Insight Image

التداعيات الاقتصادية لجريمة غسل الأموال وجهود مواجهتها.. الإمارات نموذجًا

15 ديسمبر 2022

التداعيات الاقتصادية لجريمة غسل الأموال وجهود مواجهتها.. الإمارات نموذجًا

15 ديسمبر 2022

مقدمة:

عندما تحول العالم لقرية صغيرة بفعل الثورة في قطاعي النقل والاتصالات والتطور في الأنشطة المالية الدولية، كان لذلك إيجابيات ومنافع جمة، لكنه لم يخلُ أيضًا من السلبيات وأوجه القصور. وكان انتشار الجرائم المالية عبر الحدود من أبرز هذه السلبيات وأكثرها إثارة للجدل وللمشكلات بين الدول. ومع دخول العالم ما يعرف بالثورة الصناعية الرابعة، تفاقمت المشكلات الاقتصادية الدولية بنفس القدر الذي تزايدت فيه الفرص والمنافع الاقتصادية. وكان من نصيب الجرائم الاقتصادية أن تتعمق وتتسع رقعتها الدولية وتزداد قدراتها على تجاوز الحدود السياسية للدول. هاهنا تحديدًا ظهرت أهمية التنسيق الدولي لمواجهة الجرائم المالية كجريمة غسل الأموال.

وتأسيسًا على واقع دولي تتسارع فيه الجرائم الاقتصادية لتسبق الجهود الدولية المكافحة لها، ستتراوح الأهداف التي تسعى هذه المقالة لتحقيقها بين تقديم تحليل منضبط لظاهرة غسل الأموال في الواقع الدولي الراهن لاستخلاص محددات ازدهارها وبدائل مقاومتها وبين دراسة نموذج دولي يمكن الاعتماد عليه في فهم الأبعاد الكاملة لهذه الجريمة الاقتصادية وتحديد المقومات الواجب امتلاكها للمكافحة هذه الجريمة والنزول بتداعياتها للحدود الدنيا.

ولتحقيق هذه الأهداف مجتمعة، ستتناول الفقرات القادمة من هذه الورقة إطارًا نظريًا وتحليلًا لظاهرة غسل الأموال، عبر تناول مفهوم هذه الظاهرة وجدلية نشأتها التاريخية ومصادر الأموال التي يتم تدويرها عالميًا بهدف غسلها ومراحل وآليات هذه العملية الاقتصادية المعقدة. يلي ذلك استعراض أهم محددات تنامي ظاهرة غسل الأموال عالميًا، ثم بحث انعكاسات هذه المحددات على خريطة عمليات غسل الأموال عالميًا واستخلاص التداعيات الكمية والنوعية التي تتركها على جسد الاقتصاد الوطني. وللحد من هذه التأثيرات، سيتم تسليط الضوء على أهم الجهود الدولية لكبح جماح هذه الظاهرة، مع التركيز بصفة خاصة على جهود الاقتصاد الإماراتي، لامتلاكه مراكز مالية دولية رائدة ولسعيه المستمر لمكافحة هذه الظاهرة الاقتصادية المَرَضية.

1. ظاهرة غسل الأموال، إطار نظري وتحليلي:

هناك العديد من الأبعاد النظرية التي يتم طرحها وتناولها عند تحليل ظاهرة غسل الأموال وتأثيراتها في الاقتصاد العالمي أو في الاقتصادات الوطنية. وتعرض النقاط التالية بعض من هذه الأبعاد وتقدم تحليلًا مقتضبًا لها:

1-1 المفهوم الاقتصادي لغسل الأموال:

يمكن تعريف غسل الأموال من منظور اقتصادي على أنه كافة الأنشطة المالية التي تهدف بالأساس إلى إخفاء مصادر الأموال غير المشروعة وإعادة إدخالها في دورة النشاط الاقتصادي لتُعَامَل معاملة الأموال المشروعة. وعلى الصعيد الدولي، فلقد استقر تعريف نشاط غسل الأموال في اتفاقية فيينا لعام 1988 مادة رقم 3.1 على أنه[1] “تحويل الأموال أو نقلها مع العلم بأنها مستمَّدة من أيَّة جريمة أو جرائم، بهدف إخفاء أو تمويه المصدر غير المشروع للأموال أو قصد مساعدة أيّ شخص متورَّط في ارتكاب مثل هذه الجريمة أو الجرائم على الإفلات من العواقب القانونية لأفعاله”.

وأمام تعريفات متعددة لعمليات غسل الأموال، يصح القول إن الهدف الرئيسي لها هو الإخفاء والتغيير وإعادة التدوير. فعمليات الإخفاء المتعمد والتغيير المقصود وإعادة الإدخال لأي قدر من رؤوس الأموال يدخل بالمفهوم ضمن أنشطة غسل الأموال.

1-2 جدلية النشأة لظاهرة غسل الأموال:

ليس هناك تاريخ معين يمكن الإشارة إليه على أنه هو الذي شهد ميلاد ظاهرة غسل الأموال. ذلك أن هذه الظاهرة الإجرامية غير المشروعة ترتبط ارتباطًا وثيقًا بطبيعة الأنشطة الاقتصادية نفسها، وتتطور مع تطور الظواهر المالية والنقدية المشروعة. كما أن ارتباطها بالجريمة المالية وبالأموال غير المشروعة يجعلها تضرب بجذورها في عمق التاريخ الاقتصادي والاجتماعي للنشاط الإنساني نفسه. ومع ذلك، ورغم أنه لا يوجد تاريخ محدد لنشوء هذه الظاهرة في الاقتصاد العالمي، لكن تفاقمها[2] على الصعيد الدولي له العديد من الأسباب ويرتبط بظهور العولمة في الأنشطة الاقتصادية على ما سيتضح في موضع تالٍ من هذا التحليل.

ولما كانت الأموال المولدة من المعاملات الاقتصادية غير المشروعة هي نقطة البداية في نشاط غسل الأموال، فإن النشأة الأولى لهذه الظاهرة ارتبطت بالجريمة الاقتصادية نفسها، أو بالجريمة غير الاقتصادية لكنها ذات مردود اقتصادي مرتفع. وبطبيعة الحال، فإن هذا النوع من الجرائم له امتداد تاريخي واضح. وبالتالي، فإن الحديث عن نشأة جريمة غسل الأموال ينقلنا مباشرة للبحث في منشأ العوائد والأموال غير المشروعة؛ تلك التي شاعت مع شيوع الجريمة بعد ظهور النقود بديلًا لعمليات المقايضة البدائية. وحري بالتأكيد هنا أن ازدهار الإحصاءات الاقتصادية واكب ظهور العمليات المصرفية والتي تطورت بظهور البنك الحديث ودوره في خلق وإعادة تدوير الأموال بين الأنشطة الاقتصادية المختلفة. ومن ثم، فإن للنظام البنكي المحلي والعلاقات المصرفية الدولية نصيبًا دائمًا من الجدل الذي يدور حول نشأة ظاهرة غسل الأموال. وبالإضافة لعلاقة النظام البنكي بشيوع جريمة غسل الأموال، فإن التحولات الرقمية في عمل النظام المالي، مع اتساع رقعة المعاملات المالية بالإنترنت، قد لعبا دورًا شديد الوضوح في انتشار هذه الجريمة محليًا ودوليًا. بل يمكن القول إن الرافد الحالي لهذه الظاهرة يعتمد على الرقمنة والإنترنت وأفول عصر النقود الورقية.

