مقدمة:
يواجه أيَّ تحليل مادي للحركات الإسلاموية (المتطرفة) سؤالٌ منهجي وجيه: هل يمكن دراسة الاقتصاد السياسي لهذه الحركات؟ ذلك أنه يوجد خلط شائع في الدراسات الاجتماعية السائدة بين دراسة تمويل، أو مصادر تمويل الجماعات الإسلاموية وبين الاقتصاد السياسي لهذه الجماعات. ولأن دراسة الاقتصاد السياسي خارج نطاق الدولة، بما هي كيان سيادي يملك قوة السلطة المعنوية والمادية على المجال والسكان، ليس أمراً شائعاً، إلا إذا اعتبرنا الجماعات الإسلاموية ضمن كيانات “أشباه الدولة” وهي ليست كذلك؛ لذا تسعى هذه الورقة إلى دراسة الاقتصاد السياسي للحركة الإسلاموية في تونس (2011-2021)، من خلال تحليل مشروع “التمكين الاقتصادي” وآلياته، في إطار منهج التمكين الذي حكمت من خلاله على مدى عشر سنوات، وتداعيات ذلك على الوضع الداخلي للحركة، على مستوى التنظيم وعلى مستوى طبيعة القاعدة الاجتماعية.
أولاً: التمكين الاقتصادي بوصفه جزءاً من مشروع التمكين
يعتبر “التمكين” المشروع الاستراتيجي لجماعة الإخوان المسلمين، ويتكون من أضلاع مختلفة، تتمثل في: التمكين السياسي، والتمكين الأمني1، والتمكين الاجتماعي، والتمكين الاقتصادي، حيث تحاول الجماعة استغلاله خلال مرحلة “المغالبة”، وهي المرحلة التي تسبق التمكين النهائي، في السيطرة على الثروة بموازاة سعيها للوصول إلى السلطة، عبر السيطرة على عملية تنظيم الاقتصاد في الدولة والمجتمع. ويضع القيادي الإخواني علي الصلابي في كتابه “فقه النصر والتمكين في القرآن الكريم”2، هذا النوع من التمكين ضمن الأسباب المادية لبلوغ التمكين النهائي للمشروع الإسلاموي وأحد فروع الصراع الرئيسية (المغالبة)، بل يذهب إلى اعتبار “الهيمنة على الاقتصاد فيه جهاد عظيم (…) وأن الحركات الإسلامية التي تسعى إلى تقوية جوانبها الاقتصادية والمالية وتوظيفها في الدعوة قد أخذت بسبب من أسباب التمكين المادي”3.
بيد أن “التمكين الاقتصادي” قد يأخذ أشكالاً ويتبع مناهج مختلفة في كل مرحلة تاريخية من مراحل تطور الحركة الإسلاموية، وفقاً للسياقات السياسية والاجتماعية التي تتحرك فيها. فمنذ تأسيس جماعة الإخوان المسلمين، لم تستقر الجماعة على نهج اقتصادي محدد المعالم والتوجه، باستثناء بعض الملامح الغائمة وغير الواضحة حول “الاقتصاد الإسلامي”، والمقتصرة أساساً على أنماط التمويل ولا تعالج بقية فروع الاقتصاد الكلي للدولة. في المقابل شهدت الأطروحات الاقتصادية الإخوانية تحولاً جذرياً منذ ستينيات القرن الماضي حتى اليوم، حكمتها أساساً الأطروحات الاقتصادية المهيمنة عالمياً وعربياً، حيث ظهرت أدبيات الجماعة الاقتصادية – القليلة أصلاً – بمظهر اشتراكي ينزع إلى “العدالة الاجتماعية” في ستينيات القرن العشرين، وحاولت أن تضع “الإسلام في ثوب اشتراكي” لإيجاد موقع لها ضمن النسق الفكري والأيديولوجي السائد حينذاك، لاسيما في مصر وسوريا والعراق، حيث كانت الأنظمة السياسية الحاكمة تحمل توجهات اشتراكية، والتي كانت تمثل في ذلك التوقيت أيديولوجية ذات جاذبية كبيرة لدى قطاع واسع من المجتمع، وخاصة لدى الشباب، حيث ظهرت في تلك الفترة أدبيات إخوانية ذات عداء جذري للرأسمالية وميل واضح للاشتراكية، باعتبارها أقرب إلى الوجه الإسلامي، مثل كتاب سيد قطب ”معركة الإسلام والرأسمالية” (1952)، وبرغم أن قطب في ذلك الوقت لم يكن إخوانياً، فإن الكتاب أصبح من المراجع الاقتصادية للإسلاموية لاحقاً. وكتاب “اشتراكية الإسلام” لزعيم جماعة الإخوان المسلمين في سوريا، مصطفى السباعي (1959)، وقبله كتاب الشيخ محمد الغزالي “الإسلام والمناهج الاشتراكية”(1947) .
