مقدمة:
انقلابان في إفريقيا وتحديدًا في غرب ووسط القارة منطقة النفوذ الفرنسي، لم يفصلهما سوى شهر ونيف، فبينما استولى الجيش على السلطة في النيجر في 26 يوليو 2023، حتى تحركت قوات الجيش في صباح 30 أغسطس بالغابون لخلع الرئيس علي بونغو الذي احتفظت عائلته بالسلطة قرابة 56 عامًا، وهو ما وضع جهود مكافحة الإرهاب في المنطقة أمام اختبار كبير، خاصة وأن فرنسا تحتفظ بكتيبة مكونة من 1500 جندي؛ بغرض مواجهة التنظيمات المتطرفة في النيجر، والتي تمثل نقطة انطلاق لمواجهة هذه التنظيمات في كل من مالي وبوركينا فاسو.
الوضع الجديد في النيجر يمكن أن يحوّلها من مسرح جهادي محدود إلى ما يشبه الوضع في مالي وبوركينا فاسو المجاورتين. وقد يتفاقم هذا الخطر إذا غادرت القوات الفرنسية الساحة وحضرت قوات “فاغنر” التي تميل إلى تحقيق أهداف مختلفة، ويمكن أن تصبح النيجر أيضًا ساحة أخرى للتنافس العنيف بين تنظيم “داعش” و”جماعة نصرة الإسلام والمسلمين”؛ ما يتسبب في المزيد من المعاناة والإصابات في صفوف المدنيين[1].
قوات فاغنر لها وجود راسخ في مالي وبوركينا فاسو الواقعتين غرب النيجر، وفي جمهورية إفريقيا الوسطى وجمهورية السودان الواقعتين في شرقها. كما تستخدم المجموعة ليبيا كمركز عبور لعملياتها في إفريقيا، حيث توفر خدمات الحماية للحكومات المحلية مقابل (منحها) الحق في استخراج الموارد. وسيكون الوصول إلى النيجر مناسبًا لهذا النمط بالنظر إلى رواسب اليورانيوم الغنية التي تملكها، والتي تشكل 5% من الإمدادات العالمية وتجعل من النيجر مزودًا رئيسيًا لأوروبا[2].
وتسعى هذه الورقة لتسليط الضوء على ظاهرة الانقلابات العسكرية التي عادت من جديد إلى القارة بعد فترة كانت قد اختفت فيها تلك الظاهرة، وذلك من خلال مجموعة من التساؤلات التي تتعلق بأسباب هذه الانقلابات؟ وما هي تداعياتها على النفوذ الفرنسي في القارة، وخاصة أنها انحصرت بشكل كبير في الدول التي ترتبط بفرنسا منذ عقود طويلة؟ وما جدوى آلية الاتحاد الإفريقي لمواجهة هذه الانقلابات ومنع عدواها من الانتشار في دول أخرى من القارة؟ وأخيرًا ما هي تأثيرات هذه الانقلابات على جهود مكافحة الإرهاب؟
1-أسباب وقوع الانقلابات العسكرية في إفريقيا
قبل إعلان عسكريين في الغابون في 30 أغسطس 2023 توليهم السلطة، كانت النيجر آخر دولة إفريقية تشهد انقلابًا وقع في 26 يوليو 2023. كما وقعت محاولتان في بوركينا فاسو في عام 2022، إضافة إلى محاولات انقلاب فاشلة في غينيا بيساو، وغامبيا، وجزيرة ساو تومي وبرينسيبي. وفي عام 2021، وقعت 6 محاولات انقلابية في إفريقيا، نجحت أربع منها[3].
ومنذ عام 2012 حتى تاريخه شهدت القارة الإفريقية ما يقرب من 45 انقلابًا أو محاولة انقلابية على السلطة، وذلك بمعدل 4 انقلابات أو محاولة انقلابية في العام تقريبًا، وهو ما يعيد إلى الأذهان تلك الفترة التي كانت فيها الانقلابات في القارة حدثًا متكررًا، وخاصة خلال عقدَيْ الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي، فبحسب بعض الإحصاءات شهدت القارة الإفريقية أكثر من 200 انقلاب عسكري، وذلك بمعدل انقلاب كل 55 يومًا تقريبًا. وشكلت الانقلابات في إفريقيا ما يقرب من 36.5% من جميع الانقلابات على مستوى العالم. أما أكثر البلدان الإفريقية التي شهدت انقلابات فقد تركزت في منطقة غرب إفريقيا التي يتم تصنيفها بأنها “حزام انقلابات”، حيث استحوذت على أكبر عدد من الانقلابات في القارة بنسبة 44.4%[4].
