ملخّص
وُصفت التحديات المستقبلية التي سنواجهها في المديين القريب والبعيد بأنها “أزمة الأزمات”، و”أفظع المشكلات” و”تحديات المستقبل العالمي الكبرى”. وتركز هذه الورقة، على ثلاثة تحديات مستقبلية عالمية كبرى، هي: تزايد التوسع الحضري، وانعدام (أو عدم كفاية) التعليم دوليا، وتصاعد أزمة المناخ[1]، والتي سيكون لجميعها تداعيات جوهرية على المجالات الاجتماعية-الثقافية والبيئية.
ورغم أن هناك اتجاهات معقّدة ومترابطة تحرِّك هذه التحديات التي من المرجح أن تُحدِث مشكلات خطيرة للبشرية في المستقبل بما فيها على المستويات الاقتصادية والجيوسياسية؛ سأحاول في هذه الورقة إلقاء الضوء على الاتجاهات المعاكسة والمنعطفات والمفاجآت التي يمكنها أن تخفف أو تعطِّل أو تقلب مسار الاتجاهات السائدة وتمكِّننا من تصوُّر أو إيجاد بدائل للاتجاهات المقلقة المتوقعة.
لقد وُصفت التحديات، التي تطرح تحديا حقيقيا للبشرية ومستقبلها المجهول على المدى الطويل، بأنها تشكل “أزمة الأزمات”، و”أفظع المشكلات”، و”تحديات المستقبل العالمي الكبرى” التي تشمل تحديات تمس الحقول الاجتماعية-الثقافية والمجالات الجيوسياسية والبيئية، وهي تحديات معقّدة ومترابطة بنيويا وبحاجة للتناول والطرح باعتبارها منطلقات تتيح مساحات يمكن تعميق النقاش حولها.
تحدي التوسع الحضري الأكبر
لقد ظل التوسع الحضري – أيْ انتقال الناس من المناطق الريفية إلى البلدات والمدن والمدن الكبرى – يمثل اتجاهاً عالمياً متنامياً منذ بداية القرن العشرين؛ ففي عام 1900، لم يكن يعيش في المدن سوى 10% فقط من سكان العالم[2]، وبحلول عام 1950، كان يعيش في المدن 29% من سكان العالم البالغ عددهم مليارين ونصف المليار نسمة. وتجاوز عدد سكان المدن 50% عام 2010.
وقد قفزت هذه النسبة عام 2014 إذ أصبح عدد سكان المدن يشكل 54% من سكان العالم الذين تجاوز عددهم سبعة مليارات نسمة. كما أنه من المتوقع، بحلول عام 2050، أن تنقلب نسب عام 1950 إلى العكس ليصبح سكان المدن يمثلون 66% من سكان العالم[3]؛ ورغم تعقيد صورة تطور التوسع الحضري المتنامي وتنوُّعها وتباينها، توجد اتجاهات صاعدة معاكسة لها.
لقد وقف التصنيع والعولمة وراء حركة “التوسع الحضري القديم” بوصفهما محرّكان له خلال السنوات الخمسين الأخيرة، ما أدى إلى تحفيز النمو الاقتصادي، بينما تشمل محركات “التوسع الحضري الجديد” كلاً من الاستدامة والابتكار بهدف بناء تمدُّن ما بعد صناعي مستدام يُغلِّب قيمة البشر والكوكب على الربح. وستستمر في هذا، خلال العقود المقبلة، دول أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية والشرق الأوسط، وستسعى إلى اللحاق بركب دول الشمال.
ورغم أن الاستدامة تُعد هدفاً للتمدُّن الجديد، فإنها مهدَّدة بنمو سريع للغاية مع عدم كفاية الوقت لتطوير البنى التحتية الأساسية (مثل إمدادات الكهرباء والماء، والصرف الصحي، والخدمات الصحية، والتعليم والنقل). وعندما يحدث توسع حضري سريع في المجتمعات ما قبل الصناعية، كما حدث في الصين وأفريقيا وأجزاء من أمريكا اللاتينية، فإنه بدلاً من تحسين الظروف المعيشية، تقول الأمم المتحدة ما يلي:
يعيش مئات الملايين من فقراء الحضر في العالم في ظروف دون المستوى المطلوب… بما في ذلك التمدد السكاني السريع والتلوث والتدهور البيئي، إضافة إلى الأنماط الإنتاجية والاستهلاكية غير المستدامة.[4]
يؤدي التوسع الحضري السريع إلى تقويض ركائز التنمية المستدامة الثلاث: التنمية الاقتصادية، والتنمية الاجتماعية، وحماية البيئة[5]، ولا يستفيد المجتمع استفادة متساوية. وإذا اتبعت الدول حديثة التصنيع نموذج السوق الحرة الأمريكي، فسيحدث تفاوت اجتماعي واقتصادي كبير بالنسبة للأقليات والشباب وكبار السن والنساء.