لاحقاً وبعد أفول الناصرية في مصر ودخول أغلب الاقتصادات العربية في مرحلة الانفتاح الرأسمالي خلال السبعينيات، وما رافقه من طفرة نفطية في الخليج العربي، أصبح الطرح الاقتصادي الإخواني يتجه شئياً فشئياً نحو قبول النموذج الرأسمالي والليبرالية الاقتصادية، وقد سجل الشيخ الغزالي في مقدمة طبعة جديدة من كتابه “الإسلام والمناهج الاشتراكية” نشرت بعد سنوات، ندمه الشديد لاستعمال مصطلح “اشتراكية”4، في تعبير رمزي عن نهاية مرحلة المواءمة بين الإسلاموية والاشتراكية. وعلى الرغم من صعود سردية “مناهضة الإمبريالية والاستكبار” التي طرحتها الثورة الإيرانية، ونجحت نسبياً من خلالها في التأثير على قطاع من الحركات الإسلامية، ولاسيما في تونس والسودان، فإن الطرح الاقتصادي الأساسي للجماعة الإخوانية منذ نهاية الثمانينيات استقر على قبول آليات نظام اقتصاد السوق وخصخصة الاقتصاد. ويبدو أن هذا الاستقرار مدفوع بسببين رئيسيين: الأول، هو استناد الجماعة للمرجعية الفقهية التي تقر مبدأ المبادرة الحرة وتشجع على التجارة، وثانياً، هو وعي الجماعة بأن سيطرة النظم السياسية على الثروة تشكل أحد أهم أسباب قوتها وسيطرتها على السلطة، وبالتالي لا يمكن إيجاد أي مجال للعمل السياسي في حال بقيت الأنظمة مسيطرة على السلطة والثروة معاً. وأن أي مسار للَّبرلَة السياسية يقتضي بالضرورة مساراً موازياً لليبرالية الاقتصادية؛ ولذلك حاولت الاستفادة من سياسات خصخصة الاقتصاد التي جرت في عدد من الدول العربية، بداية من تسعينيات القرن الماضي.
لكن النقلة النوعية في تحول نمط التمكين الاقتصادي المنشود لدى جماعة الإخوان المسلمين، من نموذج الاشتراكية والعدالة الاجتماعية، نحو الرأسمالية والملكية الفردية، حصلت في بداية القرن الحادي والعشرين، في أعقاب هجمات 11 سبتمبر 2001. وقد حصلت هذه النقلة بدفع خارجي من الولايات المتحدة الأمريكية، التي كانت تعيش سياقاً واسعاً من الحرب على الإرهاب، وتريد “بناء شبكات إسلامية معتدلة” لمجابهة التيارات الجهادية في المنطقة، وقد وجدت ضالتها في جماعة الإخوان المسلمين، اعتقاداً منها أنها تملك قاعدة اجتماعية واسعة ومنهجاً سياسياً مرناً يمكن تعديله بما يتوافق مع هذه الاستراتيجية.
ولم يكن الأمر ضمن سياق تآمري، أو سري، حيث نشرت مراكز أبحاث أمريكية نافذة هذا النهج الجديد في دراسات معمقة5. وقد وضعت هذه الدراسات شروطاً دقيقة للشريك السياسي في أن “يلتزم بالأبعاد الأساسية للثقافة الديمقراطية الليبرالية”، وعلى رأس هذه الأبعاد هو البعد الاقتصادي. فقد كان الطرح الأمريكي يقوم على استيعاب الإسلاموية من خلال إعادة إدماجها، سياسياً واقتصادياً. وفي هذا الصدد فإن الإدماج الرأسمالي للإسلاموية سيؤدي إلى الالتزام بالمعايير الاقتصادية الليبرالية يليها الاعتدال الأيديولوجي والاهتمام المتزايد بالتعددية السياسية في إطار فرَضية بالاعتدال الأيديولوجي. وقد برز في تلك الفترة النموذج التركي الإسلاموي، بوصفه حالة نموذجية لهذا الشريك، في جمعه بين “الإسلاموية و”الليبرالية”، والذي شكَّل لاحقاً مثالاً لأغلب الحركات والجماعات. ثم توالت التحولات التي طالت أغلب الحركات الإسلاموية الإخوانية في مصر وتونس والمغرب؛ كي تتواءم مع الاستراتيجية الأمريكية الجديدة. لذلك أخذت محاولات “التمكين الاقتصادي” لهذه الحركات، لاحقاً عندما وصلت إلى السلطة، طابعاً رأسمالياً ليبرالياً، يقوم أساساً على التقليص من تدخل الدولة في الاقتصاد وتوسيع النفوذ الاقتصادي للقاعدة الاجتماعية الإسلاموية لتشكيل طبقة مسيطرة جديدة، تأخذ مكان الطبقة المسيطرة في النظم السياسية التي سقطت في أعقاب الثورات العربية، ولاسيما في تونس ومصر.
