أعلنت إدارة بادين في 3 مارس 2021 وثيقة الدليل الاستراتيجي المؤقت للأمن القومي الأميركي، والتي تناولت موضوعات ارتبطت بمشهد الأمن العالمي وأولويات الأمن القومي الأمريكي؛ وتتألف الوثيقة التي تُغطي جوانب أمنية عديدة من 24 صفحة تشكل التوجيه الرسمي الأول الذي يصدر عن إدارة بايدن في هذا الشأن؛ ومن المتوقع أن يُصدر البنتاغون بعد هذه الوثيقة التوجيهية المؤقتة كل من استراتيجيتي الأمن القومي والدفاع القومي اللتين يمكن اعتبارهما انعكاسا لـ “عقيدة بايدن”.
وتناقش الورقة هذه الوثيقة من زوايَا مختلفة بما فيها: الأمن القومي والاستخبارات، وموضوعات أخرى محددة مثل تحديث حلف الناتو، وتحولات الطاقة النظيفة. ورغم أن العديد من الأهداف الواردة في هذه الوثيقة تؤكد التوقعات التي تبلورت خلال الشهور القليلة الماضية في ما يخص أولويات الإدارة الأمريكية الجديدة، إلا أن أهميتها تنبع بالأساس من كونها تشكل أول وثيقة رسمية معلنة وأول محاولة تربط بين الأوجه المختلفة للسياسة الأمريكية وتضعها في خطة استراتيجية متسقة تعطي نظرة مستقبلية تنِّم عن تفاؤل الإدارة الجديدة.
وتعرض وثيقة الدليل الاستراتيجي المؤقت للأمن القومي الأميركي بالتفصيل لأبرز التحديات ومصادر الخطر التي تواجه الأمن القومي الأمريكي على المستوى العالمي، والتي جاءت نتاجاً لعدة عوامل أثرت فيها ومنها: تداعيات جائحة كوفيد-19، والانكماش الاقتصادي الحاد، والتغييرات المناخية، والمنافسة مع روسيا والصين، والثورة التكنولوجية بالإضافة إلى عوامل أخرى.
وتتميز هذ الوثيقة بشكل عام بنبرتها المتفائلة حول قدرة أمريكا على مواجهة التحديات العديدة التي تعترضها. كما حددت الوثيقة الخطوط العريضة للسياسة الأمريكية في المرحلة المقبلة المرتبطة بالترويج للديمقراطية، والتنمية الاقتصادية، وتجديد التحالفات، وقيادة الولايات المتحدة للمؤسسات العالمية؛ كما أعطت الوثيقة ذاتها لجميع المجالات الأساسية أهمية متساوية، وهذا أمر طبيعي في الوثائق المشابهة لها التي لا تمييز في الأولويات الواردة فيها بين الأهداف والمهام التي تقترحها.
وعادة ما توصف وثيقة الدليل الاستراتيجي المؤقت للأمن القومي الأميركي بأنها “سياسة معلنة”؛ وهي لا تأخذ في الاعتبار التغيرات غير المتوقعة في المشهد العالمي التي يمكن أن تؤثر على ما ورد فيها من توجهات واهداف؛ لأن هذه التوجهات والأهداف لا تسير دائماً في مسار خطي ثابت، وهناك هامش من الافتراض في عملية إعداد هذه الوثيقة؛ ولكي تقدم استراتيجية الأمن القومي القادمة توجيهاً مناسباً للحكومة، يجب أن ترتب أولويات المخاطر بناءً على احتمالية حدوثها وشدة تأثيرها المتوقع على المصالح القومية[1].
إعلان نوايا: تهيئة إطار العمل
سيتم إعداد استراتيجية الأمن القومي القادمة بمشاركة مختلف مؤسسات الحكومة الاتحادية، وخاصة وزارات الدفاع، والخارجية، والأمن الداخلي. وستكون هذه المؤسسات، إلى حد ما، وراء صياغة مسودة هذه الوثيقة. والهدف من الوثيقة المؤقتة هو توجيه الوزارات والمؤسسات المعنية لتنسيق أعمالها، حيث يمكن أن يكون هناك صعوبات في التوفيق بين مصالح مختلفة بين المؤسسات المعنية وتوقعاتها وقدراتها داخل الحكومة الأمريكية[2].
وربما قد يكون أحد الأغراض المقصودة من وراء إصدار نسخة غير سرية من وثيقة الدليل الاستراتيجي المؤقت للأمن القومي الأميركي إعلام السلطة التنفيذية، والكونغرس، والشعب الأمريكي، والمراقبين الأجانب في وقت واحد بالأهداف والتوجهات العامة. كما يخدم نشر هذه الوثيقة الإدارة الأمريكية لأنها تُعتبر أداة للتواصل الاستراتيجي، وتوفر للإدارة فرصة لكي تروج لسياساتها في الحقل العام وتُوضحها.
