شهدت العقود الأخيرة تزايدًا ملحوظًا في توظيف تقنيات الذكاء الاصطناعي في إدارة قضايا الهجرة على المستويات الوطنية والدولية، ولاسيّما فيما يتعلق بمراقبة الحدود، ومعالجة طلبات اللجوء، وتحديد الهويات، وتقييم المخاطر الأمنية. وقد برّرت العديد من الدول هذا التوجه بالسعي إلى تحسين الكفاءة وتحقيق الاستباقية في إدارة تدفقات المهاجرين، غير أن الاعتماد المتزايد على هذه التقنيات يثير مجموعة من الإشكاليات الحقوقية المعقدة، خصوصًا في ظل محدودية الشفافية وغياب آليات المساءلة وتعرُّض المهاجرين واللاجئين لأشكال جديدة من التمييز أو الإقصاء بواسطة الخوارزميات. ويطرح هذا الواقع أسئلة جوهرية حول التوازن بين متطلبات الأمن الوطني وواجب احترام الكرامة الإنسانية وحقوق الأفراد؛ ما يجعل دراسة العلاقة بين الذكاء الاصطناعي والهجرة من منظور حقوقي موضوعًا ذا أهمية متزايدة.
إن توظيف الذكاء الاصطناعي في مجال الهجرة لا ينفصل عن التحولات العميقة التي يشهدها النظام الدولي في مقاربته لقضايا الأمن والهجرة والتنقل البشري. فالتطور السريع للتكنولوجيات الرقمية أتاح للدول إمكانيات غير مسبوقة في الرصد والتحليل والتنبؤ، وهو ما انعكس على إعادة تشكيل أدوات الرقابة وإدارة الحدود، بل على إعادة تعريف السيادة في بعدها الأمني والتقني أيضًا. غير أن هذا التداخل بين البعدين التكنولوجي والسياسي لا يخلو من إشكالات، إذ غالبًا ما يتم تقديم الحلول التقنية باعتبارها محايدة وموضوعية، في حين أن تصميم الخوارزميات يعكس في جوهره اختيارات سياسية وقيمية قد تنطوي على انحيازات بنيوية.
وتنبع الإشكالية الأساسية للدراسة من التوتر القائم بين توظيف تقنيات الذكاء الاصطناعي في سياسات الهجرة وما يترتب عليها من آثار على الحقوق الأساسية للمهاجرين، وفي مقدّمتها الحق في الخصوصية، والحق في عدم التمييز، وحق طلب اللجوء، وحق الحصول على محاكمة عادلة. ففي ظل غياب أطر قانونية وأخلاقية ملزمة، قد تستخدم الخوارزميات لاتخاذ قرارات آلية تتسم بعدم الشفافية والانحياز؛ ما يؤدي إلى انتهاك حقوق فئات هشّة بطبعها. ومن هذا المنطلق، إلى أي حدّ يؤثر اعتماد تقنيات الذكاء الاصطناعي في إدارة الهجرة على ضمان وحماية الحقوق الأساسية للمهاجرين؟ وهل تشكّل هذه التقنيات تهديدًا صامتًا لهذه الحقوق، أم رافعة محتملة لتعزيزها ضمن إطار قانوني وحقوقي ملائم؟
تروم هذه الدراسة مقاربة العلاقة بين الذكاء الاصطناعي وسياسات الهجرة من منظور حقوقي، من خلال تحليل أنماط توظيف الخوارزميات التنبؤية وتقنيات التعرف البيومتري في إدارة التدفقات ومراقبة الحدود ومعالجة طلبات اللجوء. كما تسعى إلى إبراز التداعيات القانونية والحقوقية المترتبة عن هذه الممارسات، مع مساءلة الأطر المؤسسية والتنظيمية التي تحكمها، وبيان مواطن التوتر بين الكفاءة التقنية وضمان احترام الكرامة الإنسانية.
أولًا: الذكاء الاصطناعي وتحوّلات سياسات الهجرة: بين التوظيف التقني والرهانات الحقوقية
يمثّل كلٌّ من الذكاء الاصطناعي والهجرة ظاهرتين محوريتين في تحوّلات العالم الراهن، حيث يفرض الأول تأثيرًا متزايدًا على آليات الإنتاج والخدمات واتخاذ القرار، بما في ذلك الجوانب المرتبطة بالحقوق والحريات، فيما تشكّل الثانية إحدى أبرز الظواهر العابرة للحدود، التي تختبر قدرة الدول على التوفيق بين متطلبات الأمن والتنمية وصون الحقوق الأساسية. وانطلاقًا من هذا التقاطع، يقوم هذا المحور على مقاربة مزدوجة تجمع بين تحليل الأبعاد التقنية والحقوقية للذكاء الاصطناعي، وقراءة الهجرة كظاهرة سياسية وحقوقية متعدّدة المستويات، بما يتيح استيعاب انعكاسات التكنولوجيات الحديثة على إدارة التنقلات البشرية، وضمان الكرامة الإنسانية.
