شهد العقد الماضي نقلة نوعية في الاهتمام بالذكاء الاصطناعي والتقنيات التي أتاحت محاكاة الذكاء البشري بواسطة الآلات، وأداء مهام تتطلب ذكاءً بشريًّا؛ إذ أسهم التطور السريع في القدرات التكنولوجية، وتطور الخوارزميات، وانتشار البيانات الضخمة (Big Data)، واتساع البعد التجاري والاستثماري لهذه التقنيات، في تطور الذكاء الاصطناعي وزيادة الاهتمام العالمي به. وبالرغم من أن الذكاء الاصطناعي يقدم إيجابيات كثيرة في مختلف مجالات الحياة؛ ولاسيما في مواجهة التطرف والإرهاب، فإن المخاوف تزداد بشأن استخدام خوارزميات الذكاء الاصطناعي في تحفيز ظواهر التطرف والعنف في العالم. فالذكاء الاصطناعي بكل ما يقدمه من فرص لدعم الأمن الإنساني، نعمة لا تخلو من مخاطر وتحديات مصاحبة لها.
وبناءً عليه، سوف تفحص هذه الدراسة استخدام الذكاء الاصطناعي بوصفه أداةً قابلة للتوظيف في تعزيز التطرف والإرهاب، وكذلك في مكافحتهما. ومن ثم تسعى الدراسة إلى الإجابة عن السؤال الرئيسي الآتي: كيف يمكن تحقيق الاستفادة القصوى من الذكاء الاصطناعي مع امتلاك القدرة في الوقت نفسه على منع التهديدات الإرهابية ومواجهتها؟
ولتحقيق هدف الدراسة والإجابة عن سؤالها البحثي فقد قُسّمت إلى المحاور الآتية: المحور الأول: خصائص وإمكانيات الذكاء الاصطناعي (إيجابيات وسلبيات). المحور الثاني: توظيف الذكاء الاصطناعي في التطرف والإرهاب. المحور الثالث: دور الذكاء الاصطناعي في مكافحة الإرهاب والتطرف. المحور الرابع: مستقبل الذكاء الاصطناعي.
المحور الأول: خصائص وإمكانيات الذكاء الاصطناعي (الإيجابيات والسلبيات)
أولًا: الإيجابيات يقدم الذكاء الاصطناعي إيجابيات كثيرة في مختلف مجالات الحياة؛ فالذكاء الاصطناعي قد يسهم في حل المشكلات التقليدية التي تواجهها ثلاثية التنمية (التعليم والصحة والاقتصاد)؛ ولاسيما في الدول النامية[1].
ويمكن النظر إلى الذكاء الاصطناعي على أنه عامل مضاعف للقوة، ومن ثم للقدرات المادية للدول، خاصة في عدد من المجالات التي تعتمد على التقنيات المتطورة، بما في ذلك الفضاء السيبراني والأنظمة المستقلة والروبوتات، والصواريخ الموجهة. ولا يقتصر أثر التقدم التكنولوجي في هذا الإطار على القطاع العسكري أو الأمني، بل يمتد إلى قطاعات أخرى مثل الصحة، والصناعة، والتسويق، والتعليم، والرياضة، من خلال تنويع القدرات التي يتيحها استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي، وهو ما يُترجَم إلى تنامي القدرات الاقتصادية للدول والكيانات التي تمتلك تلك التقنيات[2] ويمكن استعراض المجالات التي يمكن أن يسهم الذكاء الاصطناعي في رفع قدرتها الفنية في المجالات الآتية:
- عسكريًّا: توفر أنظمة الذكاء الاصطناعي العسكرية مميزات متقدمة للقوات العسكرية، من حيث تحقيق الكفاءة والفاعلية في ميدان المعركة، والحفاظ على الأرواح البشرية، فضلًا عن مكافحة الإرهاب، وتوقع التهديدات المستقبلية[3]. تُستخدم تطبيقات الذكاء الاصطناعي في المجال العسكري، إذ تستخدم دول عديدة الروبوتات التي تُوجّه عن بعد، وتعد من المراحل الأساسية المهمة في اتجاه تطوير الأسلحة الذاتية التشغيل. تقوم هذه الأسلحة بالرقابة والرصد، وإطلاق النيران، وحماية القوات، إضافة إلى مواجهة العبوات الناسفة، وتأمين الطرق. وتتمثل أبرز تطبيقات الذكاء الاصطناعي في المجال العسكري في الطائرات المسيّرة “الدرونز” بأنواعها (الجوية والبرية والبحرية)، والروبوتات الذاتية التحكم[4].
