مقدمة
تقود الأزمة الراهنة داخل جماعة الإخوان المسلمين إلى عدد من السيناريوهات المحددة، نتيجة مخاض عسير وتحولات كبيرة، وليدة سنوات من الصعود والهبوط، التوغل السياسي ثم الانحسار لنشاط الجماعة التي يواجه مجموعة من الصراعات المركبة والتغييرات الجوهرية على مستوى الفكر والحركة، بالتزامن مع فقدان الأفرع الفاعلة في العملية السياسية على المستوي الإقليمي ومحاولات فصل السلطة المركزية لإخوان مصر، كما كانت منذ نشأة الإخوان في العام 1928، لصالح التنظيم الدولي الذي تنامى نفوذه ككرة الثلج بفضل الأزمات المتلاحقة التي ضربت الجماعة.
وتعيش جماعة الإخوان حالة من التحول تعاني فيها من تداعيات كبيرة وتغيرات جوهرية تنسف النسق التاريخي المعروف عن الجماعة بالثبات والمركزية والصمود في وجه الأزمات، لكن ما يميز التحولات الراهنة ويجعلها أكثر تأثيراً إنها عشوائية وغير منظمة أو مقصودة وكذلك يصعب السيطرة عليها وتطويعها لخدمة مصالح الجماعة.
وفي هذه الورقة نطرح روؤية لما قد تكون عليه جماعة الإخوان المسلمين خلال السنوات المقبلة، ففي ظل ما تعانيه الجماعة من أزمات حقيقية وضعف احتمالات التلاشي وربما عدم منطقيتها فإن الطرح الذي يفرض نفسه على طاولة الباحثين في الوقت الراهن يتعلق بمسارات “التحول” التي قد تضمن للجماعة بقاء الأفكار دون الاحتفاظ بالهيكل المترهل، وهو أحد أسباب الصراع الداخلي أصلا.
أولاً: إشكالية التحول.. الأبرز ضمن خيارات محدودة وأزمة مستعرة
تفرض إشكالية “تحول الجماعة إلى تيار”، نفسها على أطروحات المستقبل، مدعومة بعدد من الدلائل التي لا يمكن التغاضي عنها أو أهمالها عند دراسة مستقبل التنظيم، لأنها تمثل عوامل بقاء وضمانة استمرار، دون النظر إلى ماهية ما ستؤول إليه الجماعة التي تعاني أزمة تاريخية خانقة، من حيث الشكل، لكن ما يحاول قطاع نافذ من الإخوان تحقيقه في الوقت الراهن هو الحفاظ على الأفكار، بعد تطويرها وتطويعها لتناسب الظرف الراهن وتتوافق مع المجتمعات الناقمة عليها بسبب الإرهاب والعمل المسلح.
بجانب السعي لتحقيق الحد الأدنى من الأهداف، ممثلة في تجاوز أزمة انهيار الشعبية والكراهية المجتمعية والبدء تدريجياً في استعادة النشاطات والتجنيد بالاعتماد على آليات جديدة بعيداً عن التضييقات الأمنية والملاحقات، مثل المراكز الثقافية والمراكز الإعلامية ذات الأذرع الإقليمية، وأيضاً مؤسسات العمل المجتمعي والطلابي، بعيداً عن الأسر الإخوانية والأنشطة التنظيمية، وهو أمر خطير، لأنه أقرب، إلى نسج خيوط العنكبوت، اعتمدت عليه الجماعة مراراً في أزماتها التاريخية مع اختلاف الأدوات، مثلا بعد حظر الجماعة لأول مرة عام 1948، طبقت الجماعة للمرة الأولى استراتيجية الكمون، واستبدلت العمل العام بالنشاط السري بعيداً الملاحقات الأمنية، ثم توالت قرارات الحظر، عام 1954، عقب تدبير محاولة فاشلة لاغتيال الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر.