ثانياً: آليات سيطرة الحركة الإسلاموية في تونس على الاقتصاد
بعد انتخابات 2011، التي أوصلت حركة النهضة إلى السلطة، شرع الإسلاميون التونسيون في نهج سلوك سياسي يمكن وصفه بـــ “الاستحواذي” تجاه الدولة والمجتمع، مدفوعين بالمساندة الشعبية والدولية وضعف قوى المعارضة الديمقراطية واليسارية. لتدخل الحركة بين عامي 2011 و2013 في حالة من الاشتباك الواسع مع طيف واسع من الخصوم؛ منها: المعارضة اليسارية، والمركزية النقابية (الاتحاد العام التونسي للشغل)، وقوى النظام القديم (شبكات رجال الأعمال والنخب)، وجزء كبير من الجهاز البيروقراطي للدولة. وهذا الصراع هو ترجمة واضحة لما يسميه القيادي الإخواني علي الصلابي في خريطة مشروع التمكين بـ “مرحلة ‘المغالبة”، والتي يطلق عليها زعيم حركة النهضة راشد الغنوشي حالة “التدافع الاجتماعي”، وهي مجموع العمليات والجهود التي تقوم بها الحركة الإسلاموية لإخضاع الدولة والمجال العام، ومن فروعها إخضاع المجال الاقتصادي.
لكن لابد من الإشارة إلى أن منهج الحركة في ”التمكين” الاقتصادي قد اختلف بعد انتخابات 2014، وحالة الأزمة العامة التي دخلت فيها جماعة الإخوان المسلمين في المنطقة العربية بعد 30 يونيو في مصر وخروج الجماعة من السلطة، وتحول الثورة السورية إلى حرب أهلية، ودخول ليبيا في حالة من الاقتتال الأهلي بين المجموعات الإسلاموية والجيش، لكن نهج الحركة في مسار التمكين – برغم هذه التحولات السياسية والسياقات قبل عام 2014 وبعده، ارتكز على ثلاث آليات رئيسية:
- السيطرة على جهاز الدولة: من المغالبة إلى التوافق
كانت قيادة حركة النهضة منذ بلوغها السلطة واعية لأهمية جهاز الدولة، بوصفه الأداة الرئيسية لأي عملية ”تمكين”، سياسية أو اقتصادية؛ بسبب قوة الشرعية التي تملكها الدولة في إدارة المجال والسكان وكذلك قدرتها الواسعة في تنظيم المجتمع وتالياً السيطرة على الثروة؛ لكونها أولاً أحد أكبر ملاك الأصول وأكبر مستهلك (الإنفاق العام)، وثانياً لامتلاكها الجهاز الذي ينظم إدارة الثروة في المجتمع من خلال التشريعات والنظم والقوانين والضرائب؛ لذلك دخلت حركة النهضة في نهج “الاستحواذ” على جهاز الدولة، وذلك من خلال عمليات توظيف واسعة لمحاسيب الحركة وأنصارها، فيما عُرف آنذاك بـــ “تغوُّل الحركة داخل مؤسسات الدولة”، والذي اعترف به الرئيس التونسي منصف المرزوقي، عندما اتُّهمت حركة النهضة بالقيام بتعيينات داخل مؤسسات الدولة حسب الولاء السياسي لها، بكفاءة أو بدون كفاءة، في محاولة للسيطرة على دواليب الدولة 6. وكذلك من خلال عمليات الإعفاء من الوظائف المدنية والأمنية والإحالة على التقاعد المبكر لقطاع واسع من موظفي الخدمة المدنية والجهاز الأمني، من ذوي التوجهات المناهضة لحركة النهضة أو المحايدة سياسياً. أما بعد انتخابات 2014 ودخول الحركة في سياسة التوافق مع حركة نداء تونس، بقيادة الباجي قائد السبسي، دخلت الحركة في مسلك آخر للوجود داخل جهاز الدولة، وذلك باقتسام السلطة مع قائد السبسي وحزبه، والذي تحول لاحقاً إلى بناء مصالح مشتركة سياسية واقتصادية برزت في تقارب بين الشبكات الاقتصادية الداعمة للسبسي والشبكات الداعمة لحركة النهضة وقد مثل كلٌّ من: قطب الإعلام نبيل القروي (متهم بقضايا فساد) ورجل الأعمال شفيق جراية (المسجون حالياً بتهم الفساد) ورجل الأعمال سليم الرياحي (متهم بقضايا فساد)، نماذج لهذا الشكل من التقارب، حيث كانوا داعمين للنهضة ولقائد السبسي في الوقت نفسه.
