المقدمة
خاض العراق أربع جولات من الانتخابات منذ عام 2003، وكانت العملية تتم عبر المحاصصة الطائفية (سنة، شيعة، كرد) لتوزيع وتقسيم السلطة، والآن يخوض انتخاباته الخامسة نتيجة الاحتجاجات الشعبية الواسعة التي اندلعت في أكتوبر 2019 بسبب الظروف المعيشية الصعبة والفساد، وطالبت بإجراء انتخابات مبكرة، وإعادة تشكيل مفوضية الانتخابات. وقد اتخذت الحكومة العراقية في هذا السياق عدة قرارات؛ منها الدعوة إلى انتخابات مبكرة للبرلمان والبالغ عدد مقاعده 329 مقعداً، وتم إحداث تغيير على مفوضية الانتخاب وإقرار قانون انتخاب جديد.
وقد شهدت الحياة السياسية العراقية تطورات مهمة بعد انتخابات 2018 عكست نتائجها سيطرة البعد الأمني ومحاربة الإرهاب، في حين أن انتخابات 2021 تسيطر عليها احتجاجات 2019، ومطالب معيشية تتعلق بالبطالة والفساد والفقر، وتردي الواقع الخدمي، في بلد ثري يسبح على بحر من الثروات الطبيعية. وقد أدت تلك الاحتجاجات الى استقالة حكومة عادل عبد المهدي، بينما كانت حصيلتها مقتل أكثر من 700 ناشط[1]، وأدت في جزء منها إلى انبثاق أحزاب مدنية جديدة تضم نخباً من الشباب التي قد يكون لها فرصة في التأثير في مشهد الحياة السياسية في العراق، منها على سبيل المثال حزب “البيت الوطني” وحركة “نازل آخذ حقي”.
وما يميز الانتخابات هذه المرة هو لعب وسائل التواصل الاجتماعي دوراً في الدعاية الانتخابية، ويساعد في ذلك أن عدد مستخدمي شبكة الإنترنت في العراق وصل إلى30.52 مليون في 2021 بزيادة 700 ألف مستخدم عن 2020، في المقابل، ووفقاً للمركز الإعلام الرقمي العراقي فإن 25 مليون عراقي يستخدمون مواقع التواصل الاجتماعي في البلاد[2]، ويدشن ما معدله 100 صفحة على الفيس بوك وتليغرام تروج لشخصيات أو تهاجم شخصيات أخرى، ويشرف على هذه الصفحات لجان ومكاتب تتبع الأحزاب والكتل السياسية.
ويبقى تساؤل أساسي حول ما إذا كانت هذه الانتخابات ستكون مختلفة عن سابقاتها في ائتلافاتها وتحالفاتها ونتائجها، ولاسيما في ظل تيارين يسيطران على المشهد؛ الأول يدعو للمشاركة على أمل إحداث تغيير في المشهد السياسي؛ والثاني يدعو للمقاطعة ويضم قوى سياسية مدنية وعلمانية ترى أن المشاركة لن تحقق التغيير المطلوب، وأن المشاركة قد تعطي شرعية للمحاصصة الموجودة.
وتثار أسئلة حول إن كانت الانتخابات القادمة، التي جاءت استجابة لانتفاضة 2019، هي لدعم شرعية النظام السياسي وقدرته على استيعاب المتغيرات الجديدة التي تظهر أم لا.
يمكن تناول الانتخابات وقراءتها في ضوء المتغيرات التي طرأت عليها، وأهمها هو القانون الانتخابي الجديد وموقف الرأي العام منها، وصولاً إلى رسم تصور أولي حول نتائج الانتخابات المتوقعة.
أولاً: خصائص قانون الانتخاب الجديد
- إن اعتماد القانون على نظام الدوائر المتعددة سيضعف بشكل كبير من سيطرة رؤساء الكتل على بقية أعضاء الكتلة، وخاصة مع إلغاء ما يسمى بـ”الرافعة الانتخابية”، وأن رؤساء الكتل الذين كانوا يحصلون على أصوات فائضة يُمنح الزائد منها على العتبة الانتخابية لقوائمهم؛ ما يؤدي إلى تشكيل كتل كبيرة معتمدة على الشخصيات القوية فيها، وأن القانون الحالي يمنع نجاح المجهولين من أعضاء الكتلة؛ لأنه يحول الأصوات لمن حصل عليها بالفعل[3].
- إنه لم يحدد نسبة المقترعين؛ وهذا يعني بالنسبة للأحزاب زيادة حجم التعبئة بين أنصارها التقليديين، في ظل تراجع النسبة العامة للمقترعين على مستوى العراق، وفقاً لاستطلاعات الرأي العام؛ ما يعني ضمناً زيادة فرص وصولها للبرلمان.