- اقتصاديًّا: إن تبنّي أنظمة الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته في المجال الاقتصادي له العديد من المميزات والتداعيات الإيجابية، بما يوفره من دقة في التنبؤ وزيادة في الإنتاجية وكفاءة في إدارة الموارد، ومثل هذه التقنيات تعمل على تنشيط الطلب العالمي وتحفيز الاستهلاك نتيجة تحسين جودة المنتجات والخدمات وملاءمتها بدقة مع تفضيلات المستهلك. وسوف يؤدي هذا الأمر إلى تحقيق مكاسب اقتصادية كبيرة قدرتها شركة “برايس وترهاووس كوبرز” Pricewaterhouse Coopers International Limited بأكثر من 15.7 تريليون دولار من الناتج المحلي الإجمالي العالمي في عام 2030[5].
- اجتماعيًّا: يساعد الذكاء الاصطناعي على فهم أدق للمجتمعات، وتحسين مستوى المعيشة والوضع الصحي، كما يسهم في التنبؤ بالأزمات والكوارث والاستعداد لها. فالذكاء الاصطناعي يعمل على تحليل البيانات الضخمة للأفراد، أي الكميات الهائلة من المعلومات الشخصية والمهنية التي يمكن تحليلها للوقوف على التطورات التي تطرأ على أنماط سلوك الإنسان وتفاعلاته. الأمر الذي يساعد على فهم عميق للمجتمعات، ويتيح مزيدًا من القدرة على مراقبة السلوك البشري الجمعي والفردي، والتنبؤ بتوجهات الأفراد والجماعات المستقبلية[6].
ثانيًا: سلبيات الذكاء الاصطناعي، بالرغم من المزايا العديدة لاستخدامات تطبيقات الذكاء الاصطناعي التي سبق استعراضها في المجالات العسكرية والاقتصادية والاجتماعية، فإنها في الوقت نفسه تتضمن العديد من المخاطر والتداعيات التي يمكن توضيحها فيما يأتي:
- عسكريًّا: استفادت جماعات الجريمة المنظمة والجماعات الإرهابية من التطبيقات المختلفة للذكاء الاصطناعي وتوظيفها لأغراض إجرامية. ولعل إقدام تنظيم “داعش” الإرهابي على تطوير المسيرات (الدرونز) واستخدامها في حمل متفجرات هو دليل واضح في هذا الإطار. وبالمثل، يمكن للجماعات الإرهابية استخدام السيارات المُسيرة من أجل تنفيذ حوادث دهس للمدنيين، ومن ثم تحويل تقنية الذكاء الاصطناعي المدنية إلى قدرات عسكرية، الأمر الذي قد يهدد الأمن القومي[7].
هناك مشكلة أخرى تتعلق بتقنيات الذكاء الاصطناعي المستخدم في الأسلحة العسكرية وأنظمة الدفاع وهي احتمال حدوث أخطاء، ما يؤدي إلى عواقب وخيمة وقاتلة. على سبيل المثال، نظام فالانكس الصاروخي الذي يُطلق الصواريخ من السفن مستهدفًا الطائرات المعادية، هو نظام مدعوم بالذكاء الاصطناعي، ولديه رد فعل أسرع من الإنسان، لكنه لا يحدد أنواع الأهداف القادمة قبل إطلاق النار، وقد يؤدي ذلك إلى إسقاط طائرات صديقة [8].
ومثال آخر؛ وهو البنادق المستخدمة في حراسة الحدود مثل بندقية الحراسةSGR-AI المستخدمة لمراقبة حدود كوريا الجنوبية. هذه البنادق قادرة عل إطلاق النار تلقائيًّا بعد تقديم تحذيرات شفهية، ففي حين أن ذلك يقدم فائدة لأمن الحدود، فإن عدم وجود المشاركة البشرية يمكن أن يؤدي إلى أخطاء قاتلة مثل وجود أطفال في هذه المنطقة أو أفراد يعانون فقدان السمع[9].
كما شرعت القوى الكبرى، خاصة الولايات المتحدة وروسيا والصين، في تطوير تطبيقات متعددة للأنظمة العسكرية التي تعتمد على الذكاء الاصطناعي، بل دخلت هذه الدول في سباق تسلح حولها، كما في سباق التسلح الأمريكي- الصيني، في تطوير أسراب الدرونز الطائرة، الأمر الذي يؤدي إلى تهديد الأمن القومي أيضًا[10]. ولا يقتصر سباق التسلح على الدول الكبرى، ولكن امتد الأمر إلى القوى الإقليمية في منطقة الشرق الأوسط[11].