الشاهد أن استراتيجية الكمون كانت منقذاً للجماعة من عدة أزمات، لكنها ومع استفحال الأزمة الراهنة وتماهي الخطوط الحاكمة لقوة الجماعة مع عوامل الضعف والاضمحلال وأيضاً انهيار الفروع، واستغلال قيادة التنظيم الدولي للأزمة من أجل القفز من دائرة التهميش إلى مركز النفوذ في الجماعة، فضلاً عن يقظة الأجهزة الأمنية والسلطات عربياً ودولياً في ملاحقة التنظيم، والغضب الشعبي الجارف ضده، جعلت اعتماد الإخوان على الحيل التاريخية، مثل المظلومية، الكمون والعمل السري، وحتى الحفاظ على الهيكل التنظيمي، أمر أقرب للمستحيل، والأهم هو غياب “الجيل الثالث” من القادة المؤسسين، وتسطيح الصراعات وخروجها للعلن قد كسر قاعدة “الثبات والمصداقية” التاريخية لدى جماعة الإخوان، وهو ما يعني فقدانها تكتل قوي من قواعدها.
لذلك، وبناء على دراسات وتقارير واستطلاعات تناولت وضع الجماعة الداخلي وحيز نشاطها العربي والدولي وموقف الحكومات منها، اعتمدت الجماعة منذ عدة أعوام على صياغة أيدولوجيا جديدة للإخوان تعتمد على الأفكار وأدوات تنفيذها دون الاهتمام بالهيكل التنظيمي أو البناء الهرمي التاريخي “المتحجر” على مدر نحو 90 عاماً (1)، ممثلا في مكتب الإرشاد، بأغلبيته الممثلة من مصر باعتبارها موطن “الجماعة الأم”، ومجلس الشورى العام، والمكاتب التنفيذية في الداخل، فضلاً عن مجلس الشوري الدولي والروابط الإقليمية والدولية الخاصة بالتنظيم الدولي. (2)
ويعد انهيار الجماعة الأم بمصر الصدمة الأضخم في تاريخها، إذ تبعه تغير كامل في الممارسة السياسية التي تحولت بشكل كلي إلى العمل المسلح لإجبار الدولة المصرية على إعادة التنظيم المحظور رسميا والمنبوذ شعبيا إلى المشهد السياسي، وأثرت انهيارات الجماعة الإرهابية المتتابعة في دول عدة كانت تمثل مراكز قوة لها وأهمها مصر بشكل كبير على التماسك الهيكلي داخل التنظيم الدولي ونسفت جميع الخطط والأهداف الاستراتيجية التي كان يسعى إلى تحقيقها بمساندة دول تتطابق مصالحها معه.(3)
ثانياً: دلائل تحول “الإخوان” من تنظيم إلى تيار
يبدو الصراع التنظيمي الممتد داخل جماعة الإخوان المسلمين، وبرغم تجاوزه نحو 10 سنوات تقريبا، عشوائي وبراجماتي وكاشف لزيف الشعارات أو ما تسمى الأسس الفكرية لبناء التنظيم، لكنه في الوقت ذاته اداة مهمة ضمن خطة التحول، بدأ يطفو ويكبر منذ التوغل السياسي للجماعة بالحكم في مصر عقب عام 2011، وربما قبل هذا التاريخ قليلاً، وهو صراع طبيعي على مراكز النفوذ والتمويل وحدث في مراحل تاريخية سابقة (4)، على سبيل المثال لا الحصر، ما وقع بين حسن البنا مؤسس الجماعة ونائبه أحمد السكري عام 1947، ثم البنا وعبد الرحمن السندي قائد النظام الخاص، وبعد سنوات كانت أزمة المرشد الثاني حسن الهضيبي والسندي، ثم الهضيبي والشيخ محمد الغزالي، ثم أزمة الهيمنة القطبية على مكتب الإرشاد وإقصاء المجموعة المناهضة لها في عام 2010، وغيرهم من الأزمات وصولاً إلى الصراع بين القائم بأعمال المرشد محمود عزت والقيادي بمكتب الإرشاد، قائد التنظيم المسلح محمد كمال، الذي انشق بمجموعة من (عناصر الأذرع المسلحة) وسمى نفسه مرشداً عاماً وظل الصراع ممتد بينهما منذ عام 2014 وحتى عام 2016، وللتوضيح كل هذه الخلافات لم تخرج عن كونها صراع من أجل السيطرة، كما أنها لم تكن خلافاً على استخدام العنف، كما يدعي الإخوان، بقدر آليات توظيفه.