كما يؤدي التوسع الحضري المتزايد إلى استنزاف وتقليص الأراضي الزراعية اللازمة لإنتاج الغذاء وللغطاء النباتي الطبيعي والحياة البرية التي كانت تحيط بالمدن، والتي توفر موئلاً للأنواع البيولوجية المختلفة. فإذا لم نحوِّل الأرض كلها إلى صحراء بتوسعنا الحضري غير الرشيد، لا بد لنا من تطوير الزراعة التجديدية وطرق حديثة لتجديد الغابات والأراضي العشبية والأراضي الرطبة.
ويقدِّم، في هذا الصدد، تَخْضِير المدن الصناعية القديمة – مثل برلين ومانشستر ونيويورك – نماذج للمخططين في أفريقيا وغيرها حتى لا يكرروا الأخطاء نفسها. كما توجد حاجة ملحة لبيئات عمرانية يتم تطويرها وفق سياسات مستدامة للمدن بحيث تتمكن المناطق العمرانية الحديثة من الاستفادة من خبرة الدول الصناعية القديمة حيث أنه لا يوجد عذر لأي بلد في عالم معولم ومترابط.
في التمدُّن الجديد، يمكن لمخططي المدن وصناع السياسات بناء شبكات لتبادل المعرفة حول ممارسات الاستدامة وإدارة الموارد. كما يمكن استخدام تكنولوجيا الإنترنت لنشر المعرفة حول أفضل أشكال التوسع الحضري اجتماعيا وسياسيا على غرار ما نجد في الدول الاسكندنافية. ورغم صعوبة الوصول إلى التكنولوجيا الأمر الذي قد يشكل تحدياً لسكان المناطق الريفية، فقد أصبح الوصول إليها أقل صعوبة مع اتساع انتشار استخدام الهواتف الذكية.
وتُظهر، في هذا الصدد، الجهود الرامية إلى تحقيق التطوير المستدام في الدول الصاعدة نجاحاً متفاوتاً؛ ففي الإمارات من المقرر استكمال مدينة مصدر عام 2025 لتكون واحدة من مدن العالم الأكثر استدامة. كما تتعاون الصين وسنغافورة في مشروع بيئي في مدينة تيانجين ليكون نموذجاً مستداما آخر في آسيا والعالم. وتم في نيجيريا أيضا تخطيط العاصمة أبوجا لتكون نموذجا لتطوير المدن المستدامة[6]. ورغم أن واقع هذه المدن لا يرقى إلى المستوى المثالي، من المشجِّع أن نرى محاولات تطبيق مبادئ الاستدامة على نطاق العالم.
تمثل إذا، في هذا الإطار، حركة المدن المبتكرة اتجاهاً مضاداً سيحدد طريقة تحضُّر المدن في العقود المقبلة، بدعم من شبكة اليونسكو للمدن المبتكرة[7]. ويشير موريزيو كارتا إلى ثلاثة أبعاد للتصميم: الثقافة والتواصل والتعاون، وهي أبعاد تدعم سيرورة التطوير المبتكر وتسهم في التجدد الحضري والاستدامة[8]. كما تؤكد هذه الأبعاد صحة مصطلح “الفئة المبتكرة” التي قال بها رتشارد فلوريدا ومصطلح “المبتكرون الثقافيون” الذي جاء به بول رأي[9].