وحري بالبيان هنا أن انتشار جريمة غسل الأموال راجع أساسًا لوجود معضلة اقتصادية تنطوي عليها هذه الجريمة الاقتصادية، وهي المنافع الاقتصادية المباشرة التي تولدها عبر سلسلة غسل الأموال المحلية والدولية. فبينما ينعقد الإجماع الدولي والمحلي على ضخامة الأضرار الاقتصادية وغير الاقتصادية التي تصحب هذه الجريمة على الأجل الطويل وعلى صعيد متغيرات الاقتصاد الكلي، فإن الأجل القصير يحمل بعض المنافع الآنية لأطراف هذه العملية، بما فيهم الأطراف المؤسسية الوسيطة. فهذا النوع من المؤسسات المالية الوسطية التي تتقبل الدخول في دائرة غسل الأموال تجني منافع وعوائد اقتصادية من هذه الإيداعات قد تتساوى – أو حتى تتفوق – مع منفذي الجريمة؛ إما نتيجة حاجتها لهذه الأموال أو لما يعود عليها من توظيفها. ومن هنا، فإن التنظيمات المانعة والمحاصرة لهذه الجريمة يجب أن تبني خططها واستراتيجياتها في ضوء هذه الحقيقة وصولًا للحد الأعلى من الامتثال للمؤسسات المالية المحلية والدولية.

1-3 جوانب فنية في أنشطة غسل الأموال:

وبعيدًا عن الجوانب التاريخية، وبانتقال التحليل للواقع الراهن في محاولة لفهم أشمل لظاهرة غسل الأموال، فمن المتعين الآن تقليب النظر في الجوانب الفنية في الأنشطة المرتبطة بهذه الظاهرة الإجرامية. ولرسم صورة دقيقة لنشاط غسل الأموال، فمن المهم تناول أهم مصادر الأموال غير المشروعة، وآليات ومراحل تحويل المال غير المشروع، ومحاولات إضفاء المشروعية على رؤوس الأموال المغسولة لتدخل ضمن المعاملات المالية المشروعة.

  • فأما عن مصادر الأموال التي يتم غسلها[3]، فهي تتركز في حصيلة الاتجار في السلع والخدمات غير المشروعة وفقًا للقوانين والغش التجاري، بالإضافة لأنشطة التهريب عبر الحدود الدولية و/أو من المناطق الحرة داخل الدولة. كما تتمثل مصادر هذه الأموال في أنشطة السوق الموازية للسلع أو المضاربة على الصرف الأجنبي للعملات الوطنية، ناهيك عن الأموال المولدة من الرشوة والعمولات والاختلاسات وأوجه الفساد الإداري في دولاب العمل الحكومي المختلفة. كما يضاف لمصادر المال غير المشروع أنشطة التهرب الضريبي وعوائد التزييف والتزوير والنصب على المؤسسات والأفراد والأنشطة الأمنية غير المشروعة.
  • وأما عن الآليات والمراحل التي تمر بها عملية غسل الأموال[4]، فإنها عادة تتبع ثلاث مراحل إجرائية للإفراج النهائي عن الأموال المغسولة في النظام المالي المشروع. والمراحل هي:
    • الإيداع بهدف إبعاد الأموال عن الارتباط المباشر بالجريمة التي ولّدت هذه الأموال. ففي حالة التهرب الضريبي مثلًا، فإن الإبعاد يسعى لقطع الصلة بين قيمة الضرائب المتهرب من دفعها وبين الموازنة المالية التي تظهر فيها هذه الأموال.
    • التمويه أو التستر على المسار لتضليل الملاحقة. وفي حالة التهرب الضريبي، فإن التمويه يتمثل في المعالجة المحاسبية لقائمة الدخل لكي يتم إبعاد رصيد الضرائب المتهرب من دفعها وإدراجها في بنود مالية لا ترتبط ظاهريًا بالأرباح المستحق عنها ضرائب.
    • الإدماج، ويتمثل في إتاحة الأموال للمجرم من مصدر يبدو أنه مشروع. وفي هذه المرحلة، يتم تنظيف المال المكتسب ليبدو أنه مولد من نشاط مشروع. وفي حال المعالجات المحاسبية للضرائب المتهرب منها، فإن إدراج هذه الأموال في عوائد أنشطة وهمية يعتبر وسيلة من وسائل إعادة إدماج هذه الأموال في رؤوس الأموال مرة أخرى[5].

وعمومًا، فعند التعامل مع البنوك وشركات الصرافة بهدف غسل الأموال، فمن الشائع اللجوء لفتح عدد كبير من الحسابات المصرفية في البنوك المحلية والدولية وإجراء معاملات متكررة على هذه الحسابات والقيام بتحويلات مستمرة بين هذه الحسابات. كما يتم اللجوء للمعاملات المالية غير المصرفية عبر شراء الأصول العالية القيمة.

2. محددات تنامي أنشطة غسل الأموال:

كغيرها من الظواهر الدولية، تساهم محددات متنوعة في رواج أنشطة غسل الأموال عالميًا[6]. إذ إن توافر مثل هذه العوامل وتفاعلها فيما بينها يؤثر في اتجاهات أنشطة غسل الأموال وفي نوعيتها وعمقها وشمولها. وتحاول النقاط التالية الموضحة في الشكل التالي رقم (1) إبراز أهم محددات تنامي هذه الأنشطة في الواقع الاقتصادي المحلي بالإضافة لمسؤولية النظام الاقتصادي الدولي المعاصر.

شكل رقم (1): محددات تنامي أنشطة غسل الأموال

2-1 المحددات الداخلية لجريمة غسل الأموال:

انطلاقًا من المفهوم الذي عرضته الفقرات السابقة لجريمة غسل الأموال، يمكن القول إن الأساس الذي تقوم عليه هذه الجريمة ينبع ابتداء من داخل الاقتصاد ويتحدد بقوى محلية. وبالتأمل في واقع أي اقتصاد حديث، يتضح أن محددات انتشار هذه الجريمة تحددها العناصر الخمسة التالية:

