يعرف العالم تقدمًا تكنولوجيًّا متسارع الوتيرة، وقد أنتج هذا التقدم المتسارع ابتكارات تقنية عالية الخبرة والخدمة التقنية، من قَبِيل الروبوتات والبرامج الأوتوماتيكية وغيرها. ويُعرَّف الذكاء الاصطناعي بانه “القدرة على تمثيل نماذج حاسوبية لمجال من مجالات الحياة وتحديد العلاقات الأساسية بين عناصره، واستحداث ردود الفعل التي تتناسب مع أحداث ومواقف هذا المجال”[1].
من المعلوم أن جون مكارثي يُعدُّ أول من صاغ مصطلح الذكاء الاصطناعي، وذلك في عام 1956 على هامش أشغال مؤتمر دارتموث نظمه مجموعة من الباحثين الأمريكيين، ويتقدم هؤلاء الرباعي جون مكارثي، ومارفن مينسكي، وناثانييل روتشستر، وكلود شانون.
لقد كان موقف أغلب المؤسسين في هذا المجال أنه يمكن وصف مظاهر الذكاء البشري بدقة شديدة تمكن الإنسان من تصميم آلة تحاكيها وتطوير تقنيات جديدة مثل التعلم العميق واختراع الحاسوب الشخصي، كما أصبحت الأنظمة الخبيرة شهيرة في هذه المرحلة؛ لأنها تقوم بمحاكاة عملية اتخاذ القرار مثل الخبراء المتخصصين[2]، إضافة إلى أنه من شأن “الذكاء الاصطناعي أن يحاكي وظائف وقدرات البشر، وأن يسعى دائمًا إلى تسهيل أداء مختلف المهام والوظائف، وكذلك والرفع من جودتها في مختلف القطاعات”[3].
يبقى الذكاء الاصطناعي أحد أبرز هذه الابتكارات نظرًا لما يقدمه من خدمات ذهنية وعملية ظل الإنسان يقوم بها بمشقة وفي مدد زمنية أطول وبدقة أقل. وقد انفتح العالم المتقدم على تقنية الذكاء الاصطناعي في مختلف المجالات، وذلك نظرًا لأهمية الخصائص التي يتميز بها والتي نذكر منها:
– للذكاء الاصطناعي قدرة على التقليل من الأخطاء البشرية، نظرًا لما يمكن أن يعتري الذهن البشري من ضعف ونقص وتعب، وهو ما لا يحصل بالنسبة لوسائل الذكاء الاصطناعي.
– له قدرة على العمل بصفة متكررة ومستمرة وهو ما لا يتحقق للعنصر البشري على الدوام، في حين أن بعض العمليات تحتاج إلى تكرار واستمرار وسرعة في الأداء.
– الاستغناء عن العنصر البشري إما كليًا أو جزئيًا، وبالتالي تخفيف تكاليف اليد العاملة التقنية وغير التقنية على الشركات والمحلات التجارية التي أصبحت تفضل تكاليف الذكاء الاصطناعي على تكاليف الموارد البشرية العاملة.
– يفيد الذكاء الاصطناعي في ابتكار تقنيات متقدمة جديدة، ولذلك تقبل عليه عدة قطاعات خاصة القطاع الطبي الذي يحتاج إلى دقة عالية جدا في تشخيص بعض الأمراض أو إجراء عمليات جراحية جد دقيقة.
– يتميز الذكاء الاصطناعي أيضًا بالدقة والموضوعية في اتخاذ القرارات وإجراء العمليات المطلوبة، وهو ما يمتنع لدى الإنسان بسبب اختلاط قراراته بالمشاعر والأحاسيس والرغبات الذاتية.
– يمكن أيضا توظيف الذكاء الاصطناعي في القيام بعمليات قد تكون خطيرة على الإنسان، وذلك من قبيل عمليات الإنقاذ الخاصة بالكوارث الطبيعية، أو الاكتشافات التي يقوم بها الإنسان في كواكب المجرة[4].
يستمد الذكاء الاصطناعي أهميته -إذن- من قدرته على محاكاة النشاط البشري الطبيعي إلكترونيًا وأوتوماتيكيًا وحاسوبيًا بصفة أكثر دقة وجودة وفعالية. ولعل أبرز الأفعال الطبيعية التي يحاكيها الذكاء الاصطناعي هي:
– “القدرة على الإجابة عن الأسئلة بطريقة ملائمة”.