- اقتصاديًّا: يحذر تيار قوي من العلماء على مستوى العالم من أن التوسع في استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي، وعلى الأخص التعلم الآلي والخوارزميات، قد يشكل تهديدًا للوجود البشري في المستقبل من خلال نجاحها المحتمل في تطوير قدراتها الذاتية في تطبيقاتها المختلفة على الأنشطة الاقتصادية من دون أن يتماشى ذلك مع الأهداف الموضوعة لها من قبل البشر، وهذا يعني أنها سوف تعمل في بعض الأحيان بطرق غير متوقعة أو خارجة عن سيطرة البشر، ما يمثّل تحديًّا جوهريًّا لأمن وسلامة الأفراد والمؤسسات[12].
- اجتماعيًّا: يدفع التوسع في استخدام الذكاء الاصطناعي في العديد من القطاعات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية إلى تقليص الاعتماد على العمالة البشرية؛ وخاصةً أن الروبوتات باتت تمتلك القدرات على إنجاز الأعمال التي كان يُنظر إليها فيما سبق على أنها مجال محجوز للبشر، الأمر الذي يؤدي إلى رفض هذه التقنيات. أضف إلى هذا ظهور اختلال واضح في توزيع الدخل، نظرًا إلى أن الذكاء الاصطناعي سوف يؤدي إلى ازدياد الطلب على العمالة الماهرة القادرة على التعامل مع هذه التكنولوجيا، الأمر الذي سيقلل الطلب على العمالة غير الماهرة، ما يؤدي إلى تفاوت في الدخول بين القوى العاملة في العديد من الدول، ويعمّق ظاهرة عدم المساواة بين مجموعات مختلفة من العمال[13].
المحور الثاني: الذكاء الاصطناعي في التطرف والإرهاب
مثلما أصبح الذكاء الاصطناعي حجر زاوية في مستقبل المواجهة الأمنية ضد الإرهاب، فهو في المقابل أداة محايدة تتحدد تأثيراتها وفقًا لطبيعة استخدامها والطرف المستفيد منها. ومن ثمّ فإن من الممكن توظيف الذكاء الاصطناعي بشكل سلبي مثلما يُوظّف بشكل إيجابي. فالذكاء الاصطناعي مجرد أداة يمكن تطويعها وتوظيفها لمصلحة إنفاذ القانون أو انتهاكه، ولتحقيق الصالح العام أو الإضرار به[14].
بدأ بالفعل استخدام الذكاء الاصطناعي بواسطة جماعات إرهابية، مثل استخدام تنظيم “داعش” طائرات مُسيرة ذكية، وكذلك محاولة الاغتيال الفاشلة التي تعرض لها رئيس فنزويلا “نيكولاس مادورو” في 2018 باستخدام المُسيرات. كما طور تنظيم داعش “درونز” واستخدمها في نقل متفجرات[15]. وبالمثل، يمكن للجماعات الإرهابية استخدام السيارات المُسيرة في تنفيذ حوادث دهس للمدنيين، ومن ثم تحويل تقنية الذكاء الاصطناعي إلى قدرة عسكرية، ما قد يهدد الأمن والاستقرار الدوليين[16].
عن طريق استخدام الذكاء الاصطناعي، من الممكن أن تخترق الجماعات الإرهابية الأنظمة الأمنية والدفاعية للدول، حيث إن جميع المنظومات الإلكترونية التي تعمل على نطاق شبكي أو تتفاعل مع بيئات إلكترونية مناظرة، من الممكن أن تكون عرضة دائمًا للاختراق من خلال مخارج البيانات المتبادلة ومداخلها، إضافة إلى وجود قابلية دائمًا لزرع برمجيات خبيثة، سواءً للتجسس أو للتخريب. لذا، تستطيع الجماعات الإرهابية أن تُعدّل البرمجيات الأصلية؛ سواءً بنسخ البيانات أو التحكم في المخرجات بما يتوافق مع أغراض تلك الجماعات[17].