يُعدّ الابتكار عاملاً مركزياً في تحويل المدن من أراض صناعية سوداء وقاحلة وقذرة إلى مراكز ثقافية مبتكرة خضراء ومستدامة، مثل برلين ومانشستر. وقد أظهرت دول أمريكا اللاتينية توسعاً حضرياً واعياً باستخدام أساليب النقل المستدامة والمبتكرة على غرار ما في مدينة كوريتيبا في البرازيل. كما أدخل، في كولومبيا، العمدة إنريك بينيالوسا (1998-2001) ممارسات اجتماعية متكاملة في مدينة بوغوتا[10]. ويرحب جيل الألفية بالاتجاه المضاد ما بعد الصناعي ويستقبلونه بقيمهم المبتكرة الخضراء التعاونية. ويشير، في هذه السياق، تعبير “ما بعد صناعي” إلى مجموعات القيم المرتبطة بالتوسع الحضري المبتكر والمستدام والواعي بدلاً من الرفض التام للتصنيع.
وفي أستراليا، بدأت الرغبة في امتلاك منزل ضخم في الضواحي تتضاءل تحت قوة الجاذبية الثقافية للتجدد الحضري الأنيق ما بعد الصناعي الذي تشهده المصانع والمستودعات؛ ومن المفارقات أن تأثير كوفيد-19 في المدن والتحوُّل إلى العمل عن بُعد أحدث توجهاً عكسياً للتوسع الحضري بعودة الناس إلى المناطق الإقليمية والريفية.
التحدي التعليمي الأكبر
شكل إعلان الأمم المتحدة قبل أكثر من 70 عاماً حول اعتبار التعليم حق من حقوق الإنسان، محركا رئيسيا للتغيير التعليمي، وقاد إلى إيجاد مشروع “التعليم للجميع” الذي تديره منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو). ورغم استفادة 40 مليون طفل (من إجمالي 100 مليون خارج المدرسة) من التعليم الأساسي بين عاميْ 1990 و2010، ما زالت تواجه مشروع “التعليم للجميع” تحديات كبيرة أبرزها:
- أولاً: التداعيات الثقافية الخطيرة لاستيراد نظام تعليمي (أوروبي- أمريكي إلى حد كبير) على ثقافات أخرى.
- ثانياً: ليس من السهل تقييم ما إذا كان الحضور المتزايد في المدرسة يؤدي إلى زيادة التعلُّم وفرص الحياة.
- ثالثاً: الشك الذي يحوم حول قدرة التعليم المستورد على الاستجابة لاحتياجات الثقافية المتنوعة المستقبلية في عالم سريع التغيُّر.
برزت محركات جديدة في قطاع التعليم العالي الذي أصبح أسيراً لقوى سوق العولمة والشركات على نحو معقّد لا فكاك منه. وتشمل هذه المحركات صعود دول الجنوب، وتزايد تسليع التعليم المرتبط بصناعة المعرفة، والصراع على الموارد بين الجامعات النخبوية والتعليم العالي الجماهيري، وثورة المعلومات، بما في ذلك الدورات الإلكترونية المفتوحة الحاشدة (MOOCS)[11].
تحققت تطورات تعليمية مهمة في آسيا وأمريكا اللاتينية ووسط أوروبا الشرقية والشرق الأوسط، خصوصاً الدول العربية. وقد استجمع التعليم العالي قوته الدافعة ولم يعُد يُفرض فرضاً أو يُغرس غرساً من دول الشمال. ويتميَّز الابتكار التعليمي في دول الجنوب بأنه متجدد ذاتياً، ويواصل تخفيض أعداد الطلاب الدوليين الملتحقين بالجامعات في أستراليا وكندا والولايات المتحدة. وقد أدى تأثير كوفيد-19 إلى توقّف تدفقات الطلاب الدوليين طوال عام 2020، ومن المرجح أن يستمر الوضع هكذا.