- – الاستحواذ على “طبقة رجال الأعمال”: المساومة والعقاب
الآلية الثانية التي اشتغلت من خلالها حركة النهضة للسيطرة على المجال الاقتصادي في إطار مشروع التمكين هي السيطرة على طبقة رجال الأعمال، من خلال سيطرتها على الجهاز القضائي بعد انتخابات 2011، في شخص وزير العدل والقيادي في الحركة نور الدين البحيري، الذي قام بتغييرات جذرية طالت جزءاً مهماً من القضاة 7، حيث أمسكت الحركة بقوة بعد ثورة 2011 “ملف محاسبة رجال الأعمال” في عهد زين العابدين بن علي، لكن هذه المحاسبة لم تخضع لأي مقاييس قانونية بقدر ما خضعت لمشروع الحركة في السيطرة على المجال الاقتصادي. وفي هذا السياق دخل عشرات رجال الأعمال في مسار المساومة مع قيادة الحركة حول قضايا الفساد مقابل الدعم المادي للحركة أو التخلي عن جزء من أصولهم لفائدتها، في نموذج للتراكم قائم “على نزع الملكية” مقابل الحرية. وفي المقابل رفض قطاع واسع من هؤلاء نهج المساومة واضطروا للدخول إلى السجن وبعضهم مات داخل السجن في ظروف غامضة 8. ثم لاحقاً دافعت بقوة على قانون “المصالحة الاقتصادية”9، الذي يعفي رجال الأعمال المتورطين في الفساد من المحاسبة مقابل ضخ أموال في مشاريع عامة، بعد التحالف مع حركة نداء تونس، في إطار حمايتهما لفئة رجال الأعمال الداعمين لهذا التحالف. ورغم ذلك ظلت سياسات الحركة الإسلاموية إلى حدود 2016 قاصرةً عن السيطرة التامة على طبقة رجال الأعمال، والسيطرة على النخب بصفة عامة، وقد أشارت اللائحة التقييمية التي نشرتها الحركة في مؤتمرها عام 2016 إلى أن “المنهج الذي اعتمدته لم يتسع للوصول إلى النخب (مثقفون، جامعيون، إعلاميون، نقابيون، رجال أعمال…) والتواصل معهم بخطاب ومضمون مناسبين. وأن وعي الحركة لايزال ضعيفاً بأهمية النخب الماسكة بعملية التوجيه في البلاد وحجم تأثيرها في القرار داخل السلطة، وبدورها الخطير في صناعة وتشكيل الرأي العام”10.
- – المنحى الكمبرادوري : ربط الاقتصاد المحلي بالحلفاء الإقليميين
ينتمي مفهوم ” كمبرادور” 11 إلى معجم الاقتصاد السياسي الماركسي في طبعته الماوية، ويعني الطبقة الاجتماعية الخاضعة غالباً لرأس المال الأجنبي، أو التي تستمد مركزها المهيمن من الخارج. يمكن أن يكون هذا المصطلح توصيفاً دقيقاً للنهج الاقتصادي الذي سلكته حركة النهضة خلال حكمها للبلاد، من محاولة خلال ربط الاقتصاد التونسي بحلفائها في الخارج، ولاسيما تركيا، القوة الاقتصادية الصاعدة، لكنه ليس ربطاً قائماً على دعم الإنتاج المحلي الموجه للتصدير، كما كان الحال في عهد بن علي، وإنما من خلال فتح السوق المحلية للواردات التركية وتعطيل قوى الإنتاج المحلي. وقد استغلت حركة النهضة سيطرتها على جهاز الدولة في رفض مراجعة اتفاقية التجارة الحرة بين تركيا وتونس، تسمح بإعفاء جميع المنتجات الصناعية من الرسوم الجمركية، كما تقضي أيضاً بإعفاء بعض المنتجات الزراعية من هذه المعاليم إلى حدود سقف معين، وقد جاء الغبن فيها على الجانب التونسي بسبب ضعف المنافسة وتفكك البنية التحتية الصناعية؛ بسبب الوضع السياسي غير المستقر بعد 2011 12. وتأكيداً على هذا النهج، كشف وزير مكافحة الفساد السابق محمد عبو، والذي كان شريكاً لـ “حركة النهضة” في حكومة إلياس الفخفاخ (2020) في مقابلة صحافية ديسمبر 2020 أن “سفيراً اشتكى له من أن أحداً من المستثمرين الأجانب لا يستطيع الاستثمار في تونس إلا عندما يكون له شريك تركي”13. وهذا الربط يكشف مدى عمق الروابط الأيديولوجية بين الإسلاميين في العالم على حساب الروابط الوطنية والقومية، رغم اختلاف السياقات السياسية والجيوسياسية.