– “القدرة على إعادة صياغة العبارات، شارحًا معناها بطريقة أخرى”.
– “القدرة على الاستنتاج، أي إعطاء النتائج المحتملة أو الممكنة لما قيل توًّا”.
– “القدرة على الترجمة من لغة إلى أخرى”.
– “القدرة على التعرف على المسميات”، … إلخ[5].
ومن بين المجالات التي كان الإقبال فيها على الذكاء الاصطناعي ملحوظًا، نجد مجال التعليم، حيث “يمتلك الذكاء الاصطناعي القدرة على التصدي لبعض أكبر التحديات في التعليم اليوم، وكذلك ابتكار ممارسات جديدة في التدريس والتعلم، وفي نهاية المطاف تسريع التقدم نحو الهدف الرابع من أهداف التنمية المستدامة”[6]، بل تُعَدُّ إسهامات الذكاء الاصطناعي في مجال التعليم بالغة الأهمية، وقد حققت العديد من المميزات لكل من المعلمين والمتعلمين، وهو مجال يتكون من التقاء علوم الذكاء الاصطناعي وعلوم تكنولوجيا التعليم، بهدف تعميق فهم كل من المعلمين والمتعلمين لكيفية التعلم، وجعل التأثر بالعوامل الخارجية أكثر وضوحًا بدعم من تقنية الذكاء الاصطناعي[7]، إلا أن التطورات التكنولوجية السريعة تجلب بالضرورة عدة مخاطر تقتضي أن تؤخذ في الحسبان؛ حتى لا تجد في الحاجة إلى الذكاء الاصطناعي مدخلًا إلى العالم العربي وقطاعه التعليمي.
وبدوره، انفتح العالم العربي على الذكاء الاصطناعي بمختلف مجالاته، مع استحضار التفاوت الحاصل بين دول العالم العربي فيما بينها، وبينها وبين دول متقدمة في الجال كألمانيا والصين وكوريا الجنوبية واليابان. وبرغم ضعف الإقبال العربي على الذكاء الاصطناعي في قطاع التعليم، فإنه حاصل ويطلب دراسة مزاياه وتحدياته في بيئة بدأت تنفتح عليه.
1 ــ مزايا الذكاء الاصطناعي في قطاع التعليم العربي
لا يخلو الذكاء الاصطناعي من مزايا، ليس في قطاع التعليم وحده، وإنما في مختلف القطاعات التي يستفيد منها العنصر البشري الحديث أيضًا. لقد تقدمت مجالات العمل والابتكار؛ ما يفرض تطوير مجال التعليم والتدريس أيضًا. وبالتالي فلا مجال للاستغناء عن الذكاء الاصطناعي اليوم؛ نظرًا لمزاياه العديدة، رغم التحديات التي ترافقه أو تنتج عن استعماله والانفتاح عليه.
وإذا أردنا الحديث عن مزاياه في العالم العربي فيمكن بيانها في النقاط التالية:
أ ــ تمكين التلاميذ والطلاب من تسريع عملية البحث والحصول على المعلومة: وذلك عندما يستعصي مُعطىً من المعطيات التعلمية، وبعد تقصّي كافة السبل الموصلة للمعرفة من كتب وموسوعات ووسائل أخرى من الوسائل الحصول على المعلومة. في هذه الحالة يجد المتعلّم ضالته في القدرات البحثية للذكاء الاصطناعي، حيث يجد حلًا لكل مسألة استعصت عليه معرفتها. وفي العالم العربي، حيث تقل الخبرة العلمية عند كثير من المدرسين الذين يكتفون بما يجدونه في المقررات، فإن الذكاء الاصطناعي يقدم خدمات مهمة تحول بين المتعلّم وبين ما يستعصي عليه. ويعدُّ هذا عاملًا من عوامل تحفيز المدرس العربي، وبالتالي تطوير العملية التعليمية تلقائيًا، بواسطة الضغط الاصطناعي.