- إن قانون الانتخابات الجديد أدى إلى تحول في خطاب الكتل والائتلافات والمرشحين، حيث كانت الدعاية في الانتخابات الماضية تتناول الوضع في العراق ككل، مثل ظواهر الفساد ومحاسبة الفاسدين وفرض الرقابة السياسية على الحكومة وأعمالها، أما بالقانون الجديد، فقد كيّف المرشحون أنفسهم للتواؤم مع ما فرضه القانون الجديد، حيث أصبحت القضايا المناطقية هي المسيطرة، وأصبحت البرامج محلية تعالج أموراً حتى على أقل من المستوى الجزئي، كالبنية التحتية والخدمية، ولم تعد الصورة تتسع لبرامج تعالج الهموم والتحديات التي تواجه العراق ككل.
- هذا الأمر دفع الأحزاب والمرشحين إلى تبني برامج ومشروعات كثيرة لعرضها على الناخبين من أجل نيل ثقتهم، ولكن هذه المشاريع تحتاج إلى ميزانيات ضخمة ليس من السهل توفيرها.
- إن القانون اعتمد نظام الترشيح الفردي بدلاً من القوائم الانتخابية، ليقسم العراق إلى 83 دائرة انتخابية، وهي بدورها مقسمة وفق التعداد السكاني للمحافظات، وهذا النظام يعني ضرورة أن يكون المرشح معروفاً حتى ينجح لدى دائرته الانتخابية ويتمتع بشعبية كافية للفوز، وبالتالي استحالة ترشيح شخص مجهول للدائرة؛ لأنه ببساطة لن ينجح.
- يؤدي هذا إلى تفتيت الأصوات على المرشحين بشكل فردي؛ ما يعني أن القوائم الكبيرة التقليدية قد لا يكون لها القدرة على الفوز بمقاعد كتلك التي حصلت عليها في الدورات الانتخابية الماضية، ويعني هذا الأمر شيئين: إما حالة من التفتت في المشهد البرلماني وما يترتب على ذلك من صعوبات في تشكيل الحكومة، أو الذهاب باتجاه الدفع بانضمام النواب المستقلين للكتل الكبيرة، سواء بتقديم إغراءات أو غيره، وقد نكون في حالة لم تتشكل ائتلافات كافية لتأليف حكومة، ومن ثم الذهاب باتجاه انتخابات جديدة أو الدخول في حالة استعصاء سياسي مع ما يترتب على ذلك من حالة استقطاب تؤثر بشكل كبير على نسيج المجتمع العراقي.
- لم يشر قانون الانتخاب إلى سقف محدد للإنفاق على الحملات الانتخابية، ولهذا يتعرض القانون للانتقاد من قبل المعارضين، ويرون أن المال السياسي الفاسد الذي تملكه القوى الكبرى يتحكم في المشهد السياسي، وأن هناك عملية بيع وشراء لأصوات الناخبين، وهذا ما يسهم في إفساد العملية الانتخابية، وخاصة أن الحملات الانتخابية انطلقت منذ ما يصل تقريباً إلى ثلاثة أشهر، بل إن المعارضين يرون أن الأحزاب التقليدية تستخدم موارد الدولة للصرف على حملتها الانتخابية ولديها استثمارات في الداخل والخارج كبيرة تمول حملاتها مقارنة بالأحزاب الصغيرة[4].
- لم يحدد القانون سقفاً لتمويل الحملة الانتخابية، ولأن الحملة الانتخابية بدأت فعلياً قبل ثلاثة شهور، فإن هذا يطرح أسئلة حول كيفية التمويل للمؤتمرات الانتخابية والأحزاب وبرامج الدعاية، ويطرح المعارضون للقوى التقليدية – بشكل خاص – مسألة المال الفاسد الذي تمتلكه القوى التقليدية، وأن هذا المال يفسد العملية الانتخابية عبر عملية التلاعب بالأصوات وشرائها[5].
ثانياً: موقف الرأي العام العراقي من الانتخابات البرلمانية والبرامج الانتخابية
- هناك تراجع كبير في ثقة العراقيين بالعملية الانتخابية، بوصفها أداة لإحداث التغيير، بسبب عدم وفاء الكتل بوعودها الانتخابية على مدى الدورات السابقة، وكذلك تكرار نفس الوجوه[6]، وقد شهدت الانتخابات بالصورة الكلية حالة تراجع مستمرة في المشاركة بها منذ انطلاق أول انتخابات بعد عام 2003، إذ وصلت نسبة المشاركة في الانتخابات 2018، 44%.
- هناك تردٍّ عام في خدمات المياه والكهرباء والطرق والصحة، والحاجة الملحّة للوظائف، وزيادة نسبة الفقر والبطالة، وهذه ستطغى على أجندة الناخب العراقي فيمن سيعطي صوته.