وتدفع عودة ظاهرة الانقلابات العسكرية إلى القارة الإفريقية إلى طرح تساؤل رئيسي يدور حول الأسباب التي أدت إلى هذه العودة. وفي هذا الصدد، يمكن الإشارة إلى أن أحد هذه الأسباب الرئيسية يكمن في الشعور بأن الأنظمة القائمة تمثل أداة للقوى الاستعمارية السابقة، التي تحقق من خلال هذه الأنظمة أهدافها في الحصول على ثروات الدول الإفريقية ومقدّراتها. فبرغم أن هذه الدول قد نجحت من التخلص من القوى التي كانت تستعمرها، فإنها لم تتمكن من التخلص من نفوذ هذه القوى الاستعمارية فيها بعد انتهاء مرحلة الاستعمار، وهو ما عُدَّ أحد أسباب الانقلابات في كثير من الدول الإفريقية، وبخاصة دول وسط وغرب إفريقيا: مالي، وبوركينا فاسو، والنيجر، والغابون.
إلى جانب ذلك يُرجع كثيرون هذه الظاهرة إلى تفشي الفقر والفساد، وسوء إدارة الحكم، وتدني الأداء الاقتصادي، ما يجده العسكريون مبررًا للانقضاض على السلطة من أجل إنقاذ البلاد من الانهيار، وإصلاح مؤسساتها واقتصادها[5]، فبرغم وجود الموارد الطبيعية الضخمة التي تتمتع بها دول القارة والتي يُشكل معظمها عنصرًا أساسيًا في العديد من الصناعات في كلٍّ من أوروبا والصين والولايات المتحدة وآسيا، فإن شعوب معظم هذه الدول لم ينعموا بأيٍّ من هذه الموارد، ولم ينعكس استغلالها على حياتهم المعيشية، إذ يعيش أكثر من 55% منهم تحت خط الفقر، كما أنهم قد عانوا من حالات عدم الاستقرار السياسي والأمني، حيث شهدت دولٌ مثل سيراليون وليبيريا ورواندا ومالي حروبًا ونزاعات أهلية استمرت عشرات السنوات، وراح ضحيتها أكثر من 13 مليون قتيل، وشُرِّد بسببها نحو 33 مليونًا[6].
وبصفة عامة، يمكن بلورة الأسباب التي تقف وراء عودة ظاهرة الانقلابات فيما يأتي:
− ضعف الأنظمة السياسية وهشاشتها في أغلب البلدان الإفريقية، وقد يعود ذلك إلى عدم وجود مؤسسات قوية، فضلًا عن انتشار حكم الفرد داخل هذه البلدان، مثل الغابون التي حكمها الرئيس علي بونغو، المنتمي إلى عائلة حكمت هذه الدولة قرابة 56 عامًا، فوالده لم يترك السلطة إلا في العام 2009، وقد تسلمها في ستينيات من القرن الماضي، ولم يتركها إلا بوفاته.
− ضعف التنمية وزيادة معدلات الفقر؛ فأغلب الدول الإفريقية برغم أنها تتمتع بثروات هائلة – مثل النيجر التي تتميز بإنتاج اليورانيوم والغابون التي تتميز بإنتاج المنجنيز والبترول – فإن نصيب الفرد يبدو متدنيًا من الناحية المعيشية، مقارنة بحجم الثروات الطبيعية.
− تنامي العلاقات بين هذه الدول والمستعمر السابق، بما أعطى هذا الأخير نفوذًا كبيرًا رأت فيه المؤسسات العسكرية في بعض الأحيان خطرًا كبيرًا، خاصة في ظل وجود شعور شعبي بأن هذا المستعمر يستهدف الحصول على ثروات الدول لمصلحته.
− ضعف الحكومات الإفريقية في تحقيق معادلة الأمن داخل بلدانها، سواء على مستوى الأمن العام أو على مستوى مواجهة جماعات العنف والتطرف، وهو ما زاد من فرص التغيير الحتمي عن طريق القوة العسكرية للأنظمة الحاكمة بهدف تحقيق معادلة الأمن والسلم على المستوى المحلي.