حوّلت اليونسكو، كغيرها من وكالات الأمم المتحدة الأخرى وشركائها، التركيز من الهدف الإنمائي للألفية (2000-2015) الخاص بتوفير التعليم للجميع إلى هدف التنمية المستدامة (2015-2030) الذي يعطي الأولوية للتعليم. باختصار:
ركزت الأهداف الإنمائية للألفية على الكم (ارتفاع معدلات الالتحاق بالمدارس، على سبيل المثال)، فإذا بجودة التعليم تتراجع في العديد من المجتمعات. وتمثل أهداف التنمية المستدامة المحاولة الأولى من جانب المجتمع الدولي للتركيز على جودة التعليم – والتعلُّم – ودور التعليم في تحقيق عالم أكثر إنسانيةً: “التعليم من أجل التنمية المستدامة وأنماط الحياة المستدامة، وحقوق الإنسان، والمساواة بين الجنسين، وتعزيز ثقافة السلام واللاعنف، والمواطنة العالمية، وتقدير قيمة التنوع الثقافي وإسهام الثقافة في التنمية المستدامة.”[12]
ربما يتغلّب مشروع التعليم للجميع على الأمية العالمية في نهاية الأمر، ولكنه لم يُصمم قط للتعامل مع التحدي الثقافي الكامن المتمثل في فرض نموذج التعليم الأنجلو-أوروبي في الحقبة الصناعية على الثقافات الأخرى. كما لا توجد أي حلول سهلة للتحديات التعليمية في الولايات المتحدة، مثل تراجع الإبداع بين الأطفال الذين في سن المدرسة وتزايد التعليم المنزلي.
لقد كان التعليم المنزلي الشكل التعليمي الأسرع نمواً في الولايات المتحدة، حيث تشير التقديرات إلى أن بين مليونين وثلاثة ملايين من الأطفال في سن المدرسة يتلقون تعليمهم في المنزل حتى قبل انتشار وباء كوفيد-19. وإذا أخذنا في الحسبان أن التعليم المنزلي يتزايد بوتيرة عالية بسبب الاستياء من التعليم الرسمي السائد، فإنه يشكل تحدياً لصناع السياسة التعليمية الأمريكيين. وقد أدى الوباء العالمي إلى تفاقم تحديات التعليم، خصوصاً في الولايات المتحدة لكونها الدولة الأكثر تضرراً من كوفيد-19 في العالم.
إن التحدي الأكبر الذي يواجه المستقبل التعليمي ليس مجرد الحصول على التعليم، بل يتمثل في كيفية تحويل التعليم بحيث يكون ملائماً ثقافياً وقادراً على تطوير البشر الذين يتميزون بالتركيز على المستقبل ويستطيعون التفكير بطريقة خلّاقة بشأن التعامل مع التحديات الناشئة. ولا يمكن لطرق التفكير القديمة المجزّأة الآلية المادية أن تتعامل مع تعقيدات التغير البيئي والاقتصادي والمجتمعي العالمي المتزايدة[13]. كما أن معظم ما يُسمى المعرفة الجديدة هو في حقيقته معرفة “ليست جديدة جداً” أعيد تقديمها في قالب من التكنولوجيات الجديدة.
تُعد المهارات الناعمة للإبداع والخيال والتفكير النقدي من القدرات الإدراكية العليا المهمة، وهي ضرورية من أجل التمكُّن من إعادة التفكير في التعليم الذي يتطلبه القرن الحادي والعشرون لإعداد الشباب إعداداً كافياً للتغيير المتسارع وتزايد عدم اليقين. وتشكل “اتجاهات العقل الكبرى” هذه عاملا حاسما وضروريا للغاية لمستقبل التعليم[14]، ولا بد من إجراء إصلاح كامل لكل من التعليم وطريقة التفكير.
إحدى أعظم المشاكل التي نواجهها اليوم هي كيفية تعديل طريقة تفكيرنا لمواجهة التحدي الناجم عن عالَمٍ يزداد تعقيداً وسرعةً في التغيير ويتعذّر التنبؤ به. وينبغي علينا لهذا أن نعيد التفكير في طريقة تنظيمنا للمعرفة[15].
يحاول كبار المفكرين في العديد من المجالات – بما فيها علوم التعقيد والبيئة والتعليم والدراسات المستقبلية والدراسات المتكاملة والفلسفة وعلم النفس ونظرية الأنظمة – مواجهة هذه التحديات. وأرى، كما يرى إدغار موران، أن طرق التفكير الأكثر تعقيداً وتأملاً ذاتياً وتناسقاً ستكون عاملاً جوهرياً في إعادة صياغة التعليم بحيث يكون الشباب مُعدّين إعداداً أفضل للتعامل مع التعقيد والمفارقة وعدم إمكانية التنبؤ.