- كل التوقعات تشير إلى تراجع نسبة المشاركة في الانتخابات العراقية القادمة، ويمكن الإشارة إلى أن السبب هو اليأس من إحداث تغيير جوهري في قواعد اللعبة السياسية، ورغم أن الانتخابات مطلب من مطالب “انتفاضة تشرين 2019” فإن القوى الأساسية في تلك الانتفاضة تقاطع هذه الانتخابات، وتبرر موقفها بالأسباب الآتية[7]:
أ-عدم التزامها بمعايير النزاهة والعدالة بين الكتل الحزبية المتنافسة.
ب-عدم إنهاء ظاهرة السلاح خارج مؤسسات الدولة المختصة بذلك.
ج- عدم تحقيق العدالة في قضية مقتل المتظاهرين، بالإضافة إلى تهديد وتهجير الناشطين.
د-عدم تدخل الحكومة ضد الخطاب الطائفي خلال حملات الترويج التي قادتها الأحزاب والكتل الدينية.
هـ- سكوتها على استغلال موارد الدولة.
و- تجميد البند القانوني الذي يمنع مشاركة الأجنحة المسلحة بالانتخابات، وأن الانتخابات القادمة ستعيد إنتاج ذات الوجوه، وستبقي على المحاصصة الطائفية كعرف سياسي ثابت.
وتخوض هذه القوى حملات لزيادة زخم المقاطعة عبر مواقع التواصل الاجتماعي بالتذكير بمن تم اغتيالهم أثناء انتفاضتهم، وباستمرار سيطرة الأحزاب ذات التنظيمات المسلحة على الساحة السياسية.
- تتمحور الدعايات الانتخابية حول تقديم حوافز سريعة، مثل تنظيم رحلات سياحية في الداخل العراقي، والولائم الكبيرة، وطلاء الشوارع والطرقات، وغير ذلك، أو وعود مستقبلية تتعلق باحتياجات الجمهور والمناطق للخدمات، بغض النظر عن إمكانية تحقيق هذه الوعود، وبالتالي يغيب البعد السياسي للبرامج، وحتى علاقات العراق مع دول الجوار والعالم الخارجي.
- كان هناك جدل كبير وانقسام بين من يؤيد حصر السلاح بيد المؤسسات الأمنية المختصة ويطلق عليهم قوى الدولة ومثّلهم بشكل رئيسي انتفاضة 2019، في مقابل اتجاه آخر يريد إبقاء السلاح بيده والحفاظ على مكتسباته، ويرى أن الأمور مازالت غير مستقرة. وعلى أية حال، فإن هذا الجدل لم يعد قائماً في حملة الانتخابات الحالية، وبالتالي من المستبعد إثارته لما بعد الانتخابات، وقد يحل محل هذا الجدل التسويات السياسية والمحاصصة كعنوان ميّز النظام السياسي العراقي ما بعد 2003.
- إن الصراع والجدل بين ما اصطلح عليه “قوى الدولة واللادولة” كذلك لن يكون هو جوهر الجدل والنقاش في الانتخابات وما بعد الانتخابات، ما لم يقترن ذلك بضغط خارجي كالذي مارسته الولايات المتحدة في فترة سابقة، ورغم تراجع – بل حتى زوال – داعش كخطر حقيقي يهدد الدولة ومؤسساتها، والذي كان المبرر الرئيسي لوجود السلاح خارج يد القوى النظامية الأمنية، فإن السلاح بقي وضعه كما هو، ومن المستبعد نشوء معارضة حقيقية من القوى التقليدية لوجود هذا السلاح، خاصة في ظل معطيات تشير إلى تقارب النتائج بين الكتل الرئيسية التقليدية. لكن ومن باب الإحاطة الشاملة في التحليل، فإن مسألة إثارة السلاح بعد الانتخابات يرتبط باستقرار الأوضاع في الشرق الأوسط وحسم الملف السوري والمفاوضات النووية بين الغرب وإيران… إلخ.
ثالثاً: الخريطة الانتخابية لعام 2021
يمكن قراءة الخريطة الانتخابية وأهم فواعلها على النحو الآتي:
- يشارك في هذه الانتخابات ما يزيد عن 3,200 مرشحاً للفوز بمقاعد البرلمان البالغة 329 مقعداً، وبعدد دوائر83 دائرة انتخابية، وهناك 5 تكتلات انتخابية أعلنت انسحابها من الانتخابات.
