Insight Image

الانسداد السياسي: صراع الإرادات التقليدية في العراق

26 أبريل 2022

الانسداد السياسي: صراع الإرادات التقليدية في العراق

26 أبريل 2022

مقدمة

إن ظاهرة الانسداد السياسي في تشكيل الحكومات العراقية ليست وليدة العملية السياسية الحالية أو الانتخابات الأخيرة، بل ارتبطت بشكل دائم مع مفاوضات تشكيل أغلب الحكومات العراقية خلال العقد الأخير. ورغم أن الانسداد السياسي تجلى في عدة ملفات – قد يتضمنها البرنامج الحكومي – منها: قضية التعامل مع الوجود الأمريكي، وسحب الأسلحة من الميليشيات، وإعادة هيبة القوات المسلحة العراقية، ومكافحة الفساد، وشكل العلاقات الخارجية خصوصاً مع إيران. فإن هذه الملفات في طياتها تخفي الكثير من حيثيات الصراع الحقيقي بين الزعامات السياسية العراقية حول مساحة النفوذ في السلطة التنفيذية، ومقدار الهيمنة على مصادر التمويل الحكومي، والحفاظ على المستقبل السياسي لتلك الزعامات وأحزابها أيضاً.

وفي هذا الإطار، تناقش هذه الدراسة حالة الانسداد السياسي في العراق من خلال قراءة تحليلية للخبرة الماضية، والأسباب الرئيسية لعرقلة تشكيلة الحكومة الحالية، وأخيراً المسارات المغاير لإحداث انفراجة حقيقية لحالة الانسداد السياسي في العراق.

أولاً، قراءة في الخبرة الماضية لعملية الانسداد السياسي في العراق

ظهر مصطلح الانسداد السياسي في العراق مع تشكيل الحكومة عام 2010، إذ كان لفوز القائمة العراقية برئاسة إياد علاوي رئيس الوزراء الأسبق بعدد (91) مقعداً في الانتخابات التي جرت في 7 مارس 2010 [1]، وبداية للالتفاف على الديمقراطية أيضاً، مصدر قلق كبير لإيران وحلفائها الذي كان يمثلهم نوري المالكي، آنذاك، في الداخل العراقي الذي أعلن رفضه النتائج، لاسيما أن علاوي عرف بتوجهاته نحو الدول العربية، وقربه للدول الغربية في علاقاته الخارجية وابتعاده عن إيران، التي انخرطت بقوة في العملية السياسية العراقية لضمان استمرار التفوق الشيعي، وضغطت على مختلف الاتجاهات، الأمر الذي أسفر عن قرار بتفسير المحكمة الاتحادية لمفهوم الكتلة الأكبر، التي غيرت من خلاله مفهوم الكتلة الأكبر الذي نصت عليه المادة (76 أولاً) من الدستور العراقي، والقائلة[2]: يكلف رئيس الجمهورية مرشح الكتلة النيابية الأكثر عدداً بتشكيل مجلس الوزراء خلال خمسة عشر يوماً من تاريخ انتخاب رئيس الجمهورية.

إن تفسير المحكمة الاتحادية في ذلك الوقت أسهم بحل نصف الانسداد السياسي، لكن اللافت للنظر أن أزمة الانسداد السياسي في عام 2010 لم تكن في فحوها صراع بين القائمة العراقية والتحالف الوطني الشيعي بزعامة نوري المالكي، وإنما كانت بين الزعامات الشيعية نفسها، فزعيم التيار الصدري، مقتدى الصدر، ورئيس الوزراء الأسبق، نوري المالكي، تبادلا الرفض بينهما في عام 2008، حين شن المالكي حملة عسكرية كبيرة سميت (صولة الفرسان) مدعومة من الجيش الأمريكي ضد ما يعرف بجيش المهدي التابع للصدر في بغداد والبصرة وعدد من مدن الجنوب، والتي أسفرت عن مقتل واعتقال الكثير من أفراده. واعتبر الصدر هذه العملية محاولة لسحق التيار الصدري وإجباره على الرضوخ للقوى الشيعية الأخرى[3].