لا تقدم الورقة أي مخصصات مالية محددة من أي نوع، ولا توزع أي مهمات محددة لمؤسسات بعينها؛ ولذلك سيتوجب على إدارة بايدن أن تطلب الموارد الضرورية لتحقيق الاستراتيجية التي تقترحها الأمر الذي يتطلب مفاوضات مع الكونغرس ومختلف الوزارات لتحديد مخصصات الميزانية الخاصة بالأغراض التشغيلية والمشاريع[3].
التعامل مع الصين وتعزيز الديمقراطية
أحد المحاور الرئيسية في الوثيقة التوجيهية المؤقتة لاستراتيجية الأمن القومي ينص على ضرورة تعاون الولايات المتحدة وتنسيقها مع العالم. وفي هذا السياق، فإن الاختبار الجيوسياسي الأكثر أهمية بالنسبة لأمريكا في القرن الحادي والعشرين هو علاقتها كقوة عظمى مع الصين. ويُنظر إلى هذه العلاقة بأنها علاقة تنافسية بشكل عام وتعاونية عندما يتطلب الأمر ذلك، وعدائية في بعض الأحيان، ويشدد بايدن – في هذا الإطار – على ضرورة التعامل مع الصين من موقع قوة[4].
وشملت الوثيقة كذلك محاور أخرى بما فيها وعود إنهاء جائحة كوفيد-19، وجعل التغير المناخي ضمن الاهتمامات الرئيسية للإدارة الأمريكية، وإعطاء أولوية للدبلوماسية مع المحافظة على التفوق العسكري، وقيادة العالم، والتعاون مع الحلفاء، والاستثمار في التكنولوجيا، وتحسين نظام الهجرة، ومحاربة الفساد، والدفاع عن حقوق الإنسان. كما تؤكد هذه الوثيقة المؤقتة على تداخل قضايا السياسة الخارجية، والسياسة الداخلية، والتجارة وترابطها. وفي المجال الاقتصادي تهدت إدارة بايدن، بموجب هذه الوثيقة، أن تأخذ في الحسبان كيف أن تحركاتها في الخارج تؤثر على العمال الأمريكيين في الداخل، ووعدت بالكفاح من أجل كل فرصة عمل أمريكية وحماية حقوق جميع العمال الأمريكيين ومصالحهم[5].
كما تؤكد الوثيقة على ضرورة تعزيز الديمقراطية من الداخل، وضرورة قيادة الولايات المتحدة للعالم في هذا المجال بوصفها النموذج الذي يحتذى به. ووفقاً للوثيقة لن تروج واشنطن للديمقراطية بتدخلات عسكرية باهظة الثمن أو بمحاولة إسقاط أنظمة حكم استبدادية. ولكن الوثيقة لم تحدد مؤشرات واضحة لقياس مدى الفعالية في تحقيق هذا الهدف، كما أن ترويج الديمقراطية لا يمكن قياسه وفق مؤشرات محددة، وبالتالي، فإن التقييم الواضح لتحقيق هذه الأهداف سيكون صعباً.
أما بشأن الشرق الأوسط، فقد تعهدت وثيقة الدليل الاستراتيجي المؤقت للأمن القومي الأميركي “بحماية أمن إسرائيل والسعي إلى تعزيز علاقاتها مع جيرانها، واستئناف دور أمريكا كداعم لحل الدولتين بصيغة واقعية قابلة للتطبيق”. كما تقول الوثيقة إن واشنطن “ستعمل مع حلفائنا في المنطقة لردع الاعتداء الإيراني وتهديداتها لسيادة الدول ووحدة أراضيها، والقضاء على تنظيم القاعدة والشبكات الإرهابية المرتبطة بها، ومنع عودة ظهور داعش”[6]. وتذكر الوثيقة أن الإدارة الأمريكية “لن نعطي شركاءنا في الشرق الأوسط شيكاً مفتوحاً لممارسة سياسات تتناقض مع المصالح والقيم الأمريكية”.
يبدو أن إدارة بايدن تسعى إلى تغيير مواقع تمركز الجيش الأمريكي في الشرق الأوسط من خلال تحديد حجم القوة اللازمة بالشَّكل الصحيح “بحيث يصبح وجودها العسكري في المستوى المطلوب لتدمير الشبكات الإرهابية الدولية، وردع الاعتداء الإيراني، وحماية المصالح الحيوية الأمريكية الأخرى”. كما تعتزم الإدارة الأمريكية، حسب المحور الأخير من الوثيقة، إنهاء حالة “الحروب المستمرة للأبد” “… التي كلّفت آلاف الأرواح وتريليونات الدولارات.. سنعمل على لإنهاء أطول حرب تخوضها أمريكا في أفغانستان. كما سنضمن عدم عودة أفغانستان مرة ثانية لتصبح ملاذاً آمناً للإرهابيين وقاعدة لشن هجمات إرهابية ضد الولايات المتحدة”[7].