2-الانقلابات العسكرية وتداعياتها على النفوذ الفرنسي في القارة
امتلكت فرنسا نفوذًا كبيرًا في القارة الإفريقية، ويعود ذلك إلى المرحلة الاستعمارية، فقد تمكنت من إنشاء إمبراطورية واسعة منذ منتصف القرن الـ 16 إلى أن أكملت السيطرة على نصف القارة تقريبًا عقب مؤتمر برلين عام 1885 الذي قسم القارة السمراء إلى محميات بلغت مساحة المستعمرات الفرنسية منها 3 ملايين ميل مربع. ومع منتصف القرن العشرين باتت فرنسا تملك 100 قاعدة عسكرية في إفريقيا[7].
وعقب خروجها من مستعمراتها الإفريقية عام 1960، ظلت فرنسا محتفظة بعلاقات قوية بهذه المستعمرات، وذلك من خلال بلورة مجموعة من الروابط الاقتصادية والثقافية والعسكرية التعاونية العميقة، التي نجحت في إقامتها من خلال صنع طبقات سياسية مرتبطة بها، يدرس أبناؤها ويقيمون في فرنسا، ولا يأتون إلى بلدانهم إلا ليحكموها[8]، وقد نجحت فرنسا بذلك في الحفاظ على نفوذها في هذه الدول، وخاصة دول غرب إفريقيا الأربع عشرة، التي تشكل أغلبية مجموعة دول الإيكواس، إلى جانب شمال القارة وخاصة دول المغرب العربي، وشرقًا في جيبوتي، وفي الجنوب الشرقي في جزر القُمر ومدغشقر، مع تفاوت في مستوى النفوذ ونوعيته وتركُّزه[9]. ومن ثم تمكنت فرنسا من أن تحافظ على مصالحها في دول القارة، وخاصة ما يتعلق منها بالموارد الطبيعية التي تحتاج إليها؛ مثل البترول واليورانيوم وغيرهما من الثروات المعدنية، والمنتجات الزراعية الرخيصة، والمواد الخام التي تُصنَّع في فرنسا.
ويمكن الإشارة إلى أن النفوذ الفرنسي تركَّز بدرجة كبيرة في دول غرب إفريقيا، إذ أبرمت فرنسا اتفاقيات تربط اقتصاديات هذه الدول بالاقتصاد الفرنسي، حيث تضخ 85% من احتياطاتها النقدية الأجنبية في البنك المركزي الفرنسي. كما أن لدى فرنسا اتفاقيات تعاون عسكري مع 25 دولة إفريقية، وكان لها إلى وقت قريب نحو 7 قواعد عسكرية متفاوتة الحجم في كلٍّ من تشاد، وإفريقيا الوسطى، والكاميرون، وجيبوتي، وجزر القمر، والسنغال، والغابون، حيث بدأت في التقلص في السنوات الأخيرة[10].
ويبدو أن هذا النفوذ قد أصبح مهددًا بشدة، في ظل وقوع العديد من الانقلابات في الدول التي تمتلك فيها فرنسا نفوذًا كبيرًا، ولاسيما دول غرب إفريقيا، فبحسب الأكاديمي المتخصص في الشؤون الإفريقية، إدريس آيات، هناك أربع دول أساسية تمثل “رئة السياسة الفرنسية” في القارة الإفريقية، وخسارتها تمثل نهاية النفوذ الفرنسي، وهي السنغال، وكوت ديفوار، وتشاد، والغابون. وتُعدّ الغابون محور الموارد الطبيعية ومصدرها وأوثق حليف استراتيجي لإدارة النزاعات الإقليمية في المنطقة، بما يخدم مصالح فرنسا[11].
ولعل أبرز مظاهر تهديد النفوذ الفرنسي، جراء تلك الانقلابات، تلك المطالب المتصاعدة في النيجر لخروج القوات الفرنسية، وسحب الحصانة الدبلوماسية عن السفير الفرنسي سيلفان إيتي، ومطالبته بـ “مغادرة” البلاد، وخروج المظاهرات يوم الأحد 2 سبتمبر 2023 أمام السفارة الفرنسية رفضًا لما أسموه “تدخل باريس في شؤون البلاد الداخلية”، ومهاجمة المتظاهرين مقر السفارة، وانتزاعهم اللافتة التي كانت تحمل عبارة “سفارة فرنسا في النيجر” ووضعهم علمَيْ النيجر وروسيا بدلًا منها، كما هتف بعضهم: “تحيا روسيا”، و”فلتسقط فرنسا”، مطالبين بالتقارب مع موسكو، على غرار جيرانهم في مالي وبوركينا فاسو[12].