وعلى الرغم من تصريحات الصدر العديدة الرافضة لترشيح المالكي لولاية ثانية فإنه تراجع عن موقفه تحت الضغوط الإيرانية معلناً موافقته على الولاية الثانية للمالكي في عام 2010، لكن هذا الأمر لم يستمر كثيراً فتصاعدت حدة الخلافات بين الطرفين خاصة بعد تصريحات المالكي بأن الصدر لا يفقه شيئاً بالسياسة وعليه الابتعاد عنها، وكان لذلك تأثير واضح على موقف الصدر الذي نجح بإقناع القوى السياسية الشيعية بعدم التمديد للمالكي لولاية ثالثة بعد انتخابات عام 2014، وذلك ما وضع العراق في حالة انسداد سياسي جديدة تزامنت مع اهتزاز البلاد بعد تمدد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش).

وقد شهدت العملية السياسية في عام 2014 انسداداً كبيراً، الأمر الذي تطلب أشهر طويلة لتشكيل حكومة جديدة بعد رفض المالكي التنحي عن منصب رئاسة الوزراء، الذي قام بإنزال الجيش والدبابات إلى شوارع بغداد لوقف أي محاولة لتغيير معادلة السلطة. وقد كان لانعدام الأمن، والظروف غير المستقرة، وانتشار مقاتلي تنظيم داعش، المحفز لدفع حزب الدعوة الحاكم، آنذاك، إلى الذهاب إلى إيجاد حل أو مخرج لحالة الانسداد السياسي عن طريق اللجوء المرجع الشيعي “السيستاني”، الذي أشار بضرورة تنحي المالكي عن حكم العراق[4].

وفي عام 2018، تجدد الانسداد السياسي لأسباب عدة، منها: النتائج الانتخابية المتقاربة بين القوى الشيعية، فضلاً عن صعود الفصائل المسلحة كقوة سياسية لغرض السيطرة على السلطة التنفيذية وفرض أجنداتها على الدولة ومؤسساتها، الأمر الذي أعاق تشكيل الحكومة الجديدة. وقد انحسر الصراع، آنذاك، بين الكتلة الصدرية الداعمة لرئيس الوزراء الأسبق حيدر العبادي وتحالف الفتح الموالي لإيران والداعم لتغيير العبادي. والجدير بالذكر أنه لم ينتهِ هذا الانسداد إلا بتدخل مباشر لإيران من خلال خريطة وضعها قاسم سليماني قائد فيلق القدس الإيراني، تم على أساسها اختيار رئيس الوزراء عادل عبد المهدي، دون تسجيل الكتلة الأكبر وفق المادة (76 أولاً)، الأمر الذي شكل قفزاً على الآليات الدستورية في تشكيل الحكومة، وذلك بسبب عدم الرجوع للمسارات القانونية والاعتماد على الاسترضاء بين القوى والأحزاب الشيعية والسُّنية والكردية، وكان من نتائجه اندلاع احتجاجات شعبية في أكتوبر من عام 2019، انتهت بإسقاط معادلة السلطة التي مثلها عادل عبد المهدي القريب من إيران، وعدد آخر من الأسباب لما يعرف بثورة تشرين الأول[5].

ثانياً، العوامل المعطلة لتشكيل الحكومة الحالية

على الرغم من أن آراء أغلب المراقبين للشأن السياسي العراقي كانت تذهب لتشكيل الحكومة العراقية بعد انتخابات 10 أكتوبر2021، بشكل أسرع من الحكومات السابق، فإن هناك عوامل عديدة كانت حافزاً لانغلاق سياسي أشد، ومنها:

1- نتائج الانتخابات وتكوين التحالفات المتقاربة

إن أساس الخلافات السياسية، التي أنتجت حالة الانسداد السياسي، يعود بالأساس إلى نتائج الانتخابات المبكرة في تشرين الأول (أكتوبر) 2021، حيث حصلت الكتلة الصدرية على عدد مقاعد يفوق القوى السياسية الأخرى وخصومة من الشيعة، فضلاً عن تباين النتائج التي أعلنت دفعت إلى انسداد أولي لعدم وجود كتلة حققت أغلبية المقاعد كما مبين بالجدول الآتي:

جدول يوضح عدد المقاعد التي حصلت عليها الكتل في انتخابات عام 2021 [6]