الصراع الأخير وطرفيه إبراهيم منير المقيم بلندن القائم بأعمال المرشد (المعزول من مجلس شورى الجماعة)، ومحمود حسين، المقيم بتركيا (والمفصول من منصبه بقرار من القائم بأعمال المرشد)، لا يمكن قراءته منفصلاً باعتباره أزمة بين قطبين تاريخيين يمكن الفصل فيها استناداً للوائح أو مجالس صلح، لكنه جزء من سياق كبير لتحولات تاريخية تشهدها الجماعة يمكن تلخيص الدلائل عليها في الآتي: (5)
- ربما الدلالة الأكثر وضوحاً بشأن الاستراتيجية الخاصة بتحول الإخوان إلى تيار بديلاً عن التنظيم، جاءت على لسان الإخوان أنفسهم في البيان الذي صدر عن المكتب العام للجماعة في منتصف يوليو عام 2019، حيث كشفت الجماعة عن استراتيجيتها للعودة إلى المشهد العام في مصر عبر أدوات جديدة، مؤكدة التحول إلى تيار عام، قائلاً:” لذا فإننا نعلنُ أنَّ جماعة الإخوان المسلمين تقفُ الآن على التفريق بين العمل السياسي العام وبين المنافسة الحزبية الضيقة على السلطة، ونؤمن بأن مساحة العمل السياسي العام على القضايا الوطنية والحقوق العامة للشعب المصري، والقيم الوطنية العامة وقضايا الأمة الكلية، هي مساحة أرحب للجماعة من العمل الحزبي الضيق والمنافسة على السلطة، وسنعمل كتيار وطني عام ذي خلفية إسلامية، داعمين للأمة، ونمارس الحياة السياسية في إطارها العام، وندعم كلّ الفصائل الوطنية التي تتقاطع مع رؤيتنا في نهضة هذا الوطن في تجاربها الحزبية، ونسمح لأعضاء الإخوان المسلمين والمتخصصين والعلماء من أبنائها بالانخراط في العمل السياسي من خلال الانتشار مع الأحزاب والحركات التي تتقاطع معنا في رؤيتنا لنهضة هذه الأم”. (6)
- للمرة الأولى منذ تأسيسها، حاولت جماعة الإخوان، من خلال دعوة القائم بأعمال المرشد لانتخابات داخلية شاملة، ضخ دماء جديدة ومن الشباب في الصفوف التنظيمية القيادية، بعد أن كانت قاصرة على قيادات بعينها ولا تقل عن سن الأربعين، (7) وبالفعل أجريت الانتخابات في مطلع عام 2021، وأفرزت قيادات من الصفين الرابع والخامس لإدارة شؤون الجماعة داخل مصر وخارجه، وبالرغم من فشل هذه التجربة في تحريك المياه الراكدة، إلا أنها كانت محاولة جدية من جانب قيادات الإخوان لإحلال الصفوف القيادية بعناصر شبابية جديدة على عكس النمط التاريخي.
