في الخامس عشر من سبتمبر الجاري أصدر البرلمان الأوروبي قراراً دعا فيه الشركات الدولية الراعية لمعرض إكسبو 2020 دبي إلى سحب رعايتها، وحث الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي على عدم المشاركة فيه. كما دعا البرلمان الدائرة الأوروبية للشؤون الخارجية إلى اقتراح اعتماد تدابير مستهدفة من الاتحاد الأوروبي ضد المسؤولين عن حقوق الإنسان في دولة الإمارات العربية المتحدة، وذلك بموجب نظام عقوبات الاتحاد الأوروبي العالمي لحقوق الإنسان.
وفي ردّ فعل سريع من دولة الإمارات العربية المتحدة، عبر سعيد الحبسي، مدير إدارة حقوق الإنسان في وزارة الخارجية والتعاون الدولي، عن رفض الدولة للقرار، قائلاً: “نرفض بشدة الادعاءات الواردة في النص، والتي تم تناولها ورفضها سابقاً باعتبارها غير صحيحة من الناحية الواقعية. وفند الحبسي القرار مؤكداً أنه يتجاهل بشكل كامل الإنجازات المهمة جميعها لدولة الإمارات العربية المتحدة في مجال حقوق الإنسان. وشدد الحبسي على أن “لكل دولة قوانينها ومؤسساتها القانونية الخاصة، ويكرس دستور الإمارات والتشريعات الوطنية، الحقوق الأساسية التي تنص على المعاملة العادلة لجميع المواطنين والمقيمين”.
وقد عبرت مؤسسات حقوقية عدة عن تضامنها مع دولة الإمارات العربية المتحدة في مواجهة قرار البرلمان الأوروبي، فقد أعرب الاتحاد العربي لحقوق الإنسان عن “الاستنكار لما ورد في قرار البرلمان الأوروبي من جملة واسعة من الافتراءات التي لا تعبر عن فهم ومعرفة بواقع وحالة حقوق الإنسان في الإمارات”. وأشار إلى أن هذا القرار لا يعبر عن فهم ومعرفة “بما يتمتع به المواطنون والمقيمون في الإمارات على حد سواء من كفالة لحقوقهم وحرياتهم تنطلق من عناية تشريعية ومؤسساتية تضمن الوفاء بالقيم والمبادئ الإنسانية السامية كافة التي نصت عليها المواثيق والصكوك الدولية المعنية بحقوق الإنسان”.
لن أتحدث عن الإنجازات التي حققتها دولة الإمارات العربية المتحدة في مجال حقوق الإنسان، فهي ظاهرة للعيان وتوجت مؤخراً بإنشاء “الهيئة الوطنية لحقوق الإنسان”. هذه الإنجازات التي شهد لها القاصي والداني. البرلمان الأوروبي وحده الذي أصر على إنكارها حين أصدر قراره الذي افتقر إلى الموضوعية، حيث تغافل – ربما عن عمد – الإشارة إلى الجهود التي بذلتها الدولة وتبذلها من أجل دعم حقوق الإنسان وتجاهل تماماً ذكر أي إنجازات حققتها في هذا المجال الحيوي. ويكفي في هذا السياق الحديث عن ملمحين أساسيين يؤكدان مدى احترام الدولة لحقوق الإنسان.