انتشرت تطبيقات الذكاء الاصطناعي بشكل متزايد حتى خرجت عن النطاقات المشروعة سواءً للدفاع أو الأمن أو الملاحقة والاستهداف، إضافة إلى الاستخدامات المدنية، وانتقلت إلى نطاق آخر غير مشروع. بات هذا الأمر مؤكدًا؛ إذ امتلك بالفعل فاعلون من غير الدول القدرة على الاستفادة من تطبيقات وأدوات وأسلحة يلعب الذكاء الاصطناعي فيها دورًا جوهريًّا في تركيبها وخصائصها ومزاياها. تنتشر هذه الظاهرة في الشرق الأوسط، إذ يوجد فيها ثلاث تنظيمات مسلحة كبيرة تمتلك أسلحة تستخدم تطبيقات الذكاء الاصطناعي، وبالأخص الطائرات المُسيرة وبعض أجهزة التوجيه والتحكم والرؤية. وهذه التنظيمات هي: حزب الله اللبناني، وحركة أنصار الله (الحوثيون) في اليمن، وتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في سوريا والعراق.
لقد استُخدمت هذه الأسلحة بالفعل، حيث استخدمت جماعات مسلحة في سوريا سربًا من عشرات الطائرات من دون طيار “درونز” على قاعدة حميميم العسكرية الروسية في محافظة اللاذقية غرب سوريا، في حين هجم سرب آخر مكون من ثلاثة “درونز” على قاعدة طرطوس البحرية الروسية في 5 يناير 2018[18]. بينما تُستخدم المُسيرات بشكل مستمر بواسطة أنصار الله الحوثيين في الهجوم على مصالح حيوية وأهداف عسكرية ومدنية بالمملكة العربية السعودية، كما استُخدم زورق ذاتي القيادة لاستهداف مصفاة نفط خاصة بشركة “أرامكو” السعودية على ساحل البحر الأحمر. ويوضح هذا أن التنظيمات الإرهابية تتطلع إلى استخدام أي شكل من أشكال التكنولوجيا المتاحة لتعزيز وسائلها.
المحور الثالث: دور الذكاء الاصطناعي في مكافحة الإرهاب والتطرف
يؤدي الذكاء الاصطناعي دورًا إيجابيًّا أساسيًّا يتمثل في توفير قدر كبير من الوقت والجهد في إجراءات البحث والتتبع، مع الأخذ في الحسبان ضخامة حجم المعلومات التي تُعالَج، ومدى التعقيد والتشابك والتشابه فيما بينها. ومن التطبيقات المهمة في هذا السياق، تطبيق برمجيات الذكاء الاصطناعي على أجهزة التصوير والمراقبة، إضافة إلى قواعد البيانات المصورة للأفراد؛ إذ صارت تقنية التعرف إلى الوجه باستخدام الذكاء الاصطناعي أداة أساسية في تحديد هوية مرتكبي أعمال العنف والحوادث الإرهابية[19].
في السياق ذاته، فإن استخدام الذكاء الاصطناعي يقلص إلى حدٍ بعيد احتمال الخطأ في مراحل البحث والتحري وتحديد المتورطين، وكذلك في مراحل الملاحقة والسعي إلى إنفاذ القانون؛ إذ يجري تضييق دوائر الاشتباه، وتسهيل عمليات الحصر والفرز للمعلومات والأشخاص وكل المعطيات ذات الصلة. وإضافة إلى ما يعنيه ذلك من رفع مستوى الدقة والكفاءة في الجانب الأمني المباشر لمواجهة الإرهاب، فإن الأهم هو أنه يوفر مناخًا من الثقة بأجهزة الأمن، ويبث طمأنينة لدى الرأي العام تجاه المؤسسات والآليات المنخرطة في تلك المواجهة [20].
يُستخدم الذكاء الاصطناعي أيضًا في مكافحة الدعاية الإرهابية وإغلاق المحتوى الإرهابي على منصات التواصل الاجتماعي؛ إذ يستخدم عملاق وسائل التواصل الاجتماعي (فيسبوك) تقنيات مطابقة الصور بالذكاء الاصطناعي لتحديد الصور ومقاطع الفيديو التي نشرها إرهابيون معروفون، ومنع هذه الصور من الظهور في أي مكان آخر.
استخدم فيسبوك أيضًا خوارزميات التعلم الأولي لاكتشاف أنماط الدعاية الإرهابية، ما سمح بإزالة هذه المواد بشكل أسرع، ومن ثمّ تعطيل انتشار المعلومات والأيديولوجية الإرهابية. كما يمكن لفيسبوك استخدام تقنية الذكاء الاصطناعي لإنشاء قاعدة بيانات تحدد البصمات الرقمية للمنظمات الإرهابية [21].