- هناك خلاف بين قطبين أساسين وهم التيار الصدري وائتلاف دولة القانون برئاسة المالكي، ويعود الخلاف لموافقة المالكي على مهاجمة جيش المهدي التابع للصدر حينما كان رئيساً للوزراء، واستمرت الخلافات إلى اليوم، وتجسدت في هذه الانتخابات في حرق الدعايات الانتخابية التابعة لائتلاف المالكي وإتلافها. والجدير بالذكر أن المالكي اعترض على نتائج انتخابات 2018، وقدّم شكوى رسمية إلى المحكمة الاتحادية، لكنه اضطر إلى سحب شكواه “كي لا تحدث حرب أهلية”، على حد قوله.
- ظهور أحزاب ناشئة جديدة بعد احتجاجات 2019، منها حركة “نازل آخذ حقي” التي يرأسها الفريحي، والبيت الوطني.
- برغم صعوبة حصر توقع أعداد المقاعد لكل كتلة، فإن الظروف والمتغيرات التي تجري بها الانتخابات لا تختلف عن الانتخابات السابقة، وبالتالي لن تشهد هذه الانتخابات مفاجآت كبيرة عما حدث في انتخابات 2018، والجديد المختلف هو:
- أولاً: القانون الجديد الذي قسم العراق إلى 83 دائرة انتخابية، وهذا القانون سيضعف حصص التكتلات التقليدية لصالح المرشحين المستقلين،
- وثانياً: تيار المقاطعة الذي قد يشهد قوة دفع وذلك لتزامن ذكرى الانتفاضة مع إجراء الانتخابات، وقد تجري حملة تعبئة لمقاطعة الانتخابات، وهذه المقاطعة ربما تحفز احتجاجات جديدة بعد الانتخابات.
- أن جدوى التظاهر مسألة مشكوك في قدرتها على التأثير ما لم تترجم في صناديق الاقتراع لصالح الأحزاب التي تمثل مطالب المحتجين، وواضح أن قوى الاحتجاج ليست على رأي موحد، فالجزء الأهم مع المقاطعة لعدم تلبية مطالبه، ومنها التحقيق في مقتل المحتجين، وعدم السيطرة على السلاح المنفلت، وإذا ما تحولت المقاطعة إلى تيار واسع، فإنها ستعيد إنتاج الاحتجاجات بهدف تغيير قواعد اللعبة التي تفرضها القوى التقليدية على اللاعبين السياسيين، وقد يعزز هذه الاحتجاجات إذا ما تم إعادة إنتاج ذات الأحزاب والسياسات، أما الجزء الآخر فهو يشارك ولكن في حدود؛ وبالتالي تأثيره في الانتخابات مسألة نسبية، ويَرد هذا التيار المشاركة المحدودة إلى الملاحقات والاغتيالات التي تطال نشطاء هذا الحراك، وغياب الأمن للناخبين[8]، وتهديد الناشطين وتهجيرهم خارج محافظاتهم.
- أن إجراء الانتخابات يعني ضمناً استمرار النموذج السياسي السائد واستمرار قواعد اللعبة، وأن التوازنات الإقليمية والدولية مع استمرار الوضع الراهن، رغم وصف المعارضين لهذا النموذج بأنه فشل في تحقيق أحلام وتطلعات العراقيين، وجعل العراق دولة فاشلة[9].
- أن الناخبين الذين سيشاركون في الانتخابات هم الموالون للأحزاب السياسية، وهؤلاء تقليدياً هم من يرجحون بقاء الوضع الراهن، خاصة إذا حصل عزوف عن المشاركة في الانتخابات من قبل الناخبين المستقلين، وهذا يعطي مؤشراً على سيطرة القوى التقليدية وتحكمها في المشهد.
- أن القوى التقليدية التي لديها ميليشيات عسكرية لها اليد الطولى على المشهد الانتخابي، وأن احتمالية منافستها من القوى الجديدة مسألة ليست سهلة، وإذا ما تراجعت حصتها في البرلمان بشكل كبير، فإن هناك احتمالية لعدم قبولها بهذه النتيجة، وقد تلجأ إلى تقديم شكوى إلى المحكمة الاتحادية، وقد تذهب إلى أبعد من ذلك.
- في ضوء ما سبق فإن تشكيل الحكومة القادمة مرتبط بتوافقات داخلية وخارجية. كما أن تشكيل الائتلافات والتوافقات بين الكتل البرلمانية هو من سيقود المشهد السياسي العراقي، وتبقى هناك سيناريوهات مفتوحة لكيفية تشكيل الائتلافات.
- في حالة كانت نسبة المشاركة كبيرة، فإنه من المتوقع أن يحدث تغيير لصالح القوى الجديدة، رغم أن القوى التقليدية ستمارس أدواراً ذات أهمية بالغة على مخرجات الانتخابات.