الملمح الأول يتسم بالعالمية، حيث أدركت دولة الإمارات العربية المتحدة تمام الإدراك مدى أهمية حقوق الإنسان باعتبارها قيمة عالمية محورية يقاس بها مدى تقدم الأمم والمجتمعات والدول وتطورها. فقد اهتمت الدولة بدعم هذه الحقوق وترسيخها خلال مراحل انتقالها من دولة في مرحلة التأسيس إلى دولة إقليمية مؤثرة في إقليمها المحيط، ثم إلى دولة ذات دور محوري في المجتمع الدولي تمارس أدواراً مهمة تجاه القضايا العالمية. خلال هذه المراحل كان انتقال دولة الإمارات مصحوباً بفكر عالمي يقوم على أهمية التضامن والتعاون والعمل مع الآخرين واحترامهم والإعلاء من شأنهم، سواء كانوا دولاً أو مجموعات أو أفراداً. أي إنها راعت الأعراف والقوانين الدولية في مراحل تطورها وتقدمها، ما أكسبها مكانة دولية وثقة عالمية في قدرتها على المشاركة في مواجهة التحديات والأزمات الدولية. وقد جاءت جهودها في دعم جهود الأسرة الدولية لاحتواء جائحة “كوفيد -19” شاهداً على هذه المكانة وتلك الثقة.
الملمح الثاني داخلي، يتعلق بالعمالة الوافدة، حيث يعمل في ربوع دولة الإمارات عمال يحملون أكثر من 200 جنسية يتمتعون بحقوقهم كافة ويعيشون في أمن وأمان ورخاء وازدهار، ويمتلكون حرية تحويل أموالهم إلى بلادهم. وقد زادت تحويلات هؤلاء العمال عام 2020 على 44 مليار دولار، تسهم في بناء حياة أسر كثيرة حول العالم، الأمر الذي يعني أن الدولة تسهم بشكل مباشر في تحقيق رفاهية الشعوب والمجتمعات عبر ما توفره لعمالتها الوافدة من قدرة على العمل وتحويل الأموال وبيئة يسودها السلام والاستقرار والتعايش السلمي بين الأعراق كلها وأصحاب الديانات المختلفة.
السؤال الذي أريد أن أطرحه هنا هو من أين يستمد البرلمان الأوروبي صلاحياته لانتقاد دولة أخرى مستقلة لها سيادتها وسياساتها؟. تكمن الإجابة على هذا السؤال في التاريخ الاستعماري الأوروبي. ولا يقتصر الاستعمار كما يتصور بعضهم على احتلال الأرض والسيطرة على موارد البلاد المستعمَرَة، بل يمتد إلى ما يسمى “التغريب التراكمي”. هذا التغريب له هدفان: الأول هو أن يظل المستَعمَر مؤمناً بعدم قدرته على إدارة شؤون هويته، وبالتالي وهنا يأتي الهدف الثاني الناتج عن الأول وهو تحقيق تراكمية تقبّل المُستَعمَر للمُستَعمِر كمصدر يدير شؤون هويته وللتصرف الإنساني بديلاً عنه، وكلها أمور تشير إلى هدف أكبر للاستعمار وهو ممارسة السيطرة الفكرية التي تنطوي على الإخضاع العقلي والفكري للدول المستعمَرة.
وفق هذا التصور تأتي قرارات بعض المؤسسات الغربية مثل البرلمان الأوروبي التي تتضمن النقد لدول أخرى بشأن حقوق الإنسان، حيث تستمد هذه المؤسسات صلاحياتها المزعومة من منطق التأكيد على دورها الذي أرادته الدول المستعمِرة لنفسها بأنها دول متميزة ومتقدمة عن الآخرين في مختلف المجالات وخاصة في مجال حقوق الإنسان. وهو منطق مملوء بالتناقضات، ففيما تعطي هذه المؤسسات لنفسها الحق في توجيه الانتقادات للآخرين، فإنها في الوقت ذاته لا تحترم حق هؤلاء الآخرين في التعبير عن رأيهم أي إنها ببساطة لا تحترم الرأي الآخر.