إن هذه النتائج التي أسفرت عن فوز التيار الصدري بأكبر عدد من المقاعد في انتخابات عام 2021، غيرت المشهد بشكل كبير، ومعها أدوار اللاعبين الإقليميين والدوليين كذلك، فأصبح مقتدى الصدر رقماً صعباً في تشكيل الحكومة العراقية، وذلك عكس حلفاء إيران الذين انخفضت مقاعدهم بنسبة كبيرة عن انتخابات عام 2018، ما ولّد خللاً في التوازن داخل البيت السياسي الشيعي، ولهذا اضطر حلفاء إيران من الفصائل المسلحة النزول إلى الشارع لممارسة ضغوط على مفوضية الانتخابات والسلطة القضائية ومقتدى الصدر، إلا أن تلك المحاولات كلها لم تنتج  استجابة سياسية، ومع رفض الصدر العودة للتوافقية انقسم البيت الشيعي إلى قسمين، هما: الكتلة الصدرية والإطار التنسيقي.

وقد فشلت إيران في توحيدهما رغم كل محاولاتها الأمر الذي بدأ يثير المزيد من الشكوك حول جدية تراجع الدور الإيراني في العراق، فقد تداخل هذا الانقسام الشيعي مع طرح الصدر لمبدأ جديد في تشكيل الحكومة على أساس (الأغلبية الوطنية)[7] الذي تعترض عليه القوى الموالية لإيران في استحكام الانسداد السياسي.

كما أن هذه النتائج دفعت، مع طموحات سياسية، إلى تكوين تحالفات خارج مفهوم التحالفات السابقة التي كانت ترسم وفق الطائفة والقومية، وتشكل تحالفات عدة.

الأول: تحالف إنقاذ وطن (يضم الكتلة الصدرية وتحالف السيادة والديمقراطي الكردستاني).

الثاني: الإطار التنسيقي (يضم دولة القانون والفتح وتحالف قوى الدولة والعقد الوطني وبقية حلفاء إيران).

الثالث: من أجل الشعب (ضم الجيل الجديد وحركة امتداد).

الرابع: العراق المستقل (الذي يضم مجموعة من النواب المستقلين).

 وقد شكل نجاح الصدر بتكوين تحالف إنقاذ وطن، وبات يمتلك الأغلبية وفق مفهوم الأغلبية الوطنية بحكم ما يمتلكه لمقاعد تقارب من 160 مقعداً في البرلمان، صدمة كبيرة لقوى الإطار التنسيقي الشيعي، ما دفعهم لنسج تفاهمات مع قوى سياسية شيعية فائزة أخرى، بالإضافة إلى المستقلين التابعين لأحزاب شيعية، فضلاً عن الاتحاد الوطني الكردستاني، الغاضب على مسعود البارزاني، وبذلك استطاعوا تكوين تحالف ما يقارب الـ 130 نائباً وهذا العدد ووفقاً لقرار المحكمة الاتحادية أصبح الثلث المعطل لانعقاد جلسة انتخاب رئيس الجمهورية، وتحول (الإطار التنسيقي) الشيعي إلى قوة انسداد سياسية أو كابح لطموحات تحالف إنقاذ وطن.

وبناء عليه، أصبح البرلمان العراقي من دون وجود تحالف حائز ثلثي المقاعد، وهذا يعد من الأسباب الرئيسية لحالة الانسداد السياسي.

 2- الصراع الشيعي الشيعي:                

كعرف سياسي تم العمل به بعد عام 2003 يتم تقاسم السلطة على مبدأ التوافق، وتشكل القوى الشيعية الكتلة الأكبر في البرلمان، التي عليها اختيار رئيساً للحكومة لكن ما حدث مؤخراً هو أن مقتدى الصدر أراد الانقطاع عن هذا العرف وجاء بخطوات جديدة لتشكيل حكومة أغلبية وطنية[8]. وقد اتخذ الصدر هذا القرار بعد تحولات في الشارع العراقي الرافض لمبدأ المحاصصة في تشكيل الحكومات، التي لم تنتج سوى الفساد والمزيد من التدهور في الحياة العامة. وقد يكون لاحتجاجات أكتوبر من عام 2019، وإعلانها الرفض للطبقة السياسية الحالية وأدائها في إدارة الدولة دور مهم وهو أحد أهم الأسباب التي دفعت الصدر نحو طرح فكرة تشكيل الحكومة وفق مبدأ الأغلبية أيضاً، لاستعادة ثقة الشارع بالنظام السياسي.

