لم تستطع السيطرة على الجائحة، وتكبدت خسائر بشرية واقتصادية كبيرة، وهذا بدوره سيفتح آفاقًا وعلاقات دولية جديدة بين الصين ودول العالم الثالث، على حساب الدول الغربية الاستعمارية، وبالتالي سيزيد ذلك من انفتاح دول العالم الثالث على الصين، بدون النظر إلى الحسابات السياسية والأمنية التي كانت تُكَبِّل دول العالم الثالث لعقود، وقد ساهم ذلك في قيام الصين بإعادة تشكيل النظام العالمي على شاكلتها مع مجموعة (بريكس). (الحفيان، ادمين، 2021)
لقد أثبتت جائحة كورونا أن تماسك وتعاون علاقات الدول بعضها مع بعض يساهم بشكل كبير في درء الجوائح والأوبئة، ومثال ذلك ما حدث عند انتشار فيروس إيبولا في غرب أفريقيا خلال العام 2014، إذ كان أحد العوامل التي أسهمت في نجاح احتواء الوباء هو تماسك العلاقات الدولية والدبلوماسية، جنبًا إلى جنب مع الدعم العسكري. بيد أن هذا لم يكن هو الحال مع جائحة كورونا، صحيحٌ أن للجيش دورًا لوجستيًا، ولكن غالبًا ما تكون القوة الناعمة والعلاقات الدولية فعالة بقدر فعالية القوة الصلبة عندما يتعلق الأمر بالأمن الصحي، أو عندما تُقَدَّم المساعدات العسكرية والدبلوماسية الإنسانية كشكل من أشكال القوة الذكية. (Kevany, 2020)فمن المفارقات التي حدثت خلال أزمة كوفيد-19 أن دولًا أوروبية، مثل هولندا وسلوفاكيا وإسبانيا والتشيك وإيطاليا، استغاثت بالصين لمساعدتها على مواجهة تفشي الوباء، بعدما خذلتهم دول الاتحاد الأوروبي الأخرى. (Al Jazeera, 2020) وغَنَيٌّ عن البيان أن طلبهم للمساعدة من دولة مثل الصين، التي تُعَدُّ خصمهم الأول في الأمن والسياسة، بل وقبولهم لتلقي المساعدة التي طلبوها على الفور، يعكس مدى اليأس الذي وصلوا إليه. في حين أن الصين قد تعاملت مع الموجة الأولى من الجائحة بنجاح، مما مكَّنها -وسيُمكِّنها مستقبلًا- من استخدام هذه التجربة لصالحها.
أمّا فيما يتعلق بالجوانب السلبية لجائحة كورونا على العلاقات الدولية، فإن هذه الجائحة قد دفعت عددًا من دول العالم -وعلى رأسها الولايات المتحدة وألمانيا وبريطانيا والصين- إلى فرض قيود حمائية لمنتجاتها الوطنية، من خلال رفع القيمة الجمركية على الواردات، حتى وصل الأمر بالولايات المتحدة أن قامت بفرض رسوم جمركية جديدة على وارداتها من الصين وصلت إلى 25%. وقد ردت الصين بالمثل، فقامت بفرض رسوم إضافية على الصادرات الأمريكية القادمة إليها، وتراوحت تلك الرسوم بين 5-25%. وقد أدى ذلك بالطبع إلى تراجع التعاون بين أهم قوتين اقتصاديتين في العالم، وهو ما أثر سلبًا على التبادلات التجارية العالمية، وأدى إلى رفع أسعارها بشكل كبير، وكان من آثاره أن أضر بدول العالم الثالث التي تعتمد في كثير من حاجاتها على الواردات. وكل ذلك عرض النظام العالمي للتصدع، ودفع كُلًا من الصين والولايات المتحدة إلى إعادة تعبئة وتوزيع للصراع العالمي على نحو مختلف. (التقرير الاقتصادي العربي الموحد، 2021)
وإذا كان حظر التجوال وإغلاق الحدود والمطارات بين كثير من دول العالم قد أدى إلى منع وصول الوباء إلى مواطنيها، فإنه –في الوقت نفسه- قد أدى إلى تراجع الحركة السياحية بين دول العالم، والتي كانت تلعب دورًا مهمًا كقوة ناعمة في التعارف وتقريب وجهات النظر بين كثير من شعوب ودول العالم، مما كان يساهم في حل كثير من المشاكل العالمية، كون هذا القطاع (السياحي) يساهم في رفد ميزانيات عدد من دول العالم. ولو نظرنا لحجم الخسائر التي لحقت بهذا القطاع سنجد أنها فاقت 50 مليار دولار حسب تقديرات منظمة السياحة العالمية. (United nation Conference On Trade And Development,2020)