ب ــ تعزيز مشاركة المتعلمين في العملية التعلمية: فقد ظل المتعلم العربي منذ تأسيس التعليم العربي الحديث رهين التدبير المدرسي من قبل المدرّس والإدارة، ما جعله عنصرًا سلبيًا في العلمية التعلمية، حيث يمنح الذكاء الاصطناعي المتعلم قدرًا من الإيجابية في العملية التعلمية، وأكثر من ذلك في عملية التقييم الخاصة به. إن المعلومة التي كانت تشكل مصدر اهتمام وتعلق لدى المتعلم في علاقته بالمدرس، لن تثير اهتمامًا كبيرًا لديه في ظل وجود الذكاء الاصطناعي، فيضطر المدرس إلى البحث عن مصادر أخرى لتحقيق الكفاءة والجدارة، وهي في الغالب المنهجية وتلك المتعلقة بطرق التلقين والتدريس والتعامل مع صعوبات المتعلمين. وفي هذه أيضًا يمكن للمتعلم تطوير قدراته التقييمية والحُكمية بخصوصها، نظرًا لما يُفترض أن يقدم الذكاء الاصطناعي من معلومات وخبرات عنها، للتلميذ في هذه المنظومة، حيث يصبح للذكاء الاصطناعي دور في العملية التعلمية، فترتفع وتيرة مشاركة المتعلم، ومن ثَمَّ مهاراته وقدراته وسرعة استيعابه للبرنامج الدراسي.
ج ــ “اختصار الزمن” التعليمي وتوفير المجهود على الأطر التعليمية: فبالنظر إلى التجارب التعليمية العربية، يلاحظ الكم الهائل من المهام الملقاة على عاتق المدرس، طيلة السنة الدراسية، من استقبال التلميذ وإدماجه في البرنامج الدراسي، إلى إعداد الدرس، وتقديمه وشرحه وتبسيطه وتوضيحه ومراجعته، إلى متابعة المتعلم وتقييمه بشكل دائم، إلى تقييمه بشكل دوري، ثم ضبط العملية التربوية داخل القسم، ثم تخليق الحياة المدرسية، بالإضافة إلى المهام الإدارية من مراقبة للغياب والتزام بالتوجيهات الإدارية وإدخال النقط في البرامج أو الجداول المخصصة لها، ناهيك عن مساهمة المدرس في أنشطة الحياة المدرسية خارج الفصل، مما أصبح اليوم ضروريًا في ظل غياب أطر تربوية مكلفة بهذه المهمة خصيصًا.
ولنا أن نتساءل باستغراب في ظل هذا الواقع: كيف يمكن للمدرس العربي أن يوفق بين كل هذه المهام وبين تقديم مادة تعليمية وتربوية ذات جودة عالية، وأكثر من ذلك تراعي وتستحضر صعوبات كافة طلاب أو تلاميذ الفصل الواحد، فما بالك بالأقسام المتعددة في عدد من الدول العربية، حيث عجز القدرات البشرية واللوجستية أمام الارتفاع المتزايد لعدد المتعلمين؟!
والحال أنه من شأن الذكاء الاصطناعي في ظل هذه الوضعية أن يخفف بعض الأعباء الإدارية والتقييمية والإعدادية على المدرس العربي، ما ينعكس على مهمته التربوية والتعليمية داخل الفصل.
د ــ تحسين الأداء الإداري للمؤسسات التعليمية: الملاحظ في العالم العربي هو أن عددًا من دوله بدأت تنفتح عن الرقمنة في عدد من المجالات، وليس في مجال التعليم وحده؛ فالرقمنة باب من أبواب الذكاء الاصطناعي، والانفتاح عليها انفتاح على الذكاء الاصطناعي ولو بعد حين. وإذا كانت رقمنة الإدارة التعليمية تسهل عدة مهام إدارية وتحسن جودتها وتقتصد في زمنها، فإن الذكاء الاصطناعي يضاعف ذلك ويمكن الإدارة المدرسية من برامج ووسائل ووظائف للرفع من جودة الإدارة وتسريع أدائها على مستويات، نذكر منها: المراقبة والترتيب والتقييم ودراسة حالة التعليم وجودته في المدارس العربية. كما أن من شأن الذكاء الاصطناعي -من خلال برامجه الأوتوماتيكية- المساعدة في عمليات التسجيل والمتابعة والتقييم ودراسة وتيرة تقدم العمل المدرسي.