  • إن أول هذه العناصر المحددة لانتشار جريمة غسل الأموال يتمثل في مستوى كفاءة النظام المالي المحلي، وعلى الأخص كفاءة النظام المصرفي؛ فمن الطبيعي أن تنتشر جريمة غسل الأموال عندما يضعف دور البنك المركزي في الرقابة على تدفقات الأموال عبر المصارف المحلية، أو عندما تضعف الملاءة المالية للبنوك المحلية وتتراجع مؤشرات الشمول المالي للأفراد وللأنشطة الاقتصادية. فبينما تمثل البنوك وبعض الجهات شديدة الصلة بها (مثل شركات الصرافة) القناة الرئيسية التي تمرر عمليات غسل الأموال، فإن مستوى الرقابة والإفصاح والشفافية القائمة تمثل عنصرًا حاسمًا في حجم أنشطة غسل الأموال المحلية. أضف إلى ذلك أن كفاءة أنظمة المؤسسات المالية غير المصرفية[7] ومدى تناغم أنشطتها مع القطاع المصرفي تحدد أيضًا أوضاع جريمة غسل الأموال في الاقتصاد المعني.
  • وإلى جانب مستوى كفاءة النظام المالي، يؤثر هيكل النشاط الاقتصادي المحلي وهيكل التجارة الخارجية في ازدهار أو انحسار جريمة غسل الأموال وفي مؤشراتها وأهميتها النسبية. فالاقتصاد الذي يغلب عليه التصنيع يختلف مثلًا عن الاقتصاد الزراعي أو الاقتصاد الخدمي في انتشار هذه الجريمة؛ وبالمنطق نفسه، فإن الاقتصاد شديد الانفتاح على العالم الخارجي – تجاريًا واستثماريًا – وتتركز فيه التجارة الخارجية في تجارة الاستيراد السلعي والخدمي، تختلف فيه حجم هذه الجرائم مقارنة بالاقتصاد الأقل انفتاحًا على العالم. وفي جميع الأحوال، فإن مدى انتشار جريمة غسل الأموال يظل مرتبطًا بمدى حداثة القطاع المالي ودرجة تشابكه مع باقي القطاعات الاقتصادية وعمق اتصاله بالنظام المالي الدولي. ولو أقررنا بأن العلاقة بين هيكل النشاط الاقتصادي وبين هذه الجريمة هي من النوع غير المباشر في غالب الأحيان، فإن تأثيرها يظل من الوضوح بحيث لا يجوز إغفاله عند تصميم وتطوير الخطط والبرامج التي تحدد الجهود الوطنية لمكافحة هذه الجريمة الاقتصادية.
  • ولئن كان لدور الدولة في الاقتصاد علاقة بكفاءة النظام المالي، فيمكن القول معه إن كفاءة هذا الدور تحدد هي الأخرى مستوى جريمة غسل الأموال في الاقتصاد المحلي. لكن الإضافة المهمة هنا أن دور الدولة المقصود لا يقتصر على أنها ترسم السياسات الاقتصادية الكلية (المالية والنقدية والاستثمارية والعمالية)، على أهمية هذا الدور بالتأكيد؛ بل إن هذا الدور يمتد ليشمل الدور الرقابي على الحكومة ذاتها والذي يظهر في كفاءة واستقلالية الأجهزة المحاسبية والإدارية والتنظيمية والقضائية. وسيكون من الصحيح في هذا السياق أن التناغم بين الأدوار المختلفة للدولة، التخطيطية والتنظيمية والرقابية، يؤثر بطريقة شديدة الوضوح على اتجاهات جريمة غسل الأموال.
  • وليس هناك من شك أو ريب في وجود علاقة وطيدة بين مستوى الفساد المحلي وأنشطة غسل الأموال، إذ يجوز اعتبار مستوى الفساد ومستوى هذه الجريمة وجهين لعملة رديئة واحدة. ودليلنا على ذلك أن الغالبية العظمى من مصادر الأموال التي يتم غسلها، كما أسلفنا، نابعة بالأساس من شيوع الفساد في الإدارة الحكومية، في ولا سيما في أجهزة الضرائب والجمارك في ظل تراخي الدور الرقابي أو افتقاده للاستقلالية المطلوبة. وليس الفساد مقصورًا هنا على الفساد العام، بل نرى أن الفساد الذي يشاع في وحدات القطاع الخاص قد يمارس دورًا مكافئًا – أو حتى أكبر – للفساد القائم في الجهاز الحكومي. وفي الحالتين، يمارس الفساد آثارًا عميقة على شيوع جريمة غسل الأموال، بما يقدمه لها من تسهيلات، وما يفتحه أمامها من قنوات، وما يخلقه من فرص لانتشار هذه الجريمة محليًا.
  • وكما هو واضح، فإن لمستوى التطور التكنولوجي في الاقتصاد المحلي تأثيرًا بليغًا في الحد من انتشار جريمة غسل الأموال محليًا. لكن المفارقة التي يخلقها التطور التكنولوجي أنه يعدُّ سلاحًا ذا حدين فعّالين في هذه الجريمة. فبينما تعتمد برامج مكافحة جريمة غسل الأموال على بدائل الرقابة التكنولوجية للمعاملات المالية وتحركات رؤوس الأموال محليًا، فإن ما تقدمه الرقمنة من حلول للجريمة، وما يتيحه فضاء الإنترنت من قدرات مالية، يمكنه أن يكرس هذه الجريمة في فضاء الاقتصاد المحلي. فالتكنولوجيا القادرة على التصدي لأنشطة غسل الأموال قد تكون هي نفسها المستخدمة في تسهيل هذه الجريمة في أروقة النظام المالي والبنكي المحلي.

وأيًا ما كان الأمر، فإن استفحال جريمة غسل الأموال داخل أي اقتصاد تتوزع – بدرجات متفاوتة – مسؤوليته على المحددات الخمسة السابقة، ومن الطبيعي أن تختلف درجة مسؤولية كل منها من اقتصاد لآخر وحتى من وقت لآخر في نفس الاقتصاد المعني.

2-2 المحددات الدولية لجريمة غسل الأموال:

تُعزَى المحددات الدولية لجريمة غسل الأموال إلى ما أسهمت به ظاهرة العولمة الاقتصادية من تعقيدات على النظام المالي والنقدي الدولي المعاصر، وللدرجة التي أتاحت الفرص وفتحت الثغرات أمام انتشار هذه الجريمة وعبورها الحدود الجغرافية للدول. ولمعرفة أهم هذه المحددات ومدى علاقتها بشيوع جريمة غسل الأموال، تبحث النقاط التالية تأثير العولمة الاقتصادية والتحولات في النظام النقدي الدولي والسيولة الدولية وكفاءة مؤسسات وأنظمة الرقابة الدولية على شيوع هذه الجريمة عالميًا.