مع إصرار الصدر على الأغلبية، قام الإطار التنسيقي (صاحب الثلث المعطل) بالتمسك بعدم عقد جلسات مجلس النواب، وذلك لإجبار الصدر على التحالف معه، وتشكيل الكتلة الأكبر داخل البرلمان، والعودة إلى أسلوب التوافق المتبع في الدورات السابقة. كما يسعى الإطار التنسيقي إلى حل البرلمان وإعادة الانتخابات.

ولم تكتفِ الجماعات الخاسرة، الإطار التنسيقي، في الانتخابات التشريعية بتقديم الطعون، بل اتخذت من التلويح بالتصعيد من خلال استخدام السلاح وسيلة للوصول إلى تسوية مرضية، وهذا الأمر فاقم الانسداد خصوصاً بعد تلويح الصدر بحماية شركائه في تحالف إنقاذ وطن.

إن الخلاف الشيعي – الشيعي لا يرتبط بتشكيل الحكومة فقط، أو شعور الإطار التنسيقي بالإقصاء من الحكومة القادمة، بقدر ما يرتكز الصراع حول الزعامة السياسية للشيعة، والقلق من إمكانية استحواذ الكتلة الصدرية على المناصب العسكرية والمدنية الإدارية العليا في الدولة، ما يعني إنهاء هيمنتهم على مفاصل الدولة العراقية، الأمر الذي قد يدفع إيران إلى الكتلة الصدرية كبديل شيعي يكون حليفاً لها على حسابهم.

وبعد مرور ستة أشهر على الانتخابات لا يزال العراق يواجه مأزقاً دستورياً وسياسياً بين حكومة أغلبية يطالب بها مقتدى الصدر وحكومة توافق يطالب بها الإطار التنسيقي ما ولّد خلافات أدت إلى انسداد سياسي تام وضع العراق أمام عقدة سياسية أفرزت محاولتين فاشلتين لاختيار رئيس الجمهورية واستمرار الخرق الدستوري.

وفي ظل هذا المشهد اضطر مقتدى الصدر إلى الاعتكاف السياسي وإعطاء الإطار التنسيقي الشيعي مدة 40 يوماً لتشكيل الحكومة، وهو يدرك أنهم لن يستطيعوا أن يمضوا بتشكيل الحكومة بعيداً عنه حتى القوى السُّنية والكردية، وكذلك تحول الصدر الذي هو سبب من أسباب الانسداد السياسي في العراق نتيجة تمسكه بحكومة الأغلبية المرفوضة من الإطار الشيعي أيضاً.

كما أن غياب رأي المرجع الشيعي علي السيستاني من المشهد السياسي الشيعي، بشكل خاص، يعد من أسباب الانسداد الشيعي – الشيعي، إذ خالفت مرجعية السيستاني نهجها السابق في أن تدلي برأيها بخصوص تشكيل الحكومة وتسمية رئيس الوزراء في كثير من الأحيان، حين يشتد الخلاف بين قوى الإسلام السياسي الشيعي.

3- المحكمة الاتحادية العليا كجزء من حالة الانسداد:

اشترطت المحكمة الاتحادية العليا تحقق أغلبية الثلثين من أعضاء مجلس النواب لانتخاب رئيس الجمهورية القادم وأصدرت تفسيراً للمادة (70 أولاً) من الدستور لبيان الأغلبية الواجب توافرها للشروع بالتصويت على انتخاب رئيس الجمهورية، وذلك استجابة لطلب الرئيس العراقي برهم صالح.

وأشارت المحكمة الاتحادية بقرارها (رقم 16/ اتحادية/ 2022) الصادر في 3 فبراير 2022 وبخصوص تفسير المادة (70 أولاً) من الدستور العراقي لعام 2005 إلى انتخاب مجلس النواب رئيساً للجمهورية من بين المرشحين لرئاسة الجمهورية بأغلبية ثلثي مجموع عدد أعضاء مجلس النواب الكلي ويتحقق النصاب بحضور ثلثي مجموع عدد أعضاء مجلس النواب الكلي[9].

والحقيقة فيما يرتبط بالانسداد الراهن وبخصوص موقف المحكمة الاتحادية العليا ودورها في إمكانية وضع حد لذلك فقد كان تفسير المحكمة الاتحادية العليا السبب الأبرز لذلك الانسداد بسبب تعذّر تأمين غالبية الثلثين المطلوبة لتمرير انتخاب رئيس الجمهورية.