وللإشارة فهناك عدد من الأعمال الإدارية تزهد فيها معظم المدارس في العالم العربي، وتُرجِعُ سبب ذلك إلى عدم وجود الإمكانات المالية واللوجستية، وهو ما يؤثر على العملية التربوية عمومًا. بعض البرامج في الذكاء الاصطناعي بإمكانها الاشتغال على المعطيات الخاصة بالتلاميذ ومعدلاتهم على مدى سنوات؛ ما يسهل عمليات التقييم والاستنتاج على الإدارات التعليمية.
هـ ــ تيسير عملية التقييم التعليمي وتمكين المدرّسين من الإحاطة بمشكلات التعلم لدى الطلاب: في معظم مدارس العالم العربي يخضع المتعلم وحده لعملية تقييم، في حين لا يهتم المدرس بهذه العملية؛ والسبب في ذلك راجع إلى عدم وعيه بأهميتها، أو عدم وجود الأدوات الكفيلة بإجراء هذا التقييم على فترات طويلة الأمد أو دورية في ظل الانشغالات التعليمية والإدارية التي تحدثنا عنها سابقًا. لكن الذكاء الاصطناعي يشجع على تخزين المعطيات التقييمية اليومية ومعالجتها دوريًا؛ ما يمكّن المدرس من معرفة مدى نجاعة أسلوب المادة التعليمية التي يقدمها ومدى جودتها.
والحال أنه لا تستقيم العملية التعلمية إلا بمعرفة المشاكل والصعوبات التعلمية لدى الطلاب، في حين أن المدرسة العربية لم تخرج بعد عن واقعين: الأول، التلقين العام الذي لا ينتبه لرصد مشاكل التعلّم، والثاني هو وجود صعوبات في حل هذه المشاكل. لكن إدخال الذكاء الاصطناعي سيعالج هذين الواقعين من جهتين: من جهة إدماج التلقين العام في التلقين الحديث، ومن جهة تيسير اهتمام التلقين بمشكلات المتعلمين، مع الأخذ في الاعتبار أن أكثر مناهج التكيف في السوق تعتمد على حساب النموذج الموجود داخل التكنولوجيا لإجابات الطلاب الخاطئة ليقرر إذا ما كان سيتم تسريع أو إبطاء أو تقديم نوع مختلف من دعم التعلم، والأخذ في الاعتبار أيضًا أن “الإجابات الصحيحة والخاطئة ليست هي أهداف التعلُّم الوحيدة؛ لأن المطلوب من الطلاب أن يتعلموا كيفية التنظيم الذاتي عندما يواجهون صعوبات في التعلم، على سبيل المثال، القدرة مثلًا على الاستمرار في العمل على مشكلة صعبة، أو معرفة كيف ومتى يطلبون المساعدة، وأن يصبح المتعلمون ماهرين في العمل الجماعي، وفي قيادة الفريق”[8].
و ــ تحسين جودة المادة التعليمية المقدمة لكل متعلم، بحسب صعوباتها التعلُّمية: بالإضافة إلى معرفة صعوبات المتعلمين على وجه العموم، تمكِّن بعض برامج الذكاء الاصطناعي من معرفة الصعوبات التعلُّمية الفردية كذلك. وهذا الاهتمام بالفرد/ التلميذ في المجموعة التعلّمية ككل، هو ما يغيب في كثير من المدارس في العالم العربي.
ومن شأن برامج متخصصة للذكاء الاصطناعي أن ترتب المعطيات الخاصة بكل تلاميذ وتدرسها دراسة اصطناعية لتتمكن في نهاية العملية من تحديد الوضعية التعلّمية للتلميذ بشكل أكثر دقّة، ما يجعل المدرّس قادرًا على التعامل معها بنجاعة وفاعلية. وهذه النتائج نفسها ترافق التلميذ كلما تجددت وضعيته طيلة مساره الدراسي، كنوع من المواكبة المستمرة، التي لا تساعده في تقييم أدائه ومستواه وحسب، وإنما توجهه التوجيه العلمي والدراسي السديد.
ز ــ المساعدة إلى حد كبير في تجويد البحث العلمي وتجديده: وبانتقالنا إلى مجال التعليم العالي، حيث تصبح العمليات التعلّمية أكثر تعقيدًا، وتبدأ عمليات البحث العلمي خاصة في مرحلتَيْ الماجستير والدكتوراه، فإن الذكاء الاصطناعي يقدم خدمات مهمة جدًّا للطلبة الباحثين في الجامعات العربية. ومن هذا القبيل القيام بعمليات بحث ببليوغرافية سريعة؛ ما يسهم في تجديد الأبحاث الأكاديمية وتفادي التكرار فيها، ناهيك عن تسهيل الترجمة إلى العربية من لغات غير اللغات الأجنبية المعتادة (الفرنسية/ الإنجليزية)، من قبيل الروسية والصينية واليابانية والكورية وغيرها من دول أخرى، حيث تنشط الأبحاث العلمية في العلوم التقنية والحقوق بوتيرة أكبر.