لقد أثرت عمليات الإغلاق الصينية الصارمة على حجم التجارة العالمية بشكل مباشر، نتيجة لتأثيرها على الاقتصاد الصيني، ومن ثم على أكبر مصانع العالم، فمن المعروف أن الصين تُعَدُّ من أهم الشركاء التجاريين لمعظم الدول. وحسب بيانات منظمة التجارة العالمية تُعَدُّ الصين أكبر مصدر، وثاني أكبر مستورد في العالم للعديد من السلع، ومنها النفط والحديد الخام، وبناء على ذلك فإن تراجع النشاط الاقتصادي للصين كان من شأنه التأثير على تراجع التبادلات التجارية العالمية، والتي كانت تمثل رافعة للتعاون بين دول العالم. (WTO: 2023)
وتنبغي الإشارة إلى أن سياسة الاستقطاب المعتمدة من الدول الكبرى، وانعدام الثقة بين كثير من حكومات العالم، واقتصار التعاون بين الدول على تبادل بعض المعلومات والمعدات الطبية، كل ذلك قد أدى إلى فشل كثير من دول العالم في التعامل مع الوباء، مما انعكس بشكل سلبي على الاستجابة التعاونية العالمية للوباء بشكل جماعي، ومن ثم أهدر فرص النجاح في القضاء نهائيًا على الوباء.
إن فشل جهود الاحتواء -عالميًا وإقليميًا ومحليًا- أدى خلال فترة انتشار الوباء وبعدها إلى تقييد السفر والهجرة، وتعطيل سلاسل التوريد الدولية نتيجة للقيود التجارية الصارمة، وأدى ذلك لاحقًا إلى دخول الاقتصاد العالمي في مرحلة من الركود التام، مما أحدث ضغوطًا اقتصادية واجتماعية في العديد من دول العالم، والذي أدى بدوره إلى عدم الاستقرار السياسي في معظم دول العالم.
وفي هذا الإطار صدرت عدة تصريحات عن مسؤولي بعض الدول، خاصة من الدول الأوروبية التي عانت بشدة تداعيات الجائحة. فعلى سبيل المثال، نفى الرئيس الصربي (ألكسندر فوتشيتش) وجود تضامن أوروبي، وأوضح أن هذا التضامن مجرد وهم وقصة خيالية. (National Review, 2020) من جانب آخر، حذَّر الرئيس الفرنسي (إيمانويل ماكرون) من انهيار الاتحاد الأوروبي “كمشروع سياسي”، ما لم يدعم الاقتصاديات المدمرة، ويساعدها على التعافي من الجائحة. (Financial Times, 2020) وفي النمسا، نُقِلَ عن المستشار (سيباستيان كورتز) قوله: “بعد أن تنتهي الأزمة، ستكون هناك قرارات صعبة داخل الاتحاد الأوروبي”. (Reuters, 2020) وبذلك، فإن الاتحاد يبدو منقسمًا ومُخيِّبًا للآمال، ولم يكن بإمكان دوله الأعضاء القدرة على تقديم المساعدة لجيرانها الذين يتشاركون معها قيمًا كثيرة، كما فشل قادته في توظيف معرفتهم وخبراتهم في إعداد خطط لمكافحة الجائحة.
وأيًا ما كان الأمر، فإن مدى جاهزية الدولة واستعدادها صحيًا قد يصبح معيارًا لمدى قوتها وموقعها على الساحة الدولية، ومحددًا لدرجة أمنها وأمن شعبها. وإذا كانت جائحة كوفيد-19 تمثّل أزمة عالمية لا تعترف بالحدود الوطنية، فإنها –من جانب آخر- تُسهم في تعزيز السيادة الوطنية، وتُجبر الدول على الاكتفاء ذاتيًا، فالتأثير المتباين لكوفيد-19 على المجتمعات والمناطق والبلدان قد أثار نقاشًا أوسع حول كيفية زيادة المرونة، وكيفية الاستعداد بشكل أفضل للصدمات الصحية، (OECD, 2020) وذلك حين اضطرت كثير من الدول، منها أعضاء في منظمة التجارة العالمية، إلى اتخاذ قرار بإغلاق الحدود وفرض قيود على السفر لاحتواء انتشار الجائحة. ومع الاعتراف بأن هذا الإغلاق لم يكن مدفوعًا باعتبارات تجارية، ولكن بأسباب تتعلق بالصحة العامة، فقد كان له بالضرورة تأثير سلبي كبير على قطاعات التجارة والسياحة والتعليم، (World Trade Organization, 2020) وهو ما يتطلب من الدول مستقبلًا الاستعداد للحد من هذه التأثيرات، واتباع إجراءات محلية بديلة تُعزِّز اكتفاءها ذاتيًا.