هذا ولم تقتصر حالة الانسداد فقط على تفسير المحكمة الاتحادية العليا للمادة (70 أولاً) من الدستور لبيان الأغلبية الواجب توافرها للتصويت على انتخاب رئيس الجمهورية، إنما الانسداد الذي حدث بسبب تفسير المادة (76) من الدستور العراقي، حيث تنص: “على أن يُكلف رئيسُ الجمهورية الكتلةَ النيابيةَ الأكثرَ عدداً بتشكيلِ حكومة”[10]، وتعد هذه النقطة الأكثر جدلاً حالياً بعد خلافاتٍ حول نتائج الانتخابات، والسبب المباشر في تكوين حالة الانسداد التي يعيشها الوضع السياسي في العراق.

فقد جاء التفسير الأخير للمحكمة الاتحادية العليا للكتلة الأكبر من خلال قرارها الأخير مناقضاً لقانون الانتخابات رقم (9) لعام 2020، خاصة المادة (45) منه، التي تمنع الانتقال والتحالف بين الكتل الانتخابية إلا بعد تشكيل الحكومة. أما قرار المحكمة فقد أشار إلى جواز تشكيل الكتلة الأكبر من الكتلة الفائزة أو القوى الفائزة التي تتحالف فيما بينها بعد اختيار رئيس الجمهورية، وهذا ما أدى إلى تعقيد المشهد السياسي في العراق بشكل كبير وكان جزءاً من الانسداد السياسي[11].

4- الخلاف الكردي الكردي

تعتبر الخلافات الكردية – الكردية على مرشح رئاسة الجمهورية، أي الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود بارزاني والاتحاد الوطني الكردستاني بزعامة بافل طالباني من أهم أسباب الانسداد السياسي، إذ يصر حزب بارزاني على أن يدفع بأحد مرشحيه للمنصب ويزاحم حزب عائلة طالباني التي استحوذت على المنصب منذ عام 2005.

وفي هذا الإطار، هناك محاور عدة يمكن من خلالها فهم الخلاف الكردي – الكردي حول موضوع رئاسة الجمهورية:

المحور الأول: إدراك البارزاني بعد فشل عملية الاستفتاء على استقلال الإقليم بأهمية هذا المنصب في بغداد في حل مشكلاته المالية والنفطية العالقة لشركات النفط العاملة في كردستان ولتركيا، وذلك لضمان بقاء حزبه قوياً ومؤثراً. وملامح هذا التوجه كانت واضحة عام ٢٠١٨ حين دخل الحزبان، ولأول مرة بمرشحين في البرلمان.

المحور الثاني :هو الرغبة الشخصية البحتة لمسعود البارزاني بإزاحة برهم صالح من هذا المنصب. فهو يرى في برهم صالح شخصاً لا يستطيع إخضاعه والسيطرة عليه بل يخشى شعبيته واستقلاليته واتخاذه قرارات قد تضر بتوجهات مسعود وأجنداته.

المحور الثالث: يسعى البارزاني إلى أن يكون المرجع الكردي الوحيد في المنطقة، فهو يعلم جيداً الفراغ الذي تركه جلال طالباني، حيث لن يستطيع بافل أو قوبات أن يملأه، خاصة مع ضعف التركيبة السياسية البنيوية للاتحاد الوطني. لذلك يسعى البارزاني لاستغلال هذا الضعف ليكون هو صاحب القرار السياسي في أربيل وبغداد.

ويضاف إلى ما سبق، أن الخلاف داخل البيت السياسي الكردي، هو جزء من صراع إقليمي، حيث يُتهم فيه الحزب الديمقراطي بالتقرب من الولايات المتحدة الأمريكية وتركيا، بينما يُتهم فيه الاتحاد الوطني بالتقرب من إيران وحلفائها في بغداد. وكانت بداية التصدع في التوافق الكردي هو حصول صالح على العدد الأكبر من أصوات أعضاء البرلمان الاتحادي، ليتغلب بفارق كبير على منافسه فؤاد حسين في عام 2018، الأمر الذي أغضب الحزب الديمقراطي.

وإذا كان ممكناً السيطرة على الخلاف الكردي – الكردي في عام 2018، وحصره عند حدود ومساحات معينة، فإنَّ ذلك لم يعد ممكناً بعد انتخابات أكتوبر2021، خصوصاً أن الاتحاد الوطني يهدد بإعلان إقامة إقليم في محافظة السليمانية، كعقاب لمسعود البارزاني إذا ما نجح بالحصول على منصب رئيس الجمهورية لمرشحه غير المقبول كردياً أو حتى عراقياً.