2 ــ تحديات الذكاء الاصطناعي في قطاع التعليم العربي
هناك من يدعو إلى عدم التحمُّس أكثر من اللازم لإغراءات الذكاء الاصطناعي، وخاصة إذا تعلق الأمر بمجال التعليم الذي هو مجال التربية وتكوين الخبرة “من صغار العلم إلى كباره”. ويشير هذا الرأي غالبًا إلى التحديات التي يطرحها الذكاء الاصطناعي وبرامجه والتي لها تأثيرات لا يمكن تغافلها في العالم العربي.. ومن هذه التحديات يمكننا الحديث عن المسائل التالية:
أ ــ استسهال الحصول على المعلومة: وذلك لأن تسهيل الذكاء الاصطناعي الحصول على المعلومات والمعطيات التعلمية سيف ذو حدين. فهو من جهة يسهل البحث وييسر الطريق إلى المعلومات، ومن جهة أخرى يؤثر سلبًا على مهارات البحث والتنقيب لدى الطلاب. وهنا يجب استحضار البون الشاسع بين المجتمعات العربية والمجتمعات الغربية، إذا تعلق الأمر بطرق البحث ومناهج المعرفة. وهكذا فحصول التلميذ أو الطالب العربي على وسيلة الذكاء الاصطناعي قد يجعله يستغني عن كافة التعليمات المنهجية والمعرفية، بما فيها تلك التي لا تحتاج إلى ذكاء اصطناعي، أو تلك التي يحتاجها التلميذ كمهارات ذاتية لا تقبل التفويت. ويحتاج الذكاء الاصطناعي إلى ترشيد لمعرفة المعلومات التي يُبحث عنها بواسطته، وتلك المعلومات التي تحتاج إلى المهارة الذاتية. وهذا الترشيد نراه شبه غائب في المدارس والمؤسسات التعليمية العربية.
ب ــ شلُّ عدد من القدرات العقلية البشرية: هناك تفاوت بين العالم العربي والدول المتقدمة، مثل أمريكا والصين واليابان وألمانيا، حيث راكمت هذه الدول رصيدًا كبيرًا في مجالات البحث والمعرفة والاختراع والابتكار، وقد ساعدها ذلك على التحكُّم في العلاقة بين حاجتها وإغراءات الذكاء الاصطناعي. وبرغم ذلك، فإن له تأثيرًا سلبيًا عليها وعلى تلاميذها وطلابها وناشئتها. فما بالك بالمؤسسات التعليمية العربية، حيث تبعية المناهج والمعارف وطرق التحصيل، وحيث شبه غياب للاختراع والابتكار والإبداع في مجال الاكتشافات العلمية. في حالة كهذه قد تكون للذكاء الاصطناعي نتائج عكسية، أخطرها شلُّ عدد من القدرات العقلية لدى أجيال لم تعد تجد شغفًا بالبحث والتنقيب والكشف والاختراع والابتكار.. وبهذه الطريقة سيكون الابتكار العربي أمام تحديين: تحدٍّ خارجي هو التبعية، وتحدٍّ داخلي هو شلُّ القدرات العقلية والمعرفية.
ج ــ مصادمة التعليم العربي بواقع متقدم عليه: وهذا ينتج تفاوتًا من نوع آخر، وهو التفاوت في كيفيات التطور والانتقال. وهنا تُطرح على التعليم العربي عدة أسئلة، منها: ما هي الخبرات التي راكمها على مستوى الكفايات البيداغوجية [البيداغوجيا: طريقة التدريس المتبعة وممارستها من قبل المعلمين أصحاب الاختصاص] ومناهج تلقين التعلُّمات، وربط المدرسة بالنماذج التنموية وحفظ الاستقرار وتحقيق التقدم عن طريق التعليم؟! إلى أي حدٍّ استطاع التعليم في العالم العربي أن يحقق استقراره المنهجي والكفائي قبل الحديث عن خطوات أخرى أكثر تقدمًا وانفتاحًا من قبيل استيراد الذكاء الاصطناعي؟!