يساعد الذكاء الاصطناعي على معرفة وتحديد نوعية الأشخاص القابلين للتأثر بأفكار متطرفة، أي المستهدفين المحتملين سواءً للجماعات المتطرفة فكريًّا، أو التنظيمات الإرهابية، وبالتالي يمكن حصر أفراد معينين يمكن تصنيفهم كمتطرفين أو إرهابيين محتملين. تأتي بعد ذلك مرحلة التحصين التي يستخدم فيها الذكاء الاصطناعي برامج موجهة تُعيد توجيه أولئك المستهدفين المحتملين إلى مصادر تأثير محتوى معلوماتي معين، يعمل على ترشيد الأفكار وتقليل احتمالات انتقال أولئك الأفراد إلى مصاف الإرهابيين. كما تسهم تطبيقات الذكاء الاصطناعي في تحديد الجماعة أو الطرف أو الشخص المتورط في العمل الإرهابي، سواءً بالتنفيذ أو بالتخطيط. يجري ذلك عن طريق تحليل المعطيات الخاصة بالعمليات محل التحري، مثل: نوع العملية، والمكان، ونوع السلاح، والهدف، ومطابقة المعلومات مع التاريخ السابق للجماعات أو الأفراد المشتبه بهم، وذلك باستخدام معايير محددة للتصفية والترتيب [22].
كما يمكن استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي في التنبؤ بمكافحة الإرهاب. تشير كاثلين ماكيندريك إلى أن هناك طريقتين لمنع الهجمات الإرهابية. الطريقة الأولى: هي الردع من خلال حماية البنية التحتية وتطبيق الضوابط الأمنية. ويسهم التنبؤ في الحماية المادية للبنية التحتية، كما أنه يمكن أن يكون وسيلة لتحسين تخصيص الموارد للمواقع التي من المحتمل أن تكون أهدافًا للإرهابيين. أما الطريقة الثانية: فتتمثل في الحرمان من القدرة على شن الهجمات. وذلك عن طريق القبض على الإرهابيين قبل تنفيذ مخططاتهم، ومكافحة تجنيد الإرهابيين في المستقبل وتطرفهم، وفرض قيود على حركة الأفراد وحريتهم. ويساعد التنبؤ الفعال في استخدام القوة أو القيود القسرية ضد الإرهابيين العنيفين. بينما يستخدم التدابير التصالحية مع الأفراد المعرضين للتطرف. كما تؤكد ماكيندريك أن التنبؤ بمكافحة الإرهاب يتطلب نوعًا من الذكاء الاصطناعي الذي يتيح استخراج المعرفة والتنبؤات من خلال البيانات الرقمية المتنوعة الضخمة. حيث إن الخوارزميات التي تدعم النماذج التنبؤية مبرمَجة ذاتيًّا على أساس التعامل مع البيانات. وفي العديد من المجالات، يكون من المستحيل تحليل البيانات من دون مثل هذا النهج، كما سيكون من المستحيل بناء النماذج من دون بيانات[23].
المحور الرابع: مستقبل الذكاء الاصطناعي (سيناريوهات واحتمالات)
- عسكرة الذكاء الاصطناعي: تسعى الدول إلى امتلاك تقنيات الذكاء الاصطناعي لمضاعفة قوتها، الأمر الذي يتوافق مع تركيز المدرسة الواقعية على الدول بصفتها فواعل رئيسية، وعلى محورية تحقيق الأمن وامتلاك القدرات المادية، فهذه المدرسة تعدّ التكنولوجيا من القدرات المادية للدول، وعلى وجه الخصوص استخدام التطور التكنولوجي في المجال العسكري، وأيضًا في مكافحة الإرهاب.
ومن ناحية أخرى، يسعى الفاعلون من غير الدول إلى امتلاك تقنيات الذكاء الاصطناعي أيضًا لكي تكافئ قوتهم قوة الدول. في هذا الشأن، يصرّح ستيوارت راسل، عالم الكمبيوتر في جامعة كاليفورنيا، بأنه يشعر بالقلق من أن أكبر الفائزين من تقدم تقنيات الذكاء الاصطناعي هم الفاعلين من غير الدول مثل التنظيمات الإرهابية. وعلى الرغم من أن هذه التنظيمات ليست في طليعة تطوير تقنية الذكاء الاصطناعي، فإنه يمكنها الوصول إلى تقنيات الذكاء الاصطناعي هذه من خلال السوق السوداء، والحصول عليها من خلال الأبواب المغلقة[24].