لذلك شكّل موضوع رئاسة الجمهورية عقدة لا تقل في صعوبة حسمها عن عقدة رئاسة الوزراء، ولذلك فهي لم تحسم حتى بعد انتهاء المدد الدستورية على انعقاد الجلسة الأولى لمجلس النواب العراقي، في الوقت الذي يفترض فيه – وبحسب السياقات الدستورية- أن ينتخب البرلمان رئيساً جديداً في غضون 30 يوماً من تاريخ انعقاد الجلسة الأولى بأغلبية ثلثي الأصوات ما جعل مظاهر الانسداد السياسي تتسع بشكل واضح.

كذلك فإن الصراع على منصب رئيس الجمهورية ليس داخلياً فحسب، فإيران ومصالحها، حتى الولايات المتحدة الأمريكية، ترى ضرورة أن يذهب المنصب لصالح حزب عائلة طالباني، إذ ترى إيران أنه ليس من مصلحتها إضعاف الاتحاد الوطني حليفها الكردي بمقابل صعود الحزب الديمقراطي الذي تتهمه إيران بجعل أربيل منصة لأعدائها، حتى واشنطن تجد أن توازن القوة بين الحزبين في إقليم كردستان مهم بالنسبة إليها. فضلاً عن أن واشنطن لا تريد للاتحاد الوطني أن ينغمس مع إيران بشكل كامل. وبذلك تشترك إيران وأمريكا في اتفاق على دعم الرئيس الحالي برهم صالح مرشح الاتحاد الوطني الكردستاني.

5- التدخل الإقليمي

في هذا الجزء من الدراسة نتناول التدخلات الإيرانية والتركية، التي تعد أحد أهم أسباب الانسداد السياسي في العراق.

أ. التدخل الإيراني: لعل أبرز الأسباب فعالية لحالة الانسداد السياسي في العراق هي التدخلات الإيرانية التي جعلت من العراق ساحة لتصفية حساباتها ومحاولتها تثبت مبدأ أن العراق ضمن مجالها الحيوي واستمراره كدولة تابعة لها ورئة اقتصادية لمواجهة أي عقوبات أو تحديات دولية، فضلاً عن تصريف مشروعاتها المدرّة للأرباح المالية والمنافع السياسية. فطموحات إيران ومصالحها القومية تتسع إلى أبعد المستويات في العراق.

وعليه، فإن مصلحة إيران تكمن في إخضاع العراق لهيمنتها وسيطرتها عن طريق حلفائها من أجل الاعتماد عليهم في دعم أدوارها وتحركاتها الإقليمية. وقد وجدت إيران أن مشروع الأغلبية الذي يتبنّاه تحالف (إنقاذ وطن) يهدد نفوذها في العراق؛ ولذلك دعمت (الإطار التنسيقي) لتأسيس الثلث المعطل في العملية السياسية خصوصاً بعد أن فشلت في إقناع الصدر من خلال إسماعيل قاآني، قائد فيلق القدس الإيراني، الذي حوّل تشكيل الحكومة العراقية إلى معيار لنجاحه في إدارة ملف العراق بعد مقتل قاسم سليماني، فانتقلت إيران بعد هذا الفشل إلى تهديد حلفاء الصدر بارتباك لجغرافياتهم السياسية في أربيل والأنبار، للعودة إلى مبدأ التوافق في تشكيل الحكومة التي يتزعمها الشيعة.

ثانياً، تركيا: تمكّنت تركيا التي ركزت كثيراً على الملف العراقي في العامين الأخيرين من جمع الأحزاب السُّنية التي عاشت سنوات تشتت وخلافات كبيرة حتى وصل الأمر إلى تبادل الاتهامات المتبادلة. وقد نجح الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، من جمع أبرز زعيمين سُنيين هما: محمد الحلبوسي وخميس الخنجر في تحالف واحد اسمه تحالف السيادة. ورغم أن إيران تمكّنت في العقد الماضي من شق الصف السياسي السُّني وكسب بعض أطرافه، فإنها اصطدمت اليوم بتوحيده من قبل تركيا، وهي ضربة وجهت لإيران بالإضافة إلى الضربة التي تلقتها عندما هُزم حلفاؤها في الانتخابات، علاوة على الانقسامات التي جدت داخل البيت السياسي الشيعي.