- الدلالة الثالثة، يمكن ملاحظتها في التوسع الكبير في اعتماد الإخوان على ما يمكن تسميته “أدوات التأثير الناعمة” في المجتمعات من خلال تخصيص ميزانيات ضخمة لطباعة الكتب وتشجيع الكتاب سواء من الإخوان أو المتحالفين معهم على نشر مطبوعات وكتب تدعم أفكار التنظيم وأبرزها كتب منظره سيد قطب، ولكن في قوالب جديدة تتوافق مع الفئات الشبابية والمراهقين إلى حد كبير (8)، ولعل أبرزها محاولات الإخوان استغلال الرواية الأدبية والقصة للمرور إلى عقل القارئ العربي، فيما وصفه بعض الكتاب بأنه محاولة ” لأخونة المعرفة.. تحت غطاء إسلامي. (9)
- اعتماد الإخوان على مراكز التأثير الجديدة لم يقتصر على مواقع التواصل الاجتماعي والكتب ودوريات انشر والبرامج الإعلامية المكثفة عبر مواقع وقنوات متخصصة في بث الخطاب الإيديولوجي التنظيمي إلى جانب التحريض على الدول والنظم السياسية، لكنه امتد أيضاً لمراكز التدريب الشبابية والمؤسسات الخدمية والمجتمعية، ودور النشر والمؤسسات الثقافية، وفي مصر على سبيل المثال تؤكد معلومات أن عدد دور النش التي تعمل على ترويج كتب الإخوان قد تجاوز 700 دار من إجمالي 1400 واحدة في كل البلد، ما يعني محاولة إخوانية للسيطرة والنفاذ من خلال الأدب. (10)
- تعتبر “وثيقة لندن” التي أُقرّت في أيار (مايو) 2021، المحرك الأساسي وراء اشتعال الخلافات بين جبهة إبراهيم منير المتحصنة في الداخل البريطاني، وجبهة محمود حسين، المتمركزة في العمق التركي، والتي تم تصديرها للرأي العام الإقليمي والدولي على أنها صراعات حول الأموال والسلطة، لكنها في الحقيقة خلافات حول تمرير الاستراتيجيات الجديدة داخل التنظيم، إذ إن الخلافات الداخلية على الملفات المالية والإدارية حالة مستمرة وليست طارئة على الجماعة منذ تأسيسها على يد حسن البنا. (11)
- يتمثل الصراع الحقيقي في تمرير استراتيجية الانتقال من خانة “الهيكل التنظيمي” التي وضعها حسن البنّا، إلى ساحة “التيار الفكري” الجارف، والتخلص نهائياً من عبء التنظيم الذي يعتبر حائلاً أمام التماهي مع قضايا المجتمع وإشكالياته من دون بناء جدار تنظيمي عازل، على غرار التيارات السلفية التي تتحرك بحرية تامة من دون خسائر بشرية أو مادية. (12)
ثالثاً: تقييم استراتيجية التحول: الإيجابيات والسلبيات
يبدو ان جماعة الإخوان تعمل وفق استراتيجية محددة للتحول إلى تيار عام بعد أن فشلت في السلطة في عدة دول عربية منها مصر، تونس، المغرب، السودان، ليبيا، وغيرهم، وباتت جماعة محظورة بحكم القضاء المصري والسلطات في عدد من الدول العربية ( مصر،السعودية، الإمارات)، فيما تعتزم دول أخرى وضعها وقياداتها على قوائم الإرهاب، كما فعلت الولايات المتحدة الأمريكية مع ذراعيها المسلحين “حسم” و”لواء الثورة”، وأيضاً بعد أن فشلت في تحقيق توازن داخلي لحسم الصراعات وثبوت القيادة المركزية نحو مستقبل جديد.
وتحمل استراتيجية التحول من تنظيم إلى تيار مجموعة من الإيجابيات والسلبيات التي يمكن الحديث عنها فيما يلي:-
أولا: الإيجابيات
في ظل التطورات السريعة والضاغطة إلى حد كبير داخل جماعة الإخوان وبالإشارة لحالة الارتباك الداخلي التي تعيشها الجماعة والتي تضعها أمام خيارات محدودة للغاية وجميعها تحتم انهيار الهيكل التنظيمي إذ تبرز مميزات التحول إلى تيار بديلاً عن التنظيم فيما يلي:
- أولاً: منح الجماعة المأزومة مساحة أكثر رحبة ومرونة للتعاطي مع أزمتها الراهنة، والتحكم في الحد الأدنى من الخسائر، ما يمكن توصيفه بأنه “تخلي عن التنظيم مقابل استمرار الفكرة”، ولا يغيب عن قيادات الإخوان أن هذا التحول هو المخرج الآمن الوحيد من الصراع الراهن والمحتدم والمتسارع بين إبراهيم منير ومحمود حسين، خاصة أن الأسابيع الأخيرة من شهر نوفمبر 2021 قد شهدت تصعيدا حادا على مستوى التراشق الإعلامي والقرارات، انتهت بتشكيل لجنة للقيام بأعمال المرشد العام من جانب جبهة محمود حسين، وكذلك تعيين القيادي مصطفى طلبة، وهو ما يعني عزل إبراهيم منير نهائياً، واستمرار الصراع إلى أجل غير مسمى. (13)
- تمثل العودة إلى المشهد السياسي أو العمل العام في الدول العربية، هدف استراتيجي هام بالنسبة لجماعة الإخوان المصنفة إرهابية في مصر والإمارات والسعودية، وبالتالي فإن عودتها في ذات الثوب التنظيمي باتت أمراً أقرب للمستحيل، لذلك فإن خطة التسلل والنفاذ من بين طيات العمل العام والنشاط الاجتماعي هو الحل الأمثل للعودة، وهي استراتيجية تشبه العمل السري الذي اعتمدت عليه الإخوان في أوقات الأزمات التاريخية لكن ما يختلف في هذه الأزمة هو أن الصراع الداخلي يجعل أيضا احتمالات نجاح المنظومة السرية أمر أقرب للمستحيل أيضاً.