إن تجاوز مراحل التطور بالطريقة المذكورة قد يفاقم أزمة التعليم العربي بدل أن يعالجها، وقد يحوِّل الذكاء الاصطناعي إلى وسيلة للهدم والتأخر لا وسيلة إلى تحسين جودة التعليم العربي.
يحتاج الذكاء الاصطناعي إلى ذهنية خاصة، وإلى قابلية مدرسية مهيأة للاستفادة منه ووضعه في حيزه الضروري. والسؤال هو: إلى أي حد يتوافر ذلك في المؤسسات التعليمية العربية؟!
د ــ تهديد التراتبية التربوية والعلمية في العالم العربي: ارتباط التلاميذ بالمدرسين أمر ضروري، والملاحظ هو أن الدول العربية تشهد قلبًا تدريجيًّا في القيم المؤطرة العملية التربوية.. فلم يعد العنف المدرسي مقصورًا على عنف المدرسين في حق التلاميذ، وإنما تحول إلى عنف في المنحى المعاكس، أي ضد المدرسين بين الفينة والأخرى، ناهيك عن تراجع مكانة وقيمة المدرسين في كثير من المنظومات التعليمية، فإلى أي حد يستطيع المشرفون على قطاع التعليم في العالم العربي التوفيق بين معالجة مشاكلَ من القبيل المذكور، والانفتاح على مرجعية تعليمية أخرى من غير المدرس، هي الذكاء الاصطناعي؟!
ألا يمكن لهذا الانفتاح أن يفاقم تراجع قيمة المدرِّس في المنظومة التربوية العربية؟! الأمر إذن يتعلق بمدى قدرة التعليم العربي على وضع الذكاء الاصطناعي في موقعه الصحيح؛ حتى لا يؤثر سلبًا على التراتبية المدرسية حيث تكون للمدرّس مكانة أسمى.
هـ ــ تهديد العلاقات الإنسانية والتربوية بين عناصر العملية التعلمية: وهذا أمر له علاقة بنقل التكنولوجيات عمومًا في إطار العولمة التي اكتسحت العالم العربي ابتداءً من العقد الأول للألفية الثالثة. وقد أسهمت هذه العولة بشكل كبير في تراجع العلاقات الإنسانية بين مكونات المجتمع، بما فيها علاقات الأسرة والجيرة والانتماء. وفي هذا الإطار يمكن الحديث عن الذكاء الاصطناعي وتأثيره على العملية التعليمية في العالم العربي. ولا يمكننا فصل المدرسة العربية عن محيطها الخارجي، حيث يعيش الأستاذ والتلميذ والمدير، وحيث تراجعت العلاقات الإنسانية بفعل الاختراق العولمي.
في هذا الواقع بالذات سيعمل الذكاء الاصطناعي على مضاعفة هذا التراجع، وهو لا يخدم العملية التربوية؛ لأننا في قطاع التعليم نربي وندرس الإنسان وليس الآلات في المصانع.. وتسهيل الخبرات والحصول على المعلومات ليس كل شيء في العملية التربوية، وهي عملية تربوية قبل أن تكون تعليمية، بمعنى التربية على النظام، التربية على الحياة، التربية على استعمال المناهج، والبحث عن المعارف.
و ــ إرباك التقييمين المستمر والدوري: يعتمد التقييم المستمر على ملاحظة ومتابعة القدرات التعلمية لدى التلميذ طيلة حصص الأسبوع، وهذا التقييم قد يصبح مستعصيًا بفعل ما يوفره الذكاء الاصطناعي من معلومات ومعطيات بل وقدرة على الإنجاز إذا تعلق الأمر بالتمارين والواجبات المنزلية، كما أن الرقابة على استعمال الوسائل الإلكترونية الذكية قد يصبح مستعصيًا داخل الفصل نفسه، باعتبار تعددها وتنوعها وصعوبة الكشف عنها.
الأمر نفسه يقال عن التقييم الدوري، نظرًا لما يمكن أن يوفره الذكاء الاصطناعي من أساليب ذكية للغش، بالإضافة إلى عسر الرقابة عندما يتعلق الأمر بإجراء اختبارات ذكية أو عن بُعد. إن استعمال الذكاء الاصطناعي يطلب نوعًا آخر من الرقابة، وهي تلك الرقابة التي تفرض عليه هو في حد ذاته، من قبل الآباء وأولياء الأمور من جهة أولى، ومن قِبل المدرسين والإدارة من جهة ثانية.