ومن المظاهر الأخرى لتهديد النفوذ الفرنسي فقدان فرنسا مصادر الحصول على بعض المعادن من الغابون، إذ أعلنت شركة التعدين الفرنسية العملاقة “إراميت” تعليق جميع عملياتها بالغابون في أعقاب الانقلاب؛ حتى هوى سهمها بنسبة عالية بلغت 18% إلى 62.45 يورو[13].
وسيؤدي تراجع النفوذ الفرنسي في الدول الإفريقية التي شهدت انقلابات عسكرية إلى مجموعة من التداعيات الأخرى، من بينها تداعيات اقتصادية بالنظر إلى اعتماد الاقتصاد الفرنسي على ما توفره هذه الدول للشركات الفرنسية من فرص واسعة، بما في ذلك ما يتعلق بعنصر اليورانيوم (كما هو الحال بالنسبة للنيجر) وكذلك النفط (كما هو الحال بالنسبة للغابون) ومواد أخرى مثل الخشب والذهب والمغنسيوم والمنغنيز، وما إلى ذلك[14]، حيث قد تفقد فرنسا هذه الثروات التي تحصل عليها بشكل سهل ورخيص؛ ما سيؤثر بالطبع على اقتصادها.
إلى جانب ذلك، سيؤدي تراجع النفوذ الفرنسي في هذه الدول إلى فتح الباب أمام النفوذ الروسي، حيث تسارع هذه الدول إلى التوجه على موسكو طلبًا للمساعدة، كما حدث في مالي وبوركينا فاسوا والنيجر. ويشير مراقبون إلى أنه لا يمكن فصل ما حدث في الغابون عن السياق أو الإطار الأشمل، مرجحين ضلوع روسيا – متمثلة في مجموعة فاغنر العسكرية الخاصة – فيه، معتبرين أن موسكو أحرزت هدفًا جديدًا في مرمى الغرب، وأن المواجهة بين الجانبين لا تقتصر على ساحات المعارك في أوكرانيا، وإنما تتوسع رقعتها كل يوم في القارة السمراء[15].
3-الاتحاد الإفريقي وآلية مواجهة الانقلابات العسكرية
في ظل انتشار ظاهرة الانقلابات العسكرية في القارة الإفريقية، تبلورت جهود الاتحاد الإفريقي لمواجهة هذه الظاهرة، حيث قررت القمة الإفريقية منذ عام 1964 في عهد منظمة الوحدة الإفريقية عدم الاعتراف بالنظم الانقلابية، ثم جاء ميثاق الاتحاد الإفريقي ينص بصراحة وبقرار من قمة الجزائر عام 2000 بعدم الاعتراف بالنظام الذي يأتي بغير الطريق الدستوري[16]، ثم جاء “بروتوكول لومي” عام 2002، الذي وقّعت عليه غالبية الدول الإفريقية، وأتاح للاتحاد قدرة على اتخاذ إجراءات عقابية ضد السلطات الانقلابية، مثل تجميد أنشطة الدولة في الاتحاد والتواصل مع المحيطين الإقليمي والدولي في شأن حصار السلطات المنقلبة على الصعيد الاقتصادي، وقد أسهم “بروتوكول لومي” في انحصار الظاهرة لمدة 20 عامًا[17]، ولكنها عادت من جديد في هذه المرحلة؛ ما يطرح التساؤل بشأن مدى جدوى هذه الآلية.
واقع الأمر أن هذه الآلية تواجه تحديًا كبيرًا بالنظر إلى تراجع مفعولها بشكل واضح، خاصة مع تجاهل الدول التي تشهد انقلابات عسكرية للإجراءات العقابية التي يتخذها الاتحاد الإفريقي، سواء تجميد العضوية في الاتحاد أو فرض حصار اقتصادي عليها أو غيرها، حتى باتت تلك الآلية بلا أنياب ولا تمثل رادعًا حقيقيًا أو أداة حاسمة لمواجهة الانقلابات، وربما هذا ما شجع على وقوع الانقلابات في منطقة غرب ووسط إفريقيا، وقد يُشجع على القيام بانقلابات في دول أخرى خلال الفترة المقبلة.