- التيار الإخواني، كما يخطط له التنظيم يمكنه حشد الأصوات في الانتخابات مثلا والتواجد في مختلف الفاعليات الثقافية والسياسية والاجتماعية، بعيدا عن الجماعة المصنفة إرهابية وملاحقة أمنيا في عدة دول.
- فك الجماعة لارتباطاتها الإقليمية والدولية، سيسمح للفروع بمختلف الدول العربية بالعمل مجدداً دون الضرورة للخضوع لسياقات وضعتها الجماعة الأم، والتزم بتنفيذها التنظيم الدولي، وقد تكون مناسبة في دولة وغير مناسبة في أخرى، وهنا تجدر الإشارة لفشل التنظيم الإخواني كمؤسسة لها هيكل صارم في إدارة الأفرع وتوجيهها للتعاطي مع التطورات السياسية، وهو ما يجبر الجماعة على التخلي عن قوالبها وسياستها المركزية، وهو ما يعزز فكرة التيار بديلاً عن التنظيم كذلك.
ثانيا: السلبيات
في مقابل هذه الإيجابيات تحمل فكرة تحول جماعة الإخوان المسلمين مجموعة من السلبيات من أبرزها ما يلي:-
- تظل فكرة التحول إلى تيار مرهونة بفك الهيكل التنظيمي وتلاشيه وهو أمر لن يحدث بين عشية وضحاها داخل الإخوان، خاصة في ظل التناحر الراهن والتسابق بين طرفين يسعى كل منهما إلى تشويه الآخر والنيل من سمعته، وهو أمر يضرب بثوابت الجماعة، ويؤثر بشكل كبير على قواعدها.
- هذا التحول قد يعني أن جماعة الإخوان قد انتهت بالفعل، حتى لو نجحت في الحفاظ على الأيدلوجيا وتمريرها لكنها خسرت بالفعل نسقها التاريخي وتماسكها الداخلي.
- ربما يسمح مبدأ التحول بظهور أكثر من تيار منبثق عن الجماعة الأم، فيما تتجلى الاختلافات والخلافات التاريخية بين أقطاب الجماعة، وهي تيارات موجودة بالفعل مثل القطبيون أو الإصلاحيون أو حتى الكماليون، ولكنها ظلت منحسرة تحت عباءة التنظيم ولم تخرج عنه وتخضع بالولاء الكامل للمرشد ومكتب الإرشاد لاعتبارات تنظيمية وأخرى أخلاقية.