لكن هذه الآليات الثلاث، التي استندت إليها الحركة الإسلاموية التونسية في عملية التمكين الاقتصادي، فشلت نسبياً، شأنها شأن مشروع التمكين عموماً، لأسباب تتعلق بالواقع الموضوعي المضاد للحركة، خاصة داخل فضاء النخب السائدة، ذات التوجه الرافض للإسلام السياسي، وأسباب تتعلق بالأوضاع الذاتية الداخلية للحركة من فقر نخبوي وغياب كوادر مؤهلة للقيام بهذا المشروع، وحالة الانقسام المديد التي تعيشها منذ سنوات بين أجنحة متصارعة على القيادة، منقسمة على أكثر من محور فئوي وفكري وسياسي وجهوي.
ثالثاً: ملامح الاقتصاد الداخلي للحركة
يبدو من الصعب تحديد حجم الاقتصاد الداخلي للحركة الإسلاموية في تونس من خلال أرقام دقيقة، شأنها في ذلك شأن بقية الحركات الإسلاموية، ذلك أن هذا الملف يعتبر ضمن “أسرار” الحركة، التي حافظت عليها لعقود. لكن يمكن عبر بعض المؤشرات رسم ملامح هذا “الاقتصاد الصغير”، وتأثيراته على طبيعة القاعدة الاجتماعية للحركة وطبيعة الفاعلين الجدد داخلها، وذلك على النحو الآتي:
- روافد التمويل: في العام 2018 أعلنت حركة النهضة للمرة الأولى عن ميزانيتها العامة التي قدرت بحوالي 6 ملايين دينار (3 ملايين دولار)، وقالت إنها قادمة من ثلاثة مصادر: اشتراكات الأعضاء السنوية، والتبرعات العينية، والتبرعات النقدية14. إلا أن هذه الميزانية لا تتوافق مع حجم نشاطات الحركة السياسية والامتداد الواسع لمكاتبها في جميع المدن والقرى. وما يزيد من حدة التشكيك في هذه الأرقام هو ما كشفه تقرير محكمة المحاسبات في عام 2019 حول تبرعات لحركة النهضة بين عامي 2016 و2018 تثبت وجود إيصالات تبرع تضمنت هويات وأرقام بطاقات لـ 68 متبرعاً، تبين أنهم متوفون عند تاريخ تسجيل التبرعات15. لكن تقريراً آخر للمحكمة – وهي أعلى جهة رقابية في البلاد- يكشف عن جزء مهم من الروافد المالية للحركة، وهو الرافد الخارجي، حيث كشف تقرير المحكمة في 2020 بشأن تعاقدها مع شركة ضغط أمريكية لتحسين صورتها بين عامي 2014 و2019، مقابل مبلغ يزيد على ربع مليون دولار، دُفعت في الخارج16. وبعد ذلك التاريخ تعاقدت الحركة مع أكثر من شركة ضغط في الخارج، وقامت بإجراء الدفع من الخارج، لأن القانون التونسي يمنع تمويل حملات ضغط من الخارج17. ويكشف ذلك عن أن الرافد الأساسي لتمويل الحركة هو رأسمالها المهاجر في الخارج وخاصة في أوروبا، والذي قضت سنوات طويلة لبنائه خلال سنوات المنفى الطويلة (1991 – 2011). والرافد الثاني الأهم هو شبكات المجتمع المدني التابعة للحركة أو القريبة منها، والتي شكلت جسراً للتمويل الأجنبي لتخطي العوائق القانونية التي يفرضها قانون الأحزاب في منع تمويل الأحزاب السياسية من الخارج. وقد تنوعت التمويلات الأجنبية المرصودة لهذه الشبكة الواسعة من الجمعيات ذات النفع العام قانونياً، من جهات التمويل الأوروبي والأمريكي، وتمويل أكبر من قطر موجَّه أساساً لقطاع الجمعيات الخيرية. وقد كشفت محكمة المحاسبة أن وزارة الشؤون الخارجية التونسية لا تتوفر على بيانات بخصوص التمويلات التي تحصلت عليها الجمعيات في إطار اتفاقيات التعاون الدولي التي تولت الوزارة إبرامها على غرار المشاريع الممولة من الجمهورية التركية ومن دولة قطر18.