رابعاً: احتمالية التزوير بنتائج الانتخابات والتلاعب بها
هناك تخوفات وهواجس من التلاعب بنتائج الانتخابات، وجزء من مواجهة ومعالجة هذه التخوفات أنه سيتم تأمينها من قبل الأجهزة الأمنية العراقية، ويمكن إجمال المشهد بخصوص التلاعب والتزوير على النحو الآتي:
- هناك خلافات وصراعات بين القوائم والأحزاب السياسية، وهذا يعكس حالة الاستقطاب الحاد بين أطراف اللعبة الانتخابية، وغياب المنافسة المتعارف عليها في الانتخابات الديمقراطية، وهي تؤشر إلى احتمالية التزوير من خلال حرق صور المرشحين ودعايتهم الانتخابية[10].
- من المحتمل أن تعيد القوى والكتل التقليدية هيمنتها؛ لكون المنافسة محصورة فيها بشكل أساسي، ويعزز هذا الاحتمال تحكم السلاح بالمشهد العراقي، وهذا العامل يضعف فكرة التنافس، ويدفع القوى الجديدة التي برزت في ثورة واحتجاجات 2019 بشكل كبير إلى اللجوء للمقاطعة، ويبدو أن تيار المقاطعة له حضوره عند الرأي العام العراقي، بل إن القوى التي ظهرت في احتجاجات 2019 تتعرض لتهديد بالقتل أو الانسحاب وفقا لما تقول[11].
- وبرغم توقيع الأطراف المشاركة في العملية الانتخابية على مدونة السلوك الانتخابي التي دعا لها برهم صالح رئيس الجمهورية بهدف احترام آليات العمل السياسي، واحترام مبدأ التنافس، فإن القوى الجديدة والتي تعرف نفسها بحراك المعارضة أو المجتمع المدني الذي قاد انتفاضة 2019 تتخوف من التزوير بحجة عدم توافر بيئة آمنة لإجرائها طالما لم يجمع السلاح بيد الدولة كما ذكرنا آنفاً، بل وتصف انتخابات 2018 بالمزورة.
- أن ما يميز هذه الانتخابات هو طلب العراق من مجلس الأمن الدخول على خط رقابة الانتخابات، وصدور القرار 2576 من مجلس الأمن، وهذا يخرج الرقابة من دائرة الشكلية إلى دائرة الجدية، وقد تصدر تقارير موضوعية، وإذا ما حدث تزوير واسع فإنه من المحتمل أن يتدخل مجلس الأمن بناء على القرار السابق، وهناك عدد من المراقبين الدوليين وصل إلى509 مراقبين[12].
خامساً: السيناريوهات المتوقعة لحصص الكتل الانتخابية
في البداية من المتوقع في ضوء قانون الانتخابات الفردي الجديد في حال جرت الانتخابات على ما يرام ووفقاً للمعايير المتعارف عليها (وفقاً لشروط النزاهة والموضوعية) أن تتراجع حصة الكتل الرئيسية وبشكل لافت، وأن تظهر كتل صغيرة الحجم ونواب مستقلون بعدد أكبر ولكنهم سيكونون أصواتاً مؤثرة للوصول إلى الكتلة الأكبر اللازمة لاختيار رئيس الوزراء ومجلس الوزراء ككل.
أشرنا سابقاً إلى أن هناك عدة تغيرات تتحكم في نتائج الانتخابات؛ منها قانون الانتخاب نفسه، وحجم المشاركة في الانتخابات، والسلاح المنفلت وتأثيره على إرادة الناخب، وهل ستجري الانتخابات بنزاهة وشفافية تامة أم بعمليات تزوير واسعة تؤثر في نتيجة الانتخابات؛ وحتى يكون تحليلنا دقيقاً، فإن المتغيرات الآنفة الذكر أساسية في التنبؤ بنتائج الانتخابات وحصص الكتل، ولكن يمكن الحديث عن التنبؤات الآتية التي تأخذ بثبات المتغيرات السابقة:
- أن التيار الصدري، والمعروف بكتلة سائرون، ستكون لديه مناطق مغلقة كمدينتي الشعلة والصدر، وهي دوائر محسومة، إضافة إلى محافظات ميسان والنجف والناصرية والبصرة، ومقاعد نسبية في المحافظات الجنوبية المتبقية، ولديه خبرات في إدارة حملات الدعاية الانتخابية، وهذا الافتراض بتدني نسبة المشاركة السياسية، بسبب مقاطعة غالبية تيار احتجاجات 2019، وما يجري على تيار الصدر.