وحتى مع وجود هذه السلبيات يظل سيناريو نجاح الجماعة المأزومة، في الانسلاخ من التنظيم نحو التيار، الذي هو أقرب بالتيار السلفي في المنطقة العربية، سيناريو حالم ومتفاءل، لأن الجماعة في الواقع تشهد صراعات داخلية عجزت عن حسمها، فضلاً عن نقص مواردها المالية جراء الإجراءات العربية والأوروبية لتتبع مصادر تمويل الإرهاب، وفقدانها لمناطق نفوذها في المنطقة، وبحسب الإخواني السابق عبد الجليل الشرنوبي فهي عوامل أشبه بالكرات الحديدية الثقيلة المُعلقة بقدمي تنظيم شائخ، يرغب في النفاذ من عنق الزجاجة بأفكار وأدوات تجاوزها الزمن. (14)
وسواء نجحت الجماعة في النفاذ من الأزمة إلى التحول، أو لم تنجح، فإن الانهيار سيظل نتيجة حتمية، والشكل الذي كانت عليه جماعة الإخوان لن يكون حاضراً في المستقبل، وحتى مسألة القدرة على الاندماج في المجتمع وعودة الأفكار ستظل رهينة القدر وربما تستغرق عدة عقود خاصة في ظل المواجهة المكثفة على المستوى الفكري تحديدا لدحر تنظيمات التطرف سواء في المنطقة العربية أو في أوروبا والدول الغربية.
وبناءاً على ما سبق تقديمه من معطيات حول استراتيجية الإخوان للتحول إلى تيار عام، بعيداً عن الهيكل التنظيمي التاريخي والدلائل وملامح الاستراتيجية وأدواتها، وأيضا المعوقات التي تقف حائلاً أمام هذا الطرح، يمكن القول إن أبرز ملامح خريطة العمل الراهن والمستقبلي للإخوان يمكن أن تتمثل في الآتي:
أولاً: سواء تم حسم الصراع الداخلي بين القيادات المتناحرة، أو لا، وبغض النظر عن الطرف الذي سيحسمه لصالحه، ستظل الجماعة أمام خيارات محدودة تتعلق بالمستقبل أبرزها؛ محدودية قدرات جماعة الإخوان المسلمين في الممارسة السياسية الداخلية، أو على مستوى التأثير في المجتمعات العربية، الأمر الذي يدفعها في لحظة معينة إلى اعتماد أدوات جديدة بعيداً عن الاطر التنظيمية التقليدية والأنشطة المعروفة.
ثانيا: قد لا تسمح الأزمة الراهنة للجماعة بخلق المزيد من مساحات الانتشار على المستوى التنظيمي، ومع ذلك ستحاول الحفاظ على الحد الأدنى من مكتسباتها الراهنة، وتقليص خسائرها، وربما تبتعد عن أي إطار للتصادم مع الأنظمة السياسية في الوقت الراهن سواء من خلال العمليات أو الهجوم الإعلامي أو عبر بث الشائعات، وهذا يمكن ملاحظته في تكثيف المطالبات للمصالحة مع مصر من جانب قيادات الجماعة خلال الأشهر الماضية هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى امتناع الإخوان عن التعليق على القرار البريطاني بوضع حماس وهي أحد أفرع الإخوان، على قوائم الإرهاب، وأيضاً التزام الصمت تجاه القرارات الأوروبية ضد الجماعة في إطار الاستراتيجية الشاملة التي أقرها الاتحاد الأوروبي عام 2020 لمواجهة التطرف.
ثالثاً: ستركز الجماعة خلال الفترة المقبلة، على مؤسسات التأثير الناعمة كأحد أدوات العودة للمشهد السياسي، دون صدام مباشر وواضح مع النظم.
رابعاً: صعود التنظيم الدولي كقوة بديلة عن الأفرع الهشة والمحاصرة في الدول العربية، وهو ما يعني تغير شامل في الهيكل التنظيمي للجماعة وخروج القيادة المركزية من يد إخوان مصر إلى قيادات أخرى، وتشير بعض التوقعات ألا يتجاوز نسبة تمثيلهم المستقبلية في الهرم التنظيمي 40%، على أقصى تقدير، وذلك بسبب الملاحقات الأمنية وسجن أغلبهم بقضايا إرهاب، وتعيين مصطفي طلبة قائم جديد بأعمال المرشد وهو يحمل الجنسية البريطانية، فضلا عن أن إبراهيم منير أيضاً يحمل الجنسية البريطانية، وبالتالي انحلت العقدة الخاصة بحتمية أن يكون المرشد مصرياً وبناء عليه يتوقع أن يسيطر قيادات التنظيم الدولي وهم من يحكمون مصادر التمويل على المناصب التنفيذية في الهيكل.