وبين مكافحة التنظيمات الإرهابية من جانب الدول باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي، ورد فعل هذه التنظيمات باستخدام التقنيات نفسها، يحدث ما يسمى عسكرة الذكاء الاصطناعي وحصره في الاستخدامات العسكرية فحسب، بدلًا من الاستفادة من هذه التقنيات في المجالات الاقتصادية والاجتماعية. بجانب استخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي عسكريًّا، ينبغي عدم تجاهل استخدامه في المجالات الأخرى.
- الذكاء الاصطناعي في خدمة المنظمات الإرهابية: يستفيد الإرهابيون من التعليم الآلي والأشكال الأخرى للذكاء الاصطناعي في الاستعدادات لعملياتهم العسكرية وجمع المعلومات. عند تنفيذ الهجمات السيبرانية على وجه الخصوص، يمكن للمهام الآلية التي تُنفّذ باستخدام الذكاء الاصطناعي أن تجعل حجم هذه الهجمات وتأثيرها أكبر. هذا السيناريو ليس ممكنًا فحسب؛ بل يبدو أنه يتوافق أيضًا مع دوافع وحوافز الجماعات الإرهابية. وقد يبدو أن السيناريو الذي يخيف الناس ويذهلهم في الوقت نفسه هو سيناريو روبوتات الذكاء الاصطناعي التي تتمتع بقدرات تحاكي قدرة الدماغ البشري. تفتقر هذه الروبوتات الذكية إلى الأخلاق والعاطفة، تلك الصفات التي تمنع البشر من ارتكاب الاغتيالات بالطريقة التي يرتكبها بها الروبوت الذي يعمل بالذكاء الاصطناعي.
لذا، تسعى المنظمات الإرهابية إلى امتلاك هذه التقنية التي تتوافق مع احتياجاتها وحوافزها ودوافعها. إن أحد أصعب الأمور التي يجب مواجهتها عندما يتعلق الأمر بالهجمات الإرهابية هو استعداد العناصر الإرهابية للتضحية بحياتهم من أجل قضيتهم.
وقد أظهرت السنوات الأخيرة أن هجمات الإرهابيين الانتحارية ناجحة إلى حدٍ كبير، ما يشعرهم بالنصر ويزيد من تأثيرهم. كما يوجد سيناريو آخر وهو أسراب الطائرات من دون طيار، التي يمكن استخدامها بواسطة أي حكومة أو جهة مجهولة من أجل قتل المدنيين[25].
- الدول مقابل “الفاعلين غير الدول”: يعد الذكاء الاصطناعي أحد أهم التقنيات المؤثرة في تشكيل مستقبل توازن القوى في النظام الدولي عبر محورين اثنين، المحور الأول: إتاحة وسهولة تطوير تلك التقنيات من جانب كيانات فواعل غير دولية. المحور الآخر: يعبر عن تنافس القوى الكبرى في النظام العالمي في تطوير وامتلاك تلك التقنيات، إذ تطوّر الكيانات غير الحكومية، بما في ذلك الشركات عبر الوطنية، مشروعاتٍ ذات استخدام مزدوج، ما يسهل انتشار هذه التكنولوجيا، ومن ثم تحويل تقنية الذكاء الاصطناعي المدنية إلى قدرات عسكرية، الأمر الذي قد يهدد الأمن الدولي[26].
لذا، يؤكد هنري كيسنجر، وزير الخارجية الأمريكي الأسبق، أن سياسات الردع وتوازي القوى، التي مثلت من قبل أساسًا للتعايش السلمي بين الدول، لا يمكن الاعتماد عليها لتحقيق الأمن الدولي في ظل مستقبل يشارك فيه الذكاء الاصطناعي في تطوير أنظمة الأسلحة وتكتيكات استخدامها في ساحة المعركة. فعلى عكس أنظمة التسليح السابقة، لا يمكن قياس إمكانات الذكاء الاصطناعي سوى بالمواجهة المباشرة. لذا، من المرجح أن تُخفي الدول والفواعل الأخرى قدراتها في هذا المجال. ما قد يؤدي إلى ظهور آليات مختلفة لسباق تسلح من نوع جديد، قد تقود في نهاية الأمر إلى تحول النظام الدولي[27].