إذا أمعنا النظر في ماهية دراسات “مابعد الاستعمار” سنجد أن المنظّرين لفتوا الانتباه إلى ممارسات متعلقة “بمن يمثل من؟”. وينطوي هذا السؤال على سؤال آخر مفاده: هل ما زال للقوى الاستعمارية الحق في تمثيل مستعمراتها السابقة؟ وهنا أريد أن أسوق مثالاً من كتاب إدوارد سعيد بعنوان “الاستشراق”، الذي بُنى على دراسة الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو في تحليل الخطاب لإنتاج المعرفة، وهنا أحدد “الشرق” – مقارنة بالغرب، أو الشرق الأوسط كمثال. حيث يعني مصطلح “الاستشراق” مجموعة منظمة ومركبة من المفاهيم والافتراضات والممارسات الخطابية التي يتم استخدامها لإنتاج المعرفة وتقييمها عن الشعوب غير الأوروبية. وتتراكم هذه المعرفة لدى الغرب لتصبح أداة من أدوات القوة والتفوق، حيث تتحول هذه المعرفة إلى مجموعة من أدوات التفاعل بين أوروبا والشعوب الأخرى. وهكذا، بينما خسرت أوروبا مستعمراتها في الشرق، فإنها تحاول الإبقاء على أداة من أدوات تفوقها الذي أرادته لنفسها وهو تصنيف الآخرين بأصناف دونية منها عدم احترام حقوق الإنسان. فقد أورد كتّاب دراسات ما بعد الاستعمار، ومنهم إدوارد سعيد، أن من أهم عوامل تسهيل الاستعمار الأوروبي وتبريره كان إنتاج المعرفة التي تتواءم مع المشروع الاستعماري لتمكنيه من السيطرة على الآخرين.
لا أريد أن أتهم البرلمان الأوروبي أو أي من مؤسساته بالسيطرة الاستعمارية، كما لا أريد أن أقلل من شأن أعماله، ولكن مادامت أبرز قضاياه التي يدافع عنها هي قضية حقوق الإنسان، فينبغي والحال كذلك، أن يكون لدولة الإمارات العربية المتحدة والدول الأخرى كلها التي تتعرض للتدخل السافر في شؤونها، حق الرد. وهنا أتساءل، لماذا لا يتعمق البرلمان الأوروبي في دراسة الظروف المحلية والإقليمية التي تسمح لكثير من الجهات المتطرفة أن تنشر أفكارها التي لا تخدم الاستقرار الاقتصادي أو السياسي أو التعايش السلمي؟ لماذا لا يخصص البرلمان وقتاً أكثر لفهم تاريخ الغرب الاستعماري الذي سلب كثيراً من الشعوب لغتها، وهويتها، وفي بعض الأحيان طمس هويتها الفكرية والثقافية والاجتماعية؟ لماذا لا توجه الهيئات المعنية في البرلمان الأوروبي وقتاً أكبر لإبراز روح التعاون الدولي من أجل الوصول إلى أهداف سامية في شأن حقوق الإنسان بدلاً من توجيه اللوم وتكراره؟
في الختام، أود أن أؤكد أنه لو كان هناك اهتمام حقيقي وجاد بحقوق الإنسان، وبضرورة تحقيق التعاون بين مؤسسات المجتمع الدولي كافة من أجل دعم هذه الحقوق في مختلف دول العالم، لما طالب البرلمان الأوروبي الشركات والمؤسسات بمقاطعة معرض إكسبو دبي، الذي هو ليس ملكاً لدبي ولا لدولة الإمارات فقط، وإنما هو ملك للعالم بأسره، ينتظره بما فيه من التجمع الثقافي والاقتصادي والإنساني خاصة في هذه المرحلة التي تشهد محاولات مضنية لتحقيق التعافي من تداعيات جائحة “كوفيد-19”. فهل فكر البرلمان في الخسائر التي ستلحق بهذه الشركات جراء مقاطعتها؟ وهل فكر في حق الأفراد، والمؤسسات، وأطياف المجتمعات كافة في المشاركة في هذا المعرض العالمي؟ لو فكر البرلمان الأوروبي في هذه الحقوق لما أصدر قراره الذي يتعلق- كما يدّعي- بـ “حقوق الإنسان”.