- أما تحالف الفتح الذي ينضوي تحته أحزاب مختلفة، وهي ذراع سياسية للميليشيات العسكرية التي لها علاقة وثيقة مع إيران، ويتبنى الرؤى الإيرانية في العراق والمنطقة، فإنه إذا أجريت انتخابات نزيهة فستتراجع حصتها في مقاعد البرلمان مقارنة بما حصلت عليه من مقاعد (48 مقعداً) عام 2018، وقد أصبح موقفها أضعف بعد اندلاع احتجاجات 2019 في المناطق التي يسيطر عليها الشيعة، وتتهمها قوى الاحتجاجات بالمسؤولية عن قتل ناشطيها[13].
ولكن هذا التحالف لديه نفوذ في مناطق الوسط والجنوب العراقي مغلقة له، وله وجود في محافظة ديالى، ونكرر ما ذكرناه أن ازدياد نسبة المقاطعة يصب في مصلحة الكتل السياسية التقليدية بسبب أن أنصارها التقليديين لن يتأثروا بالمقاطعة.
- إذا حدث سيناريو مقاطعة الانتخابات من قبل قوى الاحتجاج، فإن النتيجة المتوقعة هي الانقسام بين الحزبين الشيعيين (الصدريين وفتح) وحلفائهم من الأكراد، وسيؤدي ذلك إلى تكرار المفاوضات المعتادة حول مرشح وسط كرئيس للوزراء، والذي ينتج عن مثل هذه المفاوضات مرشح ضعيف أو شخص يحسب على جهة محددة دون غيرها، وستذهب الرئاسة إلى الأكراد[14].
وهناك عوامل مساهمة في استمرار سيطرة القوى التقليدية على المشهد العراقي:
- امتلاك المال الكافي لاستخدامه سياسياً في الدعاية الانتخابية أو غيرها، ولديها مصادر تمويل متعددة بعكس القوى الجديدة.
- هيمنتها على مؤسسات الدولة وقدرتها على توظيف هذه المؤسسات في الانتخابات.
- السلاح الخارج عن المؤسسات الأمنية (السلاح غير النظامي) الذي له دور في فرض الإرادة على الانتخابات كما يقول الشمري.
- أن ائتلاف ما يطلق عليه قوى الدولة – يشمل النصر برئاسة حيدر العبادي رئيس الوزراء العراقي الأسبق، وتحالف الحكمة بزعامة عمار الحكيم، وائتلاف دولة القانون بزعامة رئيس الوزراء العراقي الأسبق نوري المالكي- سيحتل المرتبة الثالثة.
- أما الأحزاب المدنية فمن المتوقع أن تحصل على الترتيب الرابع وبأعداد محدودة وغير مؤثرة إذا كان تيار المقاطعة هو الغالب، وكان هناك انخفاض في نسبة المشاركة بشكل ملحوظ مقارنة مع انتخابات 2018، والتي قدرت فيها نسبة المشاركة بـ 44% كما تشير استطلاعات الرأي.
- أما المدن الشمالية السنية، فمن المتوقع استمرار سيطرة تحالف التقدم الوطني برئاسة الحلبوسي وتحالف عزم بقيادة خميس خنجر وخاصة في محافظات نينوى وصلاح الدين والأنبار وجزء من ديالى وكركوك، وهذا بافتراض ثبات المتغيرات السابقة أيضاً.
- أما الأكراد فستكون مدن إقليم كردستان مغلقة لهم، مع حضور ليس كبيراً في محافظة نينوى وصلاح الدين وكركوك وديالى، وستتنافس فيها القوى التقليدية كالحزب الديمقراطي الكردستاني والذي تنحصر مناطقه التقليدية في محافظتي دهوك وأربيل، أما الإتحاد الوطني الكردستاني فلديه مناطق السليمانية وحلبجة وجزء من كركوك، مع إمكانية منافسة حركة التغيير.
سادساً: تشكيل الحكومة بعد الانتخابات
“إن ما بعد الانتخابات هي المرحلة الأهم[15]” وتعني ضمناً عملية تشكيل الحكومة وإدارة البلاد
يعد منصب رئيس الوزراء هو الأهم في النظام السياسي العراقي، حيث يتمتع فعلياً بصلاحيات واسعة مقارنة بمنصب رئيس الدولة الذي يتمتع بصلاحيات محدودة وبروتوكولية، حتى البرلمان فإنه لا يتمتع بالمرونة ولا بالقدرة على التأثير الكبير في السياسات العامة، ولديه تيارات مختلفة ومتنازعة، وأنه منذ تشكل النظام السياسي عام 2003، لم تكن هناك معارضة قوية وازنة في البرلمان؛ لأن الحكومة تشكلت بفعل التوافقات والمحاصصة بين الكتل.
ووفقاً للتقسيم الطائفي ونظام المحاصصة للنظام السياسي أيضاً، فإن منصب رئيس الوزراء يذهب إلى المكون الشيعي، في حين يذهب منصب رئيس الدولة للأكراد، ومنصب رئيس مجلس النواب إلى المكون السُّني.