وبناءً عليه، توجد احتمالية تطوير الفاعلين من غير الدول لتقنيات الذكاء الاصطناعي أو الحصول عليها من دول مساندة لهذه التنظيمات، ومن ثم وجود احتمالية تكافؤ قوة هذه التنظيمات الإرهابية مع قوة الدول، ومضاعفة المعضلة الأمنية في العالم.
- بين المشروعية وعدم المشروعية: هناك اختلاف بين الدول حول الأساليب الفاعلة لمواجهة الإرهاب، وهناك اختلاف بين الدول في تصنيف الحركات والتنظيمات الإرهابية؛ فمن الممكن أن تصنف دولة ما جماعة على أنها إرهابية، في حين ترى دولة أخرى أن تلك الجماعة غير إرهابية. ما ينعكس على التنسيق بين الحكومات في مواجهة التنظيمات الإرهابية. الأمر الذي يعني أن التسابق الذي بدأ بالفعل بين القوى الكبرى نحو الاستفادة من تطبيقات الذكاء الاصطناعي وتطوير أدواته، قد لا يكون في مصلحة مكافحة الإرهاب، ويتحول من الاستخدامات السلمية والأمنية ضد أخطار وتهديد جماعية متفق عليها إلى أداة صراع ووسيلة إبادة متبادلة بين الأطراف التي تمتلكها، وحينها لن يفرق الدمار بين الدول المتقدمة وغيرها. ومن ثمّ سوف يؤدي الانتشار المتزايد لتطبيقات الذكاء الاصطناعي إلى خروجه عن النطاقات المشروعة المختلفة في الدفاع والأمن وملاحقة الإرهابيين، فضلًا عن الاستخدامات المدنية، وتحوله إلى نطاقات غير مشروعة؛ ولاسيما في ظل سباق التسلح الذكي بين القوى الكبرى، وعدم التوافق على تعريف الإرهاب ومعايير تصنيف كيانات وتنظيمات كثيرة بأنها إرهابية أو غير إرهابية[28].
خاتمة
برغم ما قدمته تقنيات الذكاء الاصطناعي من إيجابيات كثيرة على جميع المستويات العسكرية والاقتصادية والاجتماعية؛ ولاسيما توظيفه في محاربة التطرف الفكري والإرهاب، فإن هناك مخاطر تصاحب تلك التقنيات الحديثة وتحديات تجابهها، الأمر الذي تبرز أهميته في مجالات شديدة الأهمية والحساسية مثل مواجهة التطرف ومكافحة العنف والإرهاب. ومن ثمّ، أكدت الدراسة استخدام الذكاء الاصطناعي أداة لتعزيز التطرف والإرهاب، واستخدامه أيضًا أداة لمكافحتهما، وهو ما يؤدي بالنتيجة إلى أن الذكاء الاصطناعي ليس جيدًا أو سيئًا بطبيعته، فالأمر يتوقف على طريقة استخدامه.
وطرحت الدراسة تساؤلًا حول كيفية الاستفادة القصوى من الذكاء الاصطناعي، والتصدي للتهديدات الإرهابية في الوقت نفسه، على اعتبار أنه بالرغم من المزايا العديدة لاستخدام تطبيقات الذكاء الاصطناعي في جميع المجالات، فإنها تحمل العديد من المخاطر والتداعيات السلبية. ومن ثمّ فمن الممكن إحداث هذا التوازن من خلال تحديد إيجابيات الذكاء الاصطناعي ودعم هذه الإيجابيات والاستفادة منها وفي الوقت نفسه مواجهة التحديات التي تواجه تطبيق تقنيات الذكاء الاصطناعي حتى لا يُساء استخدامه، وكذلك التنسيق بين الحكومات في مواجهة التنظيمات الإرهابية، وعدم الاختلاف بين الدول في تصنيف الحركات والتنظيمات الإرهابية، ليتسنى لها مجابهة هذه التنظيمات والقضاء عليها.
الخلاصة أنه ينبغي وضع قوانين صارمة لمكافحة إساءة استخدام الذكاء الاصطناعي، من أجل جعل عصر الذكاء الاصطناعي عصرًا آمنًا للجميع. كما ينبغي تضافر جهود جميع الدول والتنسيق والاتفاق فيما بينها على تعريف الإرهاب وتحديد التنظيمات الإرهابية حتى يتسنى لها محاربتها.
[1]) إيهاب خليفة، الذكاء الاصطناعي وحل أزمات التنمية في الدول الفقيرة، آراء المستقبل، مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، أبوظبي، الإمارات العربية المتحدة، 2023.