  • كان لانتشار العولمة الاقتصادية تأثيرات ملموسة على تفاقم الجرائم الاقتصادية المختلفة. فالعولمة التي وسعت نطاق الفرص التجارية والاستثمارية المشروعة وعمقت من اتصال الاقتصادات الدولية ببعضها البعض هي نفسها التي فتحت الآفاق أمام ممارسة جريمة غسل الأموال على صعيد دولي؛ ذلك أن تركيز العولمة الاقتصادية، عامدة أو غير عامدة، على تنميط أنشطة الاستهلاك في الأسواق لم يتواكب معه تنميط في كفاءة الأنشطة الإنتاجية الوطنية أو أنشطة الإدارة والرقابة الوطنية؛ لتظل الفروق شاسعة بين اقتصادات العالم وأقاليمه المختلفة. ومع هذا التباين، أصبح من السهولة بمكان اختراق بعض الاقتصادات الدولية بأنشطة اقتصادية إجرامية لتحقيق فوائض مالية غير مشروعة. ومع نمو هذه الفوائض العالمية، باتت الحاجة ملحّة لخلق قنوات دولية لغسل هذه الفوائض وإعادة تدويرها على نحو مشروع. ومن هنا تحديدًا تنامت جرائم غسل الأموال مع ازدهار الفرص التي خلقتها العولمة الاقتصادية.
  • وبالمثل، فلقد ساهم التحول في النظام النقدي الدولي، من قاعدة الذهب إلى نظام قائم على الدولار الأمريكي، في خلق فرص توليد فوائض مالية غير مشروعة من الاتجار في الدولار أو المضاربات الدولية أو التزييف والتزوير واختراق الأنظمة المالية المحلية، ثم البحث عن قنوات لغسل هذه الفوائض. ومثلما تنامت جرائم غسل الأموال مع الموجة الأولى للتحول في النظام النقدي الدولي من الذهب إلى الدولار، فإن الموجة الثانية للتحول في هذا النظام من الدولار إلى العملات الرقمية خلقت هي الأخرى فرصًا ضخمة للجريمة الاقتصادية وللحصول على الفوائض المالية غير المشروعة، ليزداد الطلب الدولي على آليات غسل الأموال.
  • وتبدو العلاقة بين كفاءة مؤسسات وأنظمة الرقابة الدولية وبين شيوع جريمة غسل الأموال من الوضوح لدرجة أن هذه الجريمة تعتبر انعكاسًا شبه كامل لمستوى هذه الكفاءة. فنظرًا لأن العمليات المالية المنشِئة للأموال غير المشروعة تحدث محليًا، فإن غسلها على صعيد دولي يستلزم توافر قنوات مالية دولية عابرة للحدود القومية. وفي الوقت الذي توجد فيه تنظيمات وطنية للرقابة على رؤوس الأموال، فإن غياب مثل هذا النوع من الرقابة يعني تسهيلًا لعمليات غسل الأموال فيما بين الدول. وعلى ضوء العلاقة بين كفاءة الرقابة الدولية وبين جريمة غسل الأموال، تطورت الترتيبات الدولية لترقية مؤشرات هذه الكفاءة، وهو ما أفضى لإنشاء هيئة رقابة عالمية على غسل الأموال وتمويل الإرهاب[8] “فاتفFATF”، التي تستهدف محاصرة الجرائم الاقتصادية الدولية، ولاسيما جريمة غسل الأموال[9].

وليس هناك من شك في تنامي مسؤولية المحددات الدولية في شيوع ظاهرة غسل الأموال على الصعيد الدولي. فبينما تعتبر المحددات الداخلية هي المنشئ للأموال “القذرة” أو غير المشروعة التي تبحث عن قنوات لغسلها، فإن ما قدمته العولمة الاقتصادية والتحولات العميقة في النظام النقدي الدولي ومستوى الكفاءة في الرقابة المالية الدولية، يُعدّ من أهم العوامل الاقتصادية المحفزة لازدهار هذه الجريمة في عالمنا المعاصر.

2-3 المحددات غير الاقتصادية لغسل الأموال:

رغم التركيز الأساسي على الجوانب الاقتصادية، قد يكون من المفيد هنا القول إن هناك العديد من المحددات غير الاقتصادية التي تحدد إما ازدهار أو ركود جريمة غسل الأموال. ومن هذه المحددات ما هو داخلي وما هو دولي، شأنها في ذلك شأن المحددات الاقتصادية. فالمحددات الداخلية غير الاقتصادية تتمثل أهمها في درجة الاستقرار السياسي والاجتماعي وانضباط وكفاءة الأنشطة الأمنية ومستوى التعليم والثقافة المالية السائدة في المجتمع. أما المحددات الدولية غير الاقتصادية فتتمثل في أوضاع الاستقرار السياسي الدولي وعمق أنشطة التعاون والتنسيق الدولي وعلاقتها بالتصدي للجريمة المنظمة وانتشار ظاهرة الإرهاب العابر للحدود.

والنقطة الجوهرية التي يجب الانتهاء إليها في ختام استعراض المحددات المفسرة لتنامي جريمة غسل الأموال، أنه لا يمكن الفصل بين المحددات الاقتصادية وغير الاقتصادية لهذه الجريمة، أو بين الأبعاد المحلية والدولية لهذه المحددات. فالتفاعل والتداخل والتشابك هو العنوان الأكثر ملاءمة لهذه المحددات، وهو نفسه الذي يقدم تفسيرًا متماسكًا لمستوى شيوع هذه الجريمة محليًا وعالميًا.

3. الخريطة العالمية لعمليات غسل الأموال وأبرز تداعياتها الاقتصادية:

سبق أن أشارت الفقرات السابقة إلى أن التفاعل بين محددات عمليات غسل الأموال العالمية يؤثر في اتجاهات هذه الظاهرة عالميًا. بيد أن الانعكاس الأبرز لهذه المحددات يمكن رؤيته بوضوح في خريطة عمليات غسل الأموال عالميًا. ولأن هذه الخريطة تحتاج لبيانات دقيقة تقدّر حجم العمليات التي تم تنفيذها ومصدرها ووجهتها، فإن المشكلة الرئيسية التي تصطدم مع ذلك هي درجة الإفصاح والشفافية حول هذه الأنشطة الإجرامية.

3-1 ملامح أساسية لخريطة غسل الأموال الدولية والإقليمية:

تشير بعض الإحصاءات الدولية[10] إلى وصول قيمة المبالغ التي يتم غسلها ما بين 800 إلى 2000 مليار دولار في العام، لتصل تكلفة عمليات غسل الأموال ما بين 2-5% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي. ونظرًا إلى أن الغالبية العظمى لهذه المبالغ تُمرَّر عبر الأنظمة البنكية، فقد وصلت قيمة الغرامات التي تحملتها البنوك في العام 2020 وحده نحو 10.4 مليار دولار؛ بسبب انتهاكات الامتثال المالي. كما تشير الإحصاءات الدولية إلى أن غسل الأموال عبر العملات المشفرة يشكل نسبة ضئيلة مقارنة بالنقود التقليدية؛ فقد بلغت نسبة غسل أموال البيتكوين نحو 0.3% من إجمالي عمليات غسل الأموال عالميًا.

وبينما تندر الإحصاءات الدولية الراصدة لنشاط غسل الأموال، وفي محاولة دولية للتغلب على ضعف الشفافية ومحدودية البيانات المتاحة حول هذه الجريمة الاقتصادية، فقد تم تطوير مؤشر دولي[11] لمكافحة غسل الأموال يحمل عنوان “مؤشر بازل لمكافحة غسل الأموال”. وباستقراء بيانات هذا المؤشر، يمكن رسم ملامح عامة لخريطة عالمية توضح مصادر التدفقات الرئيسية لأنشطة غسل الأموال عبر قياس درجة المخاطر الوطنية لمكافحة هذه الجريمة. والجدول التالي يوضح أعلى وأدنى عشر دول وفق أحدث بيانات مؤشر بازل المشار إليه.