وحتى تتشكل الحكومة، فإنها تحتاج كما ينص الدستور العراقي إلى 165 مقعداً، وإن الكتلة الأكبر هي التي تتشكل بعد الانتخابات، وهي المكلفة بتشكيل الحكومة. ولم تستطع أي كتلة حتى الآن أن تشكل الحكومة وحدها.
وفي ضوء التجارب السابقة منذ انبثاق النظام السياسي عام 2003، فإن منصب رئيس الوزراء تم التوافق عليه بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية بشكل أساسي، وفي كثير من الحالات خضع إلى مساومات وصفقات ولوقت طويل حتم تم حسم الأمور، مع الأخذ في الاعتبار الاستحقاقات الانتخابية للكتل والأحزاب السياسية، ويمكن الإشارة إلى النقاط الآتية:
- كانت الكتل والأحزاب المدعومة من إيران والتي تتمتع بعلاقة وثيقة معها عديدة، وأهمها كتلة الفتح، التي لديها تقارب أيديولوجي وتتمتع بالثقل الأكبر داخل المكون الشيعي، ومن هنا يتجلى النفوذ الإيراني في التأثير على العملية السياسية، بالإضافة إلى أن إيران لها علاقة ببعض الفصائل الكردية أيضاً.
- كانت الولايات المتحدة الأمريكية تتمتع بتأثير في الأكراد، وبدرجة أقل على المكون السُّني، ولديها حضورها العسكري على الأرض، وقدراتها الأمنية الكبيرة في العراق، بل إن الولايات المتحدة هي التي صممت هذا النظام السياسي وفقاً لما تحدث عنه الحاكم الأسبق للعراق بول بريمر.
- مع بروز اختلافات داخل المكونين الشيعي والسنّي وظهور قيادات جديدة، اختلفت الرؤى حول كيفية إدارة الدولة وتوجيه السياسة الداخلية والخارجية، والتعاطي مع الجوار الإقليمي، وحتى في القضايا الداخلية ومنها قضايا الاقتصاد، والموقف من الفقر والبطالة والاستثمار، ومن السلاح المنفلت.
- هذا التأثير برز في التجربة الأخيرة لحسم منصب رئيس الوزراء، حيث ظهر مصطفى الكاظمي، رئيس الوزراء الحالي، كحلٍّ وسط بين أربعة مرشحين آخرين أخفقوا في الحصول على الموافقة من قِبل الكتل، ويبدو تأثير الصدر والمرجعية الشيعية والرضا الأمريكي وعدم اعتراض إيران عليه هو ما أوصله إلى منصب رئيس الوزراء.
أخيراً: سيناريوهات اختيار رئيس الوزراء في ضوء الانتخابات
- وفقاً لطبيعة قانون الانتخاب الجديد ونتائجه المتوقعة؛ فإنه سيؤدي بالكتل التقليدية السُّنية والشيعية والكردية إلى تراجع حجم كتلهم الكبيرة وانقسامها، وظهور النواب المستقلين والكتل الصغيرة في حال كانت المشاركة كبيرة، وتمت الانتخابات بشفافية، وانعدم تأثير السلاح المنفلت، حتى هذه الكتل الصغيرة قد تكون عرضة للتفتت والانقسام بسبب طبيعة القانون الانتخابي الذي أعطى الأولوية للانتخاب الفردي وتقسيم الدوائر، وهذه ليست الصورة كلها، وأقصد مدى حرية الناخب في اختيار مرشحيه في ظل الشكاوى من التهديدات التي يتلقاها الناخب، أو مدى نزاهة الانتخابات.
وإذا مال المشهد للتفتت، فإن هذا قد يطرح أسئلة حول مدى ملاءمة النظام السياسي المعمول به حالياً كله، خاصة مع تنامي رفض الرأي العام لفكرة النظام البرلماني، الذي أضعف أداء المؤسسات العراقية، وما أنتجه من محاصصة سياسية أسهمت في تعميق ظاهرة الفساد وزيادة البطالة، كما يصفه محتجون عام 2019، وهذا قد يؤدي إلى نتيجتين:
- كلما تراجعت حجم الكتل ومال المشهد السياسي إلى التفتت (سواء بزيادة عدد النواب المستقلين أو بتشكل كتل صغيرة جديدة)، كانت مسألة التدخل الخارجي أسهل، بل إن إمكانية تشكيل المشهد لا تحتاج إلى جهد كبير للتلاعب به وفقاً لمقتضيات مصالح الأطراف الخارجية المتدخلة.