[2]) James Johnson, Artificial Intelligence & future warfare: implications for international security, Defense and Security Analysis Journal, Vol.35, No.2, April 2019, P 1.
https://www.tandfonline.com/doi/full/10.1080/14751798.2019.1600800
[3] ) إيهاب خليفة، فرص وتهديدات الذكاء الاصطناعي في السنوات العشر القادمة، مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، أبوظبي، الإمارات العربية المتحدة، 2018.
[4]) Bernard Marr, Weaponizing Artifical intelligence: the scary prospect of Al-Enabled terrorism, Forbes, April 23. 2018.
[5]) Sizing the prize what’s the real value of AI for your business and how can you capitalise?, Pricewaterhouse Coopers Global, 2017.
https://www.pwc.com/gx/en/issues/analytics/assets/pwc-ai-analysis-sizing-the-prize-report.pdf
[6] ) علي بن ذيب الأكلبي، أهمية تحليل البيانات الضخمة في اتخاذ القرار في جامعة الملك سعود، المؤتمر السنوي الرابع والعشرين لجمعية المكتبات المتخصصة، مسقط، سلطنة عمان، 6-8 مارس2018. https://bit.ly/2wj1koB
[7] ) Daniel Hoadlys. And Nathan J. Lucas, Artificial intelligence and national security, Congressional Research Service, 2018, P.14.
[8]) Kyle Mizakami, Phalanx: the U.S. navy’s last ditch automated air defense system.
[9]) Joseph Pozzi, Weaponization of artificial intelligence, Published Master Thesis, ProQuest, 2018.
[10]) World Economic Forum, We’re on the brink of an artificial intelligence arm’s race, but we can cubit,
[11]) Nicholas Grossman, Drones and terrorism: Asymmetrical warfare and the thread to global security, Tauris, US: e-pub edition.
[12]) World Economic Forum, Assessing the risk of Artificial intelligence….
[13] ) إيهاب خليفة، فرص وتهديدات الذكاء الاصطناعي في السنوات العشر القادمة، مرجع سبق ذكره.
[14] ) سامح راشد، الذكاء الاصطناعي في مواجهة الإرهاب فرص وتحديات، دورية “آفاق استراتيجية”، العدد 4، (القاهرة: مركز معلومات مجلس الوزراء، أكتوبر 2021)، ص 64.
[15] ) Bernard Marr. مرجع سابق
[16]) Danial Hoadley’s S. and Nathan J. Lucas, Op. Cit, p 41.
[17]) Bernard Marr. مرجع سابق
[18]) Robert Windrem and William M. Arkin, Houthi rebels use another Unmanned boat bomb against the Saudis, nbcnews, 26 April, 2017.
http://www.nbcnews.com/card/houthi-rebels-use-another-unmanned-boat-bomb-against-saudis-n751651
[19]) David Ekanem, Artificial intelligence as a mechanism for crime control in Nigeria, Lambert Academic publishing, 2020, pp 108-109.
[20] ) سامح راشد، الذكاء الاصطناعي في مواجهة الإرهاب، مرجع سبق ذكره، ص 63.
[21]) Bernard Marr. Op. Cit.
[22]) Mohamed Alfatih, Chun Lin li, and Naila Elhag Saadalla, prediction of groups responsible for terrorism attack using tree-based models, proceedings of the 2019 international Conference on Artificial Intelligence and Computer Science, Association for Computing Machinery, July 2019, pp 320-324.
[23]) Kathleen McKendrick, Artificial intelligence prediction and counter terrorism, Chattem House, Britain, August 2019.
https://www.chathamhouse.org/sites/default/files/2019-08-07-AICounterterrorism.pdf
[24]) Joseph Pozzi, Weaponization of artificial intelligence, Published Master Thesis, Proquest, 2018.
[25]) Renske Van der Veer, Terrorism in the age of technology, 11 December 2019.
https://www.clingendael.org/pub/2019/strategic-monitor-2019-2020/terrorism-in-the-age-of-technology/
[26]) نسيبة أشرف، الذكاء الاصطناعي والعلاقات الدولية. إطار مفاهيمي، ملحق اتجاهات نظرية، مجلة السياسة الدولية، يناير 2023.
[27]) https://press.armywarcollege.edu/parameters_bookshelf/12
[28] ) سامح راشد، مرجع سبق ذكره، ص 66.