جدول رقم (1): خريطة دولية لمؤشر درجة مخاطر مكافحة غسل الأموال للعام 2022*

* المصدر: https://sanctionscanner.com/blog/major-money-laundering-countries-251

واعتمادًا على بيانات الجدول السابق رقم (1)، ومع إضافة نتائج الرصد الإقليمي لمؤشر بازل لمكافحة غسل الأموال، فإن التطورات التي حدثت بين عامي 2021 و2022 توضح حدوث تطورات متباينة في مناطق العالم المختلفة. ووفق تصنيف البنك الدولي لجغرافيا العالم، فقد تباين أداء العالم في مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب على النحو التالي[12]:

  • تحسنت مستويات مخاطر غسل الأموال في إقليم الاتحاد الأوروبي وأوروبا الغربية.
  • بسبب تنامي المخاطر السياسية والقانونية والفساد والرشوة، زادت درجة المخاطر في إقليم أوروبا وآسيا الوسطى. وبلغت درجة المخاطر الإجمالية 5.15 درجة.
  • وصلت درجة المخاطر في إقليم شرق آسيا والمحيط الهادي لمستوى أعلى قليلًا من المتوسط العالمي. وبلغت درجة المخاطر الإجمالية 5.48 درجة.
  • تقع منطقة أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي ضمن فئة المخاطر المتوسطة. وبلغت درجة المخاطر الإجمالية 5.34 درجة.
  • تتباين بشدة درجة المخاطر في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وتتركز نقاط الضعف الرئيسية في الشفافية والمساءلة والمخاطر القانونية/السياسية. وبلغت درجة المخاطر الإجمالية 5.03 درجة.
  • وبالنسبة لمنطقة أمريكا الشمالية، تظل فاعلية الإجراءات لتحقيق شفافية الملكية مصدرًا أساسيًا لإضعاف مستوى المخاطر المرتبطة بمكافحة جريمة غسل الأموال. وبلغت درجة المخاطر الإجمالية 4.23 درجة.
  • وبالنسبة لجنوب آسيا، فإن الملكية والوقاية والمحاكمات والمصادرة كلها نقاط ضعف من حيث فاعلية دول هذه المنطقة. وبلغت درجة المخاطر الإجمالية 6.02 درجة.
  • أما بالنسبة لإقليم أفريقيا جنوب الصحراء، فقد تم تقييم ما يقرب من 62٪ من البلدان في هذه المنطقة على أنها معرضة بدرجة عالية لخطر غسل الأموال/تمويل الإرهاب. وبلغت درجة المخاطر الإجمالية 6.58 درجة.

وبالتأمل في تفاصيل الخريطة الدولية لمكافحة غسل الأموال، يمكن إبراز ملاحظة على جانب كبير من الأهمية الفكرية والتطبيقية؛ إذ يتضح بما لا يترك مجالًا للتشكيك أن هناك تباينًا شديدًا بين قيمة هذا المؤشر في كل من الدول المتقدمة والدول النامية، وفق تصنيف البنك الدولي[13]. فوفقًا لمضمون المؤشرات الرئيسية والفرعية لمؤشر مكافحة غسل الأموال، فإن القدرات الاقتصادية للدول المتقدمة تنعكس على قدراتها لترقية هذه المؤشرات بطريقة كمية ونوعية. ومع تنامي إمكانات الاقتصاد في مكافحة غسل الأموال والجرائم الاقتصادية في العموم، تتراجع في الوقت نفسه مؤشرات جاذبيته لهذه الممارسات الاقتصادية الإجرامية. فالدول المتقدمة تمتلك من المؤسسات والتنظيمات والأدوات ما يمكّنها من محاصرة ظواهر الرشوة والفساد، وتتحسن فيها الشفافية المالية والمساءلة والمحاسبة العامة، مع انخفاض المخاطر القانونية والسياسية. وفي المقابل، ومع تراجع قدرات الدول النامية على تحسين أدائها المؤسسي، تصبح وجهة مفضلة لممارسة أنشطة غسل الأموال؛ أي تصبح بمثابة الملاذات الآمنة للأموال الباحثة عن قنوات وبدائل التدوير وإعادة الإدماج في النشاط الاقتصادي المشروع، محليًا ودوليًا.

3-2 أبرز التداعيات الاقتصادية لأنشطة غسل الأموال:

يستدعي التحليل الآن الوقوف على أبرز وأهم التداعيات الاقتصادية[14] التي تخلقها جريمة غسل الأموال على الصعيدين المحلي والدولي. وتحاول النقاط التالية التفرقة بين هذه التداعيات حسب نوعيها الكمي والنوعي على مجمل الأداء الاقتصادي الوطني [انظر الشكل رقم (2)].

شكل رقم (2) التداعيات الاقتصادية لأنشطة غسل الأموال

  • نظرًا لأن جريمة غسل الأموال تمارس تأثيرات سلبية متعددة على التنافسية في النشاط الاقتصادي، فتأتي أهم التداعيات السلبية لهذه الأنشطة الإجرامية من تسببها في مزاحمة أنشطتها غير المشروعة للأنشطة المشروعة وفي تقليلها للربحية الإجمالية للأخيرة، وبما يضعف من الاستثمار والإنتاج والتشغيل والنمو الاقتصادي.
  • ومن المعلوم أن لأنشطة غسل الأموال ارتباطًا واضحًا بأنشطة تجارة الاستيراد للسلع والخدمات. ونتيجة لذلك، وعندما تتراجع مؤشرات مكافحة هذه الجريمة في الاقتصاد في ظل الانفتاح المالي على العالم، تنمو التدفقات المالية غير المشروعة الداخلة للاقتصاد، وتتزايد محفزات الميل المحلي للاستيراد، وتتأثر سلبيًا محددات التوازن في موازنة الصرف الأجنبي على الأجل القصير.
  • وبالتوازي مع ما تتركه جريمة غسل الأموال من آثار كمية، يمكن القول إن الآثار النوعية لهذه الجريمة في الاقتصاد الوطني تتمثل في تأثيرها السلبي على كفاءة السياسات الاقتصادية، حيث إنها تدبر الموارد المالية القادرة على مقاومة فاعلية هذه السياسات في الاقتصاد. أضف إلى ذلك أن شيوع هذه الجريمة مع انخفاض القدرات الوطنية على مكافحتها يخصم بشدة من السمعة الاقتصادية للدولة، ويفاقم من العقبات التي تواجهها لصياغة علاقات دولية مستقرة ومنضبطة بضوابط التنمية الاقتصادية المنشودة.

وإذا أمكن جمع التداعيات الاقتصادية السابقة في نتيجة واحدة، فستكون المحصلة الإجمالية لشيوع جريمة غسل الأموال سلبية على النمو الاقتصادي المحقق، حتى لو تسببت هذه التدفقات المرتبطة بهذه الجريمة في تحسن مؤقت ولحظي لمؤشرات ميزان المدفوعات ومؤشرات النظام المالي المحلي.