وبذلك استثمرت تركيا تراجع الأولويات الأمريكية – الإيرانية حيال الملف العراقي، فتمكنّت من ملء الفراغ عبر توحيد البيت السُّني. وهذا يعني أن تركيا من الممكن أن تتمدد نفوذاً وقوة بتحالف سنّي كبير وقد يلتحق به قسم من الكرد في محطة قادمة، فلم تعد طهران – وهي أبرز الداعمين للأحزاب السياسية الشيعية وجماعاتها المسلحة – قادرة على أن تُدير البيت الشيعي في تحالف واحد خاصة بعد فوز الصدر وتحالفه مع بارزاني والحلبوسي.

ومما لا شك فيه أن هذا التدخل الإقليمي فاقم ظاهرة الانسداد السياسي كون هذه الدول بالنهاية تحاول المحافظة على مصالحها. فقد وجدت إيران بأن هذا الانغماس التركي في تشكيل تحالف يقوض حلفاءها في العراق مصدر قلق كبير، وبالتالي أن أحد أهم أسباب وقوف إيران وحلفائها ضد تحالف “إنقاذ وطن” هو ما تسميه الرعاية التركية. ولذلك نجد الانسداد السياسي الحالي هو نتيجة هذا التدخل الإقليمي على عكس الحكومات السابقة، حيث كان الصراع الأمريكي – الإيراني هو المتحكم في تشكيل الحكومات لذا أعلن زعيم “عصائب أهل الحق” قيس الخزعلي صراحة أن أمريكا غير متدخلة في تشكيل الحكومة مثل ما هي عليه تركيا[12].

ثالثاً: نظرة مستقبليةمسارات الخروج من حالة الانسداد السياسي في العراق 

إن فشل القوى السياسية العراقية بتمرير رئيس الجمهورية أدخل العراق في فراغ دستوري وخرق للمدد التي حددتها النصوص الدستورية، ما ولّد تساؤلات عن مسارات الخروج من حالة الانسداد السياسي، ونجدها تتحقق بمسارين:

أولاً، المسار السياسي: من خلال إعادة تشكيل التحالفات باختراق الكتلة الصدرية صفوف الإطار التنسيقي وتقوم إما باستقطاب بعض القوى إلى طرفها، وإما بقيام الإطار الشيعي بخطوة مماثلة، وهذا السيناريو من الصعب أن يتحقق.

كذلك فإن العودة إلى تشكيل الحكومة وفق مبدأ التوافقية، ممكن أن يكون الحل المثالي لحالة الانسداد السياسي، ولكن مقتدى الصدر سيكون الخاسر الأكبر فيه. وقد تكون الأربعين يوماً، التي منحها مقتدى الصدر للإطار التنسيقي الشيعي لتشكيل حكومة مع حلفائهم الفرصة الأخيرة، لكن الإطاريين يدركون أن هدف الصدر منها أن أصبح الثلث المعطل مانعاً أمام عملية تحقيق مشروع الأغلبية، وهو الأمر الذي دفعه إلى النأي بنفسه عن موضوع التعطيل ورمي الكرة في ملعب الإطار التنسيقي، خصوصاً في ظل الاستياء الشعبي من تأخر تشكيل الحكومة، ومن ثم فهم يدركون أنها محاولة إحراج أطراف الإطار التنسيقي أمام الرأي العام العراقي أيضاً، مع صعوبة إمكانية حصوله على أغلبية برلمانية، لذلك هم لا يمتلكون القدرة والأدوات لتشكيل الأغلبية مع إدراكهم بأن ذهاب مقتدى الصدر للمعارضة سيكون ثمنه حل البرلمان وسقوط حكومتهم خلال أشهر .