ويعود تراجع جدوى هذه الآلية إلى مجموعة من الأسباب، أهمها ما يلي[18]:
أ. أن معظم من يقومون بالانقلابات ينظمون انتخابات في مرحلة لاحقة، ويرحب بهم الاتحاد الإفريقي والمنظمات الإقليمية كقادة منتخبين، وهو ما يجعل الإجراءات والتهديدات التي تتخذ عند حدوث الانقلابات «مجرد ناقوس خطر أو رسالة تحذيرية رمزية»، دون أن يكون لها تأثير حقيقي.
ب. غالبًا ما يكون لتلك الانقلابات امتدادات إقليمية ودولية، وفي كثير من الأحيان يكون لسلطة الانقلاب دول داعمة مجاورة أو لها مصلحة، وهو ما يفرغ العقوبات في معظم الأحيان من مضمونها، وعلى سبيل المثال، اتجهت بوركينا فاسو ومالي إلى روسيا طلبًا للدعم في مواجهة العقوبات الإفريقية عليهما، وكذلك الحال بالنسبة للنيجر وربما الغابون.
ج. أن تحالفًا مّا نشأ بين الدول الإفريقية التي شهدت انقلابات عسكرية، جعلها تتعاضد وتتضامن مع بعضها في مواجهة أي تحركات إفريقية أو غيرها. كما حدث من قِبل مالي وبوركينا فاسو اللتين تضامنتا مع النيجر ورفضتا أي تدخل عسكري فيها، كما نددتا بالعقوبات التي فرضتها مجموعة إيكواس عليها، وأعلنتا صراحة أن العقوبات على النيجر “من شأنها أن تفاقم الوضع الإنساني”، وأن أيَّ تدخُّل عسكري ضد نيامي سيُعَدُّ “إعلانَ حربٍ” ضدهما، وسيؤدي إلى انسحابهما من “إيكواس”.
د. تكشف الانقلابات المتكررة، وبخاصة في منطقة الساحل والغرب الإفريقي، حجم البُعد الدولي وتأثيره، وهو ما يعوّل عليه كثير من المنقلبين لتخفيف واحتواء أي إجراءات يمكن أن تتخذها دول مجاورة أو مؤسسات قارية، فالظهير الدولي، وغالبًا ما يكون دولة كبرى -يتمثل في هذه الحالة في روسيا – يوفر الحماية اللازمة، كما يوفر بدائل لتعويض الأضرار الاقتصادية، التي قد تقع جراء العقوبات المفروضة.
ه. احتدام التنافس الدولي على القارة الإفريقية، الغنية بثرواتها، بين الغرب الذي كثيرًا ما مثلته فرنسا التي تراجع نفوذها خلال الأعوام الأخيرة، وروسيا والصين اللتين نجحتا في ترسيخ نفوذهما بعد انقلابي مالي وبوركينا فاسو عامي 2021 و2022؛ إذ استعانت المجالس العسكرية في هذين البلدين بقوات فاغنر، ويوفر هذا التنافس فرصة للنظم العسكرية التي تتأسس عقب الانقلابات، بما يجعلها قادرة على مواجهة أي إجراءات تُتّخَذ ضدها من خلال ما تلقاه من دعم روسي- صيني في إطار رغبة بكين وموسكو في ترسيخ نفوذهما في القارة على حساب النفوذ الغربي عمومًا.
و. القبول الشعبي للانقلابات العسكرية، حيث شهدت السنوات الأخيرة قبولًا للانقلابات التي كانت في بعض الأحيان أكثر انسجامًا مع مطالب الشعوب الرافضة للوجود والنفوذ الغربي في دول القارة، وهو ما كان يشجع قادة الانقلاب على الاستمرار متحصنين بالدعم الشعبي، وقد بدا هذا واضحًا في انقلابي مالي وبوركينا فاسو، وظهر أكثر وضوحًا في انقلاب النيجر، ومن بعده انقلاب الغابون.