4. فاعلية الجهود الدولية لمكافحة جريمة غسل الأموال.. الاقتصاد الإماراتي نموذجًا:

لقد استبان الآن مدى ضخامة التداعيات السلبية التي يخلقها ضعف الأنظمة المكافحة لجريمة غسل الأموال. ودرءًا لهذه التداعيات، بُذلت العديد من الجهود على الصعيدين الدولي والمحلي لترقية قدرات الدول في مكافحة هذه الجريمة. وتستعرض النقاط التالية أبرز هذه الجهود، عبر تحليل الدور الدولي لمجموعة العمل المالي (FATF) لتنطلق منها إلى تقييم أداء الاقتصاد الإماراتي في هذا السياق.

  • التعاون الدولي ودور مجموعة العمل المالي FATF:

تعتبر مجموعة العمل المالي (FATF) هيئة رقابة عالمية لمكافحة جرائم غسل الأموال وتمويل الإرهاب. وقد تأسست في عام 1989. تتمثل أهداف مجموعة العمل المالي لتوليد الإرادة السياسية اللازمة لتحقيق الإصلاحات التشريعية والتنظيمية الوطنية في هذه المجالات، كما تساهم في وضع المعايير وتعزيز التنفيذ الفعال للتدابير القانونية والتنظيمية والتشغيلية لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب والتهديدات الأخرى ذات الصلة لسلامة النظام المالي الدولي. كما تقوم مجموعة العمل المالي بمراجعة تقنيات غسل الأموال وتمويل الإرهاب وتعزز معاييرها باستمرار لمواجهة المخاطر الجديدة، مثل تنظيم الأصول الافتراضية التي انتشرت مع اكتساب العملات المشفرة شعبية. وتراقب المجموعة أيضًا الدول للتأكد من أنها تطبق المعايير الدولية بشكل كامل وفعال، كما تحاسب الدول ضعيفة الامتثال[15].

وبإلقاء نظرة سريعة على التوصيات التي وضعتها مجموعة العمل المالي لمحاصرة جريمة غسل الأموال على صعيدها الدولي في العام 2012، فإنها تركزت في تعزيز التنسيق الدولي في مجال مكافحة غسل الأموال بهدف تقليل المخاطر وتطبيق مناهج متطورة لتحقيق هذا الهدف. كما تناولت التوصيات قضايا تمويل الإرهاب والتدابير المطلوبة لمنع جريمة غسل الأموال، مع تطوير الإجراءات الوقائية وتحسين الشفافية والترتيبات القانونية، وضبط صلاحيات ومسؤوليات السلطات الرقابية المختصة، والتعاون الدولي بأشكاله المختلفة والمساعدات القانونية المتبادلة.

ويلاحظ هنا أن كافة الجهود الدولية الرامية لمكافحة جريمة غسل الأموال لن تستقيم بدون تعزيز التعاون والتنسيق بين الدول وبين السلطات المالية داخلها. ويستلزم ذلك التنسيق توافر الحد الأدنى من ريادة التقنية الحديثة في المؤسسات المالية المحلية. كما أن الامتثال لتطبيق التوصيات الموضوعة من قبل الجهات الرقابية الدولية تتعزز مع توافر التقنيات المالية عالميًا. ولضمان الوصول للحد الأدنى للتنسيق الدولي للمكافحة والحد الأعلى للانضباط المالي، فإن توافر الإرادة الوطنية وتحسن مستويات الشفافية يعتبران من العناصر الحاسمة في هذا الصدد. وللتدليل على ذلك، فإن قراءة متعمقة لجهود الاقتصاد الإماراتي في مكافحة هذه الجريمة الاقتصادية يبرز أهمية التنسيق بين الجهود المحلية والجهود الدولية لمكافحة أنشطة غسل الأموال.

  • نظرة عامة على جهود الاقتصاد الإماراتي في محاصرة جريمة غسل الأموال وتمويل الإرهاب:

إن نقطة الارتكاز التي تنطلق منها الجهود الحثيثة للاقتصاد الإماراتي لمكافحة جريمة غسل الأموال تتمثل في دعم المكانة الرائدة التي يحتلها في النظام الاقتصادي الدولي الراهن. ومن ثم، يصبح الارتقاء المستمر بمؤشرات الأداء المؤسسي، ومراعاة المتطلبات والتوصيات الدولية التي تستهدف مكافحة الجرائم الاقتصادية، وتطوير الأنظمة والتشريعات والقوانين الوطنية – كلها تفيد في المحافظة على هذه الريادة الدولية. وتستعرض الفقرات التالية ملامح الجهود الإماراتية في محاصرة هذه الجريمة من خلال العمل على محاور تخطيطية وتنظيمية متعددة على النحو الموضح في الشكل التالي رقم (3).

شكل رقم (3) ملامح الجهود الإماراتية لمكافحة جريمة غسل الأموال وتمويل الإرهاب

ولما كان نجاح أي جهد تنموي يستلزم السير وفق خطة محكمة تعي الأهداف وتراعي الإمكانات وتمتلك الأدوات والوسائل النافذة، فإن الخطوة الأولى التي سار فيها الاقتصاد الإماراتي مستهدفًا ترقية مؤشراته الوطنية لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب كانت رسم خريطة طريق واستراتيجية واضحة المعالم للسنوات العشر 2020-2030. وانطوت الاستراتيجية الإماراتية على عدة عناصر؛ فلتطوير السياسات الوطنية، استهدفت هذه الاستراتيجية العمل على الفهم العميق للمخاطر المولَّدة من جرائم غسل الأموال وتمويل الإرهاب والتحديث المستمر للإطار القانوني بما يواكب المستجدات في بيئة الاقتصاد الدولي. وفضلًا عن ذلك، فإن دفعة قوية لإنفاذ القانون وتطوير القدرات الاستخباراتية في المجال المالي وتعزيز التدابير المانعة لهذه الجريمة والزاجرة لمرتكبيها، كانت ضمن الأهداف الرئيسية لهذه الاستراتيجية. كما ركزت هذه الاستراتيجية على تعزيز الدور الإشرافي على الأنشطة المالية، ولاسيما التحويلات المالية الدولية، مع تطوير عمليات الرصد للمعاملات المالية المشبوهة والتنفيذ الآني والفعال للعقوبات المالية المستهدفة؛ ناهيك طبعًا عن الاستمرار في دعم التعاون الإماراتي مع الجهات الدولية ذات الصلة.