خامساً: انهيار فكرة المركزية التاريخية الحاكمة في الإخوان، مقابل العمل على توطين ونشر الأفكار، وبناء تحالفات جديدة تستهدف “غسيل سمعة” الجماعة من منهاج العنف والتطرف، وهو ما سيزيد أزمة انفصام الخطاب والفعل داخلها، لأن مسألة تحلل الجماعة من كافة أفكارها ستبقى مستحيلة ومرتبط ببقائها أو تلاشيها.
وعليه، ستركز تحولات الإخوان المستقبلية على صياغة قوالب جديدة لاستيعاب الأفكار القديمة وتطويعها لخدمة مصالح الجماعة، وهي صيغة “تبريرية” لتمرير موقف ما يختلف مع الثوابت التي تلقنها لقواعدها، منها على سبيل المثال اختلاف فكرة الإخوان عن الدولة الوطنية والممارسة السياسية وفق أطرها القانونية بل وتناقضها مع أدبياتهم حول “الخلافة الإسلامية.”(15)
المراجع
[1] عمرو فاروق، الإخوان من “عقدة التنظيم” إلى مسارات “التيار الفكرى”، روزاليوسف، 24 أكتوبر 2021، https://bit.ly/3GXiPgg
[2] مركز تريندز للبحوث والاستشارات، الهيكل التنظيمي لجماعة الإخوان، الأهداف والوظائف والعمليات، مركز تريندز للبحوث والاستشارات (أبو ظبي، مركز تريندز للبحوث والاستشارات، 2020) ص ص 227-231.
[3] رشا عمار، تفكك التنظيم الدولي للإخوان.. نهاية أحلام البنا لـ”أستاذية العالم”، العين، 22 أكتوبر 2019. https://bit.ly/3e3OwIf
[4] رشا عمار، فساد الإخوان مجدداً.. وقائع دامغة تكشف زيف الشعارات، حفريات،13 أكتوبر 2021. https://bit.ly/3yEPCDP
[5] كيف يؤثر صراع “الإخوان” على أفرع التنظيم في العالم؟، سكاي نيوز عربية، 15 أكتوبر 2021. https://bit.ly/30Eu1ib
[6] أحمد بان، بيان الإخوان الأخير.. أحلام العودة تداعب الجماعة، حفريات، 28 يوليو 2019، https://bit.ly/3dftrtQ.
[7] كواليس انتخابات “مكتب الإخوان” بتركيا.. صراعات تنذر بانشقاقات، العين الإخبارية، 14 سبتمبر 2021. https://bit.ly/3siT0TD
[8] مخطط إخواني للعودة من بوابة الثقافة.. كيف تتعامل معه مصر؟، سكاي نيوز عربية، 31 أكتوبر 2021، https://bit.ly/3ecqQBn
[9] سامح فايز، ثغرة الثقافة تهدد المعركة الكبرى مع الإرهاب، دار المعارف، 26 أكتوبر 2021، https://bit.ly/3H1P6CZ
[10] في دور النشر.. الثقافة المصرية تلفظ خلايا الإخوان “النائمة”، سكاي نيوز عربية، 3 ديسمبر 2021، https://bit.ly/3mhlae9
[11] عمرو فاروق، “الإخوان المسلمون” من “الهيكل التنظيمي” إلى “التيار الفكري”، النهار العربي، 25 أكتوبر 2021، https://bit.ly/3It2XDV.
[12] المرجع السابق.
[13] أشرف عبد الحميد، الإخوان في بيان.. لجنة للقيام بمهام المرشد 6 شهور وطلبة ممثل رسمي، العربية، 18 ديسمبر2021، https://bit.ly/3IVbboi
[14] عبدالجليل الشرنوبي، المتاعب تتوالى.. تنظيم الإخوان يئن تحت أزمة مالية خانقة، 7 نوفمبر 2021، سكاي نيوز عربية، https://bit.ly/3sfby7r
[15] بابكر فيصل، تناقضات “الإخوان”: في فقه الخروج على الحاكم، الحرة 8 يوليو 2020، https://arbne.ws/3yCLSCQ