المحور الرابع: النتائج والتوصيات
من خلال الدراسة تم التوصل إلى الاستنتاجات التالية:
- يُعَدُّ الأمن الصحي من أهم أبعاد الأمن الوطني، لأنه يرتبط مباشرة بالإنسان الذي هو اللبنة الأساسية للدول، وأساس تحقيق التنمية المنشودة، ولأن أي تهديد يضر بالأمن الصحي سيعمل على الإضرار بالأمن الوطني لأي دولة.
- تفرض أهمية الأمن الصحي على الدول إعادة رسم السياسات الوطنية بحيث يوضع الأمن الصحي في قائمة أولويات تلك السياسات، وتحقيق الأمن الصحي للدولة يتطلب منها التعاون والتنسيق مع دول العالم للاستفادة من خبراتها وتجاربها.
- إن طبيعة التهديدات المؤثرة على الأمن الصحي، وخصوصًا تلك المرتبطة بالأمراض والأوبئة المعدية والمنتشرة عبر الحدود، تفرض على الدولة ضرورة التعاون الدولي في مواجهتها.
- أثبتت الدراسة صدق فرضيتها، حيث أدى انتشار جائحة كورونا 19 إلى تحقيق تقارب وتعاون بين مجموعة من دول العالم (الصين، روسيا، إيطاليا، الصرب، تركيا، دول أمريكا الجنوبية)، والتي قدم بعضها إلى بعض مساعدات إنسانية وطبية وإغاثية، في حين أدت إلى حدوث توتر في العلاقات بين دول أخرى (بعض دول أوروبا الغربية: فرنسا، إيطاليا، ألمانيا، الولايات المتحدة)
- بينت الدراسة أن تطبيق أفكار ومنطلقات النظرية المثالية ساهم في تحقق التعاون والتضامن والأمن والاستقرار في العلاقات الدولية، في حين مالت العلاقات الدولية إلى الصدام والنزاع والتوتر عندما طبقت مبادئ النظرية الواقعية، وعندما قدمت الدول مصالحها القومية الخاصة على حساب الدول الأخرى.
من خلال التحليل والاستنتاجات السابقة توصي الدراسة بضرورة إعادة النظر في السياسات الوطنية للدول وعلى جميع المستويات، المحلية والإقليمية والدولية، وذلك في المجالات التالية:
- التركيز على الأمن الصحي باعتباره أهم متطلبات تحقيق الأمن الوطني الشامل، من خلال زيادة الموازنات المخصصة لقطاع الصحة، والاستثمار المتزايد في البحث العلمي، وإعادة النظر في سياسات الأمن الصحي التخصصية.
- إعادة النظر في السياسات الأمنية والدفاعية، من خلال بناء منظومة صحية متطورة قادرة على التعامل مع الأوبئة وتعزيز الأمن الصحي، عوضًا عن التركيز على قضايا التسليح.
- ضرورة إعطاء أولوية لمبادئ وأفكار النظرية المثالية؛ لإمكان السيطرة على الأوبئة والأمراض والجوائح العابرة للحدود، ومن ثم سيساهم ذلك في تحقيق استقرار وتعاون وتضامن في العلاقات الدولية.
- الاهتمام بالإدارة الدولية للأزمات والكوارث على المستويين الإقليمي والدولي، وذلك من خلال:
(1) العمل على تأسيس نظام فعال للإنذار المبكر بالأوبئة والأمراض المعدية على مستوى دولي.
(2) العمل على تأسيس نظام للمخاطر يكون مصدرًا للمعلومات على المستويين المحلي والدولي، ويكون فيه التواصل الدولي على مستوى عالٍ لإدارة الأزمة.
قائمة المصادر والمراجع
أولا: المراجع العربية.
- الكتب.