- بروز شريحة “محدثو النعمة”: أدى التحول الجذري للحركة نحو نهج نيوليبرالي فكراً وممارسة إلى تحولات جذرية على مستوى قاعدتها الاجتماعية، وقد بدا واضحاً منذ العام 2016 وإعلان الحركة عن تخليها عن “الإسلام السياسي” أنها تريد إعادته نفسه، لكن في سياق جديد ليبرالي. فمنذ تأسيسها في نهاية ستينيات القرن الماضي وحتى وقت قريب قبل صعودها إلى السلطة كانت القاعدة الاجتماعية للحركة الإسلاموية التونسية تتشكل أساساً من الشرائح الدنيا للطبقة الوسطى في الريف والمدينة، وكان خطابها العام يدعو إلى العدالة الاجتماعية، ويعادي النخب الاقتصادية المهيمنة. لكن بعد وصولها إلى السلطة، وخاصة بعد الدخول في مسار التوافق مع الباجي قائد السبسي، أصبحت الحركة تبتعد شئياً فشئياً عن هذه القاعدة، نحو تمثيل الشرائح العليا من الطبقة الوسطى والفئات الأكثر ثراءً من المحافظين، وهم من فئة “محدثو النعمة” الذين راكموا ثروات في وقت سريع بفضل علاقات المحسوبية مع الحركة، وأغلبهم من أبناء الحركة والذين كانوا في مواقع طبقية أقل شأناً قبل ذلك. وبعضهم الآخر ركبوا موجة وصول الحركة إلى السلطة للتقرب منها والاستفادة من ذلك، وأغلبهم يشتغلون في قطاعات غير منتجة في التمويل والتوريد، فيما يمكن أن نطلق عليه وصف “البرجوازية الإسلاموية الطفيلية”. وهذا التحول اللافت في مستوى القاعدة الاجتماعية ترجمته الأرقام في آخر سباق انتخابي خاضته الحركة، حيث انخفض حجم القاعدة الانتخابية للنهضة من 1,5 مليون ناخب في 2011 إلى نحو نصف مليون ناخب في عام 201919.
رابعاً: ما بعد 25 يوليو والمسارات المستقبلية
في 25 يوليو 2012، أعلن الرئيس التونسي قيس سعيد تعليق عمل مجلس النواب، وإقالة الحكومة الائتلافية التي تدعمها حركة النهضة، وإنهاء وجود الحركة في السلطة بعد عشر سنوات. بعد نجاحه في فترة وجيزة في ضمان ولاء جهاز الدولة بفضل الصلاحيات التي يمنحه إياها التنظيم الجديد للسلطة، حيث شرع الجهاز القضائي منذ ذلك الحين في فتح ملفات قضائية تخص حركة النهضة، يتعلق كثير منها بالمجال الاقتصادي، سواء تعلقت بتمويل الحركة الذاتي أو بسياسات الحركة الاقتصادية في الدولة. وأبرز هذه الملفات ملف جمعية “نماء تونس”، وهي واحدة من أهم المنظمات الاقتصادية الرافدة لحركة النهضة، وقد اشتغلت منذ سنوات على ربط مجتمع الأعمال التابع للنهضة بمجتمعات الأعمال في تركيا وقطر20، ومن أبرز قياداتها رئيس الحكومة السابق حمادي الجبالي21. وكذلك ملف “شركة إنستالينغو”، التي يحاكَم القائمون عليها، وبعضهم قيادات في حركة النهضة “من أجل شبهات ارتكاب جرائم تتعلق بغسل الأموال في إطار وفاق واستغلال التسهيلات التي خولتها خصائص الوظيف والنشاط المهني والاجتماعي والاعتداء المقصود به تبديل هيئة الدولة22.