لقد تغيرت أشياء كثيرة خلال الأعوام المائة الماضية لدرجة أصبح من الصعب التعرف عليها، غير أن التعليم النظامي ما زال يشبه مدارس المصانع التي أُنشئت لتوفير القوة البشرية خلال الثورة الصناعية. وما زلنا نُعلِّم أطفالنا وكأننا نعيش في القرن التاسع عشر، وإن كان ذلك بإضافة بعض الأدوات الرقمية والمعلومات الترفيهية عبر الإنترنت[16].
إن التحديات المجتمعية-العالمية التي نواجهها لها تداعيات كبيرة على الشباب والأجيال المقبلة، وأصبح إخفاق التعليم النظامي في إعداد الشباب لمواجهة هذه التحديات موضوعاً للكثير من أدبيات التعليم النقدية على مستوى العالم[17]. ويجب على الباحثين التربويين العالميين والممارسين وصناع السياسات أن يعالجوا التحديات المجتمعية-العالمية المعقّدة التي نوقشت هنا إذا كان التعليم يسهم في المجتمعات المحلية والأولويات الوطنية والنفع العام العالمي.
كما ينبغي فصل التعليم عن الاقتصاد وإعادة وضعه في المجال الثقافي-الاجتماعي. وبهذه الطريقة، لن يكون المدرِّسون مربُّو أطفال في الأساس، ولن يكون الباحثون جامعي أموال، وستعود المناهج الدراسية إلى التركيز على تطوير شخصية الأطفال والشباب تطويراً كاملاً. وإذا أزيل دافع الربح من التعليم ووُضع بدلاً منه دوافع ثقافية لتحسين المجتمع وتطوير الأفراد، فربما نبدأ معالجة التحديات العالمية المعقّدة من جديد.
التحدي المناخي الأكبر
يوجد قدر كبير من الوفاق بين علماء المناخ على أن مناخ الأرض يتغير بطرق تزيد من المخاطر التي تهدد نسبة كبيرة من سكان العالم. وثمّة اتفاق واسع على أن هذا التغيير نابع من أسلوب الحياة الصناعي على مدى قرون وأنه ربما لا يمكن إصلاحه.
المتوقع أن يكون من أهم الآثار المدمرة على المجتمع البشري العالمي في المستقبل المنظور هو ذوبان الأنهار الجليدية القطبية والقلنسوات الجليدية، الأمر الذي يؤدي إلى ارتفاع مستويات البحر، وغمر جزر المحيط الهادي والدول المنخفضة والمدن الكبرى الساحلية. كما أنه من المحتمل أن يقود هذا إلى هجرة جماعية لم يشهدها العالم منذ 10 آلاف سنة. ونظراً إلى تعقيد أزمة المناخ، لا بد من الجمع بين كل المعارف المتاحة ذات الصلة. لقد تم استكشاف أوجه التشابه بين المقاربات المستقبلية المتنوعة والمقاربات الحالية لتغير المناخ بالتفصيل في هذه الدراسة (انظر الجدول 1)[18].
يمثل تحليل الاتجاهات والنمذجة ورسم السيناريوهات المتخصصة المبنية على التوقعات أكثر المناهج المستقبلية شيوعاً واستخداماً في بحوث المناخ؛ وهي مناهج تميل كثيراً نحو المقاربة التنبئية/التجريبية وبدرجة أقل نحو المقاربة النقدية. وتشكّل البيانات التجريبية والإحصائية الأساس للسيناريوهات المتخصصة المستخدمة لإحداث التغيير. وربما تكون هناك فائدة من التعاون بين علماء المناخ والباحثين المستقبليين ذوي التوجه التجريبي، وسيركز التعاون على المستقبل المحتمل كما يشير إليه تحليل الاتجاهات والنمذجة. مع هذا، نادراً ما تستجلب هذه المقاربات أي مشاركة أو تحفيزاً من المجتمعات المحلية، لأنها تنطوي على تكيُّف سلبي بدلاً من المشاركة الإيجابية.