- أبو عامر، محمود، (2002)، العلاقات الدولية العلم والظاهرة – الدبلوماسية والاستراتيجية، عمان: دار الشروق للنشر والتوزيع. 21.
- شطناوي، محمد، (2002)، العلاقات الدولية مقترب في دراسة النظريات، الفاعلين وأنماط التفاعل، مراكش: المطبعة والوراقة الوطنية. 23.
- حسن، عصمت، (2002)، دراسات في العلاقات الدولية الحديثة، القاهرة، دار المعرفة الحديثة. 24.
- حتي، ناصيف، (1985)، النظرية في العلاقات الدولية، بيروت: القاهرة، العربي للنشر والتوزيع. 36.
- السيد سليم، محمد، (1998)، تحليل السياسة الخارجية، ط (2)، القاهرة: مكتبة النهضة العربية. 34.
- نجيم، حذفاني، (2011)، العلاقات الصينية الأمريكية بين التنافس والتعاون، رسالة ماجستير غير منشورة، جامعة باتنة، الجزائر. 28
- توفيق، سعد، (2007)، مبادئ العلاقات الدولية، عمان: دار وائل للنشر والتوزيع. 14.
- https://www.aljazeera.net/health/2020/8/1/%
ثانيًا: المراجع الأجنبية
- Al-Arabiya. (2020, March 21). Coronavirus: Qatar bans all forms of gathering by law, confirmed cases at 481,” Al-Arabiya, March 21, 2020. Retrieved from Al-Arabiya: https://bit.ly/33j06dE
- National Review. (2020, March 16). Serbian President Labels European Solidarity ‘Fairy Tale’, Says Only China Can Assist in Coronavirus Response. Retrieved from National Review: https://bit.ly/378j5ZE
- Al Jazeera. (2020, April 6). Why China’s support to coronavirus-hit Europe stirs controversy. Retrieved from Al Jazeera.com: https://www.aljazeera.com/news/2020/4/6/why-chinas-support-to-coronavirus-hit-europe-stirs-controversy
- Aldis, W. (2008, September). Health security as a public health concept: A critical analysis. Retrieved October 2021, from ResearchGate: https://www.researchgate.net/publication/23158196_Health_security_as_a_public_health_concept_A_critical_analysis
- Antràs, P. (2020, November 11). De-Globalisation? Global Value Chains in the Post-COVID-19 Age,. Retrieved from Harvard University: https://bit.ly/3fesQe1
- Arndt, C., & Lewis, J. D. (2000). The Macro Implications of HIV/AIDS in South Africa. d Bank, Africa Region Public Expenditures Effectiveness Project.
- Berdikeeva, S. (2020, March 2). , “Impact of the Coronavirus on the Middle East and North Africa. Retrieved from Inside Arabia: https://bit.ly/372saTv
- Bloom, D., Cadarette, D., & Sevilla, J. (2018). Epidemics and Economics. Finance and Development, 46-47.
- Bouskill, K. E., & Smith, E. (2019). Global Health and Security: Threats and Opportunities. Perspectives, 3-8.
- Brun, I., & Gat, Y. (2020). The Corona Crisis and National Security. Institute for National Security Studies Insight,.
- Cash, R., & Narasimhan, V. (2000). Impediments to Global Surveillance of Infectious Diseases: Consequences of Open Reporting in a Global Economy. Bulletin of the World Health Organization, 1358.
- Cecchine, G., & Moore, M. (2006). Addressing a New Paradigm: Infectious Disease and National Security,” in Infectious Disease and National Security . RAND Corporation.
- Chen, L., & Narasimhan, V. (2003). Human Security and Global Health Vol. 4, no. 2 (2003): 18. Journal of Human Development: A Multi-Disciplinary Journal for People-Centered Development, 182.
- Colin McInnes. (15 November, 2005). Health, security and the risk society. Nuffield Trust. 5 November, 2021، https://www.nuffieldtrust.org.uk/files/2017-01/health-security-and-the-risk-society-web-final.pdf
- Commission on Human Security. (2003). Human Security Now . New York: Commission on Human Security.
- Dando, M. (2001). The New Biological Weapons: Threat, Proliferation, and Control . Boulder: Lynne Rienner.