ركزت الاستراتيجية العسكرية الأمريكية لسنوات على خوض حروب مباشرة صريحة، وكانت تحتفظ بالحجم اللازم، والقوة، والهيكل، والانتشار، والأسلحة اللازمة لردع نشوب صراع أو للانخراط في معركة إذا فشل الردع. ويلاحظ أنه كان هناك تحول في ميزانية الدفاع، والتخلي عن منظومات الأسلحة التقليدية والتحول نحو الأسلحة الذكية ومعدات الاستطلاع الحديثة، والقوات الخاصة، والتدريب على مكافحة التمرد. ونظراً لاعتماد المجتمع على منظومات الكومبيوتر في إدارة الخدمات العامة، ووسائل النقل، والتواصل، والأعمال المصرفية، فقد ازدادت مخاطر تعرضها الأسلحة للتعطيل الشامل وأصبح الفضاء السيبراني الساحة الجديدة للحرب[8].
التخلص من إرث ترامب
يشكل التخلص من طريقة التعامل التي انتهجها ترامب الخطوة المنطقية لـ بادين، والتي سيسعى من خلالها إلى التأكيد على ضرورة العمل مع الشركاء والحلفاء وبقية العالم. وقد تحرك مؤخراً بايدن في هذا الاتجاه بهدف تخفيف التوترات بشأن التجارة مع الاتحاد الأوروبي، ووافق على إيقاف مؤقت للرسوم الجمركية لمدة أربعة شهور لكي يتم التوصل إلى تسوية طويلة الأمد.
كما توصي وثيقة الدليل الاستراتيجي المؤقت للأمن القومي الأميركي أيضاً بضرورة نقل الولايات المتحدة لمحور اهتمامها من الشرق الأوسط إلى منطقة المحيط الهندي-والهادي. كما تعهد بايدن، على خلاف توجهات سلفه، “بتنشيط وتحديث” تحالف الولايات المتحدة مع الناتو، وأستراليا، واليابان، وكوريا الجنوبية، والسعي إلى تعميق العلاقات مع نيوزيلندا، وسنغافورة، وفيتنام، ودول أخرى من رابطة دول جنوب شرق آسيا.
وقد طبقت الإدارات الأمريكية المتعاقبة طوال قرابة 30 عاماً سياسات متشابهة في ما يتعلق بقوى عظمى مثل روسيا والصين؛ ويبدو أنه ليس هناك تغيُر كبير في توجهات إدارة بايدن في هذا الشأن. كما يبدو، بالنسبة لمسار العلاقات بين الولايات المتحدة والشرق الأوسط، أن إدارة بايدن ستسلك طريقا مختلفاً.
يبدو، عند مقارنة منهجية بايدن مع سلفه أو مع مقاربات الإدارات الأمريكية المتعاقبة، أن هناك مساراً مختلفاً قيد التشكيل؛ ففي إدارة بوش الابن كانت واشنطن تسعى إلى دمقرطة المنطقة؛ وفي حقبة أوباما كانت الإدارة الأمريكية تميل إلى الانسحاب من الشرق الأوسط؛ وسياسات ترامب كانت تركز على “زيادة الضغط إلى أقصى الحدود من أجل تطبيع العلاقات“؛ ولهذا ينبغي على المرء أن ينتظر ليرى ما إذا كانت مقاربة بايدن المتمثلة في “الانضباط ولكن بأسلوب تعاوني” ستعطي ثمارها المرجوة.
مع أنه لا يوجد مفاجآت مهمة في مجالات الأولوية المذكورة في وثيقة الدليل الاستراتيجي المؤقت للأمن القومي الأميركي إلا أنها تشكل “وثيقة بالغة الأهمية” إذ أنها توفر مؤشرات بخصوص الأهداف الاستراتيجية والمركزية لإدارة بايدن على مدى السنوات الأربع القادمة؛ وعلينا الانتظار لنرى كيف سيتم العمل لتحقيق هذه الأهداف، وما إذا كانت توجيهات السياسة المذكورة في الوثيقة يمكن أن تقف صامدة أمام التحديات الكثيرة التي سيواجهها البيت الأبيض بينما يسعى للتخلص من إرث الترامبي.
المراجع
[1] Doyle, Richard. 2007. ‘The US National Security Strategy: Policy, Process, Problems,’ Public Administration Review, Vol. 67, Issue 4, pp. 624-629
[2] Claude, Sharon. 2009. ‘National Security Strategies: Security from What, for Whom, and by What Means,’ Journal of Homeland Security and Emergency Management, Vol. 6, Issue 1, pp.1-26
[3] Stolberg, Alan. 2012. How Nation-States Craft National Security Strategy Documents. US Army War College-Strategic Studies Institute, p.30
[4] White House. 2021. Interim National Security Strategic Guidance.
https://www.whitehouse.gov/wp-content/uploads/2021/03/NSC-1v2.pdf
[5] White House. 2021. Interim National Security Strategic Guidance.
https://www.whitehouse.gov/wp-content/uploads/2021/03/NSC-1v2.pdf
[6] White House. 2021. Interim National Security Strategic Guidance.
https://www.whitehouse.gov/wp-content/uploads/2021/03/NSC-1v2.pdf
[7] White House. 2021. Interim National Security Strategic Guidance.
https://www.whitehouse.gov/wp-content/uploads/2021/03/NSC-1v2.pdf
[8] Hook, Stephen. 2019. US Foreign Policy. The Paradox of World Power. 6th edition. Sage, pp. 205-231