ويمكن القول إن الاتحاد الإفريقي لا تأثير له فيما يتعلق بوقف الانقلابات، حيث تراجع تأثير الآليات التي اتبعها لمواجهة الانقلابات العسكرية في القارة، وهو ما يمكن معه توقُّع المزيد من الانقلابات داخل دول القارة الأخرى، وخاصة في وسط وغرب إفريقيا.
4-الانقلابات العسكرية وتداعياتها على مكافحة الإرهاب
تطرح الانقلابات العسكرية في قارة إفريقيا تساؤلًا مهمًّا بشأن تداعياتها على جهود مكافحة الإرهاب، وخاصة أن بعض دول القارة في الوسط والغرب تواجه جماعات وتنظيمات إرهابية خطيرة، سواء كانت تابعة لتنظيم “داعش” أو تنظيم “القاعدة”، وقد أصبحت هذه الجماعات تشكل رقمًا صعبًا في معاجلة الاستقرار الأمني في هذه البلدان، وخاصة في ظل توافر بيئة خصبة لهذه الجماعات للنمو، في ظل تراجع الأوضاع الاقتصادية وتنامي هشاشة الوضعين الأمني والسياسي، فضلًا عن تراجع قدراتها العسكرية.
وتتبلور آراء الخبراء والباحثين بشأن تداعيات الانقلابات العسكرية على جهود مكافحة الإرهاب في القارة الإفريقية في اتجاهين رئيسيين: الأول يرى أن هذه الانقلابات ستتيح فرصة جديدة لنمو الجماعات الإرهابية، فيما يرى أصحاب الاتجاه الثاني أن النظم العسكرية قد تكون أكثر قدرة على التعامل مع الجماعات والتنظيمات الإرهابية.
ويستند أصحاب الاتجاه الأول إلى مجموعة من العوامل التي تشير إلى أن الانقلابات ستؤثر في جهود مكافحة الإرهاب في إفريقيا؛ من بينها ما يلي:
أ. حرص النظم العسكرية الجديدة على التخلص من القوات الأجنبية الموجودة على أراضيها أو وضع العراقيل أمامها. وفي ضوء أن إحدى مهام هذه القوات الأجنبية هو مواجهة التنظيمات الإرهابية، فإن انسحابها سيؤدي إلى تراجع قدرات مواجهة التنظيمات الإرهابية وبالتالي إتاحة الفرصة لهذه التنظيمات للتمدد والانتشار، والمثال الأبرز على ذلك طلب النيجر من فرنسا سحب قواتها البالغ عددها 1500 جندي من البلاد، وربما قد تعيد البلاد أيضًا النظر في شأن القاعدة التي تستأجرها الولايات المتحدة قرب منطقة أغاديز لتشغيل الطائرات المسيَّرة. وقد يؤدي سحب القوات الفرنسية وإيقاف عمل القاعدة الأمريكية إلى نشوء فراغ أمني قد يستغله مقاتلو تنظيم داعش في منطقة الساحل وجماعة نصرة الإسلام والمسلمين في المقاطعات الغربية للنيجر[19].
ب. أن الدول التي شهدت انقلابات عسكرية وتأسست فيها نظم عسكرية تعاني أصلًا من تدهور الأوضاع الاقتصادية وهشاشة في الوضعين السياسي والأمني، ومعظمها يواجه تحديات إرهابية خطيرة، ولا تمتلك النظم الجديدة أي خبرات في التعامل مع هذه الأوضاع سواء الاقتصادية أو السياسية أو الأمنية ومن ثم فإنها ليس لديها القدرة على مواجهة الجماعات الإرهابية. ومما يزيد الأمور صعوبة أن مواجهة هذه الجماعات لا تقتصر فقط على الجانب العسكري، بل تتطلب استراتيجية متكاملة الأركان، وهو أمر من الصعب أن تقوم به النظم العسكرية الجديدة.
ج. أن الانقلابات ستؤدي إلى حالة من عدم الاستقرار السياسي، التي قد تتبعها حالة من الفوضى الأمنية، تستطيع الجماعات الإرهابية الاستفادة منها لصالحها، وخاصة أنها تمتلك خبرات كبيرة في هذا المجال، وسبق بالفعل أن استفادت من هذا الوضع في منطقة الساحل.