1. مفهوم الذكاء الاصطناعي وحدود أثره الحقوقي
يشكّل توظيف تقنيات الذكاء الاصطناعي تحوّلًا نوعيًّا في مختلف القطاعات الحيوية، بما يحمله من إمكانيات واعدة للنهوض بحقوق الإنسان وتعزيزها. غير أن هذا التوظيف يثير في المقابل تحديات وإشكاليات عميقة قد تمسّ بعض الحقوق الأساسية. فمن جهة، يمكن أن يؤدي إلى تهديد مبدأ المساواة ومكافحة التمييز، باعتباره ركيزة أساسية في المنظومة الحقوقية، ومن جهة أخرى قد ينتهك الحقوق الخاصة، وفي مقدّمتها الحق في الخصوصية، مع إمكانية استثماره في الوقت نفسه كآلية لحمايتها وتعزيز ممارستها. وعليه، يظل الذكاء الاصطناعي أداة مزدوجة الأثر، تتجاذبها فرص تعزيز الحقوق والحريات من جهة، ومخاطر تقويضها من جهة أخرى[1].
وانسجامًا مع هذا التوجه، يبرز مفهوم الذكاء الاصطناعي (AI: Artificial Intelligence) بوصفه محاكاة للقدرات الذهنية البشرية من خلال أنظمة وبرمجيات قادرة على جمع البيانات ومعالجتها وتنفيذ مهام معقدة. وهو لا يقتصر على أداء وظائف محددة، بل يشمل مجالات التفكير والتحليل واتخاذ القرار؛ ما يجعله يتجاوز حدود البرمجة التقليدية. ويرتبط هذا المجال ارتباطًا وثيقًا بالتقنيات الرقمية الحديثة، كالحواسيب والهواتف الذكية والروبوتات، التي تضطلع بمهام دقيقة ومتنوعة. كما يُعدّ أحد الفروع الرئيسة لعلوم الحاسوب، إذ يقوم على استنساخ القدرات المعرفية للبشر، مثل التعلّم والاستنتاج، بما يسمح بتوظيف الآلة في ميادين متعدّدة، من التعليم والبحث العلمي إلى إدارة البيانات وصنع القرارات[2].
وتتيح تقنيات الذكاء الاصطناعي إمكانيات واسعة لتحسين جودة الحياة وتعزيز أداء الدولة، إذ بفضل قوتها وسرعتها وقدرتها على المعالجة، يمكنها تحقيق مستويات أعلى من الكفاءة والفعالية في مختلف المجالات. كما تتيح هذه الأنظمة إمكانية القيام بمهام شاقّة أو معقدة عوضًا عن البشر. غير أن هذه المزايا لا تحجب المخاطر المصاحبة، إذ يمكن للذكاء الاصطناعي أن يهدّد حقوق الإنسان والديمقراطية وسيادة القانون، بالنظر إلى طبيعته “الاجتماعية التقنية” التي تعكس اختيارات وقيم مصمّميه ومستخدميه. كما أن توظيفه في التنبّؤ بالسلوك البشري أو اكتشاف الأمراض أو تقييم المخاطر قد يؤدي إلى نتائج تؤثر سلبيًّا على الحقوق والفرص والرفاهية الفردية. ومن ثم، تبرز المساءلة باعتبارها عنصرًا جوهريًّا في تطوير هذه الأنظمة واستخدامها، خصوصًا أن القرارات المتخذة عبر الخوارزميات قد تعيد إنتاج تحيزات كامنة وأخطاء في التقدير، يصعب أحيانًا كشفها أو تصحيحها مقارنةً بالقرارات البشرية، وهو ما قد ينعكس سلبًا على الأفراد والمجتمعات على حدٍّ سواء.[3]
2. الهجرة كظاهرة سياسية وحقوقية عابرة للحدود
وإذا كان الذكاء الاصطناعي قد فرض نفسه كأحد أبرز التحولات التكنولوجية المؤثرة في مختلف المجالات، فإن انعكاساته لا تقتصر على الأبعاد الاقتصادية أو الصناعية، بل تمتدّ أيضًا إلى قضايا اجتماعية وسياسية معقدة، وفي مقدّمتها مسألة الهجرة، التي تُعدّ ظاهرة عابرة للحدود، تطرح إشكالات متشابكة ترتبط بالتنمية والأمن والحقوق؛ ما يجعل دراستها ضرورة مُلحّة لفهم تحولات العالم المعاصر.
وتبرز الهجرة في سياقها المعاصر، بما تحمله من تعقيدات وتشابكات متعدّدة الأبعاد، أنها لم تعُد مجرد انتقال جغرافي للسكان، بل أضحت ظاهرة ذات رهانات سياسية واقتصادية واجتماعية، ترتبط أساسًا بضرورة إيجاد توازن دقيق بين متطلبات المجتمعات المستقبلة من جهة، وضمان صون حقوق المهاجرين وكرامتهم من جهة أخرى. وقد جعلت هذه الدينامية المتسارعة من الهجرة تحدّيًا عالميًّا مركزيًّا؛ ما دفع الدول وصناع القرار على المستويين الوطني والدولي إلى توظيف مختلف الأدوات والآليات المستحدثة، بما في ذلك التقنيات والتكنولوجيات الحديثة، من أجل إدارة تدفقات المهاجرين والحد من تداعياتها، في إطار مقاربة تروم تحقيق هجرة آمنة ومنظمة تخضع لاعتبارات الأمن والتنمية والعدالة في آنٍ واحد[4].
وفي هذا السياق، تعرَّف الهجرة بأنها انتقال فرد أو مجموعة أفراد من مجال إقامتهم الأصلي إلى مجال آخر، سواء داخل حدود الدولة أو خارجها. ومعلوم أن أسباب الهجرة ودوافعها لا تقتصران فقط على الجانب الاقتصادي، بل تشملان أيضًا أسبابًا طبيعية كالكوارث، وسياسية كاللجوء والنزاعات، وثقافية كالتعليم وطلب المعرفة. كما عرَفت هذه الظاهرة تطورًا تاريخيًّا بدءًا بالاستعمار وصولًا إلى أنماط أكثر خطورة في الحاضر، تجسّدها قوارب الموت[5].
ومن الزاوية القانونية، تصوَّر الهجرة كعملية انتقال الأفراد من دولة إلى أخرى بغرض الإقامة الدائمة، وتخضع في هذا الصدد للقانون الداخلي لكل دولة، التي تمتلك الحق في تنظيم الهجرة من إقليمها وإليه. كما ترتبط الهجرة بالقانون الدولي؛ لما تثيره من مسائل تتعلق بحق الفرد في التنقل، وتحديد المركز القانوني للمهاجر، وعلاقته بكلٍّ من دولة الأصل ودولة الاستقبال، إضافةً إلى حقوقه وواجباته ضمن هذا الإطار. أما في أدبيات علم السياسة والعلاقات الدولية، فإن تناول مفهوم الهجرة يتم وفق ثلاثة أبعاد رئيسية، وهي: الهجرة كظاهرة اجتماعية وسياسية، أو كمتغير تابع أو مستقل في التحليل العلمي، أو كبراديغم أو إطار فكري عام لفهم ديناميات التحرك البشري وتأثيراتها على المجتمع والدولة[6].
ثانيًا: التداعيات الحقوقية لتوظيف الذكاء الاصطناعي في تدبير الهجرة
أدى التوسع في اعتماد تقنيات الذكاء الاصطناعي في سياسات الهجرة إلى إحداث تحولات جوهرية في استقبال المهاجرين واللاجئين وتسجيلهم ومراقبة الحدود والبت في طلبات اللجوء، حيث أتاح هذا التوظيف إمكانيات مهمة لتعزيز الكفاءة والاستباقية، لكنه في المقابل أثار إشكالات عميقة ذات بعد حقوقي وأخلاقي. ومن هذا المنطلق، يهدف هذا المحور إلى تحليل التداعيات الحقوقية لاستخدام الذكاء الاصطناعي في إدارة الهجرة، عبر مقاربتين أساسيتين: الأولى، تتعلق بالتطبيقات والآفاق العملية لهذه التقنيات، والثانية ترتبط بالتحديات الحقوقية والأخلاقية التي تثيرها، في أفق بلورة تصور متوازن يزاوج بين النجاعة التقنية، وصون الكرامة الإنسانية.
1. الذكاء الاصطناعي في إدارة قضايا الهجرة: التطبيقات والآفاق
وإذا كان مفهوم الهجرة في بُعدَيه القانوني والسياسي قد ارتبط أساسًا بحق التنقل وبالعلاقات بين الدول والمجتمعات، فإن التحولات التكنولوجية الراهنة أضفَت عليه أبعادًا جديدة، ولاسيّما مع توظيف تقنيات الذكاء الاصطناعي في تدبير قضايا الهجرة وإدارتها. ففي هذا السياق، تختلف أنماط استخدام هذه التقنيات من دولة إلى أخرى، حيث تتراوح بين تطبيقات بسيطة كروبوتات الدردشة وأدوات الترجمة، وأخرى أكثر تعقيدًا مثل أنظمة التعرّف على الوجه واللهجة، أو أنظمة إدارة الملفات التي أصبحت معتمدة في معالجة طلبات المهاجرين بما توفره من أتمتة للإجراءات ورفع مستوى الفعالية التشغيلية، خصوصًا فيما يتعلق بعمليات الترحيل.
ففي ألمانيا مثلًا، جرى الاستثمار في أدوات التعرف على اللغة واللهجة لتحديد بلد المنشأ للوافدين الجدد بما يسمح بتصنيفهم وفق معايير لغوية وجغرافية، بينما اعتمدت السويد خوارزميات قائمة على التعلم الآلي للتنبّؤ بتدفقات الهجرة المستقبلية. وعلى المستوى الإقليمي، اتّجه الاتحاد الأوروبي إلى تطوير آليات جديدة لإدارة حدوده بالمتوسط، تقوم على الجمع بين الترحيل الجماعي والتحليل التنبّئي لمضامين وسائل التواصل الاجتماعي، فضلًا عن المراقبة البحرية واستخدام الطائرات من دون طيار لرصد ومنع محاولات العبور غير النظامية. وهكذا، أضحت هذه التطبيقات التكنولوجية جزءًا من السياسات الأمنية الهادفة إلى ضبط الهجرة غير النظامية ومواجهة الجريمة العابرة للحدود، في إطار أطر تنظيمية متجددة داخل الاتحاد الأوروبي[7].
وتكشف التجارب المقارنة أن الدول تختلف في مدى قدرتها على تحقيق التوازن بين النجاعة التقنية وحماية الحقوق. ففي ألمانيا، أدى اعتماد تقنيات التعرف على اللهجات لتحديد بلدان المنشأ إلى انتقادات واسعة من المنظمات الحقوقية التي اعتبرت الآلية غير دقيقة وتنطوي على مخاطر التمييز ضدّ فئات معينة من المهاجرين[8]. أما كندا، فقد اعتمدت خوارزميات لدراسة ملفات الهجرة واللجوء بهدف تسريع المعالجة، لكنها واجهت انتقادات بدعوى غياب الشفافية وصعوبة الطعن في القرارات الآلية[9]. وعلى مستوى الاتحاد الأوروبي، شكّلت سياسات المراقبة الحدودية الذكية – القائمة على الطائرات المسيّرة والأنظمة التنبّؤية – مثالًا على تغليب الهاجس الأمني على حساب الاعتبارات الإنسانية، حيث وُجّهت اتهامات للاتحاد بالمسؤولية غير المباشرة عن مآسي المهاجرين في البحر المتوسط[10]. وهذه الحالات تبرز بوضوح أن اعتماد الذكاء الاصطناعي في الهجرة لا ينفصل عن السياقَين السياسي والقانوني لكل دولة أو تكتل إقليمي، وأن غياب ضوابط صارمة يفتح المجال لانتهاكات حقوقية جسيمة.
ويبرز مجال الهجرة كأحد الميادين التي شهدت توسعًا ملحوظًا في توظيف تقنيات الذكاء الاصطناعي خلال السنوات الأخيرة، حيث أضحت هذه الأدوات مدمجة في مختلف مراحل دورة الهجرة، من الاستقبال والتسجيل وصولًا إلى الترحيل والاندماج. وقد مثّل هذا التوظيف نقلة نوعية في كيفية تفاعل الحكومات والهيئات الدولية مع قضايا الهجرة، من خلال اعتماد أنظمة التدبير الآلي وتحليل المعطيات الضخمة والتعرف الذكي، بما أتاح إمكانيّات أوسع لرفع كفاءة المعالجة وتسريع اتخاذ القرار. ولا يقتصر الأمر على البعد الإداري فحسب، بل يعكس أيضًا إعادة تشكيل للرؤية الاستراتيجية لإدارة الهجرة، حيث أصبحت التكنولوجيا رافعة أساسية لتحقيق الضبط والرقابة، وفي الوقت ذاته وسيلة لتعزيز الفعالية والشفافية في تدبير التنقلات البشرية. غير أن هذا التحوّل التكنولوجي يثير، في المقابل، إشكالات عميقة تتعلق بالحقوق الأساسية للمهاجرين، وبالأبعاد الأخلاقية المرتبطة بكيفية استخدام هذه الأدوات[11].
2. لمخاطر الحقوقية والأخلاقية للتقنيات الذكية في مجال الهجرة
يثير توظيف تقنيات الذكاء الاصطناعي في مجال الهجرة واللجوء جملة من التحديات والإشكاليات ذات البعد الحقوقي والأخلاقي، إذ تتخوف العديد من المنظمات والفاعلين في شبكة الدفاع عن حقوق المهاجرين من أن يؤدي غياب الشفافية وآليات المراقبة والتدقيق، إلى تكريس أشكال من التمييز أو إغفال البعد الإنساني في التعامل مع المهاجرين واللاجئين. ويستند الذكاء الاصطناعي في جوهر عمله إلى البحث عن الأنماط داخل مجموعات ضخمة من البيانات؛ من أجل إنتاج تنبؤات أو توصيات. ويتم ذلك عادة عبر تدريبه على بيانات معيارية، مع تدخّل بشري لتصحيح النتائج وتوجيه عملية التعلّم بما يتيح للنظام بلوغ مستويات أعلى من الدقة.
ويمكن لهذا التدريب أن يتم على بيانات نصية؛ ما يسمح للأنظمة الذكية بفرز الطلبات وتصنيفها واقتراح قرارات بشأن قبولها أو رفضها، كما يمكن أن يشمل بيانات مرئية، وهو ما يفسر تنامي استخدامه في تقنيات التعرف على الوجه التي توظف لمطابقة صور الأشخاص في الوثائق أو التسجيلات المصورة. وهكذا، فإن الذكاء الاصطناعي في ميدان الهجرة يظل أداة مزدوجة الإمكانيات؛ قادرة على رفع كفاءة الإدارة من جهة، لكنها في الآن نفسه تنطوي على مخاطر حقيقية تستدعي اليقظة، وإرساء ضوابط قانونية وأخلاقية صارمة[12].
ويتجاوز النقاش المرتبط بتوظيف الذكاء الاصطناعي في مجال الهجرة البعد القانوني ليطرح أسئلة فلسفية وأخلاقية عميقة حول العلاقة بين الإنسان والآلة في صناعة القرار. فالقرارات المتعلقة بمصير الأفراد – سواء تعلق الأمر بالترحيل أو قبول اللجوء أو منح التأشيرة – تستند تقليديًّا إلى تقدير بشري يسمح بمرونة وفهم للسياقات الإنسانية الخاصة بكل حالة، بينما يؤدي إدخال الخوارزميات إلى إضفاء طابع تقني صارم قد يجرد المهاجر من إنسانيته ويحوّله إلى “معطى رقمي” يخضع للمعالجة الحسابية. وهذا التحول يثير مخاوف من أن تتحوّل سياسات الهجرة إلى آليات ضبط تقنية فاقدة للبعد الإنساني، وهو ما يستدعي إرساء مقاربة أخلاقية تضع الإنسان في قلب السياسات التكنولوجية، وتضمن أن يظل القرار النهائي خاضعًا للمراجعة البشرية المسؤولة.
وتتجلّى التحديات الحقوقية المرتبطة بتوظيف الذكاء الاصطناعي في إدارة الهجرة على مستويات متعدّدة، بدءًا من الحق في الخصوصية وحماية المعطيات الشخصية[13]، إذ تمتلك الأنظمة الذكية القدرة على جمع ومعالجة كميات هائلة من بيانات المهاجرين واللاجئين؛ ما يثير مخاطر انتهاك خصوصيتهم في ظل غياب أطر قانونية واضحة وآليات رقابة فعالة. كما تظهر مسألة التمييز الخوارزمي والإقصاء الرقمي، حيث قد تحتوي الخوارزميات على تحيزات مضمّنة تعكس أو تضخّم الفوارق الاجتماعية والجغرافية، أو ترتبط بالجندر أو اللون أو الجنسية؛ ما يؤدي إلى تمييز غير مباشر. ويتعرّض الحق في طلب اللجوء وضمان العدالة الإجرائية للتهديد أيضًا، إذ قد تحرم القرارات الآلية المتخذة في معالجة الطلبات الأفراد من إمكانية الطعن أو المراجعة البشرية؛ ما يمسّ مبادئ العدالة والمساواة أمام القانون[14]. إلى جانب ذلك، تشكّل محدودية الشفافية والمساءلة عائقًا كبيرًا، حيث يؤدي غياب فهم واضح لآلية عمل الخوارزميات إلى صعوبة مساءلة النظام أو تصحيح القرارات الخاطئة[15]. وتشير هذه التحديات مجتمعة إلى الحاجة المُلحّة إلى تطوير أطر قانونية وأخلاقية صارمة توازن بين الكفاءة التقنية في إدارة الهجرة، وحماية الحقوق الأساسية للمهاجرين واللاجئين.
ويُتيح الذكاء الاصطناعي آفاقًا واسعة لإحداث تحوّل جذري في طريقة إدارة الدول والمنظمات الدولية لقضايا الهجرة، من خلال توظيفه في مهام متعدّدة تشمل التحقق من الهوية ومراقبة الحدود وأمنها وتحليل بيانات طالبي التأشيرة واللجوء، وغيرها من الإجراءات المرتبطة بحوكمة الهجرة. وقد بدأت بعض الدول بالفعل في دمج هذه الأنظمة ضمن سياساتها، كما هو الحال في كندا التي اعتمدت على آليات صنع القرار الخوارزمي لتحديد ملفات الهجرة واللجوء، مع توسيع تدريجي لاستخدام الذكاء الاصطناعي في مختلف مراحل إدارة الهجرة[16].
ولا يمكن فصل النقاش حول توظيف الذكاء الاصطناعي في سياسات الهجرة عن الإطار القانوني والمؤسّساتي المنظم لهذه الممارسات. فعلى الصعيد الدولي، تؤطر صكوك حقوقية عدة هذا المجال، من أبرزها الاتفاقية الدولية لحماية حقوق جميع العمال المهاجرين وأفراد أسرهم (1990)[17]، واتفاقية جنيف الخاصة بوضع اللاجئين (1951)[18]، بالإضافة إلى الاتفاق العالمي من أجل الهجرة الآمنة والمنظمة (2018)[19] الذي أولى أهمية خاصة لاستخدام البيانات والتكنولوجيات الحديثة في إدارة الهجرة على أساس من الشفافية واحترام الكرامة الإنسانية. ورغم ذلك، يظل حضور هذه الأطر ضعيفًا أمام الطابع السريع والمباغت للتحولات التكنولوجية، إذ غالبًا ما تتقدّم الممارسات العملية على مستوى الدول على الضوابط القانونية والمؤسّساتية. ويثير هذا الوضع مخاطر حقيقية تتعلق بغياب آليات فعالة للرقابة والمساءلة، خصوصًا فيما يرتبط بالقرارات الآلية التي قد تمسّ حقوق الأفراد الأساسية.
ورغم هذه التطورات، لايزال غياب إطار قانوني متكامل ينظم هذه التقنيات ويحدّ من مخاطرها يمثّل تحدّيًا قائمًا؛ ما يبرز الحاجة إلى بناء منظومة شاملة تجمع بين كلٍّ من البعد القانوني والمؤسّساتي والإنساني، بحيث يظل الإنسان الفاعل الرئيسي في توجيه هذه التكنولوجيا. وفي هذا الإطار، برزت مبادرات دولية عديدة، من بينها المبادرات الأوروبية، وإنشاء مركز الذكاء الاصطناعي والروبوتات في هولندا (2018)، والتعاون مع الاتحاد الدولي للاتصالات، وتنظيم القمّة العالمية “الذكاء الاصطناعي من أجل الخير”، إضافةً إلى حوار اليونسكو حول أخلاقيات الذكاء الاصطناعي، الذي تُوِّج بإصدار التوصية الخاصة بأخلاقيات الذكاء الاصطناعي (2021) التي أولت اهتمامًا خاصًّا بحقوق الإنسان والكرامة الإنسانية[20].
وتشير هذه المعطيات مجتمعةً إلى أن توظيف الذكاء الاصطناعي في إدارة الهجرة يمثّل تحدّيًا مزدوجًا؛ فهو من جهةٍ يتيح تحسين الكفاءة التشغيلية وتعزيز القدرة على معالجة تدفقات الهجرة المعقدة، ومن جهة أخرى يطرح مخاطر حقوقية وأخلاقية جدية إذا غابت الضوابط القانونية والمؤسّساتية الصارمة. ومن هنا، تتضح الحاجة المُلحّة إلى تطوير إطار متكامل يوازن بين الاستفادة من الإمكانيات التقنية للذكاء الاصطناعي وبين ضمان حماية الحقوق الأساسية للمهاجرين واللاجئين، مع إبقاء الإنسان الفاعل الأساسي في عملية اتخاذ القرار وتوجيه هذه التكنولوجيا، بما يحفظ الكرامة الإنسانية، ويعزز المساءلة والشفافية.
خاتمة:
يتضح ممّا سبق أن توظيف الذكاء الاصطناعي في سياسات الهجرة يطرح إشكاليات عميقة تتعلق بالتوازن بين مقتضيات الأمن وإدارة الحدود من جهة، وضمان الحقوق والحريات الأساسية من جهة أخرى. فغياب الأطر القانونية الملائمة وضعف آليات الرقابة يفتحان المجال أمام مخاطر التمييز والإقصاء، بدلًا من أن يكون الذكاء الاصطناعي وسيلة لتيسير الإجراءات وتعزيز الشفافية.
ولمواجهة هذه التحديات، تبرز الحاجة إلى حوكمة حقوقية تضمن خضوع الخوارزميات لمبادئ حقوق الإنسان، وتعزز الشفافية وإمكانية الطعن في القرارات الآلية، مع إشراك المجتمع المدني في الرقابة على السياسات الرقمية للهجرة. كما أن إرساء تعاون دولي في هذا المجال يظل شرطًا أساسيًّا لبلورة معايير مشتركة تضمن أن تتحول التكنولوجيا إلى أداة داعمة للتنقل الآمن والمنصف، بدلًا من أن تصبح آلية لإعادة إنتاج الهشاشة والإقصاء. وبالتالي، فإن نجاح إدارة الهجرة في العصر الرقمي لن يقاس بقدرة الخوارزميات على ضبط الحدود فحسب، بل بمدى قدرتها على حماية حقوق الإنسان، والحفاظ على كرامة كل مهاجر ولاجئ.
لائحة المراجع
المراجع العربية:
- الاتفاق العالمي من أجل الهجرة الآمنة والمنظمة، 19 ديسمبر 2018، موقع المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين: https://www.unhcr.org/ar/5c45906a4
- اتفاقية 1951 الخاصة بوضع اللاجئين، 28 تموز/ يوليو 1951، أنظر موقع المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين: https://www.unhcr.org/ar/4f44a8f16
- الاتفاقية الدولية لحماية حقوق جميع العمال المهاجرين وأفراد أسرهم، اعتُمدت بقرار الجمعية العامة 45 المؤرخ في 18 كانون الأول/ ديسمبر 1990، أنظر موقع الأمم المتحدة: https://www.ohchr.org/ar/instruments-mechanisms/instruments/international-convention-protection-rights-all-migrant-workers
- إيناس عبد الرزاق علي، سرى طه ياسين، دور الذكاء الاصطناعي في البحث العلمي، مجلة ملحق الجامعة العراقية، العدد (16/2)، 2022.
- الذكاء الاصطناعي تحت المراقبة، لندن، شبكة حقوق المهاجرين، يناير 2025، أنظر الرابط التالي: https://migrantsrights.org.uk/wp-content/uploads/2025/02/AI-under-watch-FINAL-ARABIC.pdf
- سعد الدين مشاور، شنافي فوزية، تطور مفهوم الهجرة: من ظاهرة سوسيو- اقتصادية إلى ظاهرة أمنية- قراءة في تحول المفهوم، مجلة الحوار الفكري، العدد 15، يونيو 2018.
- سمر عادل شحاتة محمد، الذكاء الاصطناعي وحقوق الإنسان، مجلة العلوم القانونية والاقتصادية، المجلد 66، العدد 3، يناير 2024.
- عبد الصمد الزو، الهجرة الدولية: المفهوم، الدوافع والنظريات، مجلة الدراسات الإفريقية وحوض النيل، المجلد 6، العدد 25، مارس 2024.
- محمد بديل، الذكاء الاصطناعي وصناعة القرار السياسي في دورة الهجرة، مجلة القانون والأعمال الدولية، العدد 59، غشت- شتنبر 2025.
- منى دلوح، مستقبل حوكمة الهجرة في ظل تطور أنظمة الذكاء الاصطناعي، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، استشراف للدراسات المستقبلية، المجلد 9، العدد 9، ديسمبر 2024.
المراجع الأجنبية:
- Anna Desmarais, From surveillance to automation: How AI tech is being used at European borders, Euronews, In: https://www.euronews.com/next/2025/03/21/from-surveillance-to-automation-how-ai-tech-is-being-used-at-european-borders?utm_source
- Artificial Intelligence and Migration, Council of Europe, Parliamentary assembly, Committee on Migration, Refugees and Displaced Persons, In: https://rm.coe.int/report-artificial-intelligence-and-migration/1680b67b8a
- Artificial intelligence in asylum procedures in the EU, European Parliament ,European Parliament Briefing, July 2025, In: https://www.europarl.europa.eu/RegData/etudes/BRIE/2025/775861/EPRS_BRI(2025)775861_EN.pdf
- Inside Europe’s AI Border Fortress, How AI technologies at Europe’s borders — drones, scanners and surveillance — compromise the rights of people seeking refuge, Investigative Journalism for Europe, 2024, In: https://investigativejournalismforeu.net/projects/inside-europes-ai-border-fortress/?utm_source
- Law, Technology, and Accountability: Reimagining Canadian Immigration for the 21st Century, The Canadian Bar Association, May 2025, In: https://cba.org/CBA/media/PDFs/Our%20Impact/Submission/2025/25-19-Sub-eng.pdf
- Rodrigues, R, “Legal and human rights issues of AI: Gaps, challenges and vulnerabilities”, Journal of Responsible Technology, (2020), In: https://www.sciencedirect.com/science/article/pii/S2666659620300056
[1] سمر عادل شحاتة محمد، الذكاء الاصطناعي وحقوق الإنسان، مجلة العلوم القانونية والاقتصادية، المجلد 66، العدد 3، يناير 2024، ص 379.
[2] إيناس عبد الرزاق علي، سرى طه ياسين، دور الذكاء الاصطناعي في البحث العلمي، مجلة ملحق الجامعة العراقية، العدد (16/2)، 2022، ص 265-266.
[3] سمر عادل شحاتة محمد، مرجع سابق، ص 392-393.
[4] محمد بديل، الذكاء الاصطناعي وصناعة القرار السياسي في دورة الهجرة، مجلة القانون والأعمال الدولية، العدد 59، غشت- شتنبر 2025، ص 59.
[5] عبد الصمد الزو، الهجرة الدولية: المفهوم، الدوافع والنظريات، مجلة الدراسات الإفريقية وحوض النيل، المجلد 6، العدد 25، مارس 2024، ص 132.
[6] سعد الدين مشاور، شنافي فوزية، تطور مفهوم الهجرة: من ظاهرة سوسيو- اقتصادية إلى ظاهرة أمنية- قراءة في تحول المفهوم، مجلة الحوار الفكري، العدد 15، يونيو 2018، ص 196.
[7] منى دلوح، مستقبل حوكمة الهجرة في ظل تطور أنظمة الذكاء الاصطناعي، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، استشراف للدراسات المستقبلية، المجلد 9، العدد 9، ديسمبر 2024، ص 82.
[8] Anna Desmarais, From surveillance to automation: How AI tech is being used at European borders, Euronews, In: https://www.euronews.com/next/2025/03/21/from-surveillance-to-automation-how-ai-tech-is-being-used-at-european-borders?utm_source
[9] Law, Technology, and Accountability: Reimagining Canadian Immigration for the 21st Century, The Canadian Bar Association, May 2025, p: 13-14, In: https://cba.org/CBA/media/PDFs/Our%20Impact/Submission/2025/25-19-Sub-eng.pdf
[10] Inside Europe’s AI Border Fortress, How AI technologies at Europe’s borders — drones, scanners and surveillance — compromise the rights of people seeking refuge, Investigative Journalism for Europe, 2024, In: https://investigativejournalismforeu.net/projects/inside-europes-ai-border-fortress/?utm_source
[11] محمد بديل، مرجع سابق، ص 60.
[12] الذكاء الاصطناعي تحت المراقبة، لندن، شبكة حقوق المهاجرين، يناير 2025، ص 5- 7، أنظر الرابط التالي: https://migrantsrights.org.uk/wp-content/uploads/2025/02/AI-under-watch-FINAL-ARABIC.pdf
[13] Rodrigues, R, “Legal and human rights issues of AI: Gaps, challenges and vulnerabilities”, Journal of Responsible Technology, (2020), In: https://www.sciencedirect.com/science/article/pii/S2666659620300056
[14] Artificial intelligence in asylum procedures in the EU, European Parliament ,European Parliament Briefing, July 2025, In: https://www.europarl.europa.eu/RegData/etudes/BRIE/2025/775861/EPRS_BRI(2025)775861_EN.pdf
[15] Artificial Intelligence and Migration, Council of Europe, Parliamentary assembly, Committee on Migration, Refugees and Displaced Persons, In: https://rm.coe.int/report-artificial-intelligence-and-migration/1680b67b8a
[16] Law, Technology, and Accountability: Reimagining Canadian Immigration for the 21st Century, OP.CIT, p: 13.
[17] الاتفاقية الدولية لحماية حقوق جميع العمال المهاجرين وأفراد أسرهم، اعتمدت بقرار الجمعية العامة 45 المؤرخ في 18 كانون الأول/ ديسمبر 1990، أنظر موقع الأمم المتحدة: https://www.ohchr.org/ar/instruments-mechanisms/instruments/international-convention-protection-rights-all-migrant-workers
[18] اتفاقية 1951 الخاصة بوضع اللاجئين، 28 تموز/ يوليو 1951، أنظر موقع المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين: https://www.unhcr.org/ar/4f44a8f16
[19] الاتفاق العالمي من أجل الهجرة الآمنة والمنظمة، 19 ديسمبر 2018، موقع المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين: https://www.unhcr.org/ar/5c45906a4
[20] منى دلوح، مرجع سابق، ص 77-78.