عزز الرئيس سعيد موقعه في السلطة من خلال إقرار الدستور الجديد في 25 يوليو 2022، الذي منحه “دستورياً” سلطات واسعة على جهاز الدولة، تنفيذياً وتشريعياً، وبالتالي سيمكنه ذلك من إمكانية التوجه نحو إعادة صياغة تشريعات معينة تتعلق بالقطاعات الاقتصادية، ومعاهدات الشراكة الخارجية، والتي من المتوقع أن تنعكس سلباً على المؤسسات الاقتصادية القريبة/ أو التابعة/ أو ذات العلاقة غير المباشرة بحركة النهضة. وعلى سبيل المثال وقف نفوذ المؤسسات ورجال الأعمال الأتراك – في علاقتهم بنظرائهم من الإسلاميين التونسيين – في قطاعات التوريد: أولاً من خلال احتكار المبادرة الاقتصادية للدولة، وثانياً من خلال قرارات متوقعة بوقف استيراد مواد أو بضائع من أنقرة، لفسح المجال لقوى الإنتاج المحلي، خاصة في قطاعات النسيج والمواد الغذائية. وفي هذا السياق كشفت بيانات المركز الفني للنسيج الحكومي عن أن صادرات البلاد من الملابس حققت إيرادات بلغت 1.11 مليار دولار في النصف الأول من عام 2022، أي بزيادة نسبتها 23.48% مقارنة بنفس الفترة من عام 2021. وأضافت البيانات أن دخل هذا القطاع بلغ 1.12 مليار يورو ليشكل نحو 61.4% من حجم عائد الصادرات من الملابس إلى الاتحاد الأوروبي خلال عام 2021 بكامله23. ويأتي ذلك في محاولة من سعيد بالعودة إلى نموذج التنمية القائم على التخصص في الصناعات التصديرية المنخفضة التكنولوجيا، الذي كان سائداً في عهد بن علي، والذي تكتسب فيه بشكل أساسي قدرتها التنافسية في الأسواق الدولية من استخدامها الوفير للعمالة غير الماهرة المنخفضة التكلفة24.
وفي المقابل ستكون حركة النهضة أمام ثلاثة تحديات: أول تحدٍّ داخلي أصبح يهدد وحدتها التنظيمية، وهو انشقاق عدد كبير ونافذ من قيادات الصفين الأول والثاني وتأسيسهم حزباً جديداً، قبل أشهر من مؤتمرها العام في نهاية العام الحالي، والذي من المتوقع أن يفضي إلى خروج رئيسها راشد الغنوشي من القيادة، مع ما يمكن أن يشكله ذلك من اختلال في التوازن التنظيمي القائم داخلها، منذ خمسة عقود. والتحدي الثاني هو ضغوط الرئيس سعيد التي يمكن أن تتجلى في شكل ملاحقات قضائية ومصادرة أملاك وأصول، ومنع من السفر والحركة. ويتمثل التحدي الثالث في تحفظ قوى واسعة داخل المعارضة التونسية من التحالف مع الحركة في مواجهة الرئيس سعيد. هذه التحديات مجتمعة ستجعل من أولويات جماعة الإخوان في المستقبل الدخول في حالة دفاعية؛ لضمان التماسك التنظيمي والحضور السياسي في المشهد مع بقية قوى المعارضة، وتقليل أضرار ضغوط الدولة القضائية والأمنية؛ لذلك لن تكون في سياق أو متسع لتوسيع نشاطها الاقتصادي، فيما ستعيد تنشيط جناحها الخارجي في أوروبا خاصة، لتوفير التمويل الضروري للعمل التنظيمي في الداخل، وربما العودة إلى آليات التمويل السرية، التي كانت سائدة في فترة المنفى السياسي بين عامي 1991 و2011.
خاتمة
خلافاً لما حصل لحركة النهضة عام 1991 من عملية إنهاء وجود سياسي، لا تبدو سياسات قيس سعيد اليوم جذرية تجاهها كما كانت في عهد الرئيس السابق زين العابدين بن علي؛ ذلك أن الحركة قد تعلمت دروساً من تجاربها السابقة، خاصة خلال سنوات وجودها في الحكم – نسبياً – ومنها ضرورة توطيد وجودها السياسي من خلال بناء شبكات اقتصادية لها وجود اجتماعي، وأيضاً بناء علاقات ومصالح مشتركة مع النخب الاقتصادية المهيمنة في البلاد. لذلك، فإن تحجيم وجودها السياسي سيكون صعباً؛ لأنها وإن فشلت في تحقيق مشروعها للتمكين بشكل نهائي، فإنها نجحت نسبياً في تحقيق وجود دائم وعميق لها داخل البنية الاجتماعية، وخاصة داخل النخب الإدارية والمالية والاقتصادية والثقافية، وهذا يمكن أن يمثل لها رصيداً للاستعصاء.