ثانياً، المسار الدستوري: في حال تواصل الانسداد السياسي، قد يتم اللجوء إلى حلّ البرلمان والذهاب لانتخابات مبكرة جديدة، وهذا قد يكون من خلال تقديم أحد الكتل البرلمانية طلباً وفق المادة (64 أولا) من الدستور التي تنص على يُحل مجلس النواب، بالأغلبية المطلقة لعدد أعضائه، بناءً على طلبٍ من ثلث أعضائه، أو طلبٍ من رئيس مجلس الوزراء وبموافقة رئيس الجمهورية”[13].  والمتوقع أن تقوم به الكتلة الصدرية كرد فعل سياسي لعدم قدرتها على تشكيل حكومة الأغلبية التي تتبنّاها، أو تقوم به كتلة برلمانية جديدة كحركة امتداد، القريبة من تشرين، ولكن لن تحصل على العدد المطلوب من الأصوات، لعدم قناعة أغلب القوى بهذا الخيار.

المسار الدستوري الآخر لحل البرلمان يكمن بأن تصدر المحكمة الاتحادية قراراً يوضح إمكانية إيجاد مخرج للفراغ الدستوري الحالي، أو أن تصدر قراراً بناءً على طلب مقدم لها قد يحدث نتيجة تقارب بين الأطراف المؤيدة لخيار حل البرلمان، مع وجود أو ممارسة ضغوط من قوى سياسية خارج البرلمان ومنظمات مجتمع مدني، عبر اللجوء إلى المحكمة الاتحادية من أجل المطالبة بإلغاء الانتخابات وتنظيم انتخابات جديدة، فضلاً عن أن الأطراف السياسية ستجد نفسها مجبرة على طلب رأي المحكمة الاتحادية بشأن إمكانية إعادة الانتخابات أو الإقرار بفشل البرلمان في انتخاب الرئيس إذ إن إعلان حالة الطوارئ أمر مستبعد، وهو جزء من عملية الضغط الذي تمارسه القوى السياسية على المقاطعين لجلسات البرلمان.

وفي الختام، يمكننا القول إن كل الخيارات السياسية باتت مفتوحة في العراق أمام حالة الانسداد المتكررة منذ عام 2010 حتى الآن، بما في ذلك الذهاب إلى الانتخابات المبكرة.

المراجع

[1]. “علاوي يفوز في الانتخابات العراقية والمالكي يرفض النتائج”، دويتشه فيله، 26 مارس 2021، https://bit.ly/3vp90n5

[2]. للاطلاع على الدستور العراقي: انظر: “الدستور العراقي”، مجلس النواب العراقي، https://bit.ly/37ZvFy4

[3]. لمزيد من الاطلاع على العداء التاريخي بين مقتدى الصدر ونوري المالكي، انظر: “المالكي والصدر.. تاريخ العداء مِن عتبة “صولة الفرسان”، سكاي نيوز عربية، 26 يناير 2022، https://bit.ly/3vmeTkR

[4]. حمزة مصطفي، “العبادي لـ «الشرق الأوسط»: خضنا حرباً كونية ضد {داعش}”، الشرق الأوسط، 10 ديسمبر 2018، https://bit.ly/3jKoOLF

[5] – لمعرفة المزيد عن ثورة تشرين 2019 أنظر: “ثورة تشرين العراقية.. من إسقاط الطبقة السياسية إلى الانتخابات المبكرة”، موقع العربي، 11 ديسمبر 2021، https://bit.ly/3Og1NOJ

[6]  تم تركيب الجدول بمعرفة الباحث من مصادر مختلفة.

[7]. “التحالف الفائز في الانتخابات العراقية يعلن مرشحيه لرئاستي الجمهورية والحكومة”، موقع الحرة، 23 مارس 2022، https://arbne.ws/3xPlaZt

[8] – “الصدر يحدد ملامح حكومة الأغلبية الوطنية”، مرجع سبق ذكره.

[9]. للاطلاع على قرار المحكمة الاتحادية رقم (16/اتحادية/2022) الصادر بتاريخ 3 فبراير 2022 انظر: https://bit.ly/3jOM37i

[10]. “الدستور العراقي”، مجلس النواب العراقي، https://bit.ly/37ZvFy4

[11].  “قانون انتخابات مجلس النواب العراقي”، جريدة الوقائع العراقية، رقم 9 لسنة 2020، العدد4603، السنة الثانية والستون، 9 نوفمبر 2020، ص 16.

[12] – “الخزعلي: أردوغان يخطط لاحتلال سنجار الصيف القادم وسأحمل السلاح ضد الجيش التركي شخصياً”، رووداو  ديجيتال،  3 مارس 2021، https://bit.ly/3KV8rIm

[13]. الدستور العراقي لعام 2005، مرجع سبق ذكره.

المواضيع ذات الصلة