- قد نشهد بعد الانتخابات حالة من الاحتجاجات والإنكار لنتائج الانتخابات، وقد تتطور إلى حالة عدم استقرار حسب حركة الموقفين الإقليمي والدولي، ويضاف إلى ذلك أن هناك رفضاً من قوى احتجاجات عام 2019 تتمثل في تيار المقاطعة الواسع كما ذكرنا آنفاً، وفي الوقت ذاته سيكون هناك سعي دؤوب للعمل على ضم المرشحين المستقلين وتشكيل ائتلافات مع الكتل الصغيرة وصولاً إلى الكتلة الأكبر بهدف تكليفها بتشكيل الحكومة، وبالتالي تصبح عملية انضمام أي نائب مستقل أو كتلة صغيرة مسألة حاسمة بالنسبة إلى جميع المكونات (الشيعة، السُّنة، الأكراد)، وكذلك مسألة الاتفاق مع الكتل الرئيسية من المكونات السُّنية والكردية، وقد تنبه نوري المالكي إلى الأمر وأهميته ما جعله يعيد جذور التواصل مع الأكراد والنواب السُّنة سعياً منه في حال فوز ائتلافه (ائتلاف دولة القانون) بمقاعد ذات أهمية في محاولة للعودة إلى منصب رئاسة الوزراء، لكنه قد يواجه رفضاً من الصدريين بسبب عملية جولة الفرسان، بالإضافة إلى موقف المرجعية الشيعية منه، وكذلك هناك قوى تحمّله المسؤولية عن سيطرة داعش على الموصل.
- كل قادة الكتل بلا استثناء لديهم الرغبة في مغادرة المربع الطائفي أو الأيديولوجي أو المناطقي للحصول على الأغلبية اللازمة لتشكيل الحكومة.
- يبقى التوافق الإيراني – الأمريكي وموافقة المرجعيات عاملاً مهماً فيمن يكلف برئاسة الوزراء، آخذين في الاعتبار نتائج الانتخابات.
- إن ما اصطلح عليه “بيضة القبان” أي الكتلة الكردية لترجيح الكفة في حسم الصراعات بين القوى المتنافسة لتشكيل الكتلة النيابية الأكبر، عبر إبرام اتفاقات مبدئية مع الأكراد ذات طابع مصلحي، من الممكن تكراره على غرار الانتخابات السابقة، لكن المكون الكردي لديه تحدٍّ فيما يتعلق بمدى الانسجام داخل بيته، وهو ما سيتضح بعيد الانتخابات.
- في حال الوصول إلى طريق مسدود لتكليف رئيس الوزراء، وعدم حصول أي كتلة على عدد كافٍ من المقاعد لتكليفها بتشكيل الحكومة، قد يعاد تكليف مصطفى الكاظمي كحلٍّ وسط، أو يقود حكومة تسيير أعمال لفترة ليست قصيرة.
المراجع
[1] . ويكيبيديا https://bit.ly/3BeWMiC
[2] .شذى العاملي (فيسبوك تقرر توثيق محاور للسيطرة على نزاهة الانتخابات في العراق)، انظر أيضاً: https://bit.ly/2YaHHQq
[3] . العراقيون يستعدون للتصويت، الحرة، https://arbne.ws/3019BPV
[4] . كيف تمول الأحزاب حملاتها الانتخابية https://bit.ly/3uJD2kz
[5] . العراق: فرص متدنية لتمثيل القوى المدنية، العربي الجديد في: https://bit.ly/3ldIUzI
[6] . العراقيون وصناديق الاقتراع ..أزمة ثقة في طقوس سلطوية، انظر: https://bit.ly/3Fl0cTq
[7] . “العراق: فرص متدنية لتمثيل القوى المدنية في البرلمان المقبل” في العربي الجديد في https://bit.ly/3Be8eLy
[8] . العراق: فصائل مسلحة تنتشر في قرى محافظة ديالى قبل أسابيع من الانتخابات في: https://bit.ly/2Yc9Ozj
[9] .صباح الناهي في الأندبندنت عربية: https://bit.ly/3A2al3C
[10] . شذى العاملي (المرشحون المستقلون بين التهديد بالانسحاب أو القتل) التاريخ 27/9/ 2021، الأندبندنت العربية، https://bit.ly/3mpB2dM
[11] . المرجع نفسه.
[12] .مهدي كريم: الانتخابات العراقية… هل من آمال بالتغيير؟، المجلة، https://bit.ly/3iTKBAP
[13]. Nawzad Shukri (2021) Iraqi Elections: Current Coalitions Are Not Recipe for change, Washington Institute at https://bit.ly/2ZOGv63>
[14] .Marsin Alshamary (2021) Iraq’s upcoming elections: Voters and likely winners at brookings https://brook.gs/3BiYHmf
[15]. تصريح الممثلة الخاصة للأمين العام للأمم المتحدة، جينين هينيس بلاسخارت: https://bit.ly/3FtU1wz