تطرح المقاربة المستقبلية النقدية السؤال التالي: “من يقرر ما هو مفضَّل؟”. وهذه المقاربة المعيارية تجاه مستقبل المناخ تُستخدَم في اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية في ما تغير المناخ (1992)[19]، وبروتوكول كيوتو (1995)، ومؤتمر الأطراف السنوي، واتفاق باريس (2016)[20] على وجه الخصوص. وتنتقد الأنشطة الحالية المرتبطة بالتنمية المفرطة التي تتسم بعدم الحساسية للمناخ. كما أنها تشارك في الأهداف التعاونية المصممة للحد من انبعاثات غازات الدفيئة من أجل تخفيف الاحتباس الحراري العالمي وتحقيق المستقبل المناخي المفضل لسكان العالم.
الجدول 1: مقاربات الدراسات المستقبلية للأزمة المناخية[21]
مقاربات الدراسات المستقبلية | مصطلحات الدراسات المستقبلية المفتاحية | مقاربات الأزمة المناخية | مصطلحات الأزمات المناخية المفتاحية |
المقاربة الوضعية: مستقبل التغير المناخي | |||
تنبئية/تجريبية | “المستقبل المحتمل” | الاتجاهات المناخية “السيناريوهات المصممة من أعلى إلى أسفل” | الاتجاه هو المصير. التخفيف. التكيُّف السلبي. |
تعددية المقاربات المستقبلية المتعددة للتغير المناخي | |||
نقدية/ما بعد حداثية | “المستقبل المفضل” | بروتوكولات اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ مستويات الانبعاثات المستهدفة | حرارة أعلى بنسبة 2% الاستقرار |
ثقافية/تفسيرية | “المستقبل الممكن أو البديل” | المستقبل من أجل الفئات المعرضة للتأثير المناخي | |
أصوات النساء والشباب والسكان الأصليين. التحالفات المناخية | |||
تشاركية/استباقية | “المستقبل التشاركي أو الاستباقي” | النشاطية المناخية “السيناريوهات المصممة من أسفل إلى أعلى” | التطور المشترك الفعال التعلُّم الاجتماعي الابتكار المشترك |
متكاملة/شمولية | “المستقبل المتكامل أو الكوكبي” | بروتوكولات الأمم المتحدة التعاون العالمي كل ما ورد أعلاه | العدالة المناخية العالمية حماية المناخ على مستوى الكوكب |
من شأن المقاربة المناخية القائمة على فلسفة المستقبل الثقافي/التفسيري أن تنتقد النموذج التنموي الغربي؛ نموذج التطور المفرط والعولمة النيوليبرالية، وأن تتخذ وجهة نظر ما بعد استعمارية أو ما بعد صناعية، وأن تستجلب مستقبلاً مناخياً بديلاً ممكناً من خلال التعاطي مع أصوات الحكماء المحليين والرؤى المستقاة من العلوم الإسلامية والنساء والشباب والأجيال المستقبلية الافتراضية. وتشمل أمثلة حماية المناخ المنسجمة مع هذه المقاربة كلاً من التحالف المناخي للمدن الأوربية مع شعوب الغابات المطيرة الأصليين، والإعلان الإسلامي حول تغير المناخ العالمي[22]، وتحالف الشباب الأسترالي للمناخ.
تتضمن المقاربة المستقبلية التشاركية المشاركة النشطة من أجل تفعيل قدراتها التمكينية والتحويلية. وتتضمن بناء سيناريوهات مجتمعية في المجتمعات المعرضة للتأثيرات المناخية ويمكن استخدامها على نطاق العالم لتمكين المجتمعات المهددة. وعلى الرغم من أن النشاطية المناخية هي عملية تشاركية ذات منحى عملي، فلا بد لها من أن تكون مطلّعة على تعقيد قضايا المناخ لكي تكسب شرعية أوسع. ويمكن لهذه المقاربة أن تزيد التحفيز تجاه الممارسات المنزلية التي يمكن أن تخفف الاحتباس الحراري العالمي وتساعد في التعلُّم الاجتماعي الذي يدعم التكيُّف.
ويُعد التغيُّر المناخي بشري المنشأ قضية كوكبية ذات أبعاد وتعقيدات متشعبة تتطلب تعاوناً عالمياً ووطنياً وإقليمياً ومحلياً. وفي هذا الصدد، تستطيع المقاربة المستقبلية المتكاملة تقديم الكثير للمستقبل المناخي والإسهام في إيجاد طرق مبتكرة للتكيُّف المشترك مع المستجدات التي لا سبيل لاجتنابها. وما زالت المقاربة المتكاملة في طور النشأة ولكنها تملك القدرة على التأثير في المستقبل المناخي من خلال دمج مقاربات متعددة. فعلى سبيل المثال، وبناءً على توقُّع ارتفاع كبير في مستوى البحر، يجري استخدام المقاربات المتكاملة في هولندا حيث يعمل المهندسون المعماريون مع المخططين لبناء منازل عائمة ومجمعات سكنية حضرية مبتكرة.