ولوضع الاستراتيجية السابقة موضع التنفيذ، وفيما يخص المحور التنظيمي لمكافحة جريمة غسل الأموال وتمويل الإرهاب في الاقتصاد الإماراتي، فقد تأسس المكتب التنفيذي لمواجهة غسل الأموال وتمويل الإرهاب في عام 2021 بمرسوم من مجلس الوزراء الإماراتي. وكان منوطًا بهذا المكتب تنفيذ الاستراتيجية الوطنية لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب 2020-2030 ورسم خريطة طريق لخطة العمل الوطنية. وفي ظل تحمُّله مسؤولية تنسيق الجهود الوطنية لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، فإن هذا الإطار المؤسسي والتنظيمي يهدف إلى تمكين الاقتصاد الإماراتي من بناء هيكل قوي ومستدام لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، ويمتلك في سبيل ذلك تفويضًا تنظيميًا واسع النطاق وعميق الأثر لمساعدة الكيانات ذات الصلة بمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب. وانطلاقًا من هذا التفويض، فإن الوظائف الأساسية التي تسهر عليها هذه المظلة التنظيمية تتمثل في مراقبة وتقييم المخاطر الوطنية بطريقة دورية، مع وضع واقتراح سياسات للتخفيف من هذه المخاطر، بالإضافة إلى القيام بمهام الإشراف والاعتماد والتنفيذ لبنود الاستراتيجية وخطة العمل الوطنية، فضلًا عن القيام ببعض المهام الفنية، مثل تجميع الإحصاءات الوطنية لمكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب. وبالتزامن مع ذلك، يأتي ضمن الأدوار الأساسية لهذا الإطار التنظيمي الوطني الاهتمام بالشراكات الدولية وتعزيز التفاعل الإيجابي مع الأجندة العالمية المعزز لمكانة الاقتصاد الإماراتي في هذا الصدد.

وقد يثور الآن تساؤل منطقي حول علاقة الاستراتيجية الوطنية للاقتصاد الإماراتي لمكافحة جريمة غسل الأموال وتمويل الإرهاب بالمكانة التي احتلها في مؤشر بازل لمكافحة غسل الأموال. والواقع أن حصول الاقتصاد الإماراتي على درجة مخاطرة تبلغ 5.07 درجة في آخر التقديرات التي أجريت لهذا المؤشر قد مثّل حافزًا إضافيًا للاستمرار في تطبيق التوصيات التي أقرها التقرير الصادر عن مجموعة العمل المالي FATF بالتعاون مع مجموعة العمل المالي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا MENAFATF؛ تلك الحوافز التي تجلّت في تطوير الاستراتيجية الوطنية الإماراتية 2020-2030، والمشار إليها آنفًا؛ إذ مثلت هذه الاستراتيجية خطوة رئيسية ضمن خطوات عديدة قطعها – ولايزال – الاقتصاد الإماراتي، وهو في طريقه للوصول إلى مصاف الاقتصادات الرائدة في مكافحة جريمة غسل الأموال، وفق الخريطة الدولية السابق تناولها.

وبرغم حداثة تطبيق بنود الاستراتيجية الوطنية لمكافحة جريمة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، فإن الملاحظ أنها قد حققت نتائج إيجابية على صُعُد عدة؛ فقد نجح الاقتصاد الإماراتي في الآتي:

  • إجراء تقييم شامل ودقيق للمخاطر القطاعية للسلطات الإشرافية الأربع في الاقتصاد الإماراتي، وبما يحدد المستويات المطلوبة والمستهدفة في تطوير دور هذه السلطات في تحقيق الرقابة الفاعلة والمستمرة.
  • التوسع في التعاون والتنسيق وتبادل المعلومات على المستوى الدولي، باعتبار ذلك متطلبًا أساسيًا لدعم المكانة الدولية للاقتصاد الإماراتي في البيئة الدولية لمكافحة جريمة غسل الأموال.
  • الارتقاء برأس المال البشري في الجهات الإشرافية والرقابية على أنشطة غسل الأموال، نوعيًا عبر التوسع في أنشطة التدريب على المهارات الرقابية المتقدمة، وكميًا عبر التوسع في توظيف الكوادر الوطنية المؤهلة. وليس أدل على ذلك من توسيع وحدة الاستخبارات المالية قوتها العاملة بنسبة 170% منذ العام 2019.
  • ترشيد المعاملات المالية عبر البنوك الوطنية، وبما تمخض عنه تحصيل نحو 74 مليون درهم غرامات متعلقة بانتهاكات مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب خلال العام 2022، مع زيادة مطردة في عمليات التفتيش والرقابة الإجمالية المخطط لها بنسبة تنفيذ تناهز 70٪ حتى نهاية الربع الثالث من عام 2022، لينخفض على أثر ذلك العدد الإجمالي لمقدمي خدمة الحوالة المسجلين من 61 إلى 42. وبالتزامن مع ذلك، تم تدعيم العلاقة بين القطاعين العام والخاص في جهود التصدي والمحاصرة لجريمة غسل الأموال داخل الاقتصاد الإماراتي.

وعلى أية حال، فمن المؤكد أن ريادة التكنولوجيا الفائقة التطور ستكون هي مفتاح الاقتصاد الإماراتي للوصول نحو غاياته في مجال مكافحة الجريمة الاقتصادية بكافة صورها، وخصوصًا جريمة غسل الأموال. ولذلك، وباعتبار أن الاقتصاد الإماراتي يعد مركزًا ماليًا دوليًا وإقليميًا رئيسيًا ومركزًا تجاريًا يجذب الأنشطة المالية والتجارية لقطاع البنوك الوطنية ولسوق العقارات في دبي ولتجارة الذهب والمعادن النفسية والحوالات الشخصية[16] – فإن مزيدًا من الاستثمار العام الموجّه لتوطين التكنولوجيا المالية وتعميق المعرفة التكنولوجية الضرورية لأنشطة المتابعة والرقابة للجهات الإشرافية يكتسب أهمية خاصة وفق الدروس التي يمكن استخلاصها من التجارب الدولية الرائدة في مكافحة الجرائم الاقتصادية على تنوعها. كما أن تحفيز القدرات التكنولوجية للقطاع الخاص الوطني ودعم التنويع في الهيكل الاقتصادي الإماراتي هما أيضًا من الركائز شديدة الأهمية ومن المسرِّعات الفعالة لضبط الأداء المالي الإماراتي مستقبلًا.

خاتمة: دروس دولية ومحفزات إماراتية لمكافحة جريمة غسل الأموال

مع هيمنة العولمة والتكنولوجيا على النظام الاقتصاد الدولي المعاصر، كان من الطبيعي أن تظهر بعض المثالب والتحديات التي تعترض آليات عمل هذا النظام وتهدد استقراره المالي والنقدي، فضلًا عن نمو التجارة والاستثمار بين الدول والأقاليم الجغرافية. وليس من قبيل المغالاة أن نقول إن جريمة غسل الأموال، بما تمثله من معاملات غير مشروعة وبما تخلقه من ثغرات مالية، تعتبر هي التحدي الأكثر وضوحًا لاستقرار النظام المالي الدولي، وبالأخص مع ظهور العملات الرقمية الافتراضية وانتشارها. وتفسر هذه الأهمية التي تنطوي عليها جريمة غسل الأموال حالة الكثافة والزخم الدولي الدائرتين حاليًا لحث الدول – طوعًا أو كرهًا – على تطوير قدراتها الوطنية لمكافحة هذه الجرائم المالية. فمن دون تطوير وتحسين هذه القدرات، سيكون الاستقرار المالي العالمي أثرًا بعد عين.