ز ــ إرباك معايير البحث العلمي: يحتاج الطالب الباحث أو الباحث عمومًا إلى عدد من المهارات، لعل أبرزها منهجيات البحث والمناهج المعرفية والقدرة على الترجمة من لغات أجنبية والقدرة على التعامل مع المراجع والكتب العلمية والوثائق والفهارس، إلى غير ذلك من المهارات البحثية. المسموح به علميًّا لدى الباحث أن يلجأ إلى الذكاء الاصطناعي بعد استنفاد كافة مهاراته، كأن يعتمد على برامج الترجمة الذكية لتعريب نصوص بلغات أجنبية بعيدة، مثل الكورية والروسية، أو أن يعرف آخر المستجدات في موضوع علمي أو إشكالية علمية. أما أن يتحول الذكاء الاصطناعي إلى باحث بدل الباحث الفعلي فهذا من أخطر نتائج الانفتاح على الذكاء الاصطناعي.. وقد بدأت هذه الظاهرة في الانتشار في الجامعات العربية، إلى درجة أن الذكاء الاصطناعي قد يمكّن الطالب الباحث من إعداد بحث ماجستير في يوم واحد، وبحث الدكتوراه في أكثر من هذه المدة بقليل.
3 ــ خلاصة وتوصيات:
نستخلص من العرض أعلاه أن الذكاء الاصطناعي برغم ما يقدمه من مزايا للتعليم العربي، فإنه لا يخلو من تحديات يجب أخذها في الاعتبار. وأن أهم ما نستخلصه أيضًا أن الذكاء الاصطناعي لا يؤدي دوره المطلوب إلا في نظام تعليمي يضعه في موقعه الصحيح. وانطلاقا من هذا التحليل، فليست الأولوية هي الانفتاح على الذكاء الاصطناعي من عدمه، بل العمل على إصلاح ما يجب إصلاحه في قطاع التعليم العربي. وعليه، فإن تعليمًا ضعيفًا بإمكانيات ضعيفة -حيث تضطرب مناهج المعرفة وطرق البحث وتضعف القدرات اللوجستية والمؤسساتية والإدارية- لا ينفع معه الذكاء الاصطناعي، بل قد يعزز مشاكله ويحول بينه وبين التركيز على صعوباته وأعطابه الحقيقية.
وبخصوص الانفتاح على الذكاء الاصطناعي في قطاع التعليم العربي، فإنه يتطلب استحضار مجموعة توصيات من أبرزها:
- ضرورة الانفتاح على الذكاء الاصطناعي في قطاعات التعليم العربية؛ فلا يمكن للتعليم العربي أن يبقى متخلفًا عن نظيره في الدول المتقدمة، إذ من شأن هذا التخلف أن يوسع الهوة بين العالم العربي والعالم المتقدم. ولا يخلو منقول من تحديات ومحاذير يجب أخذها في الحسبان، وكذلك الشأن مع الذكاء الاصطناعي.
- التغلب على مشاكل قطاع التعليم في كل دولة عربية على حدة، بحسب واقعها وما هي في حاجة إليه، وثقافتها الخاصة وحاجاتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية؛ فالتقنيات -كيفما كان نوعها- إذا نُقلت إلى واقع متخلّف لا تؤدي المطلوب منها، بل تكون لها نتائج عكسية.
- تنشئة التلاميذ على مناهج المعرفة ومنهجيات البحث، وتوعيتهم بأهمية وسائل العلم والمعرفة التقليدية من قبيل الكتب والمحاضرات والندوات والدراسات، …إلخ؛ وذلك حتى لا يستغل الذكاءُ الاصطناعي الفراغَ لديهم فيتخذ منهم موقع الموجِّه بدل أن يعزز مهاراتهم العلمية والمنهجية الذاتية.
- تربية التلاميذ منذ الصغر على قيم الاحترام والاعتراف والتعلق بالأطر التربوية والإدارية، وإقناعهم بأهمية المدرّسين في حياتهم التعلّمية ومسارهم التكويني.. وذلك مع بذل الجهد الفلسفي والفكري والأخلاقي لتوعيتهم بالفرق بين الإنسان والآلة، وتحذيرهم من تحويل هذه الأخيرة إلى غاية، في حين أنها مجرد وسيلة في يد الإنسان.