- Daoudi, S. (2020, April). “The War on COVID-19: The 9/11 of Health Security?,” (April 2020), . Retrieved from Policy Center for the New South : https://bit.ly/34a1Gi4
- Financial Times. (2020, April 16). Macron warns of EU unravelling unless it embraces financial solidarity. Retrieved from Financial Times: https://on.ft.com/3pOr0nc
- Fitz-Gerald, A., & Macnamara, D. (2012). Comprehensive Security Requires Comprehensive Structures: How Comprehensive Can We Get? . Ottawa: Canadian Defence & Foreign Affairs Institute and Canadian International Council.
- Fouinat, F. (2004). A Comprehensive Framework for Human Security. Conflict, Security & Development, 289.
- Horton, R., & Das, P. (2015, May 9). Global health security now. Lancet, 385, 1805.
- International Conference on Health Security. (2018). Joint Arab Health Security. Riyad: Naif Arab University for Security Sciences.
- Janssen, R. (2009). Greece and the IMF: Who Exactly is Being Saved? Washington, D.C.: Center for Economic and Policy Research.
- Jermalavičius, T. (2014). Comprehensive Security and Integrated Defence: Challenges of implementing whole-of government and whole-of-society approaches . 5-10: International Centre for Defence Studies.
- Kevany, S. (2020). The Nexus between the COVID-19 Pandemic, International Relations, and International Security . 5-6: Asia-Pacific Center for Security Studies.
- McInnes, C. (2015). Routledge Handbook of Global Health Security (1 ed.). (S. Rushton, & J. Youde, Eds.) London: Routledge.
- Ministry of Public Health. (2020, March). COVID-19: Qatar National Response Action Plan. Retrieved from Ministry of Public Health: https://bit.ly/33kcZE6
- Muguruza, C. (2007). Human Security as a policy framework: Critics and Challenges. Deusto Journal of Human Rights, 15-16.
- (2020, November 10). The territorial impact of COVID-19: Managing the crisis across levels of government,”, 10, 2020. Retrieved from OECD: https://bit.ly/3bPAIjR
- Osisanya, S. (N.D.). National Security versus Global Security. Retrieved from United Nations: https://www.un.org/en/chronicle/article/national-security-versus-global-security
- Paris climate agreement. (2017, June 1). The last time a US president dumped a global climate deal. Retrieved from ABC News: https://abcn.ws/3l0cTrh
- Price-Smith, A. T. (2002). The Health of Nations: Infectious Disease, Environmental Change, and Their Effects on National Security and Development . Cambridge: MIT Press.
- Qatar Tribune. (2020, November 15). Police press ahead with crackdown as COVID-19 rule violations continue in Qatar,. Retrieved from Qatar Tribune: https://bit.ly/39hwt02
- Labonté، و M. Gagnon. (2010). Framing Health and Foreign Policy: Lessons for Global Health Diplomacy. Globalization and Health، 6(14)، 1-22.
- (2020, March 29). Coronavirus crisis puts EU credibility on the line, says France. Retrieved from Reuters,: https://bit.ly/35WnJdv
- Rogg, M. (2020). COVID-19: The Pandemic and its Impact on Security Policy. Prism, 59-60.
- Sarah Dry. (2008). Epidemics for all? Governing Health in a Global Age. STEPS Centre.
- Szreter, S. (2003). The Population Health Approach in Historical Perspective, Vol. 93, no. 3 (March 2003):. American Journal of Public Health, 429.
- The Guardian. (2020, March 16). Community aid groups set up across UK amid coronavirus crisis. Retrieved from The Guardian: https://bit.ly/3fvS31R
- Tucker, J. (1997). The Biological Weapons Threat. Current History, 167.
- Washington Post. (2020, April 14). Now joining the fight against coronavirus: The world’s armed rebels, drug cartels and gangs,” , April 14, 2020. Retrieved from Washington Post: https://wapo.st/33b563I
- Washington Post. (2020, March 17). The Middle East is already wracked by war. Now it must confront the coronavirus, too. Retrieved from Washington Post: https://wapo.st/3pYU4Z9
- Weller, E. (2014). Comprehensive Approach to Human Security. Knowledge Platform Security and Rule of Law.
- (2020, July 24). Joint Intra-Action Review of the Public Health Response to COVID-19 in Thailand,” World Health Organisations, (20-24 2020. Retrieved from World Health Organisation.
- (N.D.). Health security. Retrieved from World Health Organisation: https://www.who.int/health-topics/health-security/#tab=tab_1
- World Trade Organization. (2020, August 25). Cross-Border Mobility, COVID-19 and Global Trade,” , 25, 2020. Retrieved from World Trade Organization: https://bit.ly/348woYL