ربما يبدو الكثير من هذه التحديات عصياً على الحل، ولكن بمقدورنا معالجتها بطريقة بنّاءة إذا واجهناها بوضوح وخيال وشجاعة. ومن خلال العمل التعاوني من أجل التغيير، سواء بشأن التحول المناخي أو التوسع الحضري المبدع أو تغيير التعليم، يمكننا بناء كتلة حرجة لصياغة مستقبل إيجابي.
المراجع
[1] This paper draws from research in my book: Gidley, Jennifer M. 2017. The Future: A Very Short Introduction. Oxford University Press.
[2] Burdett, R., & Sudjic, D. (Eds.). 2007. The Endless City. New York: Phaedon Press.
[3] UN Department of Economic and Social Affairs, D. 2014. World Urbanization Prospects: The 2014 Revision. http://esa.un.org/unpd/wup/CD-ROM/Default.aspx
[4] Ibid. p. 3.
[5] Rio+20 United Nations Conference on Sustainable Development. 2012. https://sustainabledevelopment.un.org/rio20
[6] Adeponle, B. J. 2013. ‘The Integrated City as a Tool for Sustainable Development: Abuja Master Plan.’ Journal of Educational and Social Research, 35, 145.
[7] Creative Cities Network, UNESCO. https://en.unesco.org/creative-cities/
[8] Carta, M. 2007. Creative City: Dynamics, Innovations, Actions. Barcelona, Spain: LISt Laboratorio.
[9] Florida, R. 2002. The Rise of the Creative Class; and How It’s Transforming Work, Leisure, Community, and Everyday Life. New York: Basic Books; Ray, P. 1996. ‘The Rise of Integral Culture.’ Noetic Sciences Review, 37, Spring, 4.
[10] Gidley, Jennifer M. 2017. The Future: A Very Short Introduction. Oxford University Press.
[11] Gidley, J. 2012. ‘Re-imagining The Role and Function of Higher Education for Alternative Futures through Embracing Global Knowledge Futures.’ In P. Scott, A. Curaj, L. Vlăsceanu, & L. Wilson Eds.. Netherlands: Springer.
[12] John Coonrod of The Hunger Project drew these distinctions. https://advocacy.thp.org/2014/08/mdgs-to-sdgs/
[13] Gidley, J. 2012. ‘Futures of Education for Rapid Global-Societal Change.’ In F. González (Ed.), There’s a Future: Visions for a Better World. Madrid, Spain: BBVA.
[14] Gidley, J. 2010. “Globally Scanning for Megatrends of the Mind: Potential Futures of ‘Futures Thinking.’” Futures: The Journal of Policy, Planning and Futures Studies, 4210, 1040-1048.
[15] Morin, E. 2001. Seven Complex Lessons in Education for the Future. Paris: UNESCO.
[16] Gidley, J. 2016. Postformal Education: A Philosophy for Complex Futures. Dordrecht, Netherlands: Springer International.
[17] Kincheloe, J. 2006. Reading, Writing and Cognition: The Postformal Basics. Rotterdam, The Netherlands: Sense Publishers.
[18] Gidley, J. 2016b. ‘Understanding the Breadth of Futures Studies through a Dialogue with Climate Change.’ World Futures Review, 81, 24-38; Gidley, J. 2017. The Future: A Very Short Introduction. Oxford, UK: Oxford University Press.
[19] UNFCCC. 1992. UN Framework Convention on Climate Change UNFCCC Report. Retrieved from New York: https://unfccc.int/resource/docs/convkp/conveng.pdf
[20] The Paris Agreement (2016) https://unfccc.int/process/the-paris-agreement/status-of-ratification
[21] The table is Copyright. Gidley, Jennifer M. 2017. The Future…
[22] Australian Religious Response to Climate Change https://www.arrcc.org.au/islamic_declaration