د. أن النظم العسكرية الجديدة ستستهلك جزءًا كبيرًا من القدرات الأمنية لدولها في فرض وتثبيت حُكمها، وهو ما يأتي على حساب توجيه تلك القدرات للحرب على الإرهاب، ما يجعل الأخير يستفيد من الفوضى الأمنية والسياسية لتحقيق مزيد من التمكين والانتشار، وفضلًا عن ذلك، فإن الخلافات البينية بين دول المنطقة جراء نشوء أنظمة عسكرية بدلًا من أنظمة منتخبة قد تؤدي إلى وقف التعاون الأمني والعسكري؛ ما يعني أنّ الجغرافيا التي ينشط فيها الإرهاب ستفتقر إلى التعاون بين الدول التي تتشارك تلك الجغرافيا، وهو الأمر الذي يفيد التنظيمات الإرهابية، التي سوف تستغل ذلك التشرذم لاستهداف الدول في عمليات عابرة للحدود، واستغلال خلافات دول الجوار للتصدي لأية عمليات عسكرية تستهدفهم[20].
وفي المقابل يستند أصحاب الاتجاه الثاني الذي يرى أن النظم العسكرية قد تكون أكثر قدرة على التعامل مع الجماعات والتنظيمات الإرهابية، على مجموعة من العوامل؛ من بينها:
أ. أن هذه النظم الجديدة ستعطي أولوية لمواجهة التنظيمات الإرهابية بالنظر إلى أن هذه التنظيمات تشكل تحديًا لشرعيتها في الشارع، وهي الشرعية التي اكتسبتها بعد وصولها إلى السلطة نتيجة استثمارها الغضب الشعبي ضد الدول الغربية، ولا سيما فرنسا.
ب. أن هذه النظم ستلجأ إلى روسيا لمساعدتها في مواجهة الجماعات الإرهابية، وهو أمر مرجح بشدة، وخاصة أن موسكو تمتلك من القدرات والخبرات التي يمكن من خلالها دعم هذه النظم في تعاملها مع الإرهاب، وهو الأمر الذي سيساعد روسيا في نهاية المطاف على ترسيخ نفوذها في هذه الدول.
ج. أن هذه النظم قد تكون أكثر قدرة على الحركة وعلى اتخاذ قرارات سريعة في مواجهة الحركات الإرهابية، فامتلاك هذه النظم القدرات العسكرية قد يؤهلها إلى تحريكها بشكل فعال لمواجهة هذه الحركات.
وبرغم أن النظم العسكرية الجديدة قد تتحرك لمواجهة الحركات الإرهابية، فإن المهمة ليست سهلة، فمواجهة هذه الحركات لا تقتصر فقط على الجانب العسكري وإنما تتطلب استراتيجية متكاملة تعمل على تحقيق تنمية حقيقية اقتصادية وسياسية واجتماعية تجفف البيئة التي تنمو فيها حركات الإرهاب، ومن دون ذلك قد لا تستطيع هذه النظم التخلص من الإرهاب. وفي ضوء صعوبة نجاح هذه النظم في إنجاز هذه التنمية على الأقل في المديين القصير والمتوسط، فإن المرجح هو بقاء التهديد الإرهابي قائمًا، بل إنه من المرجح أيضًا أن يتنامى بسبب استمرار توافر البيئة المناسبة لنموه وتراجع قدرات مواجهته.
خاتمة:
لا يبدو أن الانقلاب العسكري في الغابون سيكون الأخير الذي تشهده القارة الإفريقية. وفي ظل توافر العديد من الأسباب التي تقف وراء وقوع الانقلابات، فإن المرجح أن نشهد انقلابات قادمة في دول إفريقية أخرى، فاستمرار تراجع الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والسياسية بفعل عوامل عديدة أضيف إليها مؤخرًا تغير المناخ، واستمرار التنافس بين القوى الدولية وما يترتب عليه من صراع على النفوذ على القارة الإفريقية، بالإضافة إلى تنامي الغضب الشعبي ضد الأنظمة القائمة بسبب تراجع الأوضاع المعيشية.. كل هذه العوامل تمهد الأرض لوقوع انقلابات أخرى، خاصة مع عدم وجود رادع قوي يمنع القيام بها.
ويبدو للوهلة الأولى أن ظاهرة الانقلابات العسكرية تساعد في توفير بيئة خصبة لنمو الإرهاب والجماعات الإرهابية، بالنظر إلى تعطل قدرات مواجهة هذه الجماعات أو تراجعها، وقدرة تلك الجماعات على الاستفادة من أي هشاشة في الوضعين السياسي والأمني. ومن ثم، فإن المرجح هو تنامي التهديد الإرهابي في القارة الإفريقية، وخاصة إذا لم تتمكن النظم الجديدة من وضع آلية أو استراتيجية قادرة على مواجهة التنظيمات الإرهابية التي تواجهها.