- ضبط العملية التقييمية جيدًا في حالة الانفتاح على الذكاء الاصطناعي، أو الاكتفاء بالوسائل التقليدية في التقييم. ولعل أخطر ما يمكن أن يؤثر سلبًا على قطاع التعليم هو ارتباك عملية التقييم وما ينتج عنها من تهاون وكسل وتراجع للمستويات الدراسية. ويفضل خبراءٌ الإبقاء على التقييم التقليدي لما له من غايات ليست معرفية فقط، وإنما إنسانية وأخلاقية أيضًا.
- دعم البحث العلمي في الجامعات برفع ميزانياته وتشجيع الابتكار والاختراع والأبحاث العلمية في مختلف التخصصات، وتقديم منح بحثية كافية للطلبة الباحثين في الماجستير والدكتوراه، وتشجيع مشاريع التعريب والترجمة. وفي هذا الواقع، يمكن أن يلعب الذكاء الاصطناعي دورًا إيجابيًا، الأمر الذي يصبح صعبًا ومستعصيًا في واقع بحثي ضعيف وغير مستقل.
- حماية الإنسان من الأتمتة التي تنزع عنه إنسانيته، أو قد تجعل منه شبيهًا بآلة، في حين أنه هو من اخترع الآلة، وهو من ابتكر الذكاء الاصطناعي، ولا يمكن الحديث عن تطور في أي مجال من المجالات الذكية والإلكترونية إلا بإشارة وعمل منه. وحتى عند المؤمنين بإمكان التجاوز الآلي للإنسان فـ”هناك العديد من الطفرات التي يجب أن تحدث أولًا قبل أن نشهد ميلاد آلات ذات ذكاء خارق يفوق الذكاء البشري”[9]، ويسود الاعتقاد بأن هذا النوع من النقاش سابق لزمنه، في حين أن المطلوب اليوم هو تعزيز الخبرتين التربوية والتعليمية في المدارس العربية.
[1] عبدالمجيد الظفري، الذكاء الاصطناعي، بحث تحت إشراف د. أنور عبدالعزيز الوحش، كلية التربية، جامعة إب/ اليمن، 2021-2022.
[2] McCulloch, W. and Pitts, W. (1943) A Logical Calculus of Ideas Immanent in Nervous Activity. Bulletin of Mathematical Biophysics, 5, 115-133, in : http://dx.doi.org/10.1007/BF02478259
[3] عبدالحق سويلم، محمد صافي، ماهية الذكاء الاصطناعي، ضمن كتاب “الذكاء الاصطناعي: رؤى متعددة”، إشراف وتنسيق: سابق أميرة”، المركز الديمقراطي العربي للدراسات الاستراتيجية، الاقتصادية والسياسية، برلين – ألمانيا، أبريل 2024، ص: 9.
[4] الذكاء الاصطناعي وخصائصه ومجالاته وفئاته: دليل شامل، موقع بكه، 7 نوفمبر 2024.
[5] آلان بونييه، الذكاء الاصطناعي: واقعه ومستقبله، ترجمة: علي صبري فرغلي، عالم المعرفة، العدد 172، أبريل 1993، ص 31.
[6] الذكاء الاصطناعي: إرشادات لواضعي السياسات، منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة، 2021.
[7] انظر ما يمكن أن يقدمه الذكاء الاصطناعي في حقل التعليم، دليل ألفه الباحث محمد بن فوزي الغامدي، تحت عنوان “الذكاء الاصطناعي في التعليم”، ورابطه:
https://drive.google.com/file/d/1f6ihbDKHkk5ynuwtLFEgT7dSkNK8vbTm/view
[8] ميغيل أ. كاردونا، روبرتو ج. رودريغيز، كريستينا إسماعيل، الذكاء الاصطناعي ومستقبل التعليم، ترجمة خالد الرفاعي، مراجعة رضان زيدان، مركز دلائل، مايو 2023، ص: 26.
[9] ستيوارت راسل، ذكاء اصطناعي متوافق مع البشر، ترجمة: مصطفى محمد فؤاد وأسامة إسماعيل عبد العليم، مؤسسة هنداوي، 2022، ص 18