المراجع
- أحمد نظيف، الإسلاميون في تونس ومشروع التمكين الأمني: من المجموعة الأمنية إلى الجهاز السري، مركز تريندز للبحوث والاستشارات، 12 إبريل 2021. https://bit.ly/3dmjdv3
- علي الصلابي، فقه النصر والتمكين في القرآن الكريم: أنواعه – شروطه – أسبابه – مراحله وأهدافه (لبنان، دار المعرفة، الطبعة الخامسة، 2009) ص 287.
- المصدر السابق، ص 290
- محمد الغزالي، الإسلام والمناهج الاشتراكية (إصدارات نهضة مصر، الطبعة الرابعة- القاهرة 2005)، ص ص 5-6.
- Angel Rabasa, Cheryl Benard, Lowell H. Schwartz, Peter Sickle, (2007). Building Moderate Muslim Networks. RAND Corporation. https://bit.ly/2kcgzcw
- الرئيس التونسي وصف الحركة بـ”التوجه نحو التغول في مؤسسات الدولة”، وكالة الأناضول للأنباء، 24 أغسطس 2012،
- إضراب قضاة تونس احتجاجاً على “العزل”، سكاي نيوز عربية، 30 مايو 2012 https://bit.ly/3pdW2pE
- فتح بحث من أجل محاولة القتل العمد والتعذيب حول وفاة رجل الأعمال الجيلاني الدبوسي، جريدة المغرب، 12 يناير 2022، https://bit.ly/3dvdJhN
- مشروع قانون المصالحة انتكاسة للانتقال الديمقراطي في تونس، منظمة هيومان رايتس ووتش، 14 يوليو 2016،
- اللائحة التقييمية لحركة النهضة الصادرة في المؤتمر العاشر 20 -23 مايو 2016، https://bit.ly/3w1Khqb
- comprador | Chinese society | Britannica https://www.britannica.com/topic/comprador
- ACCORD DE LIBRE-ÉCHANGE ENTRE LA TURQUIE ET LA TUNISIE https://bit.ly/3C0Gmxy
- مقابلة وزير مكافحة الفساد، محمد عبو، إذاعة موازيك المحلية، 16 ديسمبر 2020، https://bit.ly/3JWb1OC
- تفاصيل ميزانية حركة النهضة لسنة 2019 ومصادر تمويلها، ألترا صوت تونس، 24 ديسمبر 2018، https://bit.ly/2Ski6wK
- التقرير العام حول نتائج تمويل الحملة الانتخابية لعضوية المجالس البلدية 2018، https://bit.ly/3bWubaw
- التقرير العام حول نتائج مراقبة الحملة الانتخابية الرئاسية السابقة لأوانها والانتخابات التشريعية لسنة 2019 ومراقبة مالية الأحزاب، https://bit.ly/3AmSKqx
- “النهضة” تتعاقد مع شركات ضغط أجنبية للتأثير على الرئيس التونسي، حفريات، 14 أغسطس 2021، https://bit.ly/3dweebv
- محكمة المحاسبات: تمويل الجمعيات في إطار التعاون الدولي، https://bit.ly/3QKjF4X
- Statistiques de l’élection Présidentielle à l’Intérieur – https://bit.ly/3JPxwVj
- بن طوار يدعو لتأسيس شراكات استثمارية فاعلة بين رجال الأعمال القطريين والتونسيين، جريدة الشرق، 01 أغسطس 2017، https://bit.ly/3JPz9lT
- قضية جمعية نماء تونس: تأجيل استنطاق حمادي الجبالين إذاعة موزايك، 20 يوليو 2022، https://bit.ly/3dxhmE5
- قضية شركة “انستالينغو”: 6 بطاقات إيداع بالسجن والإبقاء على 3 متهمين بحالة سراح، جريدة الشارع المغاربي، 21 يونيو 2022، https://bit.ly/3PhjbCd
- ارتفاع إيرادات تونس من صادرات الملابس بنحو 23.5% خلال النصف الأول – cnbc arabia – 23-08-2022 https://bit.ly/3cfD1jE
Baccar Gherib, « Les classes moyennes tunisiennes entre mythe et réalité. Éléments pour une mise en perspective historique », L’Anné