المصادر:
[1] بين فيشمان، آنا بورشفسكايا، هارون ي. زيلين، انقلاب النيجر يهدد استراتيجية الولايات المتحدة بشأن مكافحة الإرهاب وروسيا، معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، 16 أغسطس 2023، https://www.washingtoninstitute.org/ar/policy-analysis/anqlab-alnyjr-yhdd-astratyjyt-alwlayat-almthdt-bshan-mkafht-alarhab-wrwsya
[2] المصدر السابق.
[3] انقلابات إفريقيا.. خلال 20 عامًا هذه أبرز الانقلابات التي شهدتها القارة السمراء، بي بي سي، 30 أغسطس 2023، https://www.bbc.com/arabic/articles/c19g8nvz829o
[4] الانقلابات العسكرية في أفريقيا.. “سجل أسود” للقارة السمراء، العين الإخبارية، 31 أغسطس 2023، https://cutt.us/D5k5T
[5] إسماعيل محمد علي، ماذا تعني الانقلابات العسكرية في إفريقيا؟، إندبندنت عربية، 18 سبتمبر 2021، https://cutt.us/v4OGW
[6] لماذا تكثر الانقلابات في قارة إفريقيا؟ الخبراء يجيبون، سكاي نيوز عربية، 30 سبتمبر 2022، https://cutt.us/dM2B9
[7] محمد صالح عمر، تناقصت مساحة نفوذها.. هل تتحرك الرمال في إفريقيا تحت أقدام فرنسا؟ الجزيرة نت، https://cutt.us/fcONI
[8] فيصل محمد صالح، انقلابات إفريقيا: ابحث عن فرنسا، صحيفة الشرق الأوسط، 2 سبتمبر 2023، https://cutt.us/ULsYi
[9] محمد صالح عمر، مرجع سابق.
[10] المصدر السابق.
[11] انقلاب الغابون.. هل يمهد لتراجع واسع في دور فرنسا بإفريقيا؟ سكاي نيوز عربية، 30 أغسطس 2023، https://cutt.us/N8Bh8
[12] “علم روسيا”.. أبرز ظاهرة في انقلابات غرب إفريقيا، سكاي نيوز عربية، 2 أغسطس 2023، https://cutt.us/EQLY4
[13] انقلاب الغابون.. ضربة جديدة لمصالح فرنسا في إفريقيا، العربي الجديد،31 أغسطس 2023، https://cutt.us/38aJy
[14] حصون فرنسا تتساقط.. كيف تهدد انقلابات إفريقيا مصالح باريس؟، سكاي نيوز عربية، 1 سبتمبر 2023، https://cutt.us/ENX75
[15] انقلابات إفريقيا ـ مغادرة الوصاية الفرنسية والدخول تحت نفوذ روسيا؟ دويتشه فيله، 31 أغسطس 2023، https://cutt.us/EQtqX
[16] د. عبدالله الأشعل، مُعضلة الانقلابات العسكرية في إفريقيا ومدى نجاح الحل الإفريقي، صحيفة رأي اليوم، 2 سبتمبر 2023، https://cutt.us/AvY7b
[17] أماني الطويل، لماذا تزدهر الانقلابات العسكرية في إفريقيا؟ إندبندنت عربية، 26 أغسطس 2023، https://cutt.us/I6069
[18] عقوبات إفريقية «بلا أنياب» في مواجهة الانقلابات، صحيفة الشرق الأوسط، 1 أغسطس 2023، https://cutt.us/eUaRR
[19] حمدي عبدالرحمن، انقلاب النيجر ومستقبل الحرب على الإرهاب في الساحل، مركز المستقبل للدراسات والأبحاث المتقدمة، 28 يوليو 2023، https://futureuae.com/ar-AE/Mainpage/Item/8430
[20] حامد فتحي، انقلاب النيجر.. ما هو تأثير الانقلابات العسكرية على مكافحة الإرهاب في إفريقيا؟ أخبار الآن، 7 أغسطس 2023، https://cutt.us/jZEnf