وبينما أظهر التحليل المتقدم أن التنظيمات الدولية تثابر لدعم التنسيق بين الدول في مجال مكافحة جريمة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، فلقد أظهر الجزء التطبيقي من فقرات هذا التحليل أن الاقتصاد الإماراتي في طريقه ليصير نموذجًا دوليًا يحتذى في مكافحة هذه الجريمة شديدة الوطأة على الاقتصاد العالمي والاقتصادات الوطنية. وكيف لا، والاقتصاد الإماراتي لا تقتصر قدراته الحالية على توليده مجموعة واسعة وشديدة التنوع من الأنشطة الاقتصادية بناتج محلي إجمالي يدور سنويًا حول 400 مليار دولار[17]، ولا على كون هذا الاقتصاد ذا مكانة رائدة في سلاسل الإمداد العالمية للنفط والمعادن النفيسة، بل إن الموقع الجغرافي الاستراتيجي، وتنوع الأنظمة الاستثمارية المحلية، وعمق وشمول التحول الرقمي في الأنشطة المالية، مع اتساع رقعة الشمول المالي – كلها روافع جعلت الاقتصاد الإماراتي يمتلك مراكز مالية صارت قِبلة إقليمية رائدة. ومن البديهي أن تكون المحافظة على هذه المكانة في ظل احتدام المنافسة الإقليمية والدولية هي أهم الضمانات والمحفزات الوطنية لنجاح الاستراتيجية الإماراتية في مكافحة غسل الأموال ومستهدفاتها بحدود العام 2030.

المراجع

[1] . راجع في ذلك منشورات مكتب الأمم المتحدة الإقليمي المعني بالمخدرات والجريمة للشرق الأوسط وشمال أفريقيا في الرابط التالي: https://www.unodc.org/romena/ar/money-laundering.html.

[2] . تجدر الملاحظة هنا أن تفاقم هذه الظاهرة على الصعيدين المحلي والدولي مرتبط بتطور قدرات الرصد والإحصاء والمتابعة للأنشطة الاقتصادية المحلية والدولية. فليست هناك أدلة إحصائية دقيقة توضح حجم هذه الظاهرة في عالم ما قبل تطور الإحصاءات المالية المحلية والدولية.

[3] . شاهر إسماعيل، غسل الأموال وأثره على اقتصاديات الدول النامية، مجلة تنمية الرافدين، العدد 94، مجلد 31 لسنة 2009، ص: 91-104.

[4] . راجع في ذلك: مصدر سبق ذكره، منشورات مكتب الأمم المتحدة الإقليمي المعني بالمخدرات والجريمة للشرق الأوسط وشمال أفريقيا في الرابط التالي: https://www.unodc.org/romena/ar/money-laundering.html.

[5] . في الواقع العملي، قد لا تشتمل جرائم غسل الأموال على كل المراحل الثلاث السابقة؛ فقد يتم إدماج بعض المراحل مع بعضها أو تكرارها أكثر من مرة. فعلى سبيل المثال، تقسم المبالغ النقدية المكتسبة من مبيعات المخدرات إلى مبالغ صغيرة ثم تودع بواسطة “وسيط نقل الأموال” وتحول بعد ذلك كدفعات مقابل خدمات لشركة وهمية. وفي هذه الحالة، تحدث مرحلتا الإيداع والإدماج في مرحلة واحدة. المصدر السابق نفسه.

[6] . في النظام الاقتصاد الدولي، يلاحظ دائمًا الجمع بين مؤشرات جريمة غسل الأموال وجريمة تمويل الأنشطة الإرهابية. ونظرًا لتركيز المقالة الحالية على قضية غسل الأموال من منظور اقتصادي، فإنه يندر تناول قضية تمويل الأنشطة الإرهابية بالعرض والتحليل في ثنايا فقرات هذه الورقة البحثية.

[7] . مثل شركات التأمين والبورصات وصناديق الاستثمار في الأوراق المالية والصناديق المتخصصة الأخرى.

[8] . راجع في ذلك الموقع الإلكتروني للهيئة على الإنترنت في الرابط التالي: https://www.fatf-gafi.org/about/

[9] . راجع في ذلك: محمد الأمين وعادل عبد الله، جريمة غسل الأموال، مفهومها وأبعادها وآثارها واستراتيجيات مكافحتها، تريندز للبحوث والاستشارات، 2022.

[10] . لمزيد من الإحصاءات حول الأنشطة الدولية لغسل الأموال، راجع الرابط التالي: https://www.zippia.com/advice/money-laundering-statistics/#:~:text=According%20to%20our%20extensive%20research,and%20%242%20trillion%20each%20year.

[11] . أصدر هذا المؤشر معهد بازل للحوكمة. وتم إصدار هذا المؤشر في العام 2012 بناء على بيانات خمسة مجالات للقياس؛ وهي: مجال جودة إطار عمل مكافحة غسل الأموال وتمويل الإرهاب، ومجال الرشوة والفساد، ومجال الشفافية والمعايير المالية، ومجال الشفافية والمساءلة العامة، ومجال المخاطر القانونية والسياسية. وتتضمن هذه المجالات الخمسة 18 مؤشرًا فرعيًا لتغطية كافة المتغيرات المرتبطة بنشاط غسل الأموال. لاستيضاح منهجية هذا المؤشر ومكوناته العامة، راجع الرابط التالي: https://sanctionscanner.com/blog/basel-aml-index-2022-661

[12] . المصدر السابق نفسه.

[13] . يعتمد تصنيف البنك الدولي للدول المتقدمة والدول النامية على مؤشرات كمية؛ أبرزها: قيمة الناتج المحلي الإجمالي السنوي، ومتوسط نصيب الفرد من هذا الناتج، والقدرات التصديرية السنوية. ولمزيد من التفاصيل حول تصنيفات البنك الدولي لمؤشرات التنمية العالمية، راجع الرابط التالي: https://databank.worldbank.org/source/world-development-indicators.

[14] . نظرًا لطبيعة جريمة غسل الأموال واتصالها بأبعاد دولية ومحلية متعددة، فإنها تخلق تداعيات سياسية وأمنية واجتماعية شديدة التأثير على الاستقرار المحلي وعلى العلاقات فيما بين الدول، لكن تحليل التداعيات غير الاقتصادية يخرج عن نطاق الدراسة الحالية واهتمامها البحثي.

[15] . راجع في ذلك الرابط التالي: https://www.fatf-gafi.org/about/.

[16] . لاحظ أن الاقتصاد الإماراتي قد حلّ في المركز الثاني عالميًا في قيمة الحوالات الشخصية بقيمة تدور حول 40 مليار دولار في العام 2021. راجع في ذلك المؤشرات المالية لمنظمة مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية “أونكتاد” والمنشورة على الإنترنت في الرابط التالي: https://unctadstat.unctad.org/wds/ReportFolders/reportFolders.aspx?sCS_ChosenLang=en .

[17] . راجع في ذلك مؤشرات التنمية العالمية للبنك الدولي على الإنترنت، مصدر سبق ذكره.

